إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [22]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جميع العقلاء يفرقون بين مدعي النبوة كذباً، وبين النبي الصادق بأنواع من القرائن، حتى لو لم تأتهم معجزات، أو لم يدركوا معناها، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بأدلة وبراهين عقلية تدل على نبوته، كإخباره بما سيحدث من أحداث، ووقوع هذه الأحداث بعد إخباره بها على ما قال، وكحاله صلى الله عليه وسلم وحال أمته ودينه مما لا يرده إنسان إذا استعمل عقله مجرداً من الهوى والمكابرة.

    1.   

    الدلائل على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ذكر خبر سؤال هرقل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم: [وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام؛ طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا: لا، قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا، وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم، وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً، وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه، فقالوا: يدال علينا مرة وندال عليه أخرى، وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

    وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة، فقال: سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم: لا، قلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا، فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل، يعني: في أول أمرهم، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم].

    يعني بذلك أن الإيمان بدين الأنبياء -وهو دين الفطرة ودين التوحيد- لا يدخله في الغالب إلا من هو مقتنع به، ثم إنه ينسجم مع الفطرة ومع العقل السليم ومع حاجة البشر، فالإنسان إذا استجاب وهداه الله للإيمان وذاق حلاوة الإيمان؛ فإنه لا يمكن أن يخرج منه أبداً، فمن هنا لم يعهد أن أحداً ممن دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام عن قناعة وعن يقين وإيمان ارتد، خاصة في أول الإسلام، أما بعد ذلك حينما دخل الناس رغبة ورهبة فقد وجد من ارتد؛ لأن من أسباب دخول كثير منهم إما التقليد واتباع الكبار، وإما الرغبة حينما بدأت الأطماع في الغنائم والمصالح، وإما الرهبة من السيف، وهذا كان بعد أن أثخن النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، أما قبل ذلك فلا أحد كان يدخل في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تلك الحال إلا عن قناعة، فمن دخل عن قناعة وذاق حلاوة الإيمان لا يمكن أن يعدل عنها إلى غيرها.

    قال: [وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشتة القلوب لا يسخطه أحد.

    وهذا من أعظم علامات الصدق والحق؛ فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف.

    وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

    وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون؛ علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).]

    قال رحمه الله تعالى: [والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، الآيات، وقال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، الآيات.

    إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول].

    هذا فيه إشارة إلى أن من سنن الله تعالى في النبيين وأتباعهم أنهم لا بد من أن يبتلوا على قدر إيمانهم، والابتلاء أنواع، وأشده أن يواجهوا من أقوامهم وممن حولهم الصدود والإعراض، وربما يصل الأمر إلى القتال، كما حصل لجمع من الأنبياء الذين ما انتشرت دعوتهم إلا بقتال.

    إذاً: فالابتلاء سنة من سنن الله تعالى الثابتة، وهو من لوازم الدعوة إلى الله تعالى، وكل دعوة لا يكون فيها ابتلاء ينبغي أن يعاد فيها النظر.

    قال رحمه الله تعالى: [قال: وسألتكم عما يأمر به، فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمركم بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين].

    هرقل من أهل الكتاب من النصارى الذين يؤمنون بالإنجيل والتوراة ويعرفون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، بل كان يعرف هو وأهل الكتاب كلهم في ذلك الوقت أنهم في زمان سيبعث فيه نبي؛ لأن علامات بعثته وجدت بينهم، فالله سبحانه وتعالى أخبرهم بعلامات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعلامات الساعة تماماً، فتحققت عندهم أخبار تدل على أنه أظلهم زمان بعثته عليه الصلاة والسلام، فلما جاء هرقل خبر النبي صلى الله عليه وسلم وعرف من خلال الأحوال التي ذكرت في كتبهم أنها تنطبق عليه تلك الصفات وعلى بلده وعلى قومه وعلى الأرض التي هو فيها، ومنها الصفات التي ذكرها أبو سفيان وهو خصمه في ذلك الوقت؛ عرف أنه نبي صادق، لكن منعه من الإسلام حب الملك وحب السلطان ومخافة أتباعه.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ إنه ليعظمه ملك بني الأصفر! وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره].

    أبو سفيان -كما هو معروف من خلال سياق قصة إسلامه- أسلم أولاً خاضعاً لقوة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مختاراً، لكن لما أسلم وذاق طعم الإيمان والإسلام حسن إسلامه رضي الله عنه، وأبلى في الإسلام بلاءً حسناً، ومن ذلك بلاؤه في معركة اليرموك، وهو بذلك الكلام يعبر عن نفسه وعن حاله قبل الإسلام وعند الدخول في الإسلام.

    توارد ما يقطع بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر].

    السياق يدل على أن مقصود الشارح رحمه الله الاستدلال على أن النبوة تعرف بالقرائن، وأن أي نبي يعرف صدقه بالقرائن، وأن أي مدع للنبوة يعرف كذبه بالقرائن، يقول: إن من علامات ذلك أن الإنسان فيما دون النبوة من الحالات العادية الكائنة في سلوك البشر ترد عليه أمور تتوارد واحداً بعد الآخر -يعني: قرينة بعد قرينة- حتى تجعله يجزم بالأمر بمجرد خواطر وقرائن، فكيف بأدلة تدل على أن النبي صادق؟!

    فالإنسان إذا كان جائعاً وأكل طعاماً قليلاً يشعر بسد بعض حاجته، فإذا انضاف إلى هذا الطعام طعام آخر شعر بشيء من سد الحاجة أكثر، فإذا أكل طعاماً يسد جميع حاجته شعر بالشبع، أليس كذلك؟! هذا في حالة الإنسان العادية، فكذلك مسألة التصديق، فالعقل مثل حاجات الإنسان الأخرى، فإذا توارد عليه من القرائن ما يدل على صدق خبر من الأخبار صدق، كأن يأتي إنسان من الناس يظهر عليه أنه ثقة فيخبر بخبر، فيترجح عندنا أن هذا الخبر صدق، فيأتي آخر يظهر عليه أنه ثقة فيقول الخبر، فيترجح عندنا بشكل أقوى أنه صدق، فيأتي ثالث نعرفه يقيناً أنه صادق وأنه من الثقات بنفس الخبر ويقول: إنه شاهد عيان. فمن هنا يحصل الجزم بأن الخبر صادق، فإذا توارد الخبر من مجموعة أشخاص فمئات فآلاف صار جزماً، وهذا في أحوال الناس العادية، فكيف بأخبار الأنبياء التي تتوارد على الناس من كل وجه فتصدقها قلوبهم وعيونهم ومسامعهم، فالأنبياء يحدث لهم من الأحوال والأقوال والتصرفات والأوامر والنواهي والتشريعات والعقود والعهود والتعامل مع الآخرين والأخبار التي يخبرون بها ثم تقع بمجموعها ما يوجب اليقين بأن النبي صادق، فالرسول صلى الله عليه وسلم تحقق له الوحي الذي نزل عليه -وهو القرآن والسنة-، ثم إخباره عما يحدث، ثم ارتفاع شأنه بين الأمة وكثرة أتباعه، واستقرار دينه وتمكنه في الأرض، كل هذا الأمور توجب عند كل عاقل لو تجرد من الهوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن إذا حجب الهوى قلبه -نسأل الله العافية- فقد لا يهتدي، فالمشركون الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه بالصدق ويسمونه الأمين، ولما جاءهم بالوحي من عند الله ما استطاعوا أن يكذبوه لذاته، إنما بحثوا عن عوامل أخرى، ومع ذلك بقي عندهم صادقاً وكانوا يشهدون له بالصدق بعد أن جاءهم بالوحي، ومع ذلك لم تنفعهم هذه القرائن، لكن نفعت المؤمنين وزادتهم إيماناً.

    إذاً: فمسألة الاستدلال على النبوة لا يلزم أن تكون بمعجزة فقط، بل أدلة النبوة وأدلة صدق النبي تتضافر عليها عوامل وقرائن كثيرة توجب اليقين لكل عاقل منصف.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك].

    الآثار الدالة على ما فعل بالأنبياء وأتباعهم وما فعل بالمكذبين

    قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة: كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء: كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9]].

    القصص المشهورة للنبيين معروفة عند الأمم إلى يومنا هذا، فمثلاً: قصة الطوفان نجدها عند كل أمة من الأمم، فكل أمة من الأمم تتحدث عن الطوفان، يعني: أصل الطوفان ومبدؤه وحدوثه معترف به عند جميع الأمم، وأنه عقوبة لأمة كذبت رسولها، هذا هو أصل القصة وإن نسجت حوله خيالات وحكايات كاذبة، لكن أصل القصة معروف، وكذلك قصة فرعون وغرقه معروفة عند جميع الأمم، فكل أمة ذات حضارة نجد أن قصة فرعون مسطورة في كتبها، فما من أمة حدث لها أمر هائل أو عقوبة شاملة إلا ونجد قصتها عند أكثر الأمم أو عند كل الأمم، وهذا مما تقوم به الحجة على الأمم، حيث تجعل تلك القصص كل إنسان يعرفها يقول: لماذا حدث هذا؟ وكيف حدث؟ وما نتيجته؟ إلى آخر ذلك، فإذا كان هذا في القصص السابقة؛ فكيف بقصص النبي صلى الله عليه وسلم التي هي الآن مدار حديث الأمم جميعاً، وهي مسطورة ومكتوبة، ولا يستطيع أن ينكرها إلا مكابر؟!

    قال رحمه الله تعالى: [ وبالجملة: فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين وجعل العاقبة لهم وعاقب أعداءهم؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها، ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب، كـأبو قراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه.

    ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم.

    ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه -كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم- عرف صدق الرسل.

    ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق.

    ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات، كـالبيهقي وغيره].

    بيان مذهب المعتزلة فيما تثبت به النبوة

    فدلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكلها تثبت صدق نبوته، وليست هي المعجزات فحسب كما قال المعتزلة وبعض أهل الكلام الذين قالوا بأن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة، وأهل السنة قالوا: النبوة تثبت بالقرائن والمعجزات، وثمرة هذا الخلاف تظهر على جزئيات بعض المباحث في العقيدة فقط، فالإيمان بالنبوات والرسالات واحد عند الجميع، سواءٌ الذين اعترفوا بأن القرائن دالة على النبوة والذين لم يعترفوا، كلهم قولهم في النبيين في الجملة واحد، لكن انعكس الخلاف في بعض المسائل الأخرى، فمثلاً: المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء، بناءً على قاعدتهم في أن الخارق لا يحدث إلا لنبي، فأنكروا أن يكون للأولياء كرامات، وإنكار الكرامات قدح في الشرع وقدح في العقل وقدح أيضاً في الناس أنفسهم، فالناس يدركون الكرامات ويدركون ما يحدث لأولياء الله تعالى من خوارق هي من باب الكرامات.

    فالمعتزلة -بناءً على قولهم لأجل أن تسلم قاعدتهم أنه لا يكون خارق إلا لنبي- ادعوا أنه ليس هناك شيء اسمه كرامات الأولياء، وينبني على هذا قيمة الوحي عندهم، فإذا عولوا على أنه لا يتم الإيمان بالرسل إلا بالمعجزة انعكس هذا على مسألة في القرآن، فإن المعتزلة قالوا بأن القرآن مخلوق، وإذا كان مخلوقاً فهذا يعني أنه ضعيف؛ إذ لا يتم الإعجاز من خلال مخلوق، فيبطل إعجاز القرآن بقولهم: إنه مخلوق، فإذا بطل إعجاز القرآن بطلت دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد بعده منها شيء.

    فالذين يولدون بعد انقضاء حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدون من معجزاته إلا القرآن، فمن قال بخلق القرآن ألغى إعجاز القرآن، ومن ألغى إعجاز القرآن فقد ألغى المعجزة، وإذا التغت المعجزة كان الناس في حل من أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أو لا يؤمنوا.

    وهكذا نجد للمسألة فروعاً كثيرة خطيرة لا يتسع الوقت لإحصائها.

    إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الذات الإلهية

    قال رحمه الله تعالى: [بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحد للرب بالكلية وإنكار].

    وهذا من باب الإلزام، وليس هو قول الخصم، فالذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قد ينكرونها مكابرة وجحداً، ومع ذلك يعترفون بهذه اللوازم، لكن هذا من باب الإلزام العقلي، وتقرير الحق بالإلزام من الوسائل التي استعملها السلف.

    قال رحمه الله تعالى: [وبيان ذلك: أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق بل ملك ظالم؛ فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم].

    هذا القول -أي: الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ملك ظالم- قال به طوائف من أهل الكتاب، طوائف من اليهود وطوائف من النصارى، ولا يزال هذا القول موجوداً في طائفة كبيرة من الغربيين من المستشرقين وغيرهم، يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ملك ظالم، وأنه من ملوك العرب، وأنه مدع للنبوة، ويستدلون على ظلمه -بزعمهم- بأنه أشرع السيف في الأمم.

    قال رحمه الله تعالى: [وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق بل ملك ظالم؛ فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع منه الوتين! ].

    فالله تعالى قد توعد على ما هو أقل من ذلك، فكيف بهذه الأمور كلها يفعلها ثم الله تعالى ينصره ويؤيده ويرفع ذكره ويعلي أمته في الدنيا ويمكنها من جميع الأمم؟! فالله سبحانه وتعالى توعده على ما هو أقل من ذلك في قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، فإذا كان الله يتوعده في بعض الأقاويل؛ فكيف في أمر أكبر من مجرد الأقاويل؟! أمر هيمن فيه على الأمم، ورفع شعار لا إله إلا الله، وقاتل عليه، وجاء بشرع من عند الله، ووعد بأن الله سينصره، ثم نصره الله ومكن له وأظهر أمته، فلو كان هذا كذباً لما تمكن هذا التمكن وصار له ولدينه هذا الشأن.

    قال رحمه الله تعالى: [فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!]

    هلاك مدعي النبوة دليل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه، هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30-31]. ]

    من المعروف أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن لمتنبئ كذاب في الأمة، وهذا ما حصل فعلاً، فإنه في تاريخ الإسلام ظهر مدعون كثر يدعون النبوة، لكن أمرهم كان ينتهي بالفشل، والناس الذين يغترون بهم ينقمون عليهم في نهاية المطاف ويحقدون عليهم، هذا أمر.

    والأمر الآخر: أن كل الذين ادعوا النبوة في تاريخ الإسلام كانوا ينتهون بنهاية مؤلمة تدل على كذبهم، إما بقتل غيلة أو نحوه، ثم إن الذين ادعوا النبوة في التاريخ الإسلامي لم يبق لهم دين محترم، فالدين الحق هو الدين الظاهر، والذين كذبوا على الله تعالى انتقم منهم بأي نوع من أنواع الانتقام، بالفشل وبالنهاية المؤلمة وبعدم التمكين في الأرض وإن تمكنوا زمناً، فإنهم ينتهون في النهاية إلى أمر يدل على الفشل الذريع، والناس لا يستجيبون للمتنبئ الكذاب ولو اغتر به بعض الغوغاء بعض الوقت لعصبية أو لغيرها؛ لأنه قد يبيح لهم بعض الشهوات أو يخفف عنهم بعض الأعباء أو بعض العبادات ونحوها، فما من متنبئ كذاب إلا وانتهى أمره -بحمد الله- بما يدل على فشله وكذبه، فهذا من تمكين الله لهذا الدين، ودليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الكفار لو نظروا هذه النظرة لوجدوا في ذلك ما يدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، فقد ظهر المتنبئ الكذاب من هذه الأمة، ومن الأمم الأخرى، فقد ادعى النبوة أناس من النصارى وفشلوا، وادعى النبوة أناس من اليهود وفشلوا، وادعاها أناس في هذه الأمة فلم يفلحوا، بل انتهى أمرهم إلى ما هو معروف.

    قال رحمه الله تعالى: [ أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه.

    وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق.

    وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره].

    انتهى الشارح إلى خلاصة، وهي: أن جميع العقلاء في الأرض يفرّقون بين مدعي النبوة كذباً، وبين النبي الصادق بأنواع من القرائن، حتى لو لم تأتهم معجزات أو لم يدركوا معنى المعجزة، مع أن الله تعالى حفظ لهذه الأمة ولنبينا صلى الله عليه وسلم معجزة القرآن ومعجزات أخرى، وهي نبوءاته صلى الله عليه وسلم الباقية إلى قيام الساعة، التي هي إخباره بما سيحدث، فمنها ما حدث وكان دليلاً قاطعاً على صدقه عليه الصلاة والسلام، ومنها ما ينتظر، ولا تزال الأمة ترى ما يصدق أخباره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وهذا مما تقوم به الحجة، وهو من القرائن.

    ومن القرائن ما ذكره، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم توافر له من الأدلة ما يدل على صدقه، أي: الأدلة العقلية والبرهانية والأدلة التاريخية التي هي واقع هذه الأمة ودينها المحفوظ، فلا يسع أحداً من الكفار الذين يسمعون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون عن الإسلام ويسمعون عن هذه الأمة إلا أن يصدقوا إن استعملوا عقولهم مجردة من الهوى، لكن الناس تحجبهم عن الحق أهواؤهم، وتحجبهم عن الحق رغباتهم وشهواتهم وأمور أخرى من نوازع البشر التي تحجبهم عن الهدى، ومن لم يهده الله فلا هادي له.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756383541