إسلام ويب

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [5]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ظهرت حقيقة ابن عربي الصوفي من خلال أشعاره ومقالاته ومؤلفاته، فهو يقول بوحدة الوجود، والقائل بهذا القول أكفر من الجهمية الذين يقولون: إن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك، وقد كفر السلف الجهمية، فتكفير أصحاب وحدة الوجود من باب أولى؛ لشناعة ما تنطوي عليه مقالاتهم، وما تؤدي إليه من الانتقاص لله سبحانه وتعالى، تقدس وتنزه وتعالى عما يقوله الظالمون الأفاكون المفترون علواً كبيراً.

    1.   

    معنى قول ابن عربي: الرب حق والعبد حق

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    فهذا الدرس الذي بين يدينا درس مفيد، وإن كان فيه بعض الكلاميات وبعض المعاني التي تشمئز منها النفس، وبعض الأمور لا وجود لها في بلدنا ولا بيئتنا، لكنها مسالك سلكها أناس من بني جلدتنا الآن، فالحداثيون وكثير من الأدباء واقعون فيما سيتكلم عنه الشيخ الآن في مسألة أقول ابن عربي وإلحادياته، وأصبحوا يمجدونه في الصحف بأسلوب خبيث، فهم يستعملون التقية في استخدامهم تحت ما يسمى الشعر الحرّ، والمقالات الحداثية، فهم يرمزون إلى معان سيأتي الكلام عنها وأشير إليها في مواطنها، ولذلك أحببت أن نقرأ هذا المقطع، ونقف عند بعض الجوانب فيه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ المسئول من إحسان شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أثابه الله الجنة أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل:

    الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف

    إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف

    فقال أحد الرجلين: هذا القول كفر؛ فإن القائل جعل الرب والعبد حقاً واحداً ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف.

    فقال له الرجل الثاني: ما فهمت المعنى، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده؛ فإن القائل قال: الرب حق والعبد حق، أي: الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبداً ولا العبد رباً كما زعمت.

    ثم قال: يا ليت شعري من المكلف؟ مع علمه أن التكليف حق؛ فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال: إن قلت: عبد فذاك ميت، والميت ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد -وإن كان حياً- فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقو العبد على القيام بالتكليف؛ لما قدر على ذلك، فالفعل لله حقيقة وللعبد مجازاً، ودليل ذلك قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أي: لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله ].

    لا تزال المسألة بين شخصين، كل واحد له شبهة، وهذا له حجة وهذا له شبهة، لكن قبل أن نتجاوز هذا الكلام يتطلب أموراً تأصيلية إذا استحضرناها، فإنه سيسهل علينا فهم كلام شيخ الإسلام عندما يجيب، وهذا موطن التعليق عليها.

    فالشخص الآخر الذي ينزع إلى نزعة وحدة الوجود لهذا الشخص الذي يقول: إن الشخص مع ربه كالميت مع الغاسل، وأن الفعل لله حقيقة وللعبد مجاز، هذا القول هو قول الجبرية الجهمية، حتى قبل أن يظهر ابن عربي ، ودخل على المتصوفة، وصار مذهب غالب المتصوفة في القرن الرابع والخامس والسادس، ثم لما جاء القرن السادس والسابع بلوره ابن عربي على مذهب فلسفي إلحادي صريح.

    فمعنى هذا أن مذهب ابن عربي له أصول، وأن كلام الجهمية كما تصور السلف وتوقعوا وتفرسوا أن القول بالجبر سيؤدي بأناس إلى الإلحاد، هذا قاله السلف أيام الجهم وبعد الجهم ، فما قالوه هو الذي صار، فهؤلاء الصوفية فلسفوه وجعلوا له قواعد ومناهج، وهو زعمهم أن الإنسان لا إرادة له، وأنه مجبور، وأنه كالريشة في مهب الهواء، وأنه كالميت أمام مغسله، وأنه لا حول له ولا قوة، وأن فعل العبد مجاز لا حقيقة له.

    هذا المذهب الباطل صار نهجاً له أصول وله فلسفات وله قواعد وله شبهات وله مناظرات ودفاعات عن أهله، ثم انتهى إلى القول بوحدة الوجود، وهذا هو محل النقاش بين هذين الشخصين، والأبيات التي مرت هي من أبيات أصحاب وحدة الوجود.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد عُلم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق؛ فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال، وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق؟ ].

    سيجيب الشيخ على هذا السؤال الذي يتضمن مناقشة بين شخصين، لكن هذا الكلام تضمن حكمة مفيدة جداً لنا في هذا الوقت، فطلاب العلم الآن ابتلوا بكثرة الشبهات التي انتشرت في المجتمع، وفتكت بعقول أجيالنا فتكاً ذريعاً، بدأت مظاهره تخرج لولا بحمد الله أن السنة لا تزال قوية، والعلم لا زال مهيمناً، والسلطان فيه قوة ضد الباطل المعلن، لولا ذلك لرأيتم عجباً.

    فمن خلال الركام والشرار الذي نراه تحت الرماد تظهر لنا مظاهر من انجراف كثير من شبابنا في الأفكار الخطيرة المكفرة بشكل عجيب جداً؛ بسبب الفضائيات والإنترنت، وبسبب طائفة من المنافقين بين ظهرانينا، حيث بدءوا يفتنون الناس عن السنة، ويوقعونهم في البدعة، وإلا من يصدق أنه يوجد شباب الآن اقتنعوا بمذهب المعتزلة، يوجد شباب الآن انجرفوا مع مذهب الحداثة الإلحادي الباطني، شباب من أبناء جلدتنا ومن أبناء مجتمعنا وليسوا قلة وهم يكثرون، لكن الحمد لله لا تزال للسنة هيبة، ومع ذلك لا بد من الاحتياط وسد الذريعة وأخذ الأهبة، فكل منكم سيجد مثل هذه الشبهات وسيسمع منها، فلا بد أن نستعد.

    والذي نستفيده هنا من الكلام قوله: (فتعجب القائل عند شهوده، وحار في ذلك الأمر مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير إلى آخره).

    كأنه يقول: لا ينبغي لنا أن نتصدى لقضية لم نفهمها، أنت إذا واجهت شبهة فلا تتعجب حتى لو كانت خطيرة؛ لأنك ربما تجيب عنها بخطأ أو توافق على خطأ، وهذا حصل الآن لكثير من الشباب الذين يجتهدون الآن جزاهم الله خيراً يحتسبون في الإنترنت للرد على أهل الأهواء والبدع، فيقع كثير منهم في أخطاء شنيعة يحمل الحق ما لا يتحمل، أو يلتزم بلوازم هي باطلة.

    فلذلك لا ينبغي لطالب العلم أن يتصدى إلا بعلم، ويسعه إذا أشكلت عليه القضية أن يؤجلها، لا يضره ذلك حتى عند الخصم، ولا تقول، هذا خصم مسكين صاحب شبهة أنا لابد أن أقنعه الآن، لا ينتهي اللقاء إلا وقد أقنعته، لا يهمك ذلك، يهمك أن تقول الحق: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، لا يكن همك أن يهتدي الناس بقدر ما يكون همك أن تقيم الحجة عليهم، أما الهداية بيد الله، أما أن تحرص على الهداية، فنعم هذا مطلوب، لكن ثق أنك لن توصل الناس إلى الهداية إلا بطريق سليم.

    فإذاً: ينبغي لأي شخص يريد أن يتصدى لمثل هذه الأمور أو يتعرض لأفكار أهل البدع ألا يستعجل، بل يتروى ويفهم الشبهة جيداً، ثم يفهم الجواب عليها جيداً؛ فإذا لم يقدر فيحيلها على من يقدر، ولا يضره ذلك حتى لو بقيت الشبهة في أذهان أصحابها فالله يتولاهم.

    1.   

    حقيقة قول ابن عربي في وحدة الوجود

    قال رحمه الله تعالى: [ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه، فقال: الحمد لله، كلام هذا الثاني كلام باطل، وخوض فيما لم يحط بعلمه ولم يعرف حقيقته، ولا هو عارف بحقيقة قول ابن عربي وأصله الذي تفرع منه هذا الشعر وغيره، ولا هو أخذ بمقتضى هذا اللفظ ومدلوله.

    فأما أصل ابن عربي فهو أن الوجود واحد، وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن ].

    قولهم: (الوجود الواجب) يعبرون به عن الله عز وجل، و(الوجود الممكن) يعبرون به عن الخلق فهم يقولون: إن الخلق والخالق والمخلوق واحد لا فرق بينهم، هذه وحدة الوجود، وهذا عين الكفر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ، وليس هناك أكفر من هذا القول؛ لأنه يؤدي إلى الإلحاد المطلق الكامل، الإلحاد المقنن المفلسف، كما أنه يؤدي أيضاً إلى أعظم الإساءة إلى الله عز وجل، يعني: إلى حد أن أصحاب وحدة الوجود إذا سمع أحدهم حيواناً سبح له كما يسبح لله، هذا أمر شنيع لا يتصور لكنه هو نتيجة مذهب وحدة الوجود.

    إذاً: معنى قول الشيخ واجب الوجود يعني: الله، وممكن الوجود يعني: المخلوقات.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والقول بأن المعدوم شيء وأعيان المعدومات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وهذا مقصود في غير هذا الموضع ].

    قوله: (والقول بأن المعدوم شيء) هذا قول كثير من الفلاسفة، وقد يقول بعضكم: ما لنا ومال هذا القول؟ نقول: لا بد من رد هذا القول؛ لأنهم لما افترضوا أن المعدوم شيء بنوا عليه أحكاماً وعقائد وأوهاماً وتصورات، حتى في أمور الدنيا لما زعموا أن المعدوم شيء بنوا على المعدوم أحكاماً، وهذا باطل انبنى على باطل، فهل المعدوم ينبني عليه أحكام؟! وهذا من مذهب ابن عربي ، ومذهب ابن عربي أن أعيان المعدومات ثابتة في العدم يعود إلى الأول، يعني: لما قالوا: إن المعدومات أعيان، يعني: ذوات، كيف يكون هذا المعدوم عيناً، هذا أمر لا يصح عقلاً ولا يمكن أن يرد في الذهن، لكنهم أحياناً يجعلون الأوهام أشياء؛ فلذلك قالوا: إن أعيان المعدومات ثابتة في العدم، كأنهم يقولون: الأشياء قبل الوجود لها وجود، لكن كانت على وضع غير وضع الموجودات.

    ولذلك كل أمر يتصورونه يعتقدونه، بناء على أن المعدوم شيء، وأن المعدومات ثابتة في العدم، وهذا هروب من إثبات وجود الله؛ لأنهم يزعمون أن هذه الموجودات كان لها وجود في الأعيان، ويثبت لها حق الوجودية وتثبت لها أحكام الوجود، وهذه فلسفة، لكن لماذا نقولها؟ ولماذا صار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية ؟ كما سترون في دروس قادمة أنهم خلطوا هذه الفلسفة بعقائد المسلمين، التي ادعوا أنهم أصحابها، وهذا التصور هو سبب كثير من الغلط من المتكلمين، وهو سبب القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد.. إلى غير ذلك.

    ثم قال: (ووجود الحق فاض عليها) الفيض: نظرية فلسفية، يقصدون به تأثيراً معنوياً، هذا التأثير المعنوي ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، أو من المؤثر إلى المؤثر فيه، فينتج عن ذلك أثر مادي، والعملية بين الفائض والمفوض عليه عملية ذهنية لا حقيقة لها، لكنهم يتصورونها، ولذلك زعموا أن الدين كله والوحي خيال ليس له حقيقة مستقلة، إنما هو فيض، فوجود كل شيء عين وجود الحق عندهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، كما هو في الرد على فصوص الحكم لشيخ الإسلام ابن تيمية .

    1.   

    ابن عربي يصدق قول فرعون: (أنا ربكم الأعلى)

    قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا لما قال: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي، لذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] أي: وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، وأقروا له بذلك، فقالوا له: اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، والدولة لك، فصح قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وإن كان عين الحق ].

    هذا كلام ابن عربي ، نعوذ بالله، والعجيب أن هذا التلبيس مع وضوحه قد انطلى على طوائف ممن انقلبت فطرهم، وفسدت قلوبهم من أهل الأهواء والبدع، خاصة الذين ينتسبون للتصوف الآن، وتوجد طوائف من الذين لم ينتسبوا للتصوف يميلون إلى تصحيح هذا القول الباطل، الذي يصادم الحق مصادمة ظاهرة وعنيفة، لكن هؤلاء يلبسون على الجهال وعلى المفتونين، وتأملوا العبارة قال: (ولهذا لما قال -يعني: ابن عربي -: ولما كان فرعون في مصر في منصب التحكم صاحب الوقت) انظروا كيف يستجلب عواطف الفرق التي تنتظر إما ولياً وإما إماماً، فالصوفية ينتظرون ولياً ويظنون أنه صاحب الوقت، ويزعمون أنه يدبر الكون، وكذلك الرافضة والباطنية ينتظرون أيضاً إماماً، يزعمون أنه يخرج في آخر الزمان، فهو تكلم بما يوافق مصطلحاتهم؛ ليجذب عقولهم إلى الباطل على ما هم فيه من الباطل، ولهذا فهو يزعم أن فرعون ولي لله؛ ولذلك له رسالة اسمها (إيمان فرعون) قال فيها مثل هذا الكلام، ثم قال: (وإنه الخليفة في السيف، وإن جار في العرف الناموسي) يعني: أن هناك فرقاً بين العرف الظاهر وبين العرف الباطن، ففرعون ولي لله في الباطن، لكنه في الظاهر جبار، فهو خليفة بالسيف.

    قوله: (لذلك قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] أي: وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما) رجع إلى مذهبه أيضاً مرة أخرى، فزعم أن جميع المخلوقات أرباب، لكن فرعون أعلاهم، انظروا كيف التلبيس، وأنا لا أعجب من ظهور مثل هذا الإلحاد من إنسان معروف بالإلحاد، وإنما أعجب كيف يصدق هذا الكلام؟ أو كيف يلتبس على أناس يدعون الإسلام؟ ولو شئت لذكرت لكم أسماء أناس من البارزين الآن يؤمنون بمثل هذا الكلام جداً، نسأل الله السلامة والعافية.

    ثم زعم أن فرعون حينما قال: (فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم) زعم أن السحرة علموا أن فرعون هو المستحق للربوبية، والعكس هو الصحيح، أن السحرة تبرءوا من ربوبيته وإلهيته، وأعلنوا خلاف مذهبه، ولذلك فرعون قتلهم، لكن أراد ابن عربي أن يعكس القضية تماماً ويجعل الحق باطلاً والباطل حقاً.

    ولذلك قال: (لم ينكروه) زعم أن السحرة لم ينكروا ربوبية فرعون، وأنهم أقروا له بذلك، وأنهم حينما أقروا له بالربوبية سلموا رقابهم له، وقالوا: اقض ما أنت قاض، انظروا هل بعد هذا التلبيس تلبيس؟

    ثم قالوا: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، والدولة لك فصح قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فهو يزعم أن قول فرعون هو الصحيح.

    ثم استمر في هذيانه مما يجب أن يكون في عافية منه، لكن ربما يقول قائل: لماذا نقرأ مثل هذا الكلام؟ أقول: لن نقرأه كله، المجلد كله في هذا الموضوع، لكن سنقرأ نماذج تكفي لتصوركم لهذا المذهب الباطل؛ لأن هذا المذهب بدأ الآن يروج، وله دعاته عبر الفضائيات وعبر الإنترنت وعبر الإعلام، وبدأ يقتنع به طوائف، إضافة إلى طوائف الصوفية، وجمهور المتصوفة يصعب عليهم أن تقول لهم: إن ابن عربي ملحد رغم أن هذا كلامه، ولم يتراجع عنه في يوم من الأيام، والدليل أنه ما تراجع عنه، فقد كتبه في كتب مستقلة، ثم لما كتب مجموعة آرائهم في الكتب الكبيرة كفصوص الحكم أعاد هذا الكلام مرة وأكده ونظمه ورتبه، وجعله أكثر صراحة في الإلحاد والكفر، أقول: لولا الابتلاء بهذا الأمر، وأن جماهير من المسلمين تعد بالملايين يعتقدون هذا الكلام أنه حق، ويتأولون له، ويزعمون أن له باطناً، ولا يرضى أحدهم أن يقال: إن ابن عربي زنديق ملحد رغم وضوح الزندقة والإلحاد، لولا وجود مثل هذه الظواهر بين المسلمين لما احتاجنا أن نقرأ هذا الكلام، لكن أنتم بمثابة طلاب علم متخصصين، فلو كان هذا الدرس للعامة لما قرأنا مثل هذا، بل لو كان أيضاً عند طلاب علم صغار ما قرأنا مثل هذا.

    وهؤلاء الملاحدة الخلص يقرءون الآيات ويتأولونها، فمثلاً: ابن عربي يسمي الأنبياء وأتباعهم: العوام، ويقول عن النبوات والرسالات: (هذه مجرد سياسات إلهية لضبط الناس في سلوكهم في الدنيا، وإلا فالنار في الآخرة ما هي إلا غاية النعيم) مثل هذا ماذا تصنع به، يرى أن الوعيد الذي على فرعون هو قمة النعيم، والوعيد إنما سمي وعيداً وسميت النار ناراً من أجل ضبط سلوك العامة في الدنيا؛ حتى يكون عندهم رادع خوف، فينتظم سلوكهم في الدنيا، يعني: هؤلاء يقلبون كل شيء، فهم لا يتورعون عن نسف الآيات بهذه الصورة، وعن تفسير جميع البدهيات والضروريات والمعلومات بالضرورة تفسيراً معاكساً تماماً، وهذا المبدأ بدأ قبل ابن عربي ، لكن بدأ خفيفاً جداً في القرن الثالث، تجدون هذا في شطحات ابن أبي الحواري والششتري والبسطامي .

    وهذه الفئة أحياناً يكون عندهم شيء من الهسترة في بعض الأوقات، فيعلنونها، يعني: منهم من قال في القرن التاسع الهجري: لماذا تخافون من النار؟ ما هي إلا أنصب عليها خيمتي فتنطفئ. هذا ما يقوله إلا ملحد متهور، فهذا المذهب قديم، لكن لم يكن بهذه الصورة التي يكون فيها كتب تنشر بين المسلمين الآن، ويتبارون في نشرها وطبعها وخدمتها، الآن الذين يخدمون كتب ابن عربي يعدون بالمئات من المفكرين وأساتذة جامعات، فضلاً عن الشراح الأوائل يعدون بالمئات، والفتنة بدأت تخرج أعناقها من جديد، فسمعنا من يتردد في القول بزندقة ابن عربي ، ذكر أيضاً شيخ الإسلام وغيره من المحققين الذين هم أعرف منا بكلام ابن عربي على الإطلاق، وكل ما حكاه الله عن الأمم الضالة السابقة في كتابه لا يصل إلى كفر ابن عربي أبداً، ما عرفنا أحداً ورأيتم الآن نموذجاً وقرأتم نموذجاً من ذلك.

    1.   

    ذكر من قال بوحدة الوجود من أهل الإلحاد ومعنى قول ابن عربي: يا ليت شعري من المكلف؟

    قال رحمه الله تعالى: [ فإن كلام الرجل يفسر بعضه بعضاً، وهذا الأصل وهو القول بوحدة الوجود قوله وقول ابن سبعين وصاحبه الششتري والتلمساني والصدر القونوي وسعيد الفرغاني وعبد الله البلياني وابن الفارض صاحب نظم السلوك.. وغير هؤلاء من أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد.

    وأما مدلول هذا الشعر، فإن قوله: يا ليت شعري من المكلف؟ استفهام إنكار للمكلف.

    ثم قال: إن قلت عبد فذاك ميت.

    وفي موضع آخر قال: فذاك نفي. وكلاهما باطل؛ فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم منتف، ولكن الله هو الذي جعله موجوداً ثابتاً، وهذا هو دين المسلمين أن كل ما سوى الله مخلوق لله موجود بجعل الله له وجوداً، فليس لشيء من الأشياء وجود إلا بإيجاد الله له، وهو باعتبار نفسه لا يستحق إلا العدم... موجوداً حياً ناطقاً فاعلاً مريداً قادراً، بل هذا كله لا يمنع ثبوت ذواتها وصفاتها وأفعالها ].

    يعني: أن كون المخلوق يوصف بمثل هذه الصفات من الوجود والحياة والنطق والفاعلية والإرادة هذا وإن كان هذا وصفاً لله عز وجل على وجه الكمال، فالله موجود حي متكلم فاعل مريد، لكن هذه الخصائص والصفات هي للخالق على ما يليق بكماله، وهي في المخلوق على ما يليق بنقصه، ولا يمنع أن تكون المخلوقات الموصوفة بهذه الصفات لها ذوات غير ذات الله عز وجل، وأنها موجودة بذواتها وصفاتها وأفعالها لوجود غير وجود الله، هذا معنى الكلام فيما يظهر وإن كان فيه سقط.

    1.   

    إنكار ابن عربي خلق الله لأفعال العباد

    قال رحمه الله تعالى: [ فهو سبحانه هو الذي جعل الحي حياً، بل هو الذي جعل المسلم مسلماً والمصلي مصلياً، كما قال الخليل عليه السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128] وقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40].

    وهذه مسألة خلق أفعال العبيد وهي مذهب أهل السنة والجماعة مع اتفاقهم على أن العبد مأمور منهي مثاب معاقب موعود متوعد، وهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيضاً والأسود أسوداً، والطويل طويلاً والقصير قصيراً، والمتحرك متحركاً والساكن ساكناً، والرطب رطباً واليابس يابساً، والذكر ذكراً والأنثى أنثى، والحلو حلواً والمر مراً.

    ومع هذا فالأعيان تتصف بهذه الصفات، والله تعالى خالق الذوات وصفاتها، فأي عجب من اتصاف الذات المخلوقة بصفاتها؟! ومن أين يكون الله خالق ذلك كله بالحق؟ فإذا قال القائل: الرب حق والعبد حق. فإن أراد به أن هذا الحق هو عين هذا فهذا هو الاتحاد والإلحاد، وهذا هو الذي ينافي التكليف، وإن أراد أن العبد حق مخلوق خلقه الخالق فهذا مذهب المسلمين، وذلك لا ينافي أن يكون الخالق ممكناً للمخلوق، كما أنه خالق له.

    وقوله: إن قلت: عبد فذاك ميت. كذب؛ فإن العبد ليس بميت، بل هو حي أحياه الله تعالى، كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]، والله لا يكلف الميت وإنما يكلف الحي، وإذا قيل: إنه أراد بقوله: ميت. أنه باعتبار نفسه لا حياة له، قيل: تفسير مراده بهذا فاسد لفظاً ومعنى، أما اللفظ فلأن كلامه لا يقتضي ذلك، وأما المعنى فلأنه إذا فسر ذلك لم يناف التكليف.

    فإذا كان ميتاً لولا إحياء الله وقد أحياه الله، فقد صار حياً بإحياء الله له، وحينئذ فالله إنما كلف حياً لم يكلف ميتاً، وأما أقوال إخوان الملاحدة والمحامين عنهم أنه قال: ليت شعري من المكلف؟ مع علمه بأن التكليف حق فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال: إن قلت: عبد فذاك ميت. والميت ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء.

    وكذلك العبد وإن كان حياً فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل، ليس له من نفسه فعل بغير الله، فيقال لهم: هذا العذر باطل من وجوه ].

    قبل أن أستعرض الوجوه، أو ربما نستغني عن استعراض الوجوه؛ لأن الشيخ هنا أراد أن يقرر أنه من نعم الله عز وجل أن أعطى العبد شيئاً من القدرة والاختيار، وأيضاً الله عز وجل هو خالق العبد وأفعاله، لكن ذلك لابد أن يرد بعضه إلى بعض، بمعنى أننا حين نقول بأن الإنسان أعطاه الله قدرة خاصة وأعطاه حرية واختياراً، فإن ذلك محكوم ومربوط بعموم مشيئة الله، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والله عز وجل خالق العباد وخالق أفعالهم، لكن عندهم شيء من القدرة والحرية تحت إذن الله ومشيئته، هذا ما أراد أن يقرره الشيخ.

    أما أن يقال: إن الإنسان كالميت بين يدي المغسل فهذا الجبر، ليس صحيحاً أنه كالميت مطلقاً، فهو حي يريد إنقاذه، كذلك العكس من زعم أن الإنسان يقدر أشياء لا يقدرها الله عز وجل، ويفعل أشياء لا يقدرها الله عز وجل فهذا باطل، وهو مذهب القدر المذموم، فالأمر الحق بين هذين الأمرين سيذكره الشيخ ونقرؤه؛ لأنه قليل.

    1.   

    قول أهل السنة في أفعال العبد

    قال رحمه الله تعالى: [ والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة، من الفرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله ولا يتصف بها؛ فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد وهي مفعولة للرب.

    لكن هذه الصفات لم يخلقها الله بتوسط قدرة العبد ومشيئته، بخلاف أفعاله الاختيارية؛ فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته، كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة والله أعلم ].

    1.   

    الأسئلة

    القول في صفتي القدم والرجل لله تعالى

    السؤال: ورد إثبات صفة القدم والرجل من صفات الله عز وجل، هل هناك فرق بين هاتين الصفتين إذا كان هناك فرق بينهما؟

    الجواب: لا ليس هناك فرق، الظاهر والله أعلم أنها من الألفاظ المترادفة، لذلك وردت على معنى واحد، فمثلاً: في وضع قدم الباري عز وجل على جهنم ورد رجله وورد قدمه، مما يدل على أن اللفظين مترادفان.

    حكم تكفير المعين

    السؤال: ما رأيكم في قول من يقول: لا يجوز أن تحكم على فرعون بأنه كافر؟

    الجواب: فرعون يضرب به المثل في الجزم بالكفر، نحن لا نجزم بكفر أحد إلا من كفره الله عز وجل أو كفره الرسول صلى الله عليه وسلم، كفرعون وأبي لهب وأبي جهل ، فالمسألة ما تحتاج إلى مثل هذا الجدال، وربما المنكر لذلك يتأول؛ لأن السائل عقب وقال: لولا أن الله أخبرنا بكفره لما جاز أن نحكم بكفره، وكذلك الذين قتلوا في بدر مع المشركين قد يكون الواحد منهم مكرهاً إلى آخره؟

    نقول: هذا خلط بين مسألة الحكم على المعين المسلم والحكم على المعين الكافر، ولاشك أن بينهما شيء من التشابه، الحكم على المعين أغلب ما ورد فيه عند أهل السنة المقصود بهم المعين من المسلمين، لكن مع ذلك أيضاً كلامهم يحكم غير المسلمين، فنحن نقول: إن الكافر الأصلي لا نشك في كفره وأنه من أهل النار، هذا حكم قاطع، اليهودي، النصراني، المشرك، المرتد، نحكم حكماً قاطعاً بأنه من أهل النار، هذا الحكم هو حكم الله ليس حكم أحد، بقي المعين الذي مات على الكفر ولم يرد عنه شيء بعينه لا في الكتاب ولا السنة، فهذا في الحقيقة نقول: الأصل فيه أنه كافر، لكن لا نجزم؛ لأننا لا ندري ما ختم الله له، فلا نجزم، لكن نحكم حكماً عاماً.

    تكفير اليهود والنصارى

    السؤال: ما صحة قول من يقول: إن اليهود والنصارى كفار من حيث الجملة، أما من حيث التعيين، فإن أهل العلم يقولون: لا يجوز التعيين إلا إذا مات اليهودي على الكفر، حينها يجوز تعيين اليهودي إذا مات على الكفر إلى آخره، فكيف نعلم بأن هذا اليهودي مات على الكفر أو غيره؟

    الجواب: الحقيقة هناك فرق بين الحكم العام وبين الحكم الخاص هذا أمر.

    الأمر الثاني: هناك فرق بين الحكم العام وبين الجزم.

    الأمر الثالث: أننا لم نتعبد بإعلان الأحكام على الأفراد، والخوض في ذلك أظنه من البدع، لكن لو قلنا: اليهودي كافر والكافر إلى النار، والنصراني كافر والكافر إلى النار فجائز، أما أن نتجادل في إنسان بعينه باسمه فهذا من التكلف في الدين والتنطع، والقول على الله بغير علم، ومما لا يجوز أن تتعلق به همة المسلم أصلاً، فيجب أن يصرف المسلمون عن الكلام في مثل هذه الأمور، ومن أصر على ذلك أرى أنه يبدع؛ لأننا لم نكلف بالحكم على مصائر العباد على التعيين، إنما كلفنا بالحكم بحكم الله عز وجل، وليس لنا إلا الظاهر، والله أعلم.

    شبهة أهل التعطيل للصفات أو للأسماء والصفات والرد عليها

    السؤال: ما حجة أهل التعطيل عندما قالوا في أسماء الله وصفاته: إنه سميع بلا سمع، عليم بلا علم؟

    الجواب: هذا كلام المعتزلة؛ لأنهم قالوا: إذا قلنا: لله سمع وعلم.. إلى آخره، فهذا يعني: تعدد الصفات، وتعدد الصفات عندهم يدل على تعدد الموصوف، لكن هذه قاعدة مريحة لشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بعض الناس يتكلف في رد أصول أهل الباطل ظناً منه أن لها أصلاً، مع أن أصول أهل الباطل لا تعقل، فلا داعي أن نتكلف لردها؛ لأنك لو نظرت إليها بداهة لا يمكن أن يقرها العقل، لكن هؤلاء عقولهم غير سليمة، فلما كانت عقولهم غير سليمة بنوا أحكاماً غير سليمة؛ لو تأملناها لقلنا: كيف توصلت عقولهم التي يعتزون بها إلى هذا المقام من الخروج عن البدهيات ومصادمة العقل السليم والفطرة؟ فقول المعتزلة: إن تعدد الصفات يدل على تعدد الموصوف هل هذه قاعدة صحيحة؟ تأملوا، هل إذا تعددت الصفات صار الموصوف متعدداً، حتى في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- الإنسان كم له من صفة؟! الجماد كم له من صفة؟! كل هذا بسبب أن نظرتهم لله نظرة تجريدية ليست حقيقية، فهم وقعوا في معضلة: إذا وصفوا الله بالصفات فلا بد أن تنطبق الصفات على ذلك، وهم يهربون من إثبات الذات، وعبروا عن هذا بمسألة تعدد الموصوف؛ لأنهم يقولون: لا بد أن تتجزأ الذات والله غير متجزئ، تعالى الله عما يقولون، هذه فلسفات وأوهام، فمن هنا أهل التعطيل ليس لهم من الحجج إلا الشبهات الواهية التي لا يقرها العقل، وأهم شيء عندهم وقاعدتهم في التعطيل: أن الصفات لا بد أن تدل على موصوف، وإذا تعددت الصفات تعددت الموصوفات، وهذا لا يجوز في حق الله، هذا بالنسبة للمعتزلة.

    أما الجهمية فهم ينكرون ذات الله عز وجل، ولذلك أنكروا الأسماء والصفات، فقد قالوا: إن الاسم لا بد أن يدل على مسمى، والمسمى لا بد أن يكون له حقيقة ذاتية؛ ونظراً لأنه ليس لله عندهم حقيقة ذاتية فقد نفوا الأسماء والصفات بكل سهولة، يعني: المسألة ما فيها تعقيد في أولياتها، إنما التعقيد فيما يسلكونه من مسالك إلى مثل هذه الأمور التي تصادم البدهيات، نسأل الله العافية.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767468772