إسلام ويب

دراسة موضوعية [14]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وسؤال منكر ونكير، والإيمان بالبعث ومواقف القيامة، وبشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة والنار حق وهما مخلوقتان.

    1.   

    من آداب طالب العلم اقتداؤه بشيخه وحسن استماعه له والنقل عنه

    قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في كتاب حلية طالب العلم:

    [رأس مالك أيها الطالب من شيخك القدوة بصالح أخلاقه وكريم شمائله، أما التلقي والتلقين فهو ربح زائد، لكن لا يأخذك الاندفاع في محبة شيخك فتقع في الشناعة من حيث لا تدري، وكل من ينظر إليه يدري فلا تقلده بصوت ونغمة، ولا مشية وحركة وهيئة، فإنه إنما صار شيخاً جليلاً بتلك، فلا تسقط أنت بالتبعية له في هذه].

    المقصود أن الاستفادة من الشيوخ إنما هو في الاستفادة من علومهم وآدابهم وأخلاقهم التي حث عليها الشرع، وأما ما يتعلق بالتقليد في الهيئة والشكل فإن هذا غير مقصود وغير مطلوب.

    قال المؤلف رحمه الله: [نشاط الشيخ في درسه: يكون على قدر مدارك الطالب في استماعه وجمع نفسه وتفاعل أحاسيسه مع شيخه في درسه، ولهذا فاحذر أن تكون وسيلة قطع لعلمه بالكسل والفتور والاتكاء وانصراف الذهن وفتوره.

    قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: حق الفائدة ألا تساق إلا إلى مبتغيها، ولا تعرض إلا على الراغب فيها، فإذا رأى المحدث بعض الفتور من المستمع فليسكت فإن بعض الأدباء قال: نشاط القائل على قدر فهم المستمع فليسكت، ثم ساق بسنده عن زيد بن وهب قال: قال عبد الله : حدث القوم ما رمقوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترة فانزع، انتهى].

    المقصود أن الطالب لا ينتظر أن تعرض المعلومات من الشيوخ عرضاً، وإنما عليه أن يستفيد من هؤلاء الشيوخ من خلال الأسئلة وإبداء اهتمامه، فإن كثيراً من أهل العلم قد لا يحسن عرض المسائل ومناقشتها بمجرد العرض، لكن يؤخذ منه العلم عن طريق السؤال وعن طريق التأمل في عباراته، ولهذا يكون نشاط الشيخ على قدر اهتمام الطالب وعنايته وفهمه.

    قال المؤلف رحمه الله: [الكتابة عن الشيخ حال الدرس والمذاكرة، وهي تختلف من شيخ آخر فافهم، ولهذا أدب وشرط، أما الأدب: فينبغي لك أن تعلم شيخك أنك ستكتب أو كتبت ما سمعته مذاكرة، وأما الشرط: فتشير إلى أنك كتبته من سماعه من درسه].

    وهناك شرط آخر بأن يكون ما تكتبه هو نفس ما يذكره الشيخ؛ لأنه أحياناً قد يفهم بعض الطلاب فهماً ناقصاً أو محرفاً فينقله على غير بصيرة، ولهذا لا يجوز للإنسان أن ينقل عن أحد فتوى أو رأياً أو مسألة من المسائل إلا وهو متيقن منها، أما إذا كان غير متيقن فإنه لا ينبغي أن ينقلها، فقد يظلم شيخه بما ينقله عنه وهو لا يعلم.

    التلقي عن المبتدع من أهل العلم

    قال المؤلف رحمه الله: [التلقي عن المبتدع].

    هذا باب واسع تحدث عنه الشيخ طويلاً، وخلاصته أن الإنسان ينبغي عليه أن يتلقى عن أهل الثقة، وهم أهل الحفظ والإتقان من أهل السنة، ولهذا يقول ابن سيرين -كما رواه الإمام مسلم في مقدمته-: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.

    وقال أيضاً: كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم. فيأخذون عن أهل السنة ويتركون أهل البدعة.

    ولهذا نقل عدد من السلف كلاماً عظيماً في عدم التلقي من أهل البدع، وأن من سعادة الأعجمي والمبتدئ في طلب العلم أن يهيئه الله لعالم من أهل السنة يعلمه السنة.

    وقد نقل عن أكثر من عالم من علماء أهل السنة أنه قال: هداني الله لفلان من أهل السنة.

    فهذا يدل على أهمية التلقي عن الشيوخ من أهل السنة والجماعة وترك أهل البدع، ولا يغتر الإنسان بالشعارات الإعلامية التي بدأ يرددها كثير من الناس حول الرأي والرأي الآخر، أو عدم الإقصاء، أو حرية التعبير أو حرية الفكر أو نحو ذلك، فكل هذا الأمور ليس لها قيمة فيما يتعلق بالتلقي عن غير أهل السنة، فكما قال أكثر من واحد من أهل السنة: السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تركها غرق، فلا يصح أن يقول الإنسان: أنا أريد أن أطلع على الرأي الآخر خصوصاً إذا كان في بداية طلبه للعلم.

    بل ينبغي عليه أن يدرس وأن يأخذ من مورد عذب بعيد عن الكدر؛ لأن النظر في كتب أهل البدع في بدايات طلب العلم تجعل المورد الذي يشرب منه الإنسان كدراً؛ لأن أهل البدع وكتبهم تنشر القول الباطل والفاسد وتزينه للناس، نعم يصح للإنسان إذا كان متخصصاً وغير مبتدئ بطلب العلم أن يطلع على كتب أهل البدع للرد عليها، فإن هذا لا بأس به لهذا المقصد النبيل، فإن حفظ الدين من مقاصد الشريعة، ومن حفظ الدين بيان العقائد الباطلة ليحذرها الناس، وحفظ الدين كمقصد من مقاصد الشريعة يكون بأمرين:

    الأمر الأول: معرفة الدين على صورته الصحيحة ونشرها وتعليم الناس إياها ودعوتهم إليها.

    الأمر الثاني: الرد على المخالفين، فإن المخالفين يزينون للناس ويلبسون عليهم دينهم ويزخرفون الهم الباطل بالأسلوب الحسن والأسلوب الجميل، فيقع الناس في الضلالة من حيث لا يشعرون، فوجب بيان الحق وتمييز الحق من الباطل لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فالله عز وجل يقول: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32].

    هذا فيما يتعلق بالآراء المجمع عليها من أصول الدين والعقيدة، أما المسائل المختلف فيها بين أهل السنة كالمسائل الفقهية التي يختلف أهل السنة في فهم الدليل لعدم الإجماع عليه أو لعدم وضوح هذا الدليل أو للخلاف في صحة هذا الدليل يكون العالم فيها ما بين مجتهد مصيب له أجران ومجتهد مخطئ له أجر، ولا شك أن الحق واحد غير متعدد، لأن الله عز وجل يقول: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32].

    وجوب الحذر من الجاهل المبتدع

    قال المؤلف رحمه الله: [احذر أبا الجهل المبتدع الذي مسه زيغ العقيدة، وغشيته سحب الخرافة، يحكم الهوى ويسميه العقل، ويعدل عن النص، وهل العقل إلا في النص! ويستمسك بالضعيف ويبعد عن الصحيح، ويقال لهم أيضاً: أهل الشبهات وأهل الأهواء، ولذا كان ابن المبارك رحمه الله يسمي المبتدعة الأصاغر.

    وقال الذهبي رحمه الله تعالى: إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث، وهات العقل، فاعلم أنه أبو جهل، وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر أو قد حل فيه، فإذا جبنت منه فاهرب وإلا فاصرعه وابرك على صدره، واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه، انتهى].

    أهل السنة هم الذين يتبعون ما تدل عليه النصوص الشرعية من القرآن والسنة، أما مزاحمة النصوص بأي نوع من أنواع المزاحمات فهو من البدعة.

    فمن زاحم النصوص بالعقل وبدأ يعطل النصوص ويغير معانيها ويحرف مدلولها بحجة العقل فهذا مبتدع.

    ومن أراد أن يحرف النصوص الشرعية ويغير مدلولاتها بحجة التجربة والذوق والوجد الذي عند الصوفية فهذا مبتدع.

    ومن أراد أن يحرف الأحكام الشرعية والأدلة الشرعية بحجة السياسة فهذا مبتدع.

    ومن أراد أن يحرف النصوص الشرعية بحجة المصلحة فهذا مبتدع.

    ومن أراد أن يحرف الأدلة الشرعية باسم مقتضيات الواقع والحاجة إلى فهم الواقع ونحو ذلك فهذا لا شك أنه ليس من أهل السنة.

    بل أهل السنة هم الذين يأخذون ما في الكتاب والسنة كما أراده الله عز وجل وكما خاطب نبيه بلغة العرب، وكل هذه الأمور التي جاءوا بها هي في الحقيقة مطابقة للكتاب والسنة، لكن هم خرجوا هذه الأمور التي هي ممدوحة في ذاتها بحيث إنهم جعلوها معارضة للنصوص، فالعقل ممدوح ولا يمكن أن يعارض النص الشرعي لكن هم جاءوا بمعقولات وشبهات أملاها الشيطان عليهم.

    كذلك الذوق لا يمكن أن يعارض القرآن والسنة، وفي الحديث: (ثلاث من كن فيه ذاق بهن حلاوة الإيمان)، ثم ذكر الثلاث وهي من أصول الدين، فالذوق لا يمكن أن يخالف النصوص.

    والمصلحة هي في العمل بالنصوص والسياسة الصحيحة هي في العمل بالنصوص، والواقع الصحيح هو التعامل مع هذه النصوص تعاملاً مشروعاً، فكل من حرف النصوص وغير معناها ومدلولها بحجة من هذه الحجج التي صورتها ممتازة فنقول: أنت ظلمت الاثنين، ظلمت النصوص الشرعية عندما غيرت معناها، وظلمت العقل والمصلحة والذوق والواقع ونحو ذلك عندما غيرت المفهوم الحقيقي الموافق للنصوص الشرعية، وجئت بمعقولات باطلة وذوق فاسد ومصلحة ليس فيها مصلحة في حقيقة الأمر ومحاولة للتلاعب بالنصوص الشرعية حتى توافق الواقع حسب عقلك، وإلا فالنصوص الشرعية يمكن أن توافق الواقع بناء على ما تدل عليه.

    مثلاً: لو جاءنا شخص وقال: لا يمكن في القرن العشرين أن نقطع اليد، لأنه لا يصلح أن يعيش الإنسان بدون يد؟ نقول: يصلح إذا سرق أن نقطع يده، الأحكام الشرعية نصوص قطعية لا تقبل التبديل، بحجة الواقع والحضارة، فالدين باق مع الإنسان في مجتمعه الزراعي أو الصناعي أو في أي نوع من أنواع المجتمعات، فلا يمكن أن نغير النصوص الشرعية بناء على أمور لديك أو انهزام أمام الحضارة الغربية والشعور بالدنيا، إذا كنت تشعر بالدنيا فارجع، فأهل الإسلام لا يشعرون بها.

    قال: كيف نقطع اليد ومنظمة العفو الدولية تطالب بمنع قطع اليد؟

    نقول: منظمة العفو الدولية أصلاً بنت فلسفتها فيما يتعلق بالإنسانية على الحضارة الغربية التي هي ليست مبنية على وحي من السماء، وإنما هي مبنية على استحسانات من البشر، والآراء البشرية إذا كانت مخالفة للقطعيات الإلهية نرميها ولا نقبلها.

    ولهذا أهل السنة هم الذين يأخذون القرآن والسنة ويشعرون بعلو عظيم عندما يأخذونها ويفهمونها فهماً صحيحاً ويطبقونها في الواقع.

    قد يقول بعض الناس: إن الواقع مختلف الآن، نقول: لا يشكل هذا الواقع، فالدول الغربية التي انتصرت على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية هم صنعوا هيئة الأمم وجعلوا لها مجلس أمن وجعلوا أنفسهم هم الذين يتحكمون في مصير الخلق، ونحن لا يشترط أن نعترف بهذا، نحن لنا فكر آخر.. لنا دين آخر.. لنا منهج آخر، لسنا ملزمين بهذا الأمر، نعم نحن في زمن استضعاف، وفي زمن الأمة فيه ضعيفة، لكنها صارت ضعيفة بسبب نفسها، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] لكن لو أننا ارتفعنا عن الشهوات المحرمة وعن الشبهات الضالة والتزمنا بما التزم به الرسل الكرام وبما التزم به الصحابة بجد واجتهاد ويقين صادق فإنه لا يمكن أبداً أن يغلبنا هؤلاء الناس مهما ملكوا من الأسلحة.

    ومن النماذج التي عطلت النصوص بسببها السياسة والعقل، ولهذا خرج لنا طائفة من المتكلمين والعصرانيين يتكلمون باسم العقل والمصلحة.

    كذلك تقليد الأئمة يجعل الإمام والشيخ سبباً من الأسباب التي يعطل من أجلها النصوص، فإذا قلنا له: لماذا تعطل هذه النصوص؟ قال: الشيخ يفتي بكذا، قلنا: وهل الشيخ آية أو حديث أو إله إذا قال شيئاً يجب علينا أن نلتزم به كما نلتزم بالنص الشرعي؟ فنحن ملزمون بالنصوص الشرعية، وكلام أهل العلم هو من باب التفسير والتعليم، فإذا خالف كلام الشيخ أو الإمام أو العالم النص القطعي الواضح في القرآن والسنة فإننا لا نقبله أبداً.

    1.   

    الإيمان بفتنة القبر وسؤال منكر ونكير

    سبق أن تحدثنا عن موضوع الغيبيات وقلنا: إن موضوع الغيبيات موضوع واسع وكبير، وإن الزاوية التي نناقش منها موضوع الغيبيات هي باعتبار أن هذه الغيبيات ثبتت في القرآن وصحيح السنة، وأنه يجب على المسلم أن يؤمن بها، ولكل نوع من هذه الأنواع الغيبية تفصيلات طويلة لسنا معنيين بها، لكن الهدف هو معرفة أن هذا أمر غيبي أخبر به الله عز وجل بالقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم بالسنة، وأنه يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت، وأن أهل الكلام وبالذات المعتزلة قد حرفوا النصوص المتعلقة بالغيبيات بأنها تخالف العقل بالنسبة لديهم.

    قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: [وفتنة القبر حق، وسؤال منكر ونكير حق].

    فتنة القبر المقصود بها: السؤال الذي يكون في قبرك، وهذا السؤال ثابت في النصوص الشرعية، يقول الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أن المسلم إذا دخل قبره فإنه يسأل عن ثلاثة أمور: عن ربه، وعن نبيه، وعن دينه، وهذه الثلاثة هي التي أخذها الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبنى عليها الأصول الثلاثة أو الثلاثة الأصول، واختص هذه الأصول الثلاثة فقط لأنها هي التي يسأل عنها الإنسان في قبره.

    أما السائل فهما ملكان يأتيان للإنسان فيقعدانه ويسألانه عن هذه الأشياء، وجاء في رواية: أن أحدهما يسمى منكراً والآخر يسمى نكيراً.

    ومن الأمور الغيبية فيما يتعلق بالقبر عذاب القبر ونعيمه، ولهذا أخبر الله سبحانه وتعالى بعذاب أهل القبور في قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فبين أنهم يعذبون مرتين، فقوله: (عشياً) يعني: بعد العصر، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46] يدل على أن هذه النار التي يعرضون عليها غدواً وعشياً قبل قيام الساعة ويكون ذلك القبر.

    1.   

    الإيمان بالبعث والنفخ في الصور والحشر والحساب

    قال المؤلف رحمه الله: [والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور].

    البعث هو: الإخراج من القبور، يقول الله عز وجل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، فالناس يبعثون يوم القيامة من قبورهم.

    وقد أخبر الله عز وجل بهذا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة في ما يتعلق بالنفخ في الصور، والصور كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن قرن، وأن الملك الذي ينفخ فيه هو إسرافيل، وأنه حنا جبهته ينظر متى يؤمر بهذا النفخ فينفخ، فتقوم القيامة حينئذ والبعث يكون بعد القيامة.

    قال المؤلف رحمه الله: [فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51]، ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً].

    الحشر معناه: الجمع، ويكون ذلك بعد البعث، فيحشرون على أرض بيضاء نقية مستوية كما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الأرض تزول منها كل الأعلام، والمقصود بالأعلام الجبال والبيوت وكل أمر ناتئ، وتبدل الأرض غير الأرض كما أخبر الله عز وجل، ويمدها الله عز وجل كما يمد الأديم وتتوسع، ولهذا يحشر العباد إلى بلاد الشام، ولكن ليست بنفس الحجم الموجود الآن؛ لأن العباد يحشرون من زمن آدم إلى آخر من تقوم عليهم الساعة، لكن الأرض تغير وتصبح أرضاً أخرى.

    ومعنى (حفاة) غير منتعلين، ومعنى (عراة) العاري الذي لا ثياب له، ومعنى (غرلاً) ليسوا مختونين، كما قال الله عز وجل: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104] يعني: كما خرج الناس من بطون أمهاتهم ليسوا بمختونين فإنهم يخرجون من قبورهم كما خرجوا من بطون أمهاتهم.

    وجاء في بعض الأحاديث الواردة في صفة البعث أن الله عز وجل يمطر الأرض بمطر مثل مني الرجال، وأن الإنسان يفني كل جسده إلا عجب الذنب ومنه ينبت الإنسان، ثم تنشق عنهم الأرض ويخرجون من قبورهم مثل خروج النبات، فيكونون جميعاً عراة، ويكون أول من يكسى هو إبراهيم عليه السلام، ويعلل العلماء ذلك بأنه عندما رمي في النار رموه وهو عار عليه السلام، فكافأه الله عز وجل بأن كانت النار برداً وسلاماً عليه، وكافأه أيضاً بأنه أول من يحشر يوم القيامة إذا بعث الناس عراة.

    وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ينظر بعضهم إلى بعض! قال: يا عائشة الأمر أعظم من ذلك وأكبر من ذلك).

    ومعنى (بهماً) ليس معهم شيء من أملاكهم، يعني: يخرج الإنسان مثل مولده، كما قال الله عز وجل: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وهذا هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حسن.

    قال المؤلف رحمه الله: [فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويحاسبهم الله تبارك وتعالى].

    معنى الحساب: أن الله عز وجل يطلع ويخبر عباده بما كانوا يعملون في الدنيا، يقول الله عز وجل: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26]، وهذه الأمور السابقة مجمع عليها بين أهل العلم، لكن الذي يحاسب هم أهل الإسلام فقط، وأما الكفار فإنهم يسحبون إلى النار بسبب الكفر، لكن لا يحاسبون، لأن الحساب يكون لمن كان له حسنات وسيئات، أما الكفار فإنهم لا يوجد لهم حسنة، فإن الكفر يزيل كل الحسنات، كما أخبر الله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18]، وكما جاء في حديث عبد الله بن جدعان رضي الله عنه، عندما سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! إنه كان يطعم الفقير ويكسو الناس، أليس له شيء؟ فقال: لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً من الدهر. رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وعندما سئل عن حاتم الطائي وكان رجلاً كريماً يطعم الناس، قال: (ذاك رجل كان يريد شيئاً فناله) يعني: يريد المدح والثناء فحصل له ذلك.

    وأول من يحاسب هم أهل الإسلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)، وأول من يفتح له الباب هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (آتي باب الجنة، فيقول الملك: من الطارق؟ فأقول: محمد، فيقول: لك أمرت أن أفتح، لا أفتح لغيرك)، ثم تدخل بعد ذلك أمته، منهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم بعد ذلك تدخل بقية الأمم

    1.   

    الإيمان بالميزان والصراط

    قال المؤلف رحمه الله: [وتنصب الموازين].

    الموازين جمع ميزان، والميزان: هو ميزان حقيقي له كفتان، توضع فيه الأعمال، قال الله عز وجل: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف:8].

    واختلف العلماء هل هو ميزان واحد أم موازين متعددة؟ فقال بعض العلماء: إنه ميزان واحد، وإن الجمع إنما هو باعتبار ما يكون في هذا الميزان، وقال بعضهم: إنها موازين متعددة وإنه لكل أمة من الأمم ميزان خاص.

    فالحسنات توضع في مكان، والسيئات توضع في مكان ويحصل بينها موازنة، وبعض المعتزلة قال: كيف توزن الأعمال وهي أعراض؟ ومعنى أعراض: (صفات)، فنحن نقول: إن هذه الأعمال إما إن الله عز وجل يجعلها أعياناً بحيث توزن، وإما أن يكون الذي يوزن هو ثوابها.

    قال المؤلف رحمه الله: [وتنشر الدواوين].

    الدواوين هي صحائف الأعمال التي تنشر للعباد، فمن الناس من يأخذ صحيفته بيمينه، ومن الناس من يأخذ صحيفته بشماله من وراء ظهره.

    قال المؤلف رحمه الله: [وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:7-12].

    والميزان له كفتان ولسان توزن به الأعمال فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103].

    ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً].

    الحوض هو حوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في العرصات أثناء الحشر وهناك مجموعة من المواقف تحصل حتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، اصطلح على تسميتها أهل العلم بعرصات القيامة، وهذه العرصات يحصل فيها الحوض، فإن الحوض جزء من النهر الذي وهبه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو نهر الكوثر، ومن نهر الكوثر ميزاب يصب في هذا الحوض، وهذا الحوض ورد في وصفه أن طوله شهر وعرضه شهر وزواياه متساوية، وعدد آنيته مثل نجوم السماء ولونه أبيض من اللبن وطعمه أحلى من العسل.

    وأيضاً لكل نبي حوض ريحه أفضل من رائحة المسك، ولكل نبي من الأنبياء حوض خاص بأمته يتباهون أيهم أكثر مورداً، وأكثر الأحواض وروداً هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [والصراط حق، يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار].

    الصراط هو طريق يوضع على متن جهنم، وكل الأمم سترده كما قال الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، وهذا الصراط ورد في وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، وأنه توجد عليه كلابيب مثل شوك السعدان، وأن الناس يؤخذون من عليها وأنه لا يتكلم حينئذ إلا الأنبياء، وأن كل الأنبياء يكون كلامهم: اللهم سلم سلم، والناس يجوزونه بصفات مختلفة، منهم من يجوزه كالبرق، ومنهم من يجوزه مثل الريح، ومنهم من يجوزه مثل أجود الخيل، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يقع في نار جهنم والعياذ بالله، والصراط منصوب على متن جهنم، كما في النصوص وورد في وصفه أنه دحض مزلة

    1.   

    الإيمان بالشفاعة والجنة والنار

    قال المؤلف رحمه الله: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم].

    الشفاعة ثابتة، وهي أنواع: منها الشفاعة التي هي في فصل القضاء، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع عند ربه من أجل أن يحاسب العباد، وهذه الشفاعة يقر بها كل المسلمين حتى المعتزلة والخوارج، لكن المعتزلة والخوارج ينفون الشفاعة لعصاة الموحدين، وهي ثابتة في النصوص الشرعية كما في حديث أبي هريرة الطويل في قصة الشفاعة وأنه يشفع لكل من قال: لا إله إلا الله، وأنه قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، وجعلت دعوتي شفاعة لأمتي)، وقال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).

    إذاً الشفاعة أنواع: منها الشفاعة في فصل القضاء، ومنها الشفاعة لأهل الكبائر، ومنها الشفاعة لـأبي طالب وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليست شفاعة في دخوله الجنة، وإنما هي شفاعة في التخفيف عليه من النار حتى يكون في ضحضاح يغلي منها دماغه، وورد في بعض النصوص أن له نعلين من نار يغلي منهما رأسه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

    وهناك بعض أنواع الشفاعة لم يرد نص صريح في كونها من أنواع الشفاعة التي تكون يوم القيامة وإنما ورد فيها عموم الدعاء، مثل: الشفاعة لبعض المؤمنين أن يرفعه الله عز وجل في الجنة، ومثل: الشفاعة في التخفيف على بعض أهل النار ونحوها.

    أما إنكار المعتزلة والخوارج لشفاعة عصاة الموحدين فذلك؛ لأنهم يعتبرون أن العصاة كفار وأنهم يخلدون في النار وأنهم مثل عموم الكفار الذين لا تحصل فيهم الشفاعة، بينما أهل السنة يرون أن عصاة الموحدين مازال معهم أصل الإيمان، وأنه يشفع لهم فيما يتعلق ببقية الذنوب وأن لأهل الإيمان شفاعة وللشهداء شفاعة ولكل نبي شفاعة وللملائكة شفاعة.

    قال المؤلف رحمه الله: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر].

    هذا هو موطن الخلاف الذي سبق أن أشرنا إليه.

    قال المؤلف رحمه الله: [فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته].

    الشفاعة لها شرطان:

    الشرط الأول: إذن الشافع في المشفوع له.

    والشرط الثاني: الرضا عن المشفوع له بأن يكون من أهل التوحيد.

    هذان شرطان لازمان للشفاعة، فإنه لا يمكن أن تكون الشفاعة إلا بإذن الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وأما رضاه للمشفوع فقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعته؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).

    قال المؤلف رحمه الله: [ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين، والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه].

    الجنة والنار ثابتتان في النصوص الشرعية، والقرآن مليء بذكر الجنة وأوصافها، وبذكر النار وأوصافها، وأهل السنة يؤمنون أن الجنة موجودة الآن؛ لأن الله عز وجل قال: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وأن النار موجودة الآن لأن الله قال: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، وهذه إشارة للماضي وفيها إشارة للحال وأنها موجودة الآن، وأول المعتزلة الجنة التي هي موجودة الآن بأنها جنة في الدنيا، وهذا تأويل فاسد، فإن الجنة التي يدخلها أهل الإيمان موجودة الآن، والنار التي يدخلها أهل العصيان أيضاً موجودة الآن كما تدل النصوص الشرعية على ذلك

    1.   

    منهج التصحيح ومنهج التعميق في دراسة الغيبيات

    ونحن في دراسة هذه الغيبيات لنا منهجان:

    المنهج الأول: منهج التصحيح، بمعنى أن ندرس العقائد الغيبية ونصحح ما تعلق بها من الانحرافات عند الفرق الضالة، ونبين ما تدل عليه النصوص الشرعية فيما يتعلق بهذه الأمور الغيبية، وهذا المنهج ندرس فيه الغيبيات وندرس فيه الأسماء والصفات وندرس فيه توحيد الألوهية، وهذا هو السائد في كتب أهل العلم فيما يتعلق بالعقيدة.

    المنهج الثاني: هو منهج التعميق، بمعنى تعميق الإيمان بهذه الأمور، فكل واحدة من هذه الأمور لها جوانب إيمانية عظيمة جداً، وهي ثمرة الإيمان بهذه الأشياء.

    فنحن عندما ندرس البعث والحشر والموازين والصراط والجنة والنار ندرسها من باب التصحيح؛ لأن هناك عقائد منحرفة تعلقت بها، فنحن نصحح هذه العقائد ونبينها من واقع النصوص الشرعية بشكل مختصر؛ لكن لها جانب آخر، وهو أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يدرسون هذه العقائد، ويتأثرون بما تدل عليه من المفاهيم والمعاني.

    كذلك نحن ندرس أحوال الجنة لكي نشتاق إليها، ويؤثر هذا في نفوسنا عبادة عظيمة وهي عبادة الرجاء والتعلق بالله والتمني لدخول الجنة، ويحثنا هذا ويدعونا إلى العمل الصالح، وعندما ندرس النار فإن هذا ينمي في قلوبنا عبادة شرعية وهي الخوف من الله عز وجل والدعوة للهروب من الذنوب والمعاصي، وعندما ندرس الأسماء والصفات فندرس -مثلاً- أن الله الغني فهذا يدعو إلى الطلب من الله عز وجل، وعندما ندرس أن الله عز وجل هو الرقيب فإن هذا يدعو إلى الخوف من الله عز وجل في شئوننا، عندما نكون منفردين.

    وعندما ندرس أن الله عز وجل هو الجبار والمنتقم سبحانه وتعالى، فإن هذا يورث في نفوسنا العزة بالله سبحانه وتعالى، وأنه سينتقم لعباده المؤمنين من أهل الكفر والظلم والطغيان، وعندما ندرس أن الله هو الرحمن الرحيم فإن هذا يطمعنا في رحمة الله.

    فهذه المعاني هي جزء من العقيدة، لكن مع تصنيف العلوم وتقسيمها صارت هذه المسائل تدرس في باب التفسير، أو في الزهد والرقائق، أو في باب الآداب الشرعية، أو في السلوك، مع أنها داخلة في صلب العقيدة، ويتحدث عنها أهل العلم أحياناً باسم أعمال القلوب.

    لكن نحن اعتدنا من خلال دراسة العقيدة في كتاب التوحيد مثلاً والواسطية ولمعة الاعتقاد والطحاوية ونحو ذلك، أن ندرس بالمنهج الأول وهو منهج التصحيح، مع أن المنهج الثاني جزء من العقيدة أيضاً حيث ندرس فيه تعميق العقيدة، فلهذا نقول: فلان عقيدته قوية، بمعنى أنه فهم العقيدة بذهنه والتزم بها في سلوكه وخلقه ودينه وخوفه من الله سبحانه وتعالى.

    فأحياناً تكون العناية بالتصحيح على حساب التعميق، وهنا يكون الخطأ. ولهذا استغل الصوفية فجوة في فهم بعض أهل السنة للعقيدة، حيث يفهم كثير من الناس أننا ندرس مسائل الأسماء والصفات فنثبتها كما أثبتها الله عز وجل وكما أثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونرد على الأشاعرة ونرد على المبتدعة الضالين فيها بهذه الطريقة العقلية المحضة، نحن نقول: هذا جزء أساسي من دراسة العقيدة، فلابد أن نصحح العقيدة للناس حتى يعتقد الناس العقيدة الصحيحة كما بينها الله عز وجل وكما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا باب عظيم، والذين يدافعون عن العقيدة في هذا الباب نسميهم حماة للدين وحماة العقيدة؛ لكن أيضاً فإن من العقيدة الإيمان بأعمال القلوب من الخوف والرجاء والإنابة والتوكل والبكاء من خشية الله والتعبد وذكر الله عز وجل والتأثر بالقرآن وتدبر القرآن، هذه كلها من العقيدة، ولهذا أقول: لا ننشغل بدراسة المتون في العقيدة مثل: متن كتاب التوحيد.. متن كشف الشبهات.. متن الأصول الثلاثة.. متن العقيدة الواسطية.. متن التدمرية.. متن العبودية.. متن العقيدة الطحاوية مع شرحها؛ لا ننشغل بهذا بحيث نجعل طالب العلم إذا درس هذه المتون فإنه أكبر إنسان في العقيدة، فإن الإنسان قد يدرس هذه المتون وعمله الصالح ضعيف، وخوفه من الله ضعيف فيكون العامي أقوى منه عقيدة.

    إذاً لابد أن ندرس العقيدة بهذين المنهجين، وهذه القضية تتضح في القضايا الغيبية أكثر منها في غيرها، وإلا فإن كل باب من أبواب العقيدة له جانب سلوكي وإيماني قوي جداً حتى باب القدر، ولهذا أحد الغربيين يقول: المسلمون الأوائل كانوا يؤمنون بالقدر وكذلك المتأخرون يؤمنون بالقدر، لكن الأوائل كان القدر يدفعهم للقتال في المعارك؛ لأنهم يعلمون أن الآجال مكتوبة بقدر الله عز وجل، فهذا يدعوه إلى الشجاعة وأنه لن يتأخر يومه إذا دخل في المعركة، بينما المتأخرون فهموا القدر بأنه سلبية وأن الأمور مقدرة فتركوا العمل!

    فانظروا إلى أثر الانحراف في العقيدة والسلوك، وأن العقيدة الصحيحة تؤثر أيضاً في السلوك، فينبغي إدراك هذه القضية بشكل جيد.

    قال المؤلف رحمه الله: [وأهل الجنة فيها مخلدون إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:74-75]، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت].

    الموت أمر معنوي، لكن الله عز وجل يجعله في صورة كبش فيذبح، وهذا يدل على أن أهل الجنة خالدون فيها وأن أهل النار خالدون فيها، وأن الجنة والنار لا تفنيان.

    ومما ينبغي أن نشير إليه هنا مسألة فناء النار، فقد تحدث بعض أهل العلم عن أن النار تفنى، والصحيح أن النار لا تفنى وأن أهل النار خالدون فيها أبداً كما قال الله عز وجل.

    وقد حصل خلط فيما نقل عن ابن تيمية وابن القيم في فناء النار، ولو ثبت ذلك فإن النصوص الشرعية الواضحة تدل على أن أهل النار خالدون فيها وأهل الجنة خالدون فيها، ومما يدل على ذلك ذبح الموت وأنه ليس هناك نهاية للجنة أو النار، وهنا ربما يحمل كلام بعض الأئمة في فناء النار بفناء الجزء المتعلق بعصاة الموحدين، فإن النار دركات، فهناك نار للعصاة ونار للكفار ونار للمنافقين، فنار العصاة بسبب الشفاعة وخروج العصاة من النار ودخول آخر رجل من العصاة الجنة تكون نار المعذبين من أهل الكبائر قد خلت ليس فيها أحد، لكن يبقى الكفار المخلدون فيها أبداً، ويبقى المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فربما يحمل كلام بعض الأئمة على هذا الفناء المحدد والمعين بنار العصاة

    1.   

    شرح باب الغيبيات من حائية ابن أبي داود

    قال ابن أبي داود رحمه الله تعالى:

    [لا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا ولا الحوض والميزان إنك تنصح

    وقل يخرج الله العظيم بفضله من النار أجساداً من الفحم تطرح

    على النهر في الفردوس تحيا بمائه كحب حميل السيل إذ جاء يطفح]

    هذا ورد في حديث الشفاعة الطويل، وهؤلاء هم الجهنميون، وهم آخر من يخرج من النار، وهم من العصاة، وقد ورد في أوصافهم أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وورد في أوصافهم أن في قلوبهم إيماناً، وورد أيضاً أنهم من أهل الصلاة، ولهذا يعرفون بمواطن السجود.

    قوله: [وإن رسول الله للخلق شافع وقل في عذاب القبر حق موضح]

    هنا نلاحظ في كلام ابن أبي داود أنه أشار إلى مسألة سؤال المنكر والنكير، وأشار إلى أسماء الملائكة وأشار إلى الحوض والميزان وأشار إلى خروج الموحدين بالشفاعة، وأشار إلى الشفاعة في قوله: وإن رسول الله للخلق شافع، وأشار إلى عذاب القبر؛ لكن ما قرأناه في لمعة الاعتقاد أوسع من ذلك.

    1.   

    شرح باب الغيبيات من العقيدة الواسطية

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ومن الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت].

    نلاحظ أن الغيبيات التي تحدث عنها ابن تيمية هي الغيبيات المتعلقة باليوم الآخر، بينما أشار ابن قدامة رحمه الله إلى أشراط الساعة التي تكون قبل يوم القيامة، وهذا يعتبر أوسع من كلام ابن تيمية .

    قوله: [فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه].

    فتنة القبر وعذاب القبر ونعيمه تكون قبل يوم القيامة، لكنها ألحقت بموضوع اليوم الآخر باعتبار أن ما بعد الموت من اليوم الآخر، وإلا فهي تعتبر من البرزخ، والبرزخ هو الحياة التي تكون بين حياتين يعني: بين الدنيا والآخرة.

    قوله: [فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك، وما دينك، وما نبيك].

    ليس المقصود هنا أن المرأة لا تمتحن، وإنما المقصود عموم الناس، وإلا فإن المرأة تمتحن أيضاً كما يمتحن الرجل.

    قال رحمه الله: [فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق].

    هذا ورد في حديث البراء بن عازب وهو حديث طويل في وصف الاحتضار وعذاب القبر ونعيمه.

    قال رحمه الله: [ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103].

    وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة.

    وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها].

    سبق أن أشرنا إلى أن الكفار ليس لهم ميزان، لأنهم لا حسنات لهم، فإن الكفر يقتل كل حسنة.

    قال: [وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً].

    أما من يصرف عن الحوض فهم الكفار وأهل البدع، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقدم علي قوم فأعرفهم فيذادون عني فأقول: أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ومعنى أحدثوا: ابتدعوا، ولهذا يذكر أهل العلم هذا الحديث في باب ذم البدع وخطورة البدعة على صاحبها.

    وقوله: (أصيحابي أصيحابي) ليس المقصود بأنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مبتدع أبداً، وإنما المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم، حيث يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يميز بين أمته وغيرها من الأمم، فيميز أمته الذين ولدوا بعده بالغرة والتحجيل، ومع أنهم غر محجلون إلا أنهم يذادون عن الحوض فلا يشربون منه.

    قال رحمه الله: [والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم].

    وقد سبق أن أشرنا إلى أنها تشبه شوك السعدان الملتوي.

    قال رحمه الله: [فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة].

    هذا يعتبر زيادة عما في كتاب لمعة الاعتقاد، وهي إثبات القنطرة التي بين الجنة والنار، وهي ثابتة في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال رحمه الله: [وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته].

    وهذا سبق ذكره.

    قال رحمه الله: [وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه].

    هذا وارد في الحديث الصحيح، وهو المقام المحمود، قال تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، والمقام المحمود هو الذي طلب النبي صلى الله عليه وسلم منا أن ندعو الله عز وجل له به بعد الأذان، وهذا المقام المحمود هو الشفاعة عندما يأتي الناس إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى، ثم عيسى، وكلهم يعتذر، فيأتون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيذهب إلى ربه ويسجد بين العرش ويدعو بدعوات في ذلك الموقف فيقال له: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وهي واردة في حديث أبي هريرة الطويل في صحيح مسلم .

    قال رحمه الله: [وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة].

    وهذه الشفاعة صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال رحمه الله: [وهاتان الشفاعتان خاصتان له].

    ورد في بعض الأحاديث أن الناس يأتون أيضاً إلى هؤلاء الأنبياء حتى يأذن لهم الله عز وجل في دخول الجنة، وهذا يدل على أن بين اجتياز الصراط ودخول الجنة فترة يحصل فيها الاختصاص الذي سبق الإشارة إليه في موضوع القنطرة بين الجنة والنار، وأيضاً يحصل فيه أنهم يأتون إلى آدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم كما أتوا أول مرة، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويستفتح، وهذه هي شفاعته، فيشفع لأهل الجنة في أن يدخلوا الجنة.

    قال رحمه الله: [وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة].

    هذه الشفاعة ثابتة في الحديث الصحيح، فيأخذ سبحانه وتعالى من أهل النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط ويدخلهم الجنة، وليس معنى: (أنهم لم يعملوا خيراً قط) يعني: أنهم كفار، وإنما هم من المسلمين الذين قلت أعمالهم إلى درجة كبيرة فأصبحوا بمثابة من لم يعمل خيراً قط، وإلا فإنه لا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وأهل التوحيد كل من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهم من أهل الصلاة.

    ولا يصح أن نأخذ حديثاً واحداً ونستدل به على أنه يدخل الجنة بعض من ليس من أهل الإسلام، بل تجمع بعض الأحاديث إلى بعض، فيقال: إن هؤلاء الذين أخرجهم الله عز وجل ممن لم يعملوا خيراً قط، وأنهم نطقوا الشهادة، وأنهم من أهل الصلاة، وأنهم في قلوبهم إيمان كما ورد في بقية الأحاديث الأخرى.

    قال رحمه الله: [وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي، فمن ابتغاه وجده].

    بهذا نكون انتهينا من موضوع الإيمان بالأمور الغيبية، وتلاحظون أن التفصيل فيها لا يعنينا، وإنما يعنينا موضوع الباب بأكمله وارتباطه بالعقيدة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755829941