فالإنسان بطبعه طماع لا يقنع بالقليل، ولا يسمع كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) وقليل تشكره خير من كثير لا تطيقه، وقليل يكفيك خير من كثير يطغيك.
أي: أن الوقاية خير من العلاج. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إياك وما يعتذر منه) يعني: ليس هناك داع إلى فعل عمل أحتاج إلى الاعتذار منه، وقد قال الإمام الشافعي : من واجب الناس أن يتوبوا، ولكن ترك الذنوب أوجب.
فحين أذنب يجب علي أن أتوب، ولكن من أفضل العمل ألا أذنب، وفي الحديث: (... ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
والدهر في تقلبه عجيب، ولكن الأعجب منه غفلة الناس.
فالإنسان قد يبخل بوقته، فيخاف من أن ينفق من وقته، أو ينفق من ماله، أو ينفق من علمه، أو ينفق من جاهه، فهو بخيل بوقته على الله، وبخيل بماله على الله، وبخيل بجاهه على الله، فـابن القيم يقول: لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى.
وفي المثل الجاري: الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، كالخفاش والبومة، وهكذا اللص لا يمشي إلا في الظلمات، فلص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى، والمراد به ظلمة القلب، فالقلب يتنور بالإيمان وبالتقوى، وبذكر الله ومجالس العلم.
كحال الطائر الذي يقصد الحبة فيقع في فخ الصياد.
ومثال ذلك في المرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان.
وقد قيل:
إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي
فحبة المشتهي تحت فخ التلف، فتفكر في الذبح، والناصح المؤمن يعلم هذا، فالنهاية والعاقبة مع الصبر هي حلاوة النجاة، ولذلك يروى أن إبراهيم بن أدهم قال: مررت بصومعة راهب في الشام، فقلت: أيها الراهب! منذ كم أنت هاهنا؟ فقال: يا إبراهيمي -أي: أنه على ملة إبراهيم- منذ سبعين سنة. فقلت: وما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟! فقال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي هنا ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان، ويذبحوا الذبائح، ويجمعوا الناس، فأنا أصبر السنة كلها من أجل هذا اليوم. فقلت: متى هو؟ قال: بعد أسبوع. فقعد إبراهيم بن أدهم أسبوعاً، فإذا بهم قد أتوا بالهدايا والذبائح، فأخذ الرجل بضع حبات من تمر فقال لرجل: ساومهم على شرائها. فقال: من يشتري من الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، فبكم الحبة؟ فقال أحدهم: أنا أشتريها بعشرة دنانير. وقال آخر: أنا أشتريها بمائة. فوزع على كل واحد حبة بمائة دينار.
ثم قال الراهب لـإبراهيم بن أدهم : يا إبراهيمي! أرأيت كيف أني أصبر العام كله لأجل يوم، وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل نعيم لا نهاية له في جنة عرضها السموات والأرض؟!
يا إبراهيمي! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها، والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك، فهل بعت لله يا إبراهيمي؟!
وهناك مقالة قالها الحسن البصري ، فقد قال: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الخزف الذي يبقى خيراً من الذهب الذي يفنى، فكيف والآخرة ذهب يبقى والدنيا خزف يفنى؟!
أي: فالكارثة أن الدنيا عبارة عن خزف فان، والآخرة عبارة عن ذهب باق، ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي.
قال علي بن أبي طالب : عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء، ويحاسب حساب الأغنياء. وفي الحديث أن المرء يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
ويضرب المثل في البخل بـمادر ، فيقال: أبخل من مادر ، وقد قيل له: ممن تعلمت البخل؟ فقال: من قبيلتي كلها.
والمراد الصبر على الأذى والابتعاد عن منة الآخرين عليك، كصبر المرء على قلة ذات اليد عن أن يمن عليه مان بعطيته.
وأكبر المن أن نمن على الله تعالى، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
فلله المن، وليس لك أنت؛ لأن المنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له.
وهذا مثل عند العرب معروف، أي: لا تقتات بعرضها، واليوم تجدهم يحاولون جعلك تتعاطف مع الراقصة، فيقولون: بدلاً من أن تسأل الناس تعمل في الرقص بشرف.
والمراد من هذا المثل -تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها- ألا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه، فحين تذهب إلى جارك فتقول له: يا عم! أعطني جنيهاً يكون معنى ذلك أن أباك بخيل، فحين تطلب من غير الله تكون مثل العبد الذي يطلب من غير سيده، فلا تسأل غير سيدك، ولا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
فأنت عندما تخلو بالله وحدك تأنس به تعالى.
ويقول: استوحش مما لا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك.
فالذي لا يدوم معي هو الدنيا، فأحصلها بالوحشة منها؛ لأنها لا تدوم.
واستأنس بمن لا يفارقك، وذلك بالعمل الصالح.
وقد روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب! ما أفضل الأعمال عندك؟ فقال: يا موسى! أن تذكرني ولا تنسى، فإنك إن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني، قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
فالذي يذوق الشيء هو الذي يعرف قيمته، فحين تكلم عاصياً على حلاوة العبادة، أو تكلمه على لذة المناجاة في جوف الليل وهو لا يصلي أصلاً فإنه لا يدرك ما تعنيه بالضبط، فمن ذاق شيئاً عرفه، فالذي يذوق طاعة الله يعرفها.
وأعجب الأشياء أن تعرفه تعالى ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر معاملته ثم تعامل غيره، وأن تذوق ألم الوحدة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه.
والأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض.
أي أنك عارف بأنك لن تجد غيره، وأنك محتاج إليه، فليس هناك إلا هو ومع ذلك تعرض عنه،فلو فكر الإنسان في هذا لسلك في حياته مسلكاً آخر، ولو جئنا بكل فقرة من كتاب الفوائد لكان فيه صحوة للغافلين؛ لأن كتب ابن القيم فيها الدواء الشافي لكل قلب بعيد عن الله عز وجل.
[ وحبة المشتهي تحت فخ التلف ] يريد بحبة المشتهي: ما يشتهي أن يأخذه أحد من حاجة معينة، وكأن المشتهي طائر يريد أن يلتقط حبة من شرك، ونضرب مثلاً بالمرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان، يحصل له بسببه حصانة ومركز مرموق، وهذا وأمثاله ما عبر عنها ابن القيم بحبة المشتهي.
أما كونها تحت فخ التلف، فهو فخ منصوب فالمرشح في مثل هذه الانتخابات يصرف أموالاً طائلة من أجل أن يصل إلى ما يريد.
فـابن القيم -رحمه الله- بقوله: حبة المشتهي تحت فخ التلف، يناديك: يا مؤمن! تيقن أنك لو أخذت حبة المشتهي ونزلت في الفخ سيمسكك الصياد، وإذا أمسكك فسوف يذبحك، والصياد يتمثل في: إبليس والدنيا، قال سيدنا أبو بكر الصديق :
إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي
فالمؤمن يضع في ذهنه النهاية والعاقبة، مثله كمثل الطالب المجد طوال السنة تراه يسهر طوال الليل، يبذل الجهد تلو الجهد وفي آخر السنة تطغى حلاوة التفوق على ألم الاستذكار، فالذي جعله صابراً على هذا حلاوة النجاح.
قيل لـإبراهيم بن أدهم : يا إبراهيم ! من أين تعلمت العلم؟ قال: تعلمته من رجل أسير، قيل: أنت يا إمام المسلمين تعلمت من رجل أسير!! قال: بل قال لي جملة واحدة، ثم قال: مررت بصومعة راهب في الشام فقلت: أيها الراهب! منذ كم وأنت ههنا؟ قال له: يا إبراهيم ! منذ سبعين سنة، فقلت له: سبعين سنة وأنت في هذه الصومعة، ما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟ قال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان ويذبحوا الذبائح ويجمعوا الناس فأنا أصبر السنة كلها لأجل ما يحدث في هذا اليوم، فقلت له: ومتى سيكون ذلك؟ قال: هذا بعد أسبوع، فقلت: سأجلس معك إلى أن يأتي هذا اليوم.
فقعد إبراهيم بن أدهم يرقب اليوم حتى أتى، فرأى الناس يفدون على الراهب ويزينون المكان ويذبحون الذبائح مبتهجين. فدنا الراهب من إبراهيم وأعطاه كيساً فيه بضع حبات من قمح وقال له: ساومهم على شرائها فقال إبراهيم : من يشتري حبات الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، بكم الحبة؟
قال أحدهم: أنا أشتري الحبة بعشرة دنانير، وقال آخر: أنا أشتريها بمائة، فوزع على كل واحد منهم حبة بمائة دينار.
ولا عجب فنحن نرى اليوم البابا في الفاتيكان يخرج من الشرفة ثم يرش ماء البركة بزعمه فمن وقعت على وجهه قطرة منه فقد غفر له بزعمهم ورضي عنه الرب.
ثم قال الراهب: يا إبراهيم! أرأيت كيف أني أصبر العام كله من أجل يوم وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل جنة عرضها السموات والأرض، يا إبراهيم! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك فهل بعت لله يا إبراهيم؟
وبذلك نكون قد أدركنا معنى قول ابن القيم: حبة المشتهي تحت فخ التلف فتفكر للذبح، المؤمن الناصح يرى الفخ، لكن المؤمن العاصي يرى الحبة، وقد هان الصبر، وقد تقدم قول الحسن البصري: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لفضل العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني، فما بالكم ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي!!
يفرض جدلاً أن الدنيا ذهب، لكنه فاني، والآخرة عبارة عن قليل من الخزف لكنه باقي، نجد أن العاقل يفضل الباقي ويختاره على الفاني وإن كان ذهباً. لكن الحقيقة أن الدنيا عبارة عن خزف فان والآخرة عبارة عن ذهب باق، وللأسف أنا نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي.
[ البخيل فقير لا يؤجر على فقره ] أي أنه سبب فقر نفسه، قال علي بن أبي طالب : عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء.
فهو في الدنيا من رآه ظن أنه مسكين،لكن الله يحاسبه على أنه غني، وحساب الغني في القيامة يطول، وفي الحديث أن المرء يسأل (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فالبخيل فقير لا يؤجر على فقره.
قيل لـمادر -رجل يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر -: ممن تعلمت البخل؟ قال: من قبيلتي، قالوا: كيف ذلك؟ قال: كنت أخرج وإخواني للصيد، فإذا ما انتهينا وضع كل منا صيده في القدر فكان كل واحد منهم يربط قطعة اللحم التي يملكها فيظل ممسكاً بها حتى لا تختلط.
قال ابن القيم : [ الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن ] قوله: عطش الضر: هو الإنسان يحرم من نعمة معينة، وإنما سماه ابن القيم : عطش الضر؛ لأنه يتضرر منه، كأن لا يوجد للإنسان ولد يرثه، أو كان عنده بنتان ويريد ذكراً، أو كان عنده ولد عاق وكان يتمنى ولداً طائعاً، أو كان لا يمتلك نقوداً ويتمنى أن يصبح عنده نقود، أو كان يرغب أن يصبح وزيراً ولم يحصل ذلك، وغيرها من النعم المسلوبة.
أما سلعة المن، فالمراد العطية يعطيها ثم يمن على من أعطاه بها، فالصبر على عطش الضر خير من الشرب من سلعة المن، ومن العجيب ما يقع فيه البعض في لحظات الضعف الإيماني إذ يمنون على الله -والعياذ بالله- في الركيعات التي يؤدونها حتى يقول قائلهم: أنا أصلي من ثلاثين سنة ولا يوجد عيل إلا في منزلي!! وغيرها من المقولات التي لا ينبغي أن يكررها مسلم إذ المنة كلها لله وحده، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
فالمنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له. ثم يقول مؤكداً معنى قوله: الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن: [ تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ] وهذا مثل عربي معروف، أي: أن الحرة تجوع ولا تتاجر بعرضها، لكن أصحاب الفن والسينما يجعلونك تتعاطف مع الراقصة، فتجد من يقول: هذه مسكينة غدرها زوجها وليس لها حظ، وتظل هي تبكي وتقول: فأنا بدلاً من أن أسرق أو أشحت أشتغل بشرف!! ولعمري عن أي شرف تتحدث هذه الراقصة.
وقد فوجئت قبل أيام بخبر في الأخبار: أنه في يوم السبت الماضي قبضت شرطة الآداب على ثلاث رقاصات يرقصن من غير ترخيص، وهذه أول مرة أعرف في الحقيقة أن هناك تراخيص تمنح للراقصات، ولا أدري أي جهة تمنح التراخيص.
ثم يحث ابن القيم على التوجه لله وحده فيقول: [ لا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه ]، ومثل ذلك أن ابنك يذهب لجارك ويقول له: يا عم! أعطني جنيهاً فيقول الجار في نفسه: إن جاري بخيل، فأنت بدلاً من أن تقول: يا رب! تقول: يا عبد الله، إذاً أنت تشنع على الله. فمثلك حين تطلب من غير الله كمثل العبد الذي يطلب من غير سيده فيشنع على السيد بالبخل.
أي: أنك حين تخلو بالله وحدك تشعر بالأنس، فالثمرة التي تجنيها من الخلوة مع الله الأنس والطمأنينة، وإن وصفك الناس أنك منعزل، أو قالوا: هذا انعزالي: هذا طريقه من البيت إلى الجامع لا عمل له. والحقيقة أن ذلك ليس عيباً.
ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: [ استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك ] يريد بقوله: مما لا يدوم معك الدنيا وما فيها، فالدنيا وما فيها ستفارقك قطعاً، فحقها أن تلاقيها بالوحشة لا بالأنس، وقوله: واستأنس بمن لا يفارقك، يريد أن تستأنس بالله وبالعمل الصالح. ثم يبين العزلة المستحبة فيقول: [ عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها ] وذلك لأن الجاهل حين يعتزل من غير أن يتعلم يجهل كيفيات العبادة، وأوقاتها، وماهيات القربات، لكن العالم حين يعتزل الناس قد أخذ عدة عزلته، ثم يستطرد مع العزلة فيقول: [ إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، استحضر الفقه وجرت بينهم مناجاة: أتاك حديث لا يمل سماعه....... ].
أي: إذا اجتمع عقل المؤمن مع يقينه في الله عز وجل في بيت العزلة، حيث يبتعد فيه عن السوء والصحبة، إذ إن الأرواح تحن لأشكالها، فلو أن إحدى الأخوات خرجت من هنا فوجدت بنتاً في الأسفل ترتدي البنطلون وقد وضعت على وجهها مساحيق الزينة، وبجوارها أخرى عليها جلبابها فإنها قطعاً ستجلس إلى الثانية دون الأولى، فهي لا تتنسم نسيم الراحة إلا مع أختها، ولا تأنس وتطمئن إلا إليها، أما الأولى فإنها لا تأنس معها؛ لأن المؤمن إلف ألوف، كما أنه لو دخل مؤمن إلى مجلس فيه مائة منافق، وبينهم مؤمن واحد لجلس بجوار المؤمن وهو لا يعرفه؛ لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. والعزلة التي يريدها ابن القيم هي عن السوء والصحبة، وإعمال الفكر في خلق الله عز وجل.
وقوله: (أتاك حديث لا يمل سماعه)، يريد به القرآن، فالقرآن هو الوحيد الذي لا يمل سماعه، فأنت لو شاهدت مسرحية ضاحكة لأول مرة ستضحك من مشاهدها، لكنك لو تشاهدها مرة ثانية لن تضحك كالأولى بل ربما تضجر، وهكذا القصائد والأفلام وغيرها تمل من كثرة التكرار، لكن القرآن لا يمل أبداً، فلو قرأت مثلاً سورة يوسف مائتين مرة فإنك في كل مرة تكتشف معنى جديداً، ولذلك كان من معجزات القرآن أنه لا يخلق على كثرة الرد، ومعنى: لا يخلق: لا يبلى، ومنه الثوب الخلق أي: الثوب القديم، فمعنى قولنا: لا يخلق القرآن على كثرة الرد، أي: لا يصبح القرآن قديماً بالياً من كثرة قراءته، بل يبقى غضاً طرياً كأني أسمعه لأول مرة.
ثم يستطرد ابن القيم -رحمه الله- في وصف القرآن فيقول: [
أتاك حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونظامه ].
فما من مؤمن صادق يحدث له ضيق صدر يقوم فيتوضأ ويقرأ أي صفحة من القرآن إلا ذهب عنه الضيق، أما لو كان لا يزال في أول الطريق فنقول له: اقرأ سورة يوسف؛ لأن سورة يوسف ما قرأها حزين إلا وفرحه الله.
وينبه هنا على أنه لابد أن يكون عنده استعداد لتلقي كلمات الله، ولابد حين يقرأ أن يخلي ذهنه من الشواغل، بل يصب تركيزه على تدبر كلمات الله، فإنه إن فعلها تحصل له أثرها بإذن الله.
قال الشافعي رحمه الله:
يبارزني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً
يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً
أما نحن اليوم فقد أصبحنا نصنع كما يقال: يقول لي كلمة أرد عليه كلمتين، وإن قال كلمتين أرد عليه خمس كلمات، والأمل من مجالس العلم أن ترقى بنا وبأخلاقنا.
ثم يبين ابن القيم رحمه الله قبح الخصام فيقول: وكأن الخصام له نسل، وإنما قال ذلك؛ لأن الرجل بذيء اللسان يكون ابنه مثله وحفيده كذلك، على العكس ممن يحرص أن يكون كلامه موافقاً للشرع، إما ذكر وإما فتيا، كما أن من يحرص على ذلك تجده دقيقاً بألفاظه، حذراً من مغبة المعارضة لنص من كتاب أو سنة، فهذا أبو هريرة أتاه فلم يفهم الرجل، فكرر قال له يا أبا هريرة ! أأصلي بعد صلاة الصبح؟ يريد: أنا صليت الصبح أأصلي سنة أخرى بعدها، فأعاد عليه صل بعد شروق الشمس، ففهم الرجل، ولكنه تعجب من الجواب فسئل أبو هريرة: لم لم تقل له: لا تصل؟ قال: أخشى أن أدخل تحت دائرة قول الله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق:9-10].
وأخذ ابن القيم رحمه الله يبين أن الخصام دليل الجهل فقال: [ حميتك لنفسك أثر الجهل بها ] والمعنى: حين تدافع عن نفسك، فدفاعك ثمرة من ثمرات الجهل الذي عندك ثم قال: [ فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها ]، أي أنك لو عرفت حقيقة نفسك الأمارة بالسوء لتركت من ينقدك يزيد في نقده، فلو عرفت الحقيقة لأحجمت عن الانتصار لها، إذ النفس لا تنتصر إلا للشر.
ثم يقول ذاماً الغضب: [ إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب -أي: اشتعلت- ابتدأت بإحراق القادح ].
فالانتقام حين يأتي نتيجة خلاف أو شجار يحدث بسببه عند الرجل غضب ومن ثم يثمر انتقاماً، فكأن نار الغضب أشعلت شعلة الانتقام، فإذا ما أشعلتها ابتدأت بإحراق القادح، ومثل ذلك كما تقدم كمثل الحسود فالحسود كرجل غضبان أخذ طوبة فضربها على حجر فانكسر جزء منها واتجه إلى الحائط ثم عاد إلى جوار الرجل، فأخذها ورمى الحائط فعادت إلى عينه، فازداد غيظه، فأخذ الحجر مرة أخرى ورمى الحائط وكل مرة يعود الحجر عليه بالأذى، فلا شفى غضبه، ولا سلم الضرر.
يصدق فيه قول الشاعر:
كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
فالحسود غالباً معرض للأمراض من سكر وضغط وغيرها.
فلم نسمع أن رجلاً طلب الله أن يرزقه الأكسجين، أو يهيئ له مخرجاً للفضلات، وكل ذلك وغيره أعطيه قبل أن يسأل.
فالإنسان حين يعدد النعم يجد أن الله قد أعطاه قبل أن يسأل فعندما يحب الله عبداً، وهو معنى قوله: (سبقت له سابقة السعادة) وفق إلى مجالس العلم، واهتدى إلى العبادة والطاعة وهذا معنى قوله: دل على الدليل قبل الطلب، ثم يؤكد ابن القيم هذا المعنى فيقول: [ إذا أراد القدر شخصاً بذر في أرض قلبه بذرة التوفيق ] أي: عندما يحب الله عبداً يضع في قلبه بذرة التوفيق، [ ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة ] أي: جعل عنده ترغيباً وترهيباً، [ ثم أقام عليه بأطوار المراقبة ] أي: جعل في قلبه رقيباً عليه من داخله، [ واستخدم له حارس العلم ]، فالعلم لابد أن يحرس العمل، فإن خلا العمل من العلم وقع العبد في الخطأ، يطوف حول قبر الحسين سبع مرات، والأصل أن لا يطاف إلا حول الكعبة ومن طاف حول قبر فقد أشرك بالله، وهذه مسألة لا نقاش فيها.
ثم يقول: [ فإذا الزرع قائم على سوقه ] فالمعنى: إذا أراد القدر شخصاً بالخير، بذر في أرض قلبه بذرة توفيق فيكون موفقاً لكل خير.
ثم قال: [ من اتقى الله عاش سعيداً وسار في بلاد الله آمناً مطمئناً ] حتى وإن كانت حوله الأهوال، فإن قلبه مليء بالطمأنينة.
ولذلك المؤمن بطبيعته يستشري منه الخير لمن حوله، مثال ذلك: عندما يكون أحد راضياً في البيت وبالذات الزوجة فإنها توزع الرضا على بقية أفراد الأسرة؛ لأن الزوجة هي ميزان البيت، لو كانت الزوجة ليست راضية فالبيت كله يكون في حالة قلق؛ لأنها إذا كانت راضية وزوجها زعلان فإنها تهون عليه وتلاطفه وتقول له: ربنا يكرمك، وعكس ذلك لو كانت المرأة ساخطة.
لذلك طلب سيدنا زكريا من ربنا أن يرزقه ابناً وطلب فيه صفة واحدة: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، والرضي هو: الإنسان الراضي المرضي عنه من الله ومن الخلق؛ لشدة رضاه يوزع الرضا على من حوله، اللهم اجعلنا منهم يا رب.
وفي الأثر: يا داود! أنت تريد وأنا أريد فإن رضيت بما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، فإني فعال لما أريد.
كما أن معنى قولي: (أنا مسلم) أنني سلمت أمري لله، كما قال سبحانه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]. أي: صار مسلماً أمره لله، وإذا كان هذا الإسلام حقيقياً ينتقل إلى درجة الإيمان، وإذا كان الإيمان حقيقياً ينتقل إلى درجة الإحسان، التي نحسب أن الحسن البصري كان عليها عندما كان يقول: أدعو الله فأرى يد الله تكتب لي الإجابة.
وفي زمننا هذا برغم كل المصائب التي نراها فإن الله بفضله وكرمه يعد للأمة أناساً عندهم حالة الالتصاق بأمر الآخرة، حتى أن الدنيا عند أحدهم لا تساوي شيئاً، وتراه في ظاهر الأمر إنساناً عادياً جداً، ولكن لديه قوة، ولا قوة إلا بالعلم وبالعمل وبالإخلاص وبالعبادة الحقة، فمثل هؤلاء هم الذين يمنعون الصواعق عن هذه الأرض، فاللهم أكثر منهم يا رب العباد واحشرنا في زمرتهم يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
وقوله: ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة، يؤكد على ضرورة أن أكون راغباً إلى الله وفي نفس الوقت خائفاً منه، قال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، خوفاً من عذابه، وطمعاً في نعيمه، فيبقى بين حالتي: الرجاء والخوف، وقوله: (ثم أقام عليه بأطوار المراقبة)، يبين أن القلب لابد من مراقبة لخواطره والسعي لإزالة حجارته، قال سيدنا علي رضي الله عنه:
غرس الزهد بقلبي شجره ثم نحى بعد جهد حجره
أي أنه عمل مجهوداً إلى أن أزال من القلب حجره فصار القلب ليناً، فما تحجرت قلوبنا إلا من عدم التقوى والطاعة التي فيها.
فالأبيات:
غرس الزهد بقلبي شجرة ثم نحى بعد جهد حجره
وسقاها إثر ما أودعها كذب الدمع بدمع أهدره
وإذا ما رأى طيراً مفسداً حائماً حول حماها زجره
أي أنه حين يرى طائر الطمع، أو طائر الدنيا يحوم حول الزهد زجره وأبعده، ثم يقول:
نمت في ظل ظليل تحتها روع القلب ونحى ضجره
ثم بايعت إلهي تحتها بيعة الرضوان تحت الشجره
[ وما أعد للاستفراخ ليس كمن هيئ للسباق ] فالتي نحضرها من أجل أن تلد، غير التي نحضرها من أجل غرض آخر، فالحمام الزاجل الذي ينقل الرسائل يختلف عن الحمام الذي يبيض ويفقس البيض فقط، فهذا الصنف للتجارة وللبيض وللفرخ، لكن الأول مهيأ لشيء أفضل، ومثل ذلك أيضاً: الأولاد في الفصل، يصل عددهم إلى أربعين طالباً، ولا يؤخذ منهم لأوائل الطلبة إلا طالب واحد لنضعه في فصل المتفوقين مع أن هناك الكثير من الناجحين لكن ما أعد للتفوق غير ما أعد للنجاح، فمن يجهز للتدريس غير الذي يجهز ليمسك أزمة الأمور في الدولة، والحال [ من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله ] فلو أن لك ولدين فأنت تدرك ميزات أحدهما عن الآخر، فلا يعد من الغريب أن تبعث أحدهما كل يوم ليأتي بالعيش من الفرن، فأنت تعلم أنه أجلد من أخيه، قادر على الوقوف في الطابور، مستعد لأي صراع أو شجار يحدث، وليس من الغريب أن تبعث الآخر إلى المناسبات العامة، فأنت تدرك لطفه في التعامل، وكياسته في ذلك.
ومراد ابن القيم رحمه الله من هذا أن الله حين يستخدمك في أمر الدنيا تصبح عنده لا تساوي شيئاً؛ لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه حين يستخدمك في أمر الآخرة فأنت كريم عند الله يريد إكرامك بما فيها من النعيم. اللهم استخدمنا في أمر الآخرة.
سأل أحدهم الحسن البصري : ما مكانتي عند الله؟ فقال له: اعرف مكانة الله عندك تعرف مكانتك عند الله. أي: إذا كان الله عندك كل شيء فأنت عند الله كل شيء، إذا كان الله عندك من الأشياء التي لا تتذكرها إلا نادراً فأنت عند الله لا شيء.
ثم يؤكد ابن القيم رحمه الله على أهمية العمل للآخرة فيقول: [ كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم ] فالحال أنهما اثنتان لا ثالث لهما: الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا فهو تبع لها، ومن كان من أبناء الآخرة فهو تبع لها، ثم يبين حقارة الدنيا فيقول: [ الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها؟ ]، فالدنيا لحقارتها لا تستحق أن تأتي إليها، فكيف تلهث وتجري وراءها، [ فالدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف ] وإنما يقع على الجيف الكلب، ويذكر أن سيدنا علياً كان يمشي مع بعض الصحابة، فوجد ستة كلاب قد اجتمعت على جيفة من الجيف، فقال: هذه هي الدنيا وطلابها كلاب فمن أراد أن يحب الدنيا فليكن كلباً من هذه الكلاب.
والحق أنه وبسبب الدنيا أخوض في عرض أخي المسلم، وأخوض في ماله، وآخذ حقه، فالدنيا مبنية على الصفات الكلبية، لكن الأسد لا يأتي إلى الجيفة، بل إن الأسد حين يأتي ليشرب من البئر لو شم رائحة كلب شرب منه لرفض أن يشرب.
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتمتنع الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
و ابن القيم رحمه الله يقول لك: أنت أسد والدينا جيفة لا ترد عليها إلا الكلاب، فاربأ بنفسك عنها.
ثم يقول: [ الدنيا مجاز -أي: ممر أو مجاز غير حقيقة- والآخرة وطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان ] الأوطار: جمع وطر، والوطر هو الحاجات، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا [الأحزاب:37].
فلو أنك سافرت مع ابنك فقال لك الابن: أنا أريد منزلاً، أو أريد قصراً، فأنت ستجيبه: إذا رجعنا من سفرنا اشترينا لك ما تريد فالأوطار تطلب في الأوطان، والذي يريد أن يتنعم، يتنعم في الوطن الأساسي له، وهو الجنة، أما سكنت في الدنيا في بيت واسع جداً، أو قصر منيف، فما يلبث أن يخرب القصر ولو بعد حين، ولابد أن يموت صاحبه ولو بعد حين، أما في الآخرة فينادي: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، فيزداد أهل الجنة سعادة، ويزداد والعياذ بالله أهل النار شقاء.
[ الثاني الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ]، اللهم اجعلنا منهم يا رب! فكلما جلس أصحابه تواصوا بالحق والصبر.
قال: [ ولكن فيه آفات ثلاث إحداها: تزين بعضهم لبعض، والثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة ]، وهذا بالذات يلاحظ من شكاوي النساء في المسجد.
فما أن تجلس امرأتان معاً، حتى تبدآن في نثر الأخبار، وما أن ينتهي الحديث عن موضوع حتى يفتح موضوع آخر، مستغلات ما أودع فيهن الله من ذاكرة عملاقة، إذ يصل عدد خلايا المخ البشري إلى ألف بليون خلية -كل خلية عبارة عن (ركوردر) يسجل الأحداث، فلو استعضنا عن كل خلية بمسجل من أصغر حجم لنقوم بدور المخ في تسجيل الأحداث لاحتجنا إلى مسجلات تشغل مساحتها القاهرة الكبرى والجيزة وأسيوط، كل هذه موضوعة في حيز سبعة سم!! فمن منا شكر هذه النعمة وقال: أحمدك يا رب! لما علمت ولما لم أعلم، وأستغفرك لما أعلم ولما لا أعلم؛ لأنني أعمل ذنوباً لا أعرفها، وإن عرفتها أنساها.
فبينما كنت أزور أخاً لي مريضاً قال أحد الجالسين: يا أخي! بذمتك هذا كلام، فقلت له: قل لا إله إلا الله، فاستغرب مما قلته له، فقلت له: أليس المسلم لو قال لأخيه: في ذمتك جعله من أصحاب الذمة، فيكون حوله من مسلم إلى نصراني أو يهودي؟ قال: نعم، قلت: فكفارتها إذاً: لا إله إلا الله.
يقول ابن القيم : [ الثالثة: -من الآفات في المجالسة الطيبة- أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود ] فيكون الاجتماع لمجرد أن يرى فلاناً ويجلس معه ولم يقصد مرضاة الله سبحانه.
ثم يقول: [ وبالجملة فالأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله عز وجل بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك أيضاً ].
أي: أن الخبيثات للخبيثين، والمعنى أن النفس الطيبة يجعل لها الروح الطيبة أو الجسم الطيب يجعل له الروح الطيبة، والروح الخبيثة توضع في الجسم الخبيث، وتقدم أن قوله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26] ليس خاصاً بالأزواج والزوجات، فهذه آسية امرأة فرعون من الطيبات ولم يكن فرعون طيباً، وهذه زوجة سيدنا نوح عليه السلام لم تكن من الطيبات وكان هو من الطيبين، بل المعنى: الطيبون من الناس للطيبات من الحسنات، والطيبات من الحسنات للطيبين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من السيئات والخبيثات من السيئات للخبيثين من الناس.
يذكر أحدهم قصة عجيبة فيقول: رأيت امرأة كفلقة القمر تبتسم في وجه رجل أمام خيمة وهو يعبث بوجهها ويشيح بيده وهو دميم الخلقة، فلم أستطع الصبر فقلت لها: من هذا؟ قالت: زوجي، فقلت لها: وما الذي يصبرك عليه؟
فقالت: ربما فعل حسنة في حياته فجازاه الله عليها بي، وأنا فعلت سيئة فجازاني الله عليها به.
وممن جسد هذا المعنى العظيم في حياته: سيدنا عطاء بن أبي رباح ، صديق الحسن البصري وأحد كبار التابعين، فقد كان يمشي ذات مرة تحت بيت وإذا بامرأة ترمي من سطحه رماداً، فلما رمته أتى على رأس الرجل وعلى ثوبه وهو ذاهب ليلقي الدرس للناس، فسجد لله سجدة شكر!! فلما سئل عن ذلك قال: من استحق النار وصولح على الرماد فيجب أن يشكر الله، لما كانت النار لها رماد، وهو أخف منها ضرراً، وقد استحق النار بعمل عمله فصولح بالرماد بدلاً منها أليس هذا جديراً أن يشكر الله عليه؟ فكان عطاء بهذا العمل يسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، وإلا لن يصل عن طريق الناس إلى الله إلا في حالة واحدة، وهي الدلالة على الله، فلا يلتفت إلا لمن دله على الله وعلى الطريق الواصلة إليه.
كناية عن كثرة الدموع، لا كما نحن اليوم لا نبكي إلا في رمضان، ومن أغرب ما حدث لي، أن رجلاً مسلم يعيش في أمريكا اتصل بي وقال: لي: أنت الشيخ عمر؟ قلت: نعم أنا الشيخ عمر! فقال: أنا الدكتور فلان أصبح لي 22 سنة عايش في أمريكا جئت بالصدفة وصليت معك الفجر اليوم، فوجدتك تبكي والناس أيضاً يبكون، ثم صليت الجمعة فوجدت الناس في الدعاء وفي الصلاة يبكون وأنت تبكي، وفي العشاء أيضاً كذلك، هلا أخبرتني لماذا كنتم تبكون؟
فقلت له: أنا عن نفسي كان أحدهم يضغط على رجلي، أما غيري من الناس فلا أعلم لماذا كانوا يبكون!! وإنما قلت له ذلك، لأني حقيقة احترت فيما أقوله له، فاستعنت بالمجاز!!
ثم قال ابن القيم رحمه الله: [ تزينت الدنيا لـعلي -سيدنا علي بن أبي طالب - فقال: أنت طالق ثلاثاً لا رجعة لي فيك، وكانت تكفيه واحدة -وإنما طلقها ثلاثاً من أجل ألا ترجع له مرة أخرى ولو بمحلل- لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور الهوى جواز المراجعة، ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل كيف وهو أحد رواة حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له).
ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك -أي: اجعل الخلوة في داخلك- ولابد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر، لا تضرك الشواغل إذا خلوت منها، وأنت فيها، نور الحق أضوأ من الشمس فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه ] أي: كما أن الخفاش لا يرى الشمس فإن الظلمة والمنحرفين لا يرون شمس الحق وإن كانت طالعة
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
فالعين التي فيها رمد تقول: الشمس لم تطلع، والفم الذي فيه مرض يشرب الماء وليس له طعم.
ثم يشرع ابن القيم رحمه الله يصف الطريق إلى الله فقال: [ الطريق إلى الله خال من أهل الشك، ومن الذين يتبعون الشهوات، وهو معمور بأهل اليقين والصبر، وهم على الطريق كالأعلام: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] ]، اللهم اجعلنا منهم يا رب العباد، ورضي الله عن ابن قيم الجوزية ورحمه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر