إسلام ويب

تفسير سورة المائدة (19)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوسيلة هي ما تتوسل به لتصل إلى قرب من تحب، وقد تكون هذه الوسيلة اعتقادات أو أفعالاً أو أقوالاً، والله عز وجل أحق من تبتغى إليه الوسيلة سبحانه، ولكن يجب أن تكون هذه الوسيلة وسيلة شرعية حتى يقبلها الله سبحانه، فإنه طيب لا يقبل إلى طيباً من الاعتقادات أو الأقوال أو الأفعال، أما الوسائل المحرمة فإنها لا توصل إلى رضوانه سبحانه.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    معاشر المستمعين والمستمعات! مازلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:35-37].

    حياة المؤمنين وشرفهم بنداء الله تعالى لهم

    الآية الأولى تناولناها بالدرس في درس سابق، ودرسنا منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:35]، وعرفتم أننا نحن -المؤمنين- شرفنا الله وأكرمنا وأعلى مقامنا بندائه لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:35]، لبيك اللهم لبيك، أمرنا بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:35] أولاً وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] ثانياً، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35] ثالثاً، ثلاثة أوامر، أمرنا بها ونحن -كما تعلمون- عبيده وأولياؤه، فهل يصح عصيانه منا وعدم طاعتنا له؟ لا يصح ولن يكون أبداً؟

    وعرفتم أنه بالإيمان أصبحنا أحياء نسمع نداء الله ونقوى على أن نفعل ما أمرنا بفعله، وعلى أن نترك ما أمرنا بتركه؛ وذلك لوجود حياة؛ لأن الإيمان بمنزلة الروح، فالمؤمن الصادق في إيمانه حي، والكافر ميت، والمؤمن الضعيف الإيمان مريض، وحال المريض معروفة، مرة يقوى على أن يقوم ومرة يعجز، مرة يقوى على أن يصلي ومرة يعجز لضعفه، فعلى المرضى أن يصححوا إيمانهم، أن يعالجوه، ولا يرضى مؤمن يعرف أنه ضعيف الإيمان ويستمر على ذلك الضعف؛ لأنه ما يقوى على النهوض بالواجبات، ولا يقدر عن التخلي عن المحرمات.

    العلم بالتكاليف والقيام بها وسيلة تحقيق التقوى

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:35] عرفنا بم نتقي الله، إننا نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل ما أمرنا الله بفعله، واجتناب ما أمرنا باجتنابه، بهذا يتقى الله، أي: يتقى عذابه وسخطه وغضبه على عصاته، بم تتقي الله يا عبد الله؟ هل بسور عالٍ وبحصن حصين وبجيش عرمرم؟ بم تتقي الله وأنت بين يديه؟ الجواب: لا ينتقي الله إلا بطاعته، من أطاعه اتقى غضبه وسخطه، ومن عصاه وتمرد عنه وخرج عن طاعته ما اتقى الله أبداً، وتعرض للغضب الإلهي والسخط الرباني والعذاب والعياذ بالله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:35]، وطاعة الله وطاعة الرسول توجب أن تعرف أوامر الله ونواهيه، وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه، وإلا فلن تستطيع أن تتقي الله، فهل تريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ إن ذلك بطاعته وطاعة رسوله. في أي شيء؟ في الأمر والنهي. ما هي أوامره وما هي نواهيه؟ اطلب هذا من أهل العلم أو من كتاب الرب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن تشتغل بتجارتك وأعمالك ودنياك، وتقول: ما عرفت أوامر الله ونواهيه؛ فهذا ما ينبغي! والكلمة الخالدة كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة تابعة، وإنما لم تذكر تنزيهاً لها، واعترافاً بحرمتها أو احتراماً للفحول أن يذكر نساؤهم بينهم.

    إذاً: الحبيب يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة يا رسول الله؟ الجواب: هي كذلك. فلم ما قلت: والمسلمة؟ الجواب: احتراماً لكم وتقديراً لمواقفكم لا نذكر نساءكم، فما الفرق بينكم وبينهن؟ الكل يريد دار السلام والنجاة من الخزي والعذاب.

    إذاً: هل يستطيع رجل أو امرأة أن يطيع الله ورسوله وهو لم يعرف أوامر الله وأوامر رسوله، ونواهي الله ونواهي رسوله؟ مستحيل. إذاً: وجدنا أنفسنا أمام الأمر الواقع، يجب أن نطلب العلم، كل يوم تعلم أمراً، اليوم عرفت من أوامر الله إقام الصلاة، فإياك أن تعصي الله، إياك أن تفرط فيها أو تؤديها على غير الوجه المطلوب أداؤها عليه، غداً عرفت وجوب الزكاة، بعده عرفت وجوب الحج، ثم عرفت بر الوالدين، ثم عرفت طاعة أولي الأمر، ثم عرفت الآداب.. وهكذا، ما هو بشرط أن يكون في يوم واحد، الليلة عرفت أن الغيبة حرام، قال تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، بعد شهر عرفت أن النميمة حرام، بعد غدٍ عرفت أن الكذب حرام، وهكذا.

    إذاً: يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف أوامر الله وأوامر رسوله ونواهيهما؛ ليفعل المأمور على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولينتهي عن المحرم نهياً كاملاً وانتهاء تاماً.

    معنى قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة)

    قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، ابتغوا بمعنى: اطلبوا مع التكلف ومجاهدة النفس، ما قال: وابغوا، فما هي بأمر سهل، قال: اطلبوا بجد واجتهاد وحرص على الوصول إلى القرب من الله عز وجل، وابتغوا إليه تعالى الوسيلة، وتقديم الجار والمجرور: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ [المائدة:35] للحصر والقصر، لو قال: وابتغوا الوسيلة إليه لكان قد يقال: وإلى غيره، وهذا لا يصح، فلا تطلب القرب إلا من الله، إذ لا يسعدك إلا هو، لا يكرمك إلا هو.

    إذاً: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ [المائدة:35] لا إلى غيره الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، ما الوسيلة هذه؟

    تذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أذن المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي ثم قولوا: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة والقائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. فسئل عن الوسيلة: ما هي؟ قال: منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو )، فأعينوا رسولكم على ذلك، اسألوها له كل أذان: آت محمداً الوسيلة والفضيلة، فالوسيلة ما هي امرأة اسمها وسيلة، الوسيلة أعلى درجة في الجنة ولا تنبغي إلا لواحد من بني البشر، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: أرجو أن أكون أنا صاحبها، ولكن أعينوني بالدعاء.

    وتكون الوسيلة بمعنى القربة، لكن الأقرب إلى الفهم أن ما تتوسل به لتصل إلى قرب من تحب فذلك هو الوسيلة، قد تكون اعتقاداً، قد تكون قولاً، قد تكون عملاً.. كل ما من شأنه أن تصل به إلى قربك من ربك ورضوانه عليك فسمه وسيلة، قال عنترة:

    إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

    للرجال إليك وسيلة، أي: طلب، يريدونك، إذاً: فتكحلي وتخضبي، والتخضب يكون بالحناء، والتكحل بالكحل.

    إذاً: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ [المائدة:35] لا إلى سواه الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] وهي كل عقيدة أمر الله بها ورغب الناس فيها ودفعهم إليها، هذه بالقلب يجب أن تتوسل بها إلى الله، كل قول أحبه الله، أمر به، رغب فيه، دعا إليه، فافعله توسلاً به إلى الله، كل عمل بيديك، برجليك، بلسانك من شأنه أن يقربك من الله ليرضى عنك ويكرمك فافعله، ولا تبغ وسيلة إلى غير الله، فإنه لا يملك إسعادك ولا إشقاءك سوى الله عز وجل.

    وسائل مشروعة في طلب مرضاة الله

    فباسم الله نستعرض الوسائل المشروعة:

    اغتسل أحدكم قبل صلاة الفجر وصلى الصبح في طريقه إلى مكة ليعتمر، فهذه العمرة وسيلة تقربه من الله؛ لأن الله أحب ذلك ودعا إليه وأمر به فقال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].

    أحدكم في منزله توضأ وأتى إلى المسجد ليسمع العلم ويحضر حلق الدرس تملقاً إلى الله وتزلفاً، أو من أجل أن يعرف ما يحب الله وما يكره، فهل هذا المجيء وسيلة أم غير وسيلة؟ إنه وسيلة.

    شخص من الصالحين يمشي في شوارع المدينة، وكلما رأى شوكاً أو حجرة تؤذي المؤمنين أو عقرباً أزالها، لم يا عبد الله؟ قال: أتملق ربي في تنظيف الطريق لعباده، يتوسل إليه.

    طبيب يضع كرسيه أمام المسجد بعد الصلاة: من أراد أن يشكو مرضه إلي فليتفضل، يضع يديه على قلبه على جسده، ثم يدفع إليه المريض مالاً فيقول: لا، نحن نتملق إلى الله فقط، يتوسل بعلاج أولياء الله ومداواتهم.

    بل هنا طباخ يقول: لأحسنن طبخ هذا الأزر اليوم ليأكله الصالحون ويتلذذوا به، وأنا أتقرب بذلك إلى ربي، فهذا توسل.

    إذاً: كل قول أو عمل أو نية صالحة تريد بها وجه الله أنت متملق إلى الله متزلف من أجل أن يقربك وتحظى بالقرب منه تعالى.

    وسائل محرمة في طلب مرضاة الله

    والوسيلة الممنوعة التي عرفها المؤمنون في عصور الجهل من مظاهرها: أنه يركب من المدينة على بعيره إلى قبر سيدي عبد القادر الجيلاني في بغداد، آلله أمرك بهذا تتوسل به إليه؟ لا؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )، فكونك أنت تأخذ تذكرة بالطائرة من المغرب الأقصى أو من السودان أو من الشام لزيارة سيدي عبد القادر الجيلاني هذه وسيلة والله ما تصل بك إلى رضا الله، ما هي بوسيلة هذه، ما شرعها الله.

    إن الوسيلة أنك -مثلاً- بعدما استراح الناس وصلوا العشاء وطعموا وأرادوا أن يناموا ذهبت إلى البقيع ووقفت على جداره وسلمت على أهله: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر لأهل البقيع وارحمهم، اللهم اغفر لأهل البقيع وارحمهم، ودمعت عيناك دموعاً ورجعت، فلم فعل هذا؟ فعله يتملق إلى الله يتزلف إليه؛ لأنه يسلم على أوليائه الموتى ويدعو لهم ويترحم عليهم، هل فعل هذا لأجل دينار أو درهم؟ فهذه وسيلة.

    أما أن تأتي إلى قبر إدريس أو قبر البدوي أو العدناني -وما أكثرهم- وتحبو حبواً للوصول إليه، ما يستطيع أن يمشي، فلو مشى لقالوا: ما فيك تقدير للسيد، فيحبو وينزل على القبر يتمرغ ويتمسح، ويقول ويدعو: يا سيدي، يا كذا أنا كذا أنا كذا، ويكفر حتى ما يبقى له علاقة بالله، ويقول: توسلت! أهذا التوسل الصالحين؟! هل الميت يدعى، وإذا دعي فهل يجيب؟ الجواب: لا؟ ما قال تحت السماء إنسان: إن الميت إذا دعي سمعك وأجابك وقال: سأعطيك، فكيف إذاً تأتيه من قريتك من بلادك البعيدة، وتتململ حول قبره، وتدعو وتستغيث وتقول: أتوسل إلى الله عز وجل؟ أنت الآن تبتعد من الله وما تتوسل، أنت تتوسل للبعد من الله وعدم القرب منه، وعلة هذا الجهل، ما عرفوا، ما علمناهم، ما علموا، هذا هو السبب، لا سبب غيره، لو عرف أنه بهذه عصى الله ورسوله، وخرج عن طاعة الله ورسوله، وأنه في عداد المشركين والله ما يفعل هذا أبداً، إلا إذا كان قلبه ميتاً لا يؤمن بالله ولا بلقائه، مسلم صوري أراد أن يأكل أو يشرب بهذه العملية فهذا ممكن، أما من آمن بالله وعرف الله ثم يفعل هذا الشرك والباطل ليتقرب به إلى الله فلا!

    وكذلك الذين يذبحون للأولياء ويجعلون لهم الأغنام والأشجار: هذه شاة سيدي عبد القادر ! اشترى مجموعة من الشياه في هذه الأيام؛ لأن الأمطار غزيرة والنباتات ظهرت، يريد أن يكتسب، فاشترى عشرين شاة وقال: هذه شاة سيدي فلان، ما تلده له وهي له، جعل شاة للولي توسلاً حتى يحفظ الله عز وجل باقي الغنم وتنجب وتلد، هذه رغبته، آلله أمر بهذه الوسيلة وأذن فيها؟ الجواب: لا، إذاً: هذه وسيلة باطلة، هذه تبعدك عن القرب من الله، ولا تعطيك أبداً درجة عند الله بحال؛ لأنك ابتدعت بدعة وأتيت بعمل الشرك.

    وآخر أراد أن يغرس في وقت الغرس في الخريف خمسين نخلة من العجوة، قال: هذه نخلة سيدي رسول الله، وهذا أحسن من سيدي عبد القادر ، ومع هذا فوالله ما يجوز ذلك، وتبقى النخلة كلما تثمر لا يأكله هو ولا أهله، هذه لسيدي فلان! لم فعلت هذا؟ يقول: من أجل أن يبارك الله في النخل وينتج ويكون صالحاً، فهذا يسميه العلماء توسلاً، لكنه باطل ما ينفع وما يجدي أبداً.

    قال تعالى عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، المشركون كانوا يقولون: هذه الشاة للات وهذه الشاة لربنا عز وجل، هذه النخلة للعزى وهذه النخلة لربنا تعالى، ومع هذا ما قبل الله هذا وما رضي به، ثم سلكوا مسلكاً قبيحاً وهو التحيل؛ فالتي جعلوها لله إذا أنتجت -سواء كانت نعجة أو ناقة أو بقرة أو نخلة أو شجرة- وما أنتجت التي جعلوها لغير الله يأخذون التي لله فيعطونها للأخرى، والعكس لا، فإذا نتجت ناقة العزى وناقة الله ما نتجت لا ينقلون حقها، يتركونها لأوليائهم، فعابهم تعالى على هذا التصرف، ساء ما يحكمون من الحكم الباطل.

    وكذلك النذور، يقول: يا سيدي عبد القادر، يا سيدي فلان، يا رسول الله! إذا تيسر أمري وأنجبت امرأتي ولداً فعلت كذا وكذا، وهذه وسيلة باطلة لا تبتغى ولا تطلب لله.

    تعدد الوسائل المشروعة بتعدد الطاعات

    وعدنا من حيث بدأنا: فتوسل إلى الله بمحابه، بالذي يحبه، افعله من أجله تزلفاً إليه وتقرباً، توسل إلى الله بترك مكارهه، ما يكرهه ونفسك تشتهيه أو أبوك يشتهيه اتركه لله تملقاً إلى الله وتزلفاً، ولن يكون التوسل بغير هذا.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، هل عرف المؤمنون والمؤمنات كيف يتوسلون إلى الله، كم هي الوسائل؟ بلا عد، كل طاعة لله ورسوله وسيلة، تتوسل بها إلى الله، تذكر الله: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، عشراً، مائة، مائتين، مائة ساعة وأنت تحظى بالقرب من الله؛ لأن الله يحب هذه الكلمات، وهكذا.

    أما البدع والخرافات والضلالات والشركيات بالذبح والنذر والعكوف على القبور والرحلة إليها لمسافات بعيدة فهذا من باب الشرك والباطل، ولا يصح لمؤمن ولا مؤمنة أن يأتيه أبداً.

    معنى قوله تعالى: (وجاهدوا في سبيله)

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35] والسبيل معروف: الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل، ما هو سبيل الله؟ هو أن يعبد الله وحده بما شرع لعباده من أجل أن يكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم، سبيل الله طريق الله الموصل إلى رضا الله عز وجل.

    إذاً: جاهدوا في سبيله لا تخرجوا عن محابه ومساخطه، جاهدوا الكافرين المشركين الظالمين، حتى يعبدوا الله وحده، وحتى يتخلوا عن الظلم ويبتعدوا عن الشر والفساد، هذا الجهاد لا بد له من إمام يقود المجاهدين، إذا قال: قفوا وقفوا، إذا قال: سيروا ساروا، وإذا قال: ارجعوا رجعوا، لا يصح فيه العمل الفردي أبداً بحال من الأحوال، لا بد من إمام يقود المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله، أي: من أجل أن يعبد الله وحده ولا يشرك به سواه، من أجل أن تطبق قوانينه وشرائعه بين الناس ليطهروا ويكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم.

    والآن إمامنا -أطال الله عمره وحفظه- لنا ما أعلن عن جهاد، فنحن الآن آمنون، ما علينا تبعة ولا مسئولية، لكن لو قال غداً: التعبئة العامة، العدو داهمكم فقد وجب، وحصل هذا في حرب الخليج واندفع الرجال، لكن إذا ما أمر إمام المسلمين فهذا يعود إليه لعدة أسباب:

    أولاً: ضعفه وعدم قدرته على غزو أو فتح بلاد أعظم منه وأكبر، فاضطر إلى معاهدتهم، معاهدة السلم وعدم الاعتداء ليدفع شرهم عنا، أما عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    ثانياً: لسنا بقادرين على أن نغزو ونفتح لضعفنا وعجزنا وقوة من نريد كذلك غزوهم ودخول ديارهم، هذه حالات وظروف ممكن أن تبقى سبعين سنة ما هناك جهاد، وقد يترتب الجهاد في كل سنة مرة، كلما يغزونا العدو يجب أن نغزوه.

    نقد الجهاد بنية تحرير الوطن

    وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35]، هنا ألفت النظر: جاهدنا في سبيل الوطن لتحرير البلاد من إندونيسيا إلى موريتانيا، وما استطعنا أن نقيم دولة لله، ولا أن ننصب إماماً يؤمنا ويقودنا إلى رضا الله؛ لأن النية الدافعة الباعثة على الجهاد هي التحرير، تحرير الوطن من الاستعمار، وإني آسف لأن رجال السياسة غير موجودين عندنا، لكن نتكلم مع البهاليل ولا حرج، والله عز وجل يسمعنا، قاتلنا بريطانيا، قاتلنا فرنسا، هولندا، قاتلنا أسبانيا، إيطاليا، وما قاتلنا قتالاً في سبيل الله، فمن ثم لم ينتج لنا دولة إسلامية، ولا إماماً إسلامياً يقودنا، ما إن نخرج العدو حتى نكون الحكومة من ماذا؟ أمن أهل العلم والبصيرة والولاية لله؟ فسادتنا حكومات أشبه بالجاهلية، والله إن الحالة الدينية في بلادنا حين كان الاستعمار فيها أفضل منها الآن في الاستقلال، وأتكلم على علم وعلى بصيرة، أيام الاستعمار الفرنسي كان الخمر ممنوعاً ولا يباع، ما كانوا يلزمون مؤمنة أن تكشف عن وجهها أبداً، أو يسخرون منها، والآن أين نساء المؤمنين؟ في الشوارع غاديات رائحات، والخمر تصنع وتباع.. وقل ما شئت، وليس معنى هذا أني أرغب أن يعود الكفر إلى ديارنا، الذي يفهم هذا الفهم مسكين ضائع، نقول: لما جاهدنا ما جاهدنا على الأساس الذي وضع الله عز وجل في قوله: وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35]، ما قال: في تحرير البلاد، في إقامة الحكم الوطني، قال: فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35]، أي: من أجل أن يعبد وحده، وأن تطبق شرائعه، وتظهر أنوار دينه لتعم العالم وتغطيه.

    عظمة جهاد النفس

    الجهاد الثاني: جهاد النفس، وتذكرون حديث: ( رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )، وإن ضعف الحديث فما يضرنا هذا، فجهاد النفس أصعب من جهاد العدو، جهاد العدو تحمل فيه سلاحك شهرين أو أربعة وترجع، ونفسك تجاهدها الليل والنهار طول العام حتى تموت وأنت في هذا الجهاد إن كنت من المجاهدين، أما إذا استسلمت لها فهي تقود إلى كل وبال ومفسدة، لكن من أراد أن يستقيم على منهج الله لا يتكلم بكلمة حتى يعلم أن الله أذن له فيها، لا ينظر نظرة حتى يعلم أن الله أذن له فيها، لا يأكل لقمة حتى يعلم أن الله أذن فيها، وهنا تواجه النفس، تدعوه إلى الطعام والشراب والنكاح والقول والعمل، فكيف يقهرها إذا لم يجاهدها الجهاد المرير.

    وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35]، نجاهد من؟ تقدير المفعول: أنفسنا، ونجاهد الكفار من أجل أن يطهروا، أن يصفوا، أن يكملوا، أن يسعدوا بعبادة الله وحده وبالتخلي عن الشرك والكفر، أليس كذلك؟

    وبالمناسبة أقول وأستثني المملكة: لو أراد إقليم من أقاليم المسلمين أن يغزو بلاداً كافرة ليدخلهم في الإسلام، أليس يصبح جهادهم معرة؟ أنت ما أقمت الإسلام في ديارك، لا طهر ولا صفاء، لا مودة ولا إخاء، لا حب ولا ولاء، وتريد أن تدخل إيطاليا في هذا، أهذا عمل؟

    إذاً: أنت لا تقيم دعوة الله ولا دينه في بلادك، وتطالب أن تدخل البلاد الأخرى، ففيم تدخل؟ أتريد أن يصبحوا سكارى كإخوانك أنت وعشاقاً وضلالاً ومشركين وخرافيين في كل مكان، هذا الذي تدخلهم فيه؟ ما يجوز أن تطلق ولا رصاصة من أجل هذا، ومعنى هذا: أن من أراد من ديار العالم الإسلامي أن يجاهد فليبدأ بنفسه، يطهر أمته بأساليب الطهارة، يزكيها، يرفع قيمها، يوحدها حتى تصبح ككتلة من نور حيثما توجهت أنارت الأرض.

    وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ [المائدة:35]، لماذا يا رب؟ رجاء أن تفلحوا، لتستعدوا للفلاح: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، فمن يفلحنا؟ الله الذي جاهدنا من أجله، ينجينا من الخزي والذل والعار والفرقة والخلاف وعذاب النار يوم القيامة، ويدخلنا الجنة دار الأبرار بعد أن تصفو أنفسنا وأرواحنا ونتحاب ونتوالى ونتعاون في ديارنا هذه، هذا هو الفلاح: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، هذه (لعل) الإعدادية؛ لنعدكم بذلك ونهيئكم للفلاح.

    الخطوات الإعدادية لجهاد النفس

    معاشر المستمعين! هيا نجاهد، ادخلوا في هذه المعركة، ما دام أنه قد أمنكم الله وأراحكم فلا تحمل سيفاً ولا تشتريه أيضاً ولا يوجد في بيتك، فهيا نجاهد أنفسنا، أول خطوة: ألا نصلي صلاة إلا في جماعة المسلمين، جهاداً لهذه النفس الماكرة الخبيثة، فمن الليلة لا أصلي فريضة إلا في جماعة المؤمنين.

    الخطوة الثانية: ألا نتكلم بكلمة لم نعرف أنها فيها رضا الله، ونلتزم الصمت، وإذا بالبلاد تتغير، إذا لازمنا الصمت بقيد ألا نتكلم إلا إذا أذن الله لنا في تلك الكلمة وكانت من مرضاته فلا تسأل عما يسقط من الشر ويتهدم من الفساد والبلاء بحفظ اللسان فقط.

    نجاهد أنفسنا على ألا نقضي ساعة في لهو أو باطل أبداً، أيامنا كدقائقنا كساعاتنا لله، نجلس جلسة نذكر الله، نتعلم الهدى، نعبد الله، أما أن نجلس لنضحك ونتكلم بالباطل أمام التلفاز أو نلعب الورق فهل هذا جهاد للنفس؟ هذا انهزام للنفس، فلنجاهد أنفسنا لنتهيأ للفلاح الموعود بكتاب ربنا، نجاهد أنفسنا بحملها على طاعة الله وطاعة رسوله، فلا ترانا إلا نفعل المأمور ونتخلى ونبتعد عن المنهي غير المأمور، هذا هو الجهاد والفلاح مضمون: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35].

    والله تعالى أسأل أن يجعلنا من المفلحين المجاهدين طول حياتهم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949038