إسلام ويب

شرح العبودية [7]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القدر من أركان الإيمان، لا يتم إيمان عبد إلا به، وقد ظهرت فرق تنتسب إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب العظيم، فأنكروا منه ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، كالقدرية والجبرية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم.

    1.   

    مراتب القدر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد.

    فإن آخر ما كان الكلام عنه هو ما قاله الشيخ عبد القادر الجيلاني ، وهو أنه قال: إن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر.

    وقد سبق أن أشرنا إلى أن القدر له أربع مراتب:

    مرتبة العلم

    المرتبة الأولى: إثبات علم الله سبحانه وتعالى الشامل والمحيط بكل شيء سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] فكل شيء من الماضي والمستقبل يعلمه الله سبحانه وتعالى قبل أن يوجد، والله عز وجل يعلم ما يحصل لهذا الشيء، ويعلم مصيره، ومن ذلك أفعال العباد، فهو سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قد علم بعلمه الشامل المحيط بكل شيء أنه سيخلق بعض العباد، وأنه سيخلق الإنس، وأن هؤلاء الإنس سيقومون بأعمال متعددة، وأنهم سيموتون، وعلم سبحانه وتعالى ما سيحصل لهم في الحشر، وما سيحصل لهم بعد الحشر، وعلم سبحانه وتعالى منازلهم جميعاً من الجنة أو النار قبل أن يخلقهم، وهذا لشمول علمه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، فإذا آمن الإنسان بهذه المرتبة من مراتب القدر فإنه يكون قد حقق أكثر القدر.

    مرتبة الكتابة

    المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة.

    وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب ما علمه من أحوال المكلفين، ومن أحوال الأشياء التي خلقها سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق كتب ما علمه من شأن الخلق، ومن أحوالهم، ومن أوضاعهم جميعاً، إلى أن يصل أحدهم إما إلى الجنة، وذلك بسبب طاعته عن اختيار، وإما إلى النار، وذلك بسبب عصيانه عن اختيار، فكتب مقادير كل شيء، كما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنها عنده في اللوح المحفوظ).

    مرتبة المشيئة والإرادة

    المرتبة الثالثة: إثبات مشيئة الله سبحانه وتعالى العامة.

    وهي التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى خالق لكل شيء، فهو سبحانه وتعالى يشاء ويريد سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يحصل في كون الله عز وجل وفي مخلوقات الله شيء لم يرده الله سبحانه وتعالى.

    وهنا تحدثنا عن نوعين من الإرادة: الإرادة الأولى: هي الإرادة الكونية، وقلنا: إن معنى الإرادة الكونية: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخلق كل شيء، ولا يمكن أن يوجد في كون الله عز وجل وفي مخلوقات الله شيء لم يرده الله عز وجل، وبناءً على هذا المعنى للإرادة فإن الكفر مما أراده الله، والمعاصي مما أراد الله سبحانه وتعالى، وكذلك الإيمان مما أراده الله، وكذلك الأعمال الصالحة مما أراد الله سبحانه وتعالى، وكذلك وجود الأنبياء والصالحين والطيبين من الناس والعبّاد والزهّاد والمجاهدين ونحو ذلك، كل ذلك مما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد في هذه الأرض، كما أن إبليس والكفار وأعداء الدين مما أراد الله عز وجل أن يخلق وأن يوجد في هذا الكون، وبناءً على هذا فإن الإرادة الكونية -كما سبق أن أشرت- هي بمعنى الخلق؛ فالله عز وجل خالق لكل شيء، ولو كانت هذه المخلوقات ليست طيبة، ولو كانت هذه المخلوقات لا يحبها، فالله عز وجل يخلق أشياء وهو لا يحبها، فيخلقها وهو يكرهها ويبغضها، فقد خلق إبليس مع أنه يبغضه، وخلق الكفار مع أنه يبغضهم، وخلق كثيراً من الدواب المؤذية مع أنه يبغضها.

    إذاً: ما هي الحكمة عندما يخلق الله عز وجل أشياء وهو يبغضها؟

    إن الحكمة من ذلك هي الابتلاء، كما قال الله عز وجل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] فخلق الله عز وجل هذه الأشياء التي هي في ظاهرها متعارضة، وهي في الحقيقة مخلوقة ليبتلي بها العباد وينظر إلى أي شيء ينقادون، وهل يتبعون الرسل أم لا يتبعون.

    كما أنه سبحانه وتعالى أراد إرادة أخرى، وهذا يدعونا إلى الحديث عن الإرادة الثانية، وهي الإرادة الشرعية، والإرادة الشرعية موافقة لمعنى محبة الله عز وجل ورضاه، فهذه الإرادة هي التي أمر بها بالأوامر الشرعية، وهي التي نهى بها عن المناهي والمحرمات، وحينئذ يعرف الإنسان أن الله عز وجل له إرادتان: إرادة بمعنى الخلق، وإرادة بمعنى الشرع والأمر.

    وحينئذ عندما يقرأ الإنسان قول الله عز وجل: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] يعلم أن المعنى: لا يريده ولا يحبه، والرضا قدر زائد على الإرادة، فهو شبه مستقل عن صفة الإرادة، لكن قد يقول قائل: إذا كان لا يرضاه فلماذا يريده كوناً؟

    والجواب: ليبتلي الله عز وجل العباد.

    مرتبة الخلق

    المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: مرتبة خلق أفعال العباد.

    كما أخبر الله سبحانه وتعالى عندما قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فهو سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق عمله، كما أن قوله سبحانه وتعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] يدخل فيه أعمالنا التي نفعلها، فنحن لا يمكننا أن نعمل أعمالاً إلا وقد خلقها الله عز وجل لنا؛ لأننا نحن مخلوقان، وما ينتج عن المخلوق فهو مخلوق بطبعه.

    وبهذه الأربع المراتب يفهم الإنسان القدر، وحينئذ فإذا سألك سائل، هل المعاصي الموجودة في الحياة من قدر الله؟

    نقول: نعم هي من قدر الله.

    فإن قال: كيف تكون من قدر الله؟ تقول: لأنه علمها أولاً، وهذه مرتبة العلم، ولأنه كتبها، وهذه مرتبة الكتابة، ولأنه أرادها، وهذه مرتبة الإرادة، وهي إما من أفعال العباد فهي مخلوقة قطعاً، وإما من أفعال غيرهم، وهي مخلوقة كذلك قطعاً، فهي من قدر الله.

    1.   

    موقف المكلف من القدر

    وقد يقول قائل: نحن نسمع أنه يجب التسليم للقدر!

    ونقول: القدر نوعان: نوع داخل تحت مقدور الإنسان فعله أو تركه، فهذا الذي هو داخل تحت مقدور الإنسان لا يجوز له أن يرضى به، وإنما يجب عليه أن يتبع الأوامر والنواهي الشرعية.

    ونوع آخر غير داخل تحت مقدور العبد، مثل المصائب التي تحصل عليه، فيجب أن يرضى.

    وأضرب على هذا بأمثلة حتى نستطيع أن نميز بين القدر الذي يمكن للإنسان أن يرضى به، والقدر الذي لا يمكن له أن يرضى به، فعندما خلقنا الله عز وجل خلقنا بأشكال معينة، خلق الطويل وخلق القصير، وخلق الأبيض وخلق الأسود، وخلق العربي وخلق العجمي، فهذه أمور ليست داخلة تحت مقدور العبد، فيرضى بها، وكذلك المصائب التي تقع على الإنسان، فلنفترض أن إنساناً ابتلي بمصيبة فأتاه سرطان مثلاً، فإنه يصبر ويرضى بما قسمه الله له، ولا يعني هذا أنه لا يتداوى، ولكن يرضى بما قسمه الله عز وجل له، ويكون هذا الرضا من العبادات، فالمصائب والأشياء التي ليست داخلة تحت مقدور العبد هي الأشياء التي يرضى بها.

    لكن هناك أشياء لا يصح له أن يرضى بها، ومثال ذلك في إنسان يريد أن يعصي بمعصية، ويقول: المعاصي خلقها الله، وما دام أن الله خلقها فأنا أرضى بها وأفعلها!

    نقول: لا، حتى لو خلقها الله، فالله عز وجل خلقها ونهاك عن أن ترتكبها، فإن قال: إذاً لماذا خلقها؟ نقول: للابتلاء، حتى ينظر هل تطيع أو تعصي. وحينئذ لا يجوز لك أن ترتكب هذه المعصية وتقول: إنني أرضى بالقضاء والقدر! فهذا كلام باطل، ولهذا يقول السلف الصالح رضوان الله عليهم: يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب التي تقع على الإنسان بغير اختياره؛ إذ لا شك في أن الإنسان لا يختار المصيبة لنفسه، كحادث سيارة تنقطع فيه يد إنسان، فهو في حالة انقطاع يده لا بد من أن يرضى، ولو تسخّط لكان آثماً.

    وهناك الذنوب والمعاصي، فالذنوب والمعاصي لا يجوز أن تحتج بالقدر عليها، لأنك تستطيع أن تبتعد عن الذنب وأن تتركه، لأنه داخلة تحت اختيارك، فالفعل والترك داخلان تحت اختيارك، فلا يمكن لإنسان أبداً أن يزعم أنه غير مختار عندما يريد أن يفعل الزنا، أو عندما يريد أن يأكل الربا، أو عندما يغتاب وينم، بدليل أنه يستطيع الترك، كما أننا نجد في الواقع أشخاصاً كانوا يعصون الله عز وجل ثم تابوا وأصبحوا صالحين يعبدون الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن ذلك تحت قدرة الإنسان، فالإنسان بإمكانه أن يفعل الطاعة وبإمكانه أن يفعل المعصية، لكن المصائب تأتي أقداراً، ولا يمكن للإنسان إذا قدر الله عليه بمصيبة أن يبتعد عنها، ومن ثم نقول: الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، فيصح للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب عندما تقع عليه، لكن الذنوب والمعاصي لا يجوز أن يحتج الإنسان بالقدر عليها.

    1.   

    ضلال أهل البدع في باب القدر

    وأهل البدع والضلالة انحرفوا في هذا الباب العظيم من أبواب العلم، وهو الإيمان بالقضاء والقدر، وصاروا فرقاً وطوائف متعددة، وصاروا على مناهج مختلفة، فنجد أن المرتبة الأولى -وهي مرتبة العلم- أنكرها أوائل القدرية، فأوائلهم أنكروا علم الله عز وجل بالأشياء، وقالوا: إن الأشياء لا يمكن أن يعلمها الله عز وجل قبل أن تقع! وإنما يعلمها الله سبحانه وتعالى بعد أن تقع فنفوا علم الله عز وجل بالأشياء قبل حصولها، وشبهوا علم الله سبحانه وتعالى بعلم المخلوق، وهؤلاء كفّرهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، وانقرضت هذه الطائفة التي كانت تنفي علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء قبل وقوعها.

    ومرتبة الكتابة انحرفت فيها القدرية المعتزلة، فالقدرية -الذين هم المعتزلة- نفوا أن يكون الله عز وجل كتب هذه الأشياء، فإنهم أثبتوا أن الله عز وجل يعلم ما سيحصل للعباد قبل أن يفعلوه، لكنهم يقولون: لم يكتبه! والصحيح أنه تعالى كتب ذلك، بدليل الأحاديث الواردة في ذلك.

    أما الإرادة فإنه لم توجد طائفة تنفي إرادة الله سبحانه وتعالى بالكلية، وإنما وجدت طائفة خلطت في فهمها لإرادة الله عز وجل، فنحن أهل السنة والجماعة نقول: إن لله عز وجل إرادتين: الإرادة الكونية التي هي بمعنى الخلق، فهذه يوجد بسببها بعض الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل ولا يحبها، ويوجد فيها أشياء يحبها ويرضاها.

    وهناك إرادة شرعية، وهي بمعنى ما يحبه الله عز وجل، ولهذا أمر تعالى بالأوامر ونهى عن جملة من المنهيات، فنحن نؤمن بالإرادتين، أما المعتزلة فإنهم أنكروا الإرادة الأولى، وقالوا إن الله عز وجل لا يمكن أن يريد المعاصي. وأما الأشاعرة فإنهم عكسوا، فنفوا الإرادة الشرعية، وأثبتوا الإرادة الكونية.

    1.   

    آثار الاعتقاد الباطل في باب القدر

    إن آثار هذه العقائد واضحة، فالذين نفوا الإرادة الكونية نفوا القدر بالكلية، فأصبحوا مكذبين بالقدر، ونحن نعلم أن القدر ركن من أركان الإيمان؛ فإن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان قال له: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، وقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فهؤلاء مكذبون بالقدر، ولهذا جاء في بعض الآثار التي صححها بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة) يعني: الذين يكذبون بالقدر في هذه الأمة يشبهون المجوس، فإن عقيدة المجوس هي أنهم ينكرون أن يكون لله سبحانه وتعالى كتابة وإرادة لشئون العباد، وإنما يعتقدون أن العباد هم الذين يحدثون أفعالهم، ولهذا قالوا في عقائدهم بأن عندهم إلهين: الإله الأول: النور، والإله الثاني: الظلمة، ويعتقدون أن النور هو الإله الحق، وهو قديم، والظلمة هو الباطل، وهو قديم أيضاً، وأن كليهما يفعلان بغير إرادة الله عز وجل.

    والكلام في هذا يطول، لكن الذي يهمنا أن المعتزلة -وهم القدرية- كذبوا بالقدر، وقالوا إن الله لم يكتب أعمال العباد، ولم يردها سبحانه وتعالى.

    أما الأشاعرة والصوفية فإنهم -كما سبق أن أشرنا- على العكس تماماً، فلما جاءوا إلى الإرادة قالوا: إن الله عز وجل هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وبناءً على هذا فيجب علينا أن نهتم بهذا الموضوع، وهو أن الله خالق كل شيء. فأثر هذا عليهم إلى درجة أنهم أصبحوا يحتجون بالقدر على المعاصي التي يقومون بها.

    والسبب هو عدم الكامل في فهم إرادة الله عز وجل الكونية، وإرادته الشرعية، فلمّا جهلوا هذا المعنى ولم يفهموه على صورته الصحيحة وقعوا في هذه المشكلة.

    وقد سبق أن قرأنا في هذا الكتاب أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن الصوفية الذين غاية مقصودهم من التعبد هو شهود الإرادة الكونية يعظّمون كل مخلوقات الله عز وجل، حتى ولو كان بعضها مما نهى عنه سبحانه وتعالى.

    1.   

    اختلاف طوائف التصوف واختلاف الحكم عليها

    الصوفية ليسوا على درجة واحدة، وهذه قضية من القضايا التي ينبغي أن يفهما الإنسان، فالصوفية ليسوا على درجة واحدة، وليسوا طائفة واحدة، بل الصوفية طوائف، فبعضهم على عقيدة ابن عربي -كما ستأتي الإشارة إليه- في التصوف، وهذا كفر مبين، والعياذ بالله، وبعضهم عنده بدع غليظة لكنه لم يصل إلى درجة الكفر، وإنما هو ضال ومنحرف عن السنة، وبعضهم أقل شأناً، فعنده بعض البدع العملية مثل بعض الأذكار البدعية، وبعض الأوراد البدعية التي فيها توسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يكون فيها عدد معين من الدعاء لم يرد في السنة، مثل أن يقال ألف مرة، أو نحو ذلك، وكل هذا من البدع المحدثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).

    وهناك طائفة من الصوفية إنما هم عبّاد وأتقياء اعتنوا بجانب أعمال القلوب، لكن عندهم شيء من الجهل، وشيء من عدم معرفة الأحكام الشرعية، ولم يعتنوا بالتعلم، وإنما عظّموا جانب أعمال القلوب أكثر من جانب العلم الشرعي، فحصل عندهم بعض الأخطاء وبعض المزالق، ولهذا فإنك حين تقرأ في كتب التراجم قد تجد عالماً يقال عنه: فلان بن فلان الصوفي. فلا يعني هذا أنه كافر عندنا، ولا يعني أنه ضال مبتدع، لا، بل قد يكون هذا الإنسان عابداً، لكن وصف بهذا الوصف من قبل شخص ترجم له، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتخذ موقفاً واحداً تجاه هذه الفئة بحيث يحكم عليها بحكم واحد، بل كل إنسان له حكم خاص، وكل فئة لها حكم خاص، وكل رأي له حكم خاص؛ فهذه الطائفة -كما قلت- مجموعات مختلفة، فإذا حكمت عليها بحكم واحد أخطأت، فإذا حكمت عليهم بأنهم مبتدعة كلهم فقد أخطأت من ناحيتين:

    الناحية الأولى: أنه قد ينسب أشخاص إليهم وهم ليسوا مبتدعة، فتكون قد أخطأت في حق هؤلاء الأشخاص المساكين.

    الناحية الثانية: أنه قد يوجد أشخاص ينتسبون إلى الصوفية وهم كفار، مثل ابن عربي ، وابن سبعين ، وأمثال هؤلاء الضالين، فتكون قد أخطأت عندما أدخلت هؤلاء في الإسلام وهم في الحقيقة كفار، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون لديه سعة أفق في التعامل مع الأحكام، فلا يصح أن يطلق الإنسان الأحكام جزافاً بغير بينة وبغير إدراك وبغير معرفة، ولهذا كان السلف -رضوان الله عليهم- يسمون الآراء المخالفة للسنة مقالات؛ لأن كل شخص مسئول عن مقالته التي قالها، وقد يوجد مجموعة أشخاص يتفقون على سلسلة عقدية معينة، فهؤلاء يسمون فرقة ويسمى رأيهم مذهباً، لكن لا يصح أن يحكم الإنسان هكذا جزافاً، وإنما الواجب أن يتثبت الإنسان وأن يعلم.

    1.   

    كمال أهل السنة والجماعة في جميع مسائل الدين

    نحن -أهل السنة والجماعة- أرحم الخلق بالخلق، ولهذا يعذر أهل السنة المخطئ، ويعذرون الجاهل، ويعذرون الغافل، ويرحمون الخلق، وهم أرحم الناس بالناس، وهم -كما قال عنهم السلف رضوان الله عليهم- نقاوة المسلمين، فأهل السنة هم أنقاهم وأصفاهم اعتقاداً وقلباً وإيماناً، فهذه قضية ينبغي أن تدرك على صورتها الصحيحة.

    فأهل السنة مكتملون، فتجد أنهم يعتنون بطلب العلم الشرعي، فهم لا يعبدون الله على جهل، وإنما يعتنون بطلب العلم الشرعي، ويتفقهون، ويكتبون، ويحفظون، ويستفتون أهل الذكر وأهل العلم، ويطلبون الدليل، ويعتمدون على القرآن وعلى السنة، وتجد أن أهل السنة -أيضاً- يعتنون بأعمال القلوب، فهم يعتنون بمحبة الله، وبالخوف من الله، وبالتوكل على الله، وبالإنابة إليه، فليس عندهم جفاف في عواطفهم، بل هم أرق الناس في تعبدهم لله عز وجل، تجد الرجل منهم إذا وقف في الصف يبكي من خشية الله، واقرءوا سيرة الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الجيل الأول من أجيال أهل السنة، واقرءوا سير العلماء السابقين، فمع أنهم طلبوا العلم واشتغلوا به لم يشغلهم ذلك عن أعمال القلوب وأهميتها، لكن هذه الأعمال -التي هي أعمال القلوب- ما كانوا يبتدعون فيها، وإنما كانوا يتبعون السنة في طريقتهم، فإذا أرادوا أن يكتسبوا محبة الله بحثوا في العلم عن كيفية اكتساب محبة الله عز وجل، فإذا عرفوها نفذوها عملياً، ولهذا تجد أن أهل السنة دعاة إلى الله عز وجل، فهم يشتغلون بطلب العلم، ويشتغلون بتصفية النفوس وترقيقها، والاهتمام بها، ويشتغلون أيضاً بالدعوة إلى الله والحركة الدءوبة في نصرة الدين والعمل له والبذل من أجله، وهم -أيضاً- في نفس الوقت أهل صدقة وبر.

    1.   

    أفضل العبادات

    سبق أن أشرت في بداية الكلام على العبادة أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أفضل العبادات، فبعضهم قالوا: أفضل العبادات هي أشقها. يعني: أكثرها مشقة، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (أجرك على قدر نصبك) وبعضهم قال: إن أفضل العبادات هي العبادة التي يكون فيها نفع متعد إلى الناس، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أنفعهم للناس)، وبعض العلماء قال: إن أفضل العبادات هي الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد فيه تضحية عظيمة جداً، وهي أن يبذل الإنسان نفسه -وهي أغلى ما يملكه الإنسان- في سبيل الله عز وجل، كما قيل:

    يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود

    والصحيح هو أن أفضل العبادات: العمل على مرضاة الله عز وجل في كل وقت بما يناسبه، فإذا كان الوقت وقت صلاة فأفضل العبادات جمع الهم للصلاة، وإذا كان الوقت وقت إكرام ضيف فأفضل العبادات أن تكرم هذا الضيف بالابتسامة والاحتفاء والاجتهاد في إكرامه بقدر ما تستطيع، وإذا كان الوقت وقت درس علمي فينبغي عليك أن تجتهد في الاستحضار في الفهم وفي الكتابة وفي التدوين وفي الحفظ، وإذا كان الوقت وقت بر الوالدين فإنه يجب عليك أن تجتهد في برهما، وإذا كان الوقت وقت دعوة إلى الله عز وجل فإنه يجب أن تكون قوياً جداً في نشاطك وعملك وبذلك في الدعوة إلى الله عز وجل، فتكون بهذه الطريقة شخصية كاملة، لكن إذا خلط الإنسان، كأن تذكر أثناء الدرس أنه ما ذكر الله عز وجل بعد صلاة العشاء، فألقى الدرس وبدأ يذكره وقال: إن أفضل العمل الذكر، وبدأ يتذكر الأحاديث والآيات الواردة في فضل الذكر ونسي الدرس؛ فهذا خطأ، وكذلك لو أن شخصاً تذكر وهو في الصلاة دعوة مثلاً، فقال: إن فلاناً ما مررت به، وهو قريب من الالتزام، فبالإمكان أن يلتزم، فبدأ يفكر أثناء الصلاة: كيف يمر به؟ ومتى يمر به؟ حتى انتهى من صلاته ولم يحفظ منها شيئاً، فهذا خطأ، وبعض الناس قد يتعلق بموضوع مثل موضوع الجهاد في سبيل الله مثلاً فتجد أنه في فترة ما عنده تكون قدرة على الجهاد، فتجد أنه يشتغل بترداد هذه الفكرة فقط، وقد يهمل قراءة القرآن، وقد يهمل التسبيح، وقد يهمل طلب العلم، وقد يهمل الدعوة إلى الله عز وجل ونصح المسلمين، فتجد أنه مشغول بفكرة واحدة معينة هي التي سيطرت على ذهنه، وقد يكون مفرطاً في كثير من الأعمال الصالحة بسبب أنه سيطرت عليه فكرة واحدة، وهي التي صارت محور حياته جميعاً.

    والواجب: أن يكون الإنسان عاملاً على مرضاة الله عز وجل بما يناسب، فأفضل الأعمال هو العمل الصالح في وقته.

    تلك هي خلاصة الكلام على موضوع الإيمان بالقدر، والفرق المنحرفة فيه.

    1.   

    مسألة خلق أفعال العباد والاعتقاد الحق فيها

    المرتبة الأخيرة: مرتبة خلق أفعال العباد.

    ومسألة (خلق أفعال العباد) أعدل الأقوال وأفضل الأقوال فيها هو قول أهل السنة، فإن قول أهل السنة الذي هو الحق وما عداه باطل: هو أن الله عز وجل خلق أفعال العباد، ومن ضمن ما خلق من أفعال العباد إرادات العباد، فخلق إرادات للعباد يميزون بها بين الصالح والفاسد، وبين الضار والنافع، وبناءً على هذا التمييز يكون الاختيار، فالله عز وجل خلق أفعال العباد، وفي ذات الوقت الذي خلق فيه أفعال العباد لم يجبرهم على عمل معين، وإنما خلق لهم إرادة يختارون بها، فهل اختيار الإنسان بهذه الإرادة معناه أن الإنسان بنفسه يخلق؟! لا؛ لأن الإرادة التي يختار بها مخلوقة، فمن خلقها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وبناءً على هذا فهو مخلوق لله عز وجل، وأفعاله مخلوقة لله عز وجل، لكنه في نفس الوقت ليس مجبراً على فعلها.

    ضلال القدرية والجبرية في مسألة خلق أفعال العباد

    وهذه المسألة ضلت فيها الطائفتان المنحرفتان في القدر: القدرية، والجبرية. فالقدرية قالوا: إنه إذا كان الله عز وجل هو الذي خلق أفعال العباد فمعنى هذا أننا مجبورون على أفعالنا! وبناءً على هذا قالوا: نحن نعرف أننا غير مجبورين، فبناءً على هذا لم يخلق الله تعالى أفعالنا! فإن قيل لهم: من خلقها إذاً؟! قالوا: نحن نخلق أفعالنا بأنفسنا. فأثبتوا خالقاً مع الله عز وجل، وليس بخالق واحد، بل بعدد الخلق المكلفين من الجن والإنس.

    أما الجبرية فإنهم قالوا: إنه ما دام أن النصوص الشرعية دلت على أن الله خلق أفعال العباد؛ فلا شك في أنهم مجبورون على أفعالهم؛ لأن الله خلق أفعالهم! وهذا كلام باطل أيضاً؛ فإننا نشعر في الواقع أنا لسنا مجبورين، فأنت لو شئت لصليت، ولو شئت لتركت الصلاة، وهذا مما يشعر به الإنسان، فالجبرية خالفت واقع الإنسان وحقيقة الإنسان، والمعتزلة أثبت خالقاً مع الله سبحانه وتعالى، فكفرت بربوبيته، والعياذ بالله.

    ولهذا ينبغي أن يفهم الإنسان القول الحق، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الله خلق أفعال العباد، وفي نفس الوقت الذي خلق فيه أفعال العباد لم يجبرهم على فعل معين، وإنما خلق لهم إرادات، فهذه الإرادات يختارون بها الأعمال، ولهذا نجد أن الناس بعضهم صالح باختيار منه، وبعضهم ملحد باختيار منه، ونجد في نفس الوقت أشخاصاً كانوا صالحين وصاروا ملحدين، ونجد أشخاصاً كانوا منحرفين ثم صاروا صالحين، وهذا يدل على أن التنقل عن اختيار، فأنت عندما تصلي لا تجد أحداً يأخذك جبراً وقصراً وأنت لا تريد أن تصلي، كما أن الذي يشرب الخمر لا يجد أحداً يأخذه بيده غصباً وجبراً ثم يدخله من أجل أن يشرب الخمر، بل كل أفعالنا عن اختيار، لكن هل معنى أن أفعالنا عن اختيار أننا نحن نخلق هذه الأفعال؟! الجواب: لا نخلقها، فنحن في الأصل مخلوقون لله عز وجل.

    فنحن نكذّب القدرية المعتزلة الذين قالوا بأن العبد يخلق فعل نفسه، فنقول: الذي خلقنا وخلق أفعالنا هو الله سبحانه وتعالى، ونكذّب الجبرية الذين قالوا: إن الله عز وجل جبر الخلق على أفعال معينة، ونقول: الواقع يدل على أن العبد يختار، كما أن الأوامر الشرعية تدل على هذا؛ لأنه لو كان العبد مجبوراً فما فائدة القرآن والسنة؟! ولهذا يقول العلماء: أن القدرية كذّبت بالقدر، والجبرية كذّبت بالشرع.

    فالقدرية كذب بعضهم بعلم الله، وهؤلاء انقرضوا، وبعضهم كذّب بالكتابة وجعل العبد خالقاً لفعل نفسه، وهؤلاء هم القدرية المعتزلة، وما زالت القدرية موجودة في عقيدة الرافضة، وفي عقيدة الإباضية.

    وتجد بعض الكُتّاب اليوم لهم مصنفات يتكلمون فيها عن الإنسان الحر أو حرية الإرادة الإنسانية، ويقصدون بحرية الإرادة الإنسانية أن الإنسان هو الذي ينشئ فعله من غير أن يكون مكتوباً عليه، والمشكلة عند هؤلاء هي أنهم لم يعلموا أن الله عز وجل علمه لا يحده حد، فلا يمكن أن يحد علم الله سبحانه وتعالى حد.

    وبعض الناس قد يقول: إذا كان الله عز وجل كتب علينا هذه الأشياء؛ فنحن مساكين مجبورون! فنقول: لست مجبوراً.

    فإن قال: كيف كتب الله علينا هذه الأشياء؟!

    قلنا: الله عز وجل علمه ليس كعلمك أنت، فعلم الله عز وجل واسع، فإنه قبل أن يخلقك، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة علم سبحانه وتعالى أنه سيخلق إنساناً اسمه فلان، وسيلتقي مع فلان وفلان وفلان، وسيجتمعون في مسجد اسمه كذا، وسيدرسون كذا، وسيكون كذا، لقد علم هذا قبل أن يخلقنا بآلاف السنين، وهو عالم؛ لأن علمه ليس محدوداً كعلمي وعلمك، بل علمه سبحانه وتعالى واسع، فهو يعلم الماضي ويعلم المستقبل، ونحن لا نعلم المستقبل، ولا ندري ماذا سيحصل غداً، لكن الله يعلم ماذا سيحصل غداً، فعلمه الشامل سبحانه وتعالى كتبه في اللوح المحفوظ، فليس هناك جبر للعبد حتى نقول: إن العبد لا يريد أن يشرب الخمر، لكن الله كتب عليه شرب الخمر! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكأن الله جبره على ذلك، فهذا خطأ في فهم الإنسان وتصوره لعلم الله عز وجل بأنه مثل علم الإنسان، فأنت لا تعلم ما سيحصل غداً، لكن يمكنك أن تأخذ شخصاً وتقول له: غداً تعمل كذا وتعمل كذا! وبهذه الطريقة تكون قد أجبرته، لكن الله عز وجل ما أجبرنا مع أنه علم ما سنختار، ومثال ذلك في شيء أجده أما يمكنني أخذه ويمكنني تركه، فهل أنا مجبور على فعل معين فيه؟! إن عندي إرادة في نفسي، فلو شئت لأخذته الآن ولو شئت لتركته، ولا أحد من البشر ما يمكن أن أفعله بعد ذلك من الأخذ والترك، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم، فكتب سبحانه وتعالى أنني سآخذه، أو كتب أنني لن آخذه بناءً على علمه سبحانه وتعالى، وعلمه سبحانه وتعالى شامل، فينبغي أن تفهم هذه الحقيقة الشرعية.

    1.   

    المصائب والمعايب وحكم الاحتجاج بالقدر فيهما

    وبعد أن شرح الشيخ كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني أشار إلى مجموعة من الآيات التي تبين بعض الأحكام الشرعية، وهي أن للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب، لكنه لا يحتج به على المعايب، يقول في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]: [ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف].

    ثم بدأ يذكر بعض الآيات والأحاديث التي تدل على أن الإنسان إذا أصيب بمرض أو أصيب بفقر أو أصيب بمصيبة كان ذلك من قدر الله عز وجل، وأنه لا بد من أن يصبر عليه ويرضى به.

    يقول: [قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] يعني: من يؤمن بقدر الله عز وجل في هذا الأمر يهد قلبه. قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]] فقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتَابٍ يعني: مكتوبة. وهذا يدل على المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23].

    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)] فموسى يلوم آدم عليهما السلام فعلى أي شيء يلومه؟ على أنه كان سبباً في إخراجه من الجنة، فهل لامه على أكل الشجرة؟ إنه لم يلمه على أكل الشجرة، وإنما لامه على المصيبة المترتبة على المعصية.

    قال صلى الله عليه وسلم: (فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟ قال: نعم). يعني: ما دام أنه مكتوب عليّ فلماذا تلومني؟! ولهذا جاء في بعض الألفاظ: (فلماذا تلومني على شيء قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم وموسى) يعني: أن آدم غلب موسى في الحجة؛ لأنه احتج بما هو حجة صحيحة، وهو أن هذا أمر كتبه الله عليه، فكيف تلومني عليه وقد كتبه الله عليّ؟! فلا يصح أن يلام الإنسان على شيء كتب عليه.

    فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر على الذنب، وبعض الناس يقول: مكتوب عليّ أن أعصي الله عز وجل. وهذا احتجاج غير صحيح، فآدم عليه السلام لم يقل: يا موسى! إن المعصية التي فعلتها مكتوبة عليّ. وإنما احتج بالمصيبة، أما أن المذنب يحتج بالقدر فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لأبليس، فيقول يا رب! أنت كتبت عليَّ أن أعصيك، وإلا فإني لا أريد أن أعصيك. وهذا لا يصح أن يكون حجة لإبليس، ولا يصح أن يكون حجة لأي إنسان.

    فالاحتجاج بالقدر على الذنوب لا شك في أنه باطل، وإذا جئت إلى الإنسان الذي يحتج بالقدر فآذيته بأي نوع من الإيذاء فإنه لا يمكن أن يصبر على هذا الإيذاء، وإنما يكافئ الإيذاء بمثله، فقد جيء برجل إلى عمر بن الخطاب -كما يذكر أهل السير والأخبار- وقد سرق، فقال له: كيف تقطع يدي على شيء كتبه الله عليّ؟! يعني السرقة، فقال: وإن الله كتب على يدك أن تقطع، كما أنه كتب أن تسرق. يعني: أنت كنت مخيراً بين السرقة وتركها، فاخترت السرقة، وقد علمنا باختيارك للسرقة أن الله كتبها عليك، فنحن نقطع يدك بما أمر الله عز وجل به، وكل ذلك من قدر الله عز وجل.

    يقول: [ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لإبليس وقوم نوح وقوم عاد وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً لأجل الذنب] يعني: ما قال له: لماذا أكلت من الشجرة؟! وإنما لامه من أجل المصيبة، فإن آدم قد تاب إلى الله فاجتباه وهداه، ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة، وهي الإخراج من الجنة، إذ كان بالإمكان أن نكون في الجنة، فشعر موسى عليه السلام بأن الخروج إلى هذه الدنيا والعيش فيها مصيبة فلامه، فاحتج عليه آدم بالقدر، وهو أن هذا شيء مكتوب عليه أصلاً، فتنزل أنت إلى هذه الأرض وأنزل أنا إلى هذه الأرض، ولهذا قال له: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم: إن هذا كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق. فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله رباً.

    وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر الله ويتوب من المعايب ويصبر على المصائب، والمعايب: هي الذنوب، والمصائب: ما يحصل للإنسان من البلاء، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، فانظر في هذه الآية كيف جمع الله تعالى فيها بين الصبر والاستغفار؛ لأن الإنسان إما أن تنزل به مصيبة فيعالجها بالصبر، أو يقع في معصية فيعالجها بالاستغفار، وهذا يدل على التفريق الشرعي بين المصائب والذنوب، وأن المصائب تتلقى بالصبر، والذنوب تتلقى بالاستغفار، ولهذا نلحظ في القرآن الكريم أن الله عز وجل جمع بين الصبر والاستغفار في آيات كثيرة جداً، وهذا الجمع له دلالة، يقول الله عز وجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] فذكر الصبر والتقوى، والتقوى موافقة لمعنى الاستغفار، ويقول: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، وقال يوسف: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] فنلحظ أن هناك آيات كثيرة تجمع بين الصبر من جهة، وبين الاستغفار أو التقوى أو التوبة أو الإنابة إلى الله من جهة أخرى.

    آثار الاحتجاج بالقدر على عذر العصاة

    يقول: [وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته].

    يعني: لا يقل الإنسان: إن الكفار معذورون؛ لأن هذا المكتوب عليهم مقدر عليهم، ولا يقل: إن دعاة الفسق والفجور والانحراف معذورون؛ لأن ذلك مكتوب عليهم، وبناء على هذا نترك جهاد المنافقين، أو نترك الدعوة إلى الله عز وجل، ونحن نعلم أن هناك كفاراً يدعون لكفرهم ويقاتلون من أجله، وأن هناك منافقين يدعون إلى النفاق والفجور والانحراف والضلال بكل صوره وألوانه، وأن هناك فسّاقاً ينشرون الفسق بأعمالهم وأقوالهم في الناس، فلو كنا جبرية على مذهب هؤلاء لعذرنا الكفار، وعذرنا المنافقين، وعذرنا الفسّاق الذين يدعون إلى فسقهم، وهذا لا شك في أن له آثاراً خطيرة جداً على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن الصوفية الذين صاروا جبرية، وعظّموا الإرادة الكونية، ورأوا أن مخلوقات الله عز وجل الموجودة يجب أن تعظّم لأنها مخلوقات لله عز وجل؛ رتبوا على هذا الإهمال في الدعوة والتكاسل، لكنك عندما تجد أهل السنة يؤمنون بالأمر والنهي، ويؤمنون بالإرادة الكونية من جهة، وبالإرادة الشرعية من جهة أخرى؛ تجد أنهم ينشطون في الدعوة إلى الله عز وجل وفي مواجهة أهل الفساد، فهم يواجهون الكفار بالجهاد في سبيل الله، أو بما يناسب في مرحلتهم تلك، ويواجهون المنافقين بكشف خططهم وبيان عوارهم للناس، حتى لا يأخذوا آراءهم وأفكارهم التي يدسون فيها السم في الدسم، وكذلك يوضحون آراء أهل الشهوات، ويمنعون أهل الشهوات من شهواتهم، كما قال الشيخ: يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته، ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء الله، ويعادي أعداء الله، ويحب في الله، ويبغض في الله... الخ.

    التمييز بين أهل الحق والباطل دليل فساد القول بعذر العصاة

    ثم ساق آية طويلة في البراءة من المشركين في سورة الممتحنة، وساق آية أخرى في سورة المجادلة في موضوع البراءة من المشركين، ثم ساق مجموعة من الآيات معناها واحد، وهو التمييز بين الصنفين: المسلمين من جهة، والمشركين والفاسقين والعصاة من جهة أخرى، وهذا التمييز يدل على أن الجهاد والصراع بين الحق والباطل، واعتبار الحق حقاً، واعتبار الباطل باطلاً مقصود في الشريعة، وأن هذا هدف من أهداف هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله.

    فمن الآيات التي ساقها قوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ [ص:28]، ولو كنا على مذهب الجبرية لما كان فرق؛ لأنا كلنا مجبورون.

    وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: هل يستوي هؤلاء وهؤلاء سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:19-22]، وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29] يعني: هل يستوي المسلم والمشرك؟! أي: من يعبد إلهاً واحداً وهو الله سبحانه وتعالى، ومن يعبد آلهة متعددة لا يستويان، وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:75-76] فلا يستوي هو ومن ينفق ويبذل ويجاهد في سبيل الله.

    وقال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].

    ثم قال: [ونظائر ذلك فيما يفرق الله فيه بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الطاعة وأهل المعصية، وأهل البر وأهل الفجور، وأهل الهدى وأهل الضلال، وأهل الغي وأهل الرشاد، وأهل الصدق وأهل الكذب].

    1.   

    الأسئلة

    بيان ما لا يدخل تحت إرادة الإنسان من الأقدار

    السؤال: يذكر أن الإنسان له أن يحتج بالقدر غير الداخل تحت إرادته، فما معنى هذه العبارة؟ وما هو المقصود بالاحتجاج؟

    الجواب: المقصود بالقدر الذي ليس تحت إرادته: المصائب التي تقع عليه، والاحتجاج بالقدر: هو الاعتذار بالقدر، هذا هو المقصود في هذا الموضوع.

    نظرة في الدعوة إلى فقه التيسير

    السؤال: ما هو رأيكم فيما يدعو إليه البعض من أنصاف العلماء في هذه الأيام من فقه التيسير، وبحسب زعمهم يكون هذا الفقه متكيفاً مع المتغيرات التي تعيشها الحياة الحديثة من التطور والتقدم في جميع الميادين العلمية والإعلامية، فكان من نتاج ذلك أنهم أباحوا للمرأة التمثيل وذلك بضوابط شرعية كما يزعمون فنرجو توضيح هذه المسألة؟

    الجواب: لا شك في أن الانحراف يقع عند كثير من الناس لعدة أسباب، فقد يقع الإنسان في الانحراف بسبب اتباع الهوى، أو بسبب الجهل، أو بسبب التعصب، أو بسبب الشعور بالانهزامية أمام المجتمعات الأخرى؛ فأمثال هؤلاء يشعرون بأنهم منهزمون أمام العالم المتطور، وأمام العالم المتحضر، وقد ابتلينا في هذه الأزمان بطائفتين انهزمتا أمام العالم الغربي المتطور المتحضر: فطائفة تركت الدين، وقالت: إن الأصلح للناس حتى يصلوا إلى التطور، ويصلوا إلى التحضر، وتنمو حياتهم، ويكونوا على مستوى راق ومتحضر هو أن يشابهوا العالم الغربي في حركاته وسكناته وتصرفاته، ويأخذوا ما عنده من حق وباطل، وصحيح وفاسد، وإن العالم الغربي ما صار متحضراً إلا عندما ترك الدين وأعرض عنه، وبناء على هذا تقول هذه الطائفة: لا بد من ترك هذا الدين، ويصفون هذا الدين بأنه يقيد حريات الأشخاص، أو يقولون: إن هذه خرافات وخزعبلات وأساطير، ونحو ذلك من العبارات التي يعبرون بها، وهذه الطائفة هم العلمانيون ممن ينتسب إلى المسلمين.

    وهناك طائفة ثانية ليسوا من العلمانين، ولا يريدون ترك الدين، وإنما هم دعاة إلى الدين، فهذه الطائفة الثانية المنهزمة أمام الحياة المعاصرة طائفة أصحابها يدعون إلى الله عز وجل، وربما صبروا في دعوتهم، واجتهدوا في الإصلاح، لكن رأوا أنه لابد من أن نعايش العالم، وأن التغيير الجذري للحياة غير ممكن، فهم يقولون: إن العالم الغربي اليوم هو المسيطر على الأرض كلها سياسياً، وإعلامياً، واقتصادياً ومن كل النواحي تقريباً، وبناء على هذا يقولون: الخير لدعوتنا حتى يكون لها رواج عند الناس هو أن نحاول أن نقرِّب بين الدين وبين متطلبات العصر والواقع الذي نعيش فيه. فنشأ عند هؤلاء ما يسمى بفقه التيسير، فيقول أصحاب هذا الفقه: نحن في عصر الإعلام، والتقنية الإعلامية فيه تقنية فائقة جداً، ولها وضع خاص جداً، فنحن -الدعاة إلى الله عز وجل- إذا قلنا: إن ظهور المرأة على شاشات الإعلام لا يجوز، والتمثيليات التي تظهر فيها نساء لا تجوز، والموسيقى لا تجوز، فماذا يبقى في الإعلام؟! ثم يأتي مثل هؤلاء المنتسبين إلى العلم والدعوة فيقولون: لماذا لا نسهِّل على الناس ونيسر على الناس؟! فالموسيقى جائزة، والدليل على هذا إفتاء الإمام ابن حزم رحمه الله بجواز الاستماع إلى الغناء؛ فأحلوا الموسيقى.

    أما بالنسبة للمرأة فهناك أقوال لأهل العلم يفتون فيها بكشف الوجه واليدين، فيجوز -إذاً- للمرأة أن تكشف وجهها ويديها في الشارع، وعند غير محارمها، لأن الحجاب المقصود به تغطية الرأس وبقية البدن، وما دام أن هذا هو الحجاب الشرعي فلا يمنع أن تظهر المرأة في الإعلام وهي مغطية شعرها وتكون كاشفة وجهها، لكن بشرط أن تبتعد عن الفتنة، وحينئذ يتورطون في عدة إشكالات يقعون فيها:

    الإشكال الأول: أين تتعلم هؤلاء الممثلات الإسلاميات الجدد؟!

    فليس هناك إلا المعاهد القديمة التي فيها الممثلات السيئات.

    الإشكال الثاني: أن التمثيل يحتاج فيه إلى الضحك في بعض الأحيان، وإلى بكاء في بعض الأحيان، وإلى ملاطفة في بعض الأحيان، فهل يجوز للمرأة في الإعلام الإسلامي الجديد أن تضحك وتأتي بما يسمى بالنكتة اليوم؟!

    إذاً: دعوتم إلى الفتنة بطريقة غير مباشرة.

    فإن قالوا: لكن التمثيليات الدرامية -أي: الجادة- لا بد من أن يكون فيها عنصر المرأة، وإغفال دور المرأة خطأ.

    قلنا: التمثيليات الكوميدية التي فيها ضحك ونكت لا تجوز على قولكم، فعلى أي أساس كانت هذه حراماً وهذه حلالاً؟!

    فمثل هؤلاء الذين يدعون إلى فقه التيسير سيجرهم فقه التيسير إلى مخالفات شرعية وتبديل لكثير من الأحكام الشرعية.

    ومن ذلك أننا في العالم الإسلامي عندنا أقليات غير مسلمة حيث يوجد نصارى، ويوجد بوذيون، ويوجد أصحاب عقائد أخرى، ومن المعلوم في الحكم الشرعي الصحيح أن هؤلاء يكونون تحت حماية المسلمين، لكن بشروط:

    أولاً: يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون، وهذا هو الموجود في كتب الفقه، وهو الموجود في حياة المسلمين قديماً.

    ثانياً: لا يدعون إلى مذاهبهم وآرائهم وأفكارهم، بحيث ينصّرون أحداً من المسلمين، أو يهودونه، أو يجعلونه بوذياً أو نحو ذلك.

    فقالوا: إذا عملنا بهذا الأسلوب ضيقنا على الناس، وفقه التيسير يقتضي أن نترك لهم نفساً، فنترك لهم حرية للدعوة، ونتنازل عن المبلغ المالي الذي سماه الله سبحانه وتعالى الجزية، وهكذا، ثم تأتي عدة مسائل أخرى يتورطون فيها، وحينئذ يلغون الأحكام الفقهية الشرعية الأساسية كلها بحجة التنازل للواقع المعاصر الذي يجب أن نعيش فيه.

    وهذه مشكلة، ونحن نقول: إن الدعوة إلى الله عز وجل ستفقد مكانتها وإشراقها ومنزلتها إذا لم تكن على هدي الله سبحانه وتعالى، فما هي الفائدة من أن ندعو وهذه الدعوة ليست موافقة للقرآن والسنة؟! ليست هناك فائدة، فلو تركنا الدعوة لكان تركنا خيراً لنا، لكن عندما يدعو الإنسان إلى شيء يراه في الواقع موافقاً لما أراده الله ولما شرعه فهذا خير عظيم ولو كان قليلاً، والاستعجال في محاولة التغيير -أعني: كون الإنسان يريد أن يغير الأحكام الشرعية بناء على رؤية للواقع- لا شك في أن هذا انحراف وخطر عظيم جداً على الدين وعلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

    فهذا الفقه هو فقه أعوج، أساسه الانهزام أمام الواقع المعاصر الذي يضغط على المصلحين ويضغط على المسلمين من كل مكان، والسبب فيه هو أن حال المسلمين ليس هو حالهم الصحيح، ليس هو الحال النموذجي المناسب، وإنما حال المسلمين -كما نلحظ- حال ضعيف وحال انهزام كبير جداً في حياة المسلمين، فلا يصح أن ينزل الإنسان عن الشريعة ويغير الأحكام حتى توافق حال أشخاص منهزمين، بل الواجب أن يرفع هؤلاء الضعاف حتى يوافقوا الشريعة.

    ولأجل هذا كان أهل السنة -ولله الحمد- هم أهدى الناس فقهاً ومنهجاً واستقامة، فتجد أنهم يفتون بالفتوى الصحيحة في وقت يكاد يكون تطبيقها فيه من الخيال، ومن ذلك ما نقرؤه في كتب الفقه، وفي كتب العقائد من أنه يجب محاربة الكفار ومجاهدتهم في سبيل الله، وأنه يجب على المسلمين أن يذهبوا إلى الكفار ويطلبوا منهم ثلاثة أشياء: الأول: الإسلام، فيخضعوا لأحكامه ويخضعوا لهذا الدين، فإن رفضوا يطلب منهم أن يتنازلوا عن عروشهم وأن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا هذا فالقتال.

    وهذا أمر مثل الخيال في واقعنا المعاصر، لكن أحكام الله عز وجل يجب أن لا تتغير، ويجب أن لا تتبدل مهما كان واقع المسلمين ضعيفاً، نعم. يمكن أن يقول الإنسان: إن الإصلاح قد يطول قليلاً، فقد يقتضي سنوات، وكما أن الانحدار إلى الهوة أخذ سنوات فكذلك الصعود، والانحدار أسرع من الصعود، فالصعود قد يأخذ سنوات، وقد يأخذ فترة طويلة تتجاوز أجيالاً كثيرة، لكن لا يصح لإنسان أن يقول: نغير الأحكام، ونغير الأمور الشرعية؛ لأنه يريد أن يرى الناس خاضعين للإسلام، وكأنه نبي من الأنبياء كلفه الله عز وجل بأن يرى الإسلام الذي حرفه يوافق الواقع المعاصر!

    فهذه قضايا ينبغي للإنسان أن يفهمها وأن يعقلها، ولا شك أن فقه التيسير فقه غير صحيح، ومع الأسف أن حجة مثل هؤلاء أنهم يقولون: أنتم -أيها الدعاة وأيها المصلحون- كل شيء عندكم ممنوع فهذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، فرؤية المرأة المتبرجة حرام! وسماع الغناء حرام! مع أن هذه أشياء صارت -كما يظنون- ضرورية في الواقع، وبناء على هذا فليس عندكم إلا فقه المنع! وسيترككم الناس ويمشون!

    ونقول: دعوا الناس ليذهبوا، فأهم شيء ألا نغير الدين، فمن أراد الإعراض عن دين الله فليعرض، ومن أراد أن يلتزم بدين الله عز وجل فليلتزمه، وهذا هو الطلب الشرعي، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث في مجتمع كافر، ونحن الآن دعاة في مجتمع مسلم، فهل تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء من دعوته عندما رأى إيذاء المشركين ورفضهم وعنادهم وسخطهم على دعوته ومحاولتهم قتله ونحو ذلك؟! وهل قال: سيتركني هؤلاء، إذاً: الحل أن أتنازل قليلاً، ثم أتفق معهم على طريقة معينة مناسبة؟! مع الفرق بين المجتمعات.

    فنحن في زماننا المعاصر لا يجوز لنا أن نبرر للفسّاق -مثلاً- وللعصاة ولدعاة الشهوة، ولا يجوز لنا أن نبرر هذه الأفعال التي يقومون بها والأقوال التي يريدونها حتى لا يتركونا ويذهبوا عنا! فهذا ليس فقهاً صحيحاً.

    حكم قول: (اللهم شفع في نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم)

    السؤال: هل يصح أن أقول: اللهم شفِّع فيَّ نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم؟

    الجواب: نعم يصح؛ لأن هذا طلب من الله سبحانه وتعالى، لكن لا يصح أن يقول الإنسان: يا رسول الله! اشفع لي! أو: يا رسول الله! أغثني في الموقف! أو نحو ذلك من الأقوال.

    وكذلك قول: اللهم شفّع فيَّ عبادك الصالحين الشهداء، أو الذين يعملون الصالحات.

    فلماذا تدعو بهذه الطريقة؟!

    قل: اللهم اجعلني من الصالحين، واجعلني من الشهداء، وإذا سأل الإنسان فيسأل الله عز وجل الفردوس الأعلى، وهذا الدعاء جائز، إلا أنه لا ينبغي للإنسان أن يدعو إلا بالشيء العظيم.

    الرد على احتجاج العصاة بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء

    السؤال: هناك من يحتج على المعاصي بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟

    الجواب: وما الذي أدراك أن قلبك على المعصية؟! فكيف عرفت؟! هل الله عز وجل أخبرك فقال: أنا قلبت قلبك على المعصية؟! فليس عنده بينة ولا برهان، وإنما هو استلذاذ للمعاصي ومحاولة إضفاء الصبغة الشرعية عليها.

    حكم إقامة الموالد

    السؤال: ما حكم الموالد التي لا يكون فيها الغناء والرقص، بل ذكر لله وترديد لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما حجتنا عليهم إذا قلنا: إنها بدعة؟

    الجواب: نقول: هؤلاء الذين يعملون المولد يعملونه كل سنة؟

    فإذا كانوا يعملونه كل سنة فمعنى هذا أنهم اتخذوا هذا المولد عيداً؛ لأن العيد هو الذي يعاود الناس في كل فترة، فالاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم واتخاذه عيداً لا يجوز؛ لأنا نحن -المسلمين- ليس عندنا إلا عيدان فقط، العيد الأول: عيد الفطر، والعيد الثاني: عيد الأضحى، وهما اللذان نحتفل بهما كل سنة، فهذا الذي يحتفل بالمولد في السنة اتخذ عيداً ثالثاً، واتخاذ عيد ثالث بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فإذا اتخذ الإنسان عيداً ثالثاً يعاوده كل فترة، ويحتفل به -مثل المولد، أو ليلة الإسراء والمعراج أو نحو ذلك- فهذا من البدع والضلالات المنحرفة، ولو لم يخالطه غناء ورقص، فمجرد اتخاذه عيداً بدعة في ذاتها، فإذا خالطه غناء ورقص زادت المعصية.

    بيان وجه شبه القدرية بالمجوس

    السؤال: سمعت أن وجه الشبه بين المجوس والقدرية هو أن المجوس أثبتوا خالقين، وقول القدرية بأن العبد يخلق أفعاله أثبتوا به أكثر من خالق، فكل عبد يكون خالقاً، ذكر هذا بعض أهل العلم، فما تعليقكم؟

    الجواب: هذا كلام صحيح، وقد سبق أن أشرت إلى أن المجوس يرون أن آلهتهم هي: النور والظلمة، ويرون أن إله النور قديم ويخلق، وإله الظلمة قديم ويخلق، وإله النور هو الذي يخلق الخير، وإله الظلمة هو الذي يخلق الشر! فجعلوا أكثر من خالق مع الله سبحانه وتعالى، مع اعترافهم بالله عز وجل، فهم مثل المعتزلة والقدرية من هذا الوجه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756380114