إسلام ويب

سلسلة الدار الآخرة الحساب [2]للشيخ : عمر عبد الكافي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه سيحاسب عبده على كل صغيرة وكبيرة، وأنه لن يضيع شيء فعله العبد في الدنيا من الأعمال الصالحة والسيئة، وأخبر سبحانه بمراحل الحساب من السجلات التي تعطى العبد، ووزن أعماله الصالحة والسيئة، ومساءلة الله له بما عمل في هذه الدنيا، ولذا كان لزاماً للعبد أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب في الآخرة، وأن يحرص على فعل الخيرات وترك المنكرات!

    1.   

    وجوب إعداد العدة للقبر وما بعده

    نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثانية عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الثانية في موضوع الحساب، اللهم ثبتنا عند الحساب يا رب العالمين، وهذه الحلقة تتصل بأهمية الحلقة السابقة، وقلت في مقدمة الحلقة الحادية عشرة: إن حلقة الحساب من أخطر حلقات الدار الآخرة أو من الحلقات الهامة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، وأكرر ما أقوله في كل سلسلة الدروس: إن حلقات الدار الآخرة ليست قصصاً تقص، وليست تسلية وتضييعاً للوقت، ولكنها عبارة عن تفتيح لقلوبنا عسى أن يتوب العاصي، وأن يهتدي الضال، وأن يرتدع كل من يأكل حراماً، وأن يعيد الظالمون إلى أصحاب المظالم مظالمهم؛ لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع الإنسان أن يرد مظالم الناس إلا بالحسنات والسيئات، فهناك لا يوجد أحد نعطيه رشوة حتى يمشي الأمور، ولا صاحب ضرائب يمشي الموضوع وإنما هناك رب قهار جبار يقول يوم القيامة: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:26] ويوم الدين: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19].

    فالأمر يوم القيامة لله عز وجل ليس لأحد، وما دام الأمر لله فإنه لابد أن يعيد الإنسان حساباته قبل أن يلقى رب العباد سبحانه وتعالى، إن المسلم السعيد هو الذي أعد قبره قبل أن يدخله أو قبل أن يسكنه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه، ثم ترك دنياه قبل أن تتركه.

    لكن الكارثة فينا جميعاً أننا لا نترك الدنيا، ولكن هي التي تتركنا، لا يوجد أحد فينا يترك الدنيا حتى الذي يمسك في منصب من المناصب لا يريد أن يتخلى من منصبه، وإذا أحيل إلى التقاعد يأتيه اكتئاب، وبعد ما كان الناس يعظمونه ويحترمونه ويجلونه إذا بهم يتركونه ويهملونه ولا يوقرونه ولا يعظمونه، فيحصل له اكتئاب وحالة نفسية غريبة.

    والمسلم من الواجب عليه أن يضع في ذهنه أن الدنيا كلها عارية مسترجعة، أمانة سوف تعود إلى خالقها سبحانه وتعالى، وما على المسلم إلا أن يعيد الحسابات في أن يترك الدنيا قبل أن تتركه، وليس معنى ذلك أنك تترك الدنيا، وتترك العمل، وتعتزل الناس، ولكن عش بين الناس بجسدك، وقلبك مع ربك سبحانه وتعالى تعيش مع الدنيا في الأعمال والأرزاق، وفي السعي والكد، وفي تحصيل العلم، ولكن قلبك متصل بالله عز وجل، تدعوه ليل نهار عسى أن تكون من التائبين، وعسى أن يكون قد غفر الله لك أو نظر إليك نظرة رضا تكون فيها سعادة الدهر كلها، اللهم اجعلنا من السعداء المقبولين يا رب العالمين!

    العدة للقبر سبب للسعادة

    ثم بعد إن المسلم الحقيقي الذي يؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم يعد العدة للقبر قبل أن يسكنه، قيل: (يا رسول الله! هل ينجو من ضمة القبر أحد؟ قال: لا، قيل: ولا القاسم ؟! قال: ولا إبراهيم الذي هو أصغر منه) يعني: القاسم ابن سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لن ينجو من ضغطة القبر.

    إذاً: ضمة القبر لن ينجو منها أحد، ولو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز العرش يوم موته، وهذا فيه دليل على مكانته عند الله، ورغم ذلك لم ينج من ضمة القبر.

    قيام الليل ضياء للقبر

    قال شقيق البلخي رحمه الله: بحثنا عن ضياء لقبورنا فوجدناه بقيام الليل. مكث يبحث عن الذي يضيء قبره من الأعمال الصالحة، وللأسف أنك عندما تضع ميتك تسميه بالميت وانتهى الأمر، والحق أنه ميت في عرفك أنت، ميت بالنسبة لك، لكن بالنسبة له فإنه قد انتقل من حياة إلى حياة من نوع آخر، أي أن الموت عبارة عن نقلة من دار إلى دار، ومن طريقة حياة إلى طريقة حياة أخرى، هنا يعمل ولا يعلم، وبعدما دخل القبر أصبح يعلم ولا يعمل، هنا في الدنيا يأكل ويشرب، في القبر لا يأكل ولا يشرب، وإنما تأكله الدود وتبدأ أهوال القبر، هنا في الدنيا يتكلم معنا فنسمعه، وهناك في القبر ربما يتكلم ولكن لا نسمعه، كل ما نستطيع هو أن نراه في رؤيا يحكي لنا حكاية أو يقول لنا قصة، أو يسألنا سؤالاً يطمئننا على نوع معين أو شيء معين.

    فالمسلم يجب أن يضيء قبره بقيام الليل.

    صلاة الضحى فيها صدق الإخلاص

    قال شقيق البلخي : بحثنا عن ضياء القبور فوجدناه في قيام الليل، قال: وبحثنا عن صدق الإخلاص مع الله فوجدناه في ركعتي الضحى.

    ويوجد أناس كثيرون ينسون ركعتي الضحى، أنت بعدما تصلي صلاة الصبح يستحسن أن تظل في مجلسك الذي صليت فيه إلى أن تطلع الشمس، فمن صلى صلاة الصبح وانتظر حتى تطلع الشمس وصلى ركعتي الضحى فكأنما حج واعتمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لكل عبد ثلاثمائة وستين مفصلاً، على كل مفصل صدقة كل يوم أنت مطالب بثلاثمائة وستين صدقة شكراً لله على نعمه، فالذي لا يملك شيئاً يجزئ عن هذا أن يصلي ركعتي الضحى، فمن صلى ركعتي الضحى فكأنما حج واعتمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام سنة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك حصل على ثلاثمائة وستين صدقة.

    إذاً: السعيد من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يسكنه، فيجهز نفسه، وينظر ما الذي ينفعه في القبر؟ هل فلوس الدنيا تنفع؟ لا، هل النصب والاحتيال ينفع في القبر؟ لا، هل المال الحرام ينفع؟ لا، هل .. هل، تسأل نفسك هذه الأسئلة.

    1.   

    إرضاء الخالق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثانية عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الثانية في موضوع الحساب، اللهم ثبتنا عند الحساب يا رب العالمين، وهذه الحلقة تتصل بأهمية الحلقة السابقة، وقلت في مقدمة الحلقة الحادية عشرة: إن حلقة الحساب من أخطر حلقات الدار الآخرة أو من الحلقات الهامة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، وأكرر ما أقوله في كل سلسلة الدروس: إن حلقات الدار الآخرة ليست قصصاً تقص، وليست تسلية وتضييعاً للوقت، ولكنها عبارة عن تفتيح لقلوبنا عسى أن يتوب العاصي، وأن يهتدي الضال، وأن يرتدع كل من يأكل حراماً، وأن يعيد الظالمون إلى أصحاب المظالم مظالمهم؛ لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع الإنسان أن يرد مظالم الناس إلا بالحسنات والسيئات، فهناك لا يوجد أحد نعطيه رشوة حتى يمشي الأمور، ولا صاحب ضرائب يمشي الموضوع وإنما هناك رب قهار جبار يقول يوم القيامة: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:26] ويوم الدين: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19].

    فالأمر يوم القيامة لله عز وجل ليس لأحد، وما دام الأمر لله فإنه لابد أن يعيد الإنسان حساباته قبل أن يلقى رب العباد سبحانه وتعالى، إن المسلم السعيد هو الذي أعد قبره قبل أن يدخله أو قبل أن يسكنه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه، ثم ترك دنياه قبل أن تتركه.

    لكن الكارثة فينا جميعاً أننا لا نترك الدنيا، ولكن هي التي تتركنا، لا يوجد أحد فينا يترك الدنيا حتى الذي يمسك في منصب من المناصب لا يريد أن يتخلى من منصبه، وإذا أحيل إلى التقاعد يأتيه اكتئاب، وبعد ما كان الناس يعظمونه ويحترمونه ويجلونه إذا بهم يتركونه ويهملونه ولا يوقرونه ولا يعظمونه، فيحصل له اكتئاب وحالة نفسية غريبة.

    والمسلم من الواجب عليه أن يضع في ذهنه أن الدنيا كلها عارية مسترجعة، أمانة سوف تعود إلى خالقها سبحانه وتعالى، وما على المسلم إلا أن يعيد الحسابات في أن يترك الدنيا قبل أن تتركه، وليس معنى ذلك أنك تترك الدنيا، وتترك العمل، وتعتزل الناس، ولكن عش بين الناس بجسدك، وقلبك مع ربك سبحانه وتعالى تعيش مع الدنيا في الأعمال والأرزاق، وفي السعي والكد، وفي تحصيل العلم، ولكن قلبك متصل بالله عز وجل، تدعوه ليل نهار عسى أن تكون من التائبين، وعسى أن يكون قد غفر الله لك أو نظر إليك نظرة رضا تكون فيها سعادة الدهر كلها، اللهم اجعلنا من السعداء المقبولين يا رب العالمين!

    مسئولية العلماء عن النصح وقول الحق

    الدليل الثالث على أنك من السعداء المقبولين اللهم اجعلنا وإياك منهم والمسلمين والمسلمات يا رب العالمين الحاضرين والغائبين إن شاء الله، من أرضى خالقه قبل أن يلقاه، أنت سوف تلقى الله في إخوة أصبحوا من أهل الآخرة، وتركنا العباد في الحلقة السابقة وقد نودي على أئمة الخير، ونودي على أئمة الشر، إمام الخير: الرجل الذي يقود الناس إلى ما يرضي الله ربنا سبحانه وتعالى، ويأخذه على رءوس الأشهاد، وبعد أن يحاسبه ويكرمه بكرامته ومغفرته ورحمته يقول له: يا عبدي! بلغ من خلفك بمثل ما بشرناك به؛ لأنهم كانوا أناساً طائعين، والأئمة في الشر والعياذ بالله الذين يأخذون الناس إلى كل شر فتجدهم كثيرين في هذا الزمن.

    ووجب علينا إذا رأينا أحداً على معصية ألا نسكت؛ لأنه يوم القيامة سوف يتعلق بك، وإن رأيتني على الشر ولم تنهني فسوف تسأل عني، مثل العلماء المنافقين الذين ينافقون الحكومات في كل البلاد، سوف يسألهم الله عز وجل عن علمهم ماذا صنعوا مع حكامهم به، يا ترى نهوهم أو لم ينهوهم، ويا ترى تقاعسوا وخافوا على أنفسهم أم أنهم بلغوا كلام الله عز وجل، يا ترى هل أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؟! يا ترى هل صنعوا ما كان يصنعه الصحابة مع الخلفاء والمسلمين ومع أمراء المؤمنين سواء في الدولة الأموية أو العباسية أم أنهم يطبلون مع من يطبل، ويزمرون مع من يزمر؟! ولو كان الناس ينافقون كلهم لوجب على العالم ألا ينافق وألا يخاف في الله لومة لائم؛ لأن الله سيسأله عن هذا العلم: هل بلغت؟! يقول: نعم يا رب بلغت، أنت بلغت المساكين الذين لا يقولون لك لا، لكن هل ذهبت إلى الرجل المفسد وبلغته وقلت له كلمة الحلق؟!

    إذاً: سوف يسألنا جميعاً رب العباد عن تبليغنا أوامر الله عز وجل، وتبليغنا النواهي التي نهانا رب العباد سبحانه عنها؛ لأن هؤلاء سيتعلقون في رقبتنا ويقولون: أنتم كنتم معنا ولم تكلمونا، ذهبنا نزوركم ولم تسمعونا، لا، نحن إذاً نبلغ في كل وقت وفي كل حين، وهذه مسئوليتنا جميعاً أن نبلغ كلام الله عز وجل، ويقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، حتى يقول: والله أنا سمعت الشيخ يقول كذا.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

    الصحابة قدوة في قول الحق عند الخلفاء

    ولعلنا رأينا سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما استوقف عمر بن الخطاب وهو يخطب على المنبر قائلاً: أيها الناس! اجلسوا واستمعوا، فقال سعد: يا أمير المؤمنين! لا جلوس ولا استماع، لماذا لن تجلس ولن تسمع؟ قال: وزعت من بيت المال على كل واحد منا ثوباً، وأنت رجل طويل فمن أين جئت ببقية ثوبك؟

    فينادي عمر عبد الله ابنه ويقول: يا عبد الله بن عمر أجب عمك، قال له: أعطيت ثوبي لأبي فأكمل ثوبه، قال: الآن نجلس ونستمع، نعم، هذا هو الدين، هذا هو التبليغ، وقد قال عمر رضي الله عنه: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. فما دمتم تروني أمشي فيما يرضي الله، إذاً فعليكم بطاعتي ولا تعصوني، وعندما تروني منحرفاً -أقول لكم كلاما وأعمل خلافه- فليس لكم طاعة علي.

    قال حذيفة بن اليمان رضوان الله عليه: يا أمير المؤمنين! والذي بعث محمداً بالحق نبياً لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فتبسم عمر وقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها، رضي الله عن صحابة رسول الله.

    اللهم احشرنا في زمرتهم، واجعلنا من جيرانهم في الجنة، واجعلنا من الذين يكونون تحت لواء رسولك صلى الله عليه وسلم، إنك يا مولانا على ما تشاء قدير.

    إذاً: أخطر المواقف في الحساب مظالم العباد، حتى إن كثيراً من الآباء والأمهات لهم حقوق عند أولادهم، فالحقوق هذه يأخذون بها حسنات، ويتمنى الأب والأم أن يكون لهما من الحقوق عند ابنهما أكثر من هذا، إذاً أين العاطفة؟ أين الحنان؟ لأن الكل يقول: نفسي نفسي.. نفسي نفسي، لا يوجد أم ولا أب ولا غيرهما، سبحان الله فأنت لا تعرف أباك ولا أمك، ولا هما يعرفانك هناك، ويعرفك امرأتك ولا ابنك ولا عمك ولا مديرك أبداً!

    قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] فكل طير معلق بعرقوبه وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:10] لا يوجد أحد يسأل عن الثاني الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف:67] كلهم أعداء، الأصدقاء والصداقات كلها انقلبت إلى عداوات إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!

    إذاً: أنت عندما تصاحب الأتقياء فإنهم سيشفعون لك يوم القيامة، وأحياناً يكون هناك شخص ظلمك، ولكن هذا الظالم صنع خيراً كثيراً بينه وبين ربه، ومظلمتك صغيرة ماذا يعمل يوم القيامة؟ يأتي الله عز وجل أول ما يفصل في مظالم العباد فيقول: عبدي ما لك عنده؟ فيقول له: يا رب! باعني كذا وغشني في البيع مثلاً، باعني سيارة أو أرضاً وإذا بها مزورة وأخذ مالي ظلماً.

    وكل شيء هناك بالميزان قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] حتى إن الله عز وجل ليأخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، إذاً: إذا أخذت من مال أخواتك في ميراث أو غيره حتى الدانق الذي يساوي اثنين مليم مصري يؤخذ منك مقابله يوم القيامة، فتأخذ بقية حسناتك مقابل الاثنين دانق، فيؤخذ منك ثواب سبعمائة صلاة مفروضة مقبولة، وكم صلاة تصلي في الشهر؟ مائة وخمسين صلاة.

    أكلت (10000) جنيه كم سيؤخذ منك حسنات؟ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار).

    فبعد ما يأخذ العبد مظلمته يقول له: عبدي! فيقول: نعم يا رب! فيقول: هل رضيت؟ يقول: لا زلت يا رب لم أرض بعد، فيقول الظالم: يا رب! لقد أخذ كل حسناتي، فيقول الله للعبد المظلوم: لقد أخذت كل حسناته فيقول المظلوم: يا رب! خذ من أوزاري وضعها عليه، فيأخذ الله من أوزاره، إذاً هو يأخذ أوزاره أساساً؟ وأوزار من ظلمهم.

    لكن هذا الظالم كان يصنع الخير في الناس فيقول الله للمظلوم: انظر خلفك، فينظر المظلوم خلفه، ويقول الله: عبدي ماذا ترى؟! فيقول: يا رب! أرى قصوراً من ذهب لها حلل من فضة وزبرجد لأي نبي هذه؟ أم لأي شهيد؟ أم لأي صديق؟ فيقول له: لا لنبي ولا لشهيد ولا لصديق، إنما لمن يعطيني الثمن؟ قال: وما ثمنه؟ قال: أن تعفو عن أخيك، قال: عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك إلى الجنة.

    قال الإمام الشافعي : من واجب الناس أن يتوبوا، لكن ترك الذنوب أوجب. يعني: الواجب أنني عندما أعمل خطأ أتوب منه، لكن من الأفضل أنني لا أعمل الخطأ.

    أول ما يقضى بين الناس في المظالم في الدماء، فأول شيء يحاسبون عليه الدماء، القتل المادي والقتل المعنوي، القتل المادي: كأن يكون شخص أخذ سكيناً أو عصا فقتل أحداً أو صدمه بسيارة متعمداً حتى يريح الدولة منه، المهم بأي طريقة قتل فإن أول ما يقضى يوم القيامة بين الناس في الدماء، فيؤتى بالقتيل يحمل رأسه على كفه، تمتلئ أوداجه دماً يقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟

    حتى إن سبعة من أهل اليمن اجتمعوا على قتل رجل، فقتل عمر السبعة كلهم، فقيل له: أتقتل سبعة في واحد؟ فقال: لو اجتمع على قتله أهل اليمن لقتلتهم جميعاً، لكن في القانون الوضعي يقول لك: الذي حرض على القتل هذا لا دخل له.

    الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله.

    يعني: أنت لو قلت لشخص: هناك درس علمي في المكان الفلاني، فذهب هذا الشخص فإنه يكون له مثل أجره. ولو أن أحداً قال لآخر: هناك مقطع فلم في السينما جميل، ولم يذهب هذا الذي دل عليه، لكنه حصل على ذنب الذي دله فذهب؛ فالدال على الشر كفاعله!

    يقول المقتول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: يا رب! قتلته لتكون كلمتك هي العليا، قال: صدق عبدي، أدخلوا القاتل الجنة؛ لأنه قاتل في سبيل الله، واحد قاتل في سبيل الله ومنع شراً عن المسلمين هذا في الجنة إن شاء الله، أما الثاني فيقال: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون لي الكلمة العليا أو تكون العزة لي، فيسحب إلى النار والعياذ بالله!

    1.   

    أقسام الناس في الحساب

    الناس في مسألة الحساب على ثلاثة أقسام: قسم لا حسنات لهم والعياذ بالله، تخرج أعناق من النار فتلتقطهم كما يلتقط الطير الحب، فهؤلاء من الدار للنار أول ما يقف في الحساب، وأول ما يبدأ الحساب تطلع أعناق النار فتلتقطهم.

    الحمادون وكافلة الأيتام يدخلون الجنة بغير حساب

    القسم الثاني: من لا سيئة لهم؛ ولذا أول من ينادى يوم القيامة: ليقم الحمادون لله على كل حال، الذي يحمد الله في السراء والضراء، والصابر في الضنك والسعة، فهو في حالة من الحمد المستمر؛ فسيدنا موسى يقول: يا رب! كيف أشكرك وشكري لك نعمة تستوجب الشكر؟! قال: يا موسى لقد شكرتني، فالله يخبره أنه بهذه الكيفية يكون قد شكره.

    فأنا إذا قلت: الحمد لله أليس هذا الحمد أساساً يستوجب أن أحمد الله على أن رزقني أن أحمده؛ لأن هناك نوعاً من الناس لا يقول: الحمد لله إلا بعدما يشكو إليك الشكوى كلها، فهو ليس حمداً؛ لأنك تشكو الذي يرحم إلى الذي لا يرحم.

    كذلك الأرملة التي مات عنها زوجها وترك لها أيتاماً، فربتهم وأحسنت التربية، فهذه ليست في الجنة فقط، بل سيدنا الحبيب يقول: (بينا أنا أقعقع حلقة الجنة لأدخل إذا بامرأة سفعاء الخدين تريد أن تسبقني) يعني: وجهها مصفر، هزيلة متعبة من التربية (فأقول: من أنت يا أمة الله؟ فتقول: أنا امرأة توفي عنها زوجها وترك لها يتامى، فقعدت عليهم وربتهم، فيدخلها الرسول معه خطوة بخطوة) انظر إلى هذه العظمة! هذا أيضاً من باب الحمد، ومن باب الصبر، اللهم اجعلنا من الحمادين، واجعلنا من الصابرين يا رب!

    يقول سيدنا الحبيب: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! عجباً وأين أبو بكر ؟ قال: عجباً لكم أنتم، أتريدون أن يقف أبو بكر للحساب إن الملائكة قد زفته إلى جنات عدن)، ويقال أيضاً: إن أبا بكر هو الذي يقال له يوم القيامة: (يا أبا بكر ! أسرع بالمرور من فوقي، فإن نورك غطى على ناري) ما سبقكم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن سبقكم بشيء وقر ههنا. فهو عنده يقين غريب في الله عز وجل، وعنده صلة بالله لا يعلمها إلا الله.

    الشهداء يدخلون الجنة بغير حساب

    إذاً: الحمادون لله على كل حال، وبعد ذلك الأرملة سبحان الله التي توفي عنها الزوج وترك لها أيتاماً، ثم بعد ذلك الشهداء، من قاتل منهم لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فهذا شهيد، يعني: لو أن شخصاً قيل له: لماذا تحارب؟ فقال: من أجل أن آخذ الأرض، فتقول له: لو أعطوك الأرض من غير حرب هل ستحارب؟ يقول: لا، إذاً أنت لست شهيداً، أنت ذهبت تحارب من أجل الأرض، وأنت ذهبت تحارب لأنك مجند؛ ولذلك أذكر إخواني وأبنائي من الضباط والجنود في القوات المسلحة أن يحتسبوا مدة تجنيدهم أو وظيفتهم العسكرية هذه رباطاً في سبيل الله يعني: الناس الذين على الحدود أو في أي معسكر من المعسكرات، لو أن العسكري أو الضابط -مهما قلت أو علت رتبته- نوى أن هذا رباطاً في سبيل الله، فإنه يكتب له من الحسنات ما لا يعلمه إلا الله يعني: يحول المهنة إلى خير، أما الجندي الذي لا يتعامل إلا بالمال وأخذ الرشوة ثم يقول: أنا مرابط في سبيل الله، نقول له: بل أنت مرابط في سبيل الشيطان، أنت نصاب؛ لأن المرابط في سبيل الله هو من يتقي الله عز وجل ويخاف من الله ويجعل الليالي التي يقومها في المعسكر إنما هي رباط في سبيل الله؛ لأن الرسول يقول: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).

    السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله

    كذلك من الذين يدخلون الجنة بلا حساب: السبعة الذين ذكروا في الحديث الشريف، الذين هم في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، وهم:

    أولاً: إمام عادل، ليس الإمام الذي يصلي بالناس، فهذه إمامة صغرى؛ لأن أصل الإمامة في الفقه نوعان:

    إمامة كبرى، وإمامة صغرى.

    الإمامة الكبرى: إمامة المسئول على أمور المسلمين، إمامة أهل الحل والعقد، هذه اسمها الإمامة الكبرى عند الفقهاء، وإمامة الصلاة إمامة صغرى؛ لأن مراعاة حقوق العباد ليست مسألة سهلة عند الله.

    إمام عادل؛ لأن أهل الجنة ثلاثة: إمام مقسط -يعني: عادل- ومتصدق وموفق، يعني: لو أن قاضياً ظل يحكم بين اثنين، وتمنى في قلبه أن يكون الحق مع واحد معين؛ لأنه استراح له، وقلبه مال إليه؛ ولكنه حكم بالحق بعد ذلك، فهذا يجيء يوم القيامة على الصراط وشقه مائل، فالمسألة صعبة وليست سهلة.

    ثم قال: (وشاب نشأ في طاعة الله).

    عندما تجد المسجد بفضل الله عز وجل مليئاً بالشباب تطمئن كثيراً، ولذلك يعجب ربك من شاب لا صبوة له، كما يضرب المثل بـعلي رضي الله عنه أنه لم يسجد لصنم قط؛ لذلك يقال: كرم الله وجهه، وسيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول الله عنه: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، السجن أحسن له من المعصية التي يتمناها كثير من المنحرفين، لكن الشباب الصالح، الشباب التقي الورع الذي نشأ في أحضان كتاب الله وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم الأمل.

    ثم قال: (ورجل قلبه معلق بالمسجد حتى يعود إليه)، إذا اعتاد الرجل المسجد فلا تشكوا في صلاحه، لكن ليعلم أنه أصبح مسئولاً عن نظر الإسلام أمام الناس؛ لأنه أصبح وجه الإسلام، أصبح هو وجهاً من وجوه الإسلام؛ لأنه لو عمل خطأً يقولون: انظر إلى هؤلاء المطاوعة الكذابين، انظر إلى هذا الذي صلى خلف الشيخ عمر كذاب، فهم سيتهموننا كلنا، وأقول لك: لنفرض أن لك هيبة عند الناس لالتزامك وطاعتك، ثم إنك وقفت في طابور تقطع تذكرة في المسرح أو السينما مثلاً والعياذ بالله رب العالمين! فأصحاب السينما أنفسهم إذا وجدوك واقفاً هكذا بلحيتك وشكلك الملتزم يتحولون إلى دعاة ووعاظ يعظونك: عيب عليك يا شيخ، هذا الأمر نفعله نحن، أنت لا ينبغي لك فعل هذا، ينقلب الحال أنهم هم الذين سيعظونك.

    فمن فضل الله على المؤمن أن الناس ينظرون له بهذه النظرة، حتى يبعث الله له الإنسان المنحرف ليعظه، أليس هذا من كرم الله على المؤمن؟

    إذاً: المسلم ما دام أنه تعودت قدماه المشي إلى المسجد فلا تشكوا في صلاحه، ألا إن من تطهر في بيته ثم توجه إلى بيت مولاه فإن الله يتبشبش في وجهه كما يتبشبش أهل الغريب عندما يعود إليهم غريبهم.

    قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، وهذه كلنا عندنا فيها أزمات نفسية، نحب نخرجها أمام الناس، والله يريدك تخرجها في السر حتى لا تعرف شمالك ما تنفق يمينك، إذاً: من باب أولى ألا يعلم صاحبك وصديقك.

    قال صلى الله عليه وسلم: (إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد حتى يعود إليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

    ولابد أن ننتبه لكلمة (خالياً)، فنحن في المسجد نرفع أصواتنا بالبكاء؛ لكن الحديث يقول: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، وكان عمر بن الخطاب من كثرة بكائه وخشيته صنعت الدموع تحت عينيه خطين.

    ثم قال: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين) هذا هو الشاب التقي الورع الذي يخاف من الله عز وجل، وقدوته في ذلك يوسف الصديق عليه السلام.

    قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) اللهم اجعلنا منهم يا رب.

    الحب في الله هذا هو الذي يمكن أن ينجينا يوم القيامة؛ فهناك من الأقوام أقوام تحابوا على غير أرحام بينهم، أنت ربما ترى شخصاً لا تعرف اسمه، لكنك لمجرد أنك نظرت إلى وجهه، فتقول في نفسك: أحب أن أقعد معه قليلاً، كلامه حلو، والجلوس معه حلو، يقول صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).

    فلو دخل مؤمن مجلساً فيه مائة منافق وبينهم مؤمن واحد لجلس بجوار المؤمن وهو لا يعرفه، لكن قلبه دله عليه، الأرواح هكذا تتسالم مع بعضها، ولذلك إبراهيم بن أدهم لما رأى عصفوراً يسير مع غراب قال: ما الذي جمع هذا مع هذا؟ قال: فرأيتهما يعرجان فقلت: سبحان الله جمعتهما المصيبة، وهناك من الناس من تجمعهم مصيبة الانحراف والفسق! تجدهم قاعدين مع بعض في كرة الطاولة.

    وما زلنا نؤكد أن حلقات الدار الآخرة ليست حكايات، وإنما هي أحكام، فالطاولة حرام، والذي يلعبها حرام، والوقت الذي يهدر فيها حرام، وسوف يسألك رب العباد سبحانه وتعالى عنها؛ لأنك ضيعت وقتك في شيء حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: كل جلسة ليس فيها ذكر لله عز وجل فهي حسرة، قال عليه الصلاة والسلام: (أيما قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله فيه فكأنما قاموا عن جيفة حمار) يعني: كأنما قاموا وهم يأكلون جيفة حمار، ولذلك هناك دعاء كفارة المجلس لابد أن تقوله وتقرأ سورة العصر؛ لأنه عسى أن يكون حصل هناك لغو أو كلام تخطيت به حدود الأدب مع الله عز وجل.

    إذاً: انقسم الناس إلى أقسام ثلاثة: أناس لا حسنة لهم، فالتقطتهم أعناق من النار والعياذ بالله، وأناس لا سيئة لهم فدخلوا بفضل الله الجنة، اللهم احشرنا في زمرتهم يا رب العالمين، وأغلب أهل المحشر ممن اختلطت حسناته بسيئاته، هذه هي الغالبية العظمى.

    عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: (اللهم حاسبني حساباً يسيراً، فلما انصرف قلت: يا رسول الله! ما الحساب؟ قال: ينظر في كتابه ويتجاوز عنه، إنه من نوقش الحساب يومئذٍ يا عائشة هلك ..)، يعني: أنا أسأل الله أن يخفف عني الحساب لمجرد أن أقف بين يدي الله، هذا اسمه تخفيف الحساب، أما من ناقشه الله فقد هلك!

    1.   

    وقوف الناس لوزن أعمالهم بالميزان

    المسألة ليست من السهولة بمكان، أنا لا أصعب عليكم المسألة، ولكن من الأمانة العلمية أن ننقل النص كما جاء في الكتاب والسنة، فإذاً نحن نقف أمام الله عز وجل والغالبية العظمى منا إما شخص كثرت حسناته أو شخص كثرت سيئاته أو شخص استوت حسناته وسيئاته، كل ذلك بالميزان يوم القيامة، يقول الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، هذه موازين، والميزان: وهذا الميزان توزن به الأعمال، وهذه الأعمال إما مادية أو معنوية، فالمادية يزنها الميزان؛ لأنها شيء محسوس.

    أما المعنوية فيزنها رب العباد سبحانه، الذي يقول للشيء: كن، فيكون، يقول الله عن الكفار: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، والوزن هنا هل هو وزن مادي أم وزن معنوي؟

    إنه ميزان حسي أمام الناس كلهم لا نعلم كيفيته.

    فتوضع حسناتك في كفة، وسيئاتك في كفة، وقد قلنا: إن قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]، المراد به النتيجة العامة إما من أهل الجنة أو من أهل النار، أما تفاصيل الأعمال فهذا موجود في السجلات التي تحت العرش، في الأرشيف الرباني، حيث يخرج لكل واحد منا من تحت العرش تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فتجد كل الأعمال التي عملتها، عند ذلك تقول: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    1.   

    العناوين الخمسة التي يحاسب عليها العبد

    فإذا وضع الميزان فمن أراد الله به خيراً رجح جانب الحسنات، والعناوين الخمسة التي سنحاسب عليها هي الأوامر والنواهي والذكر والشكر والنعم، هذه هي مجاميع المواد التي سوف سنحاسب عليها فتعال إلى جانب الأوامر فمثلاً قال الله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:29] فهذا أمر، والعبد إذا امتثل هذا الأمر يقال له: قد قبلناها منك، فيسجد العبد سجدة شكر أن الله قبل منه هذه الحسنة.

    الأمر الثاني: الصلاة لوقتها، يأتي واحد من الحكام لا يصلي فيقال له: ما الذي شغلك عن الصلاة؟ فإن اعتذر بأعذار الدنيا فإنه لا يقبل منه فيسحب على وجهه إلى جوار فرعون، ومن شغل بالوزارة سحب على وجهه إلى جوار هامان في النار، ومن شغله المال عن الصلاة سحب على وجهه إلى جوار قارون في النار، ومن شغل بالتجارة عن الصلاة سحب إلى النار على وجهه مع أمية بن خلف وهكذا! فأول ما يحاسب عليه العبد الصلاة فإن كانت ناقصة قال الله: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ وليس المقصود أنه يكمل للعبد ما تركه من صلاة مدة عشرين سنة، فإن الله لن يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، فأنا عندما أعتمر مائة ألف عمرة هل سيسقط هذا عني الحج؟ لا يسقطه، لابد أن أحج، وكذلك الصلاة، لو صليت مائة ألف ركعة ولم أصل الفرض فإنه لا تقبل النوافل.

    فأقول: مع محافظتك على الصلاة لوقتها وصلاة الجماعة في المسجد لا تترك صلاة ركعتين في جوف الليل؛ لأن الذين يخرجون من القبور إلى باب الجنة هم أهل قيام الليل، الذين لم تشغلهم أيضاً تجارة ولا بيع عن ذكر الله، والله قد مدحهم في كتابه العزيز، فقال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    لنأت إلى جانب الزكاة التي أمر الله عز وجل بأدائها، فإذا قبل الله من العبد الصلاة انتقل به إلى الزكاة فإن وجدها ناقصة نظر هل من صدقات تكملها؟! فإن وجدت صدقات تكمل الزكاة قبلها الله منه.

    ثم ينتقل الله به إلى الصيام.. ثم إلى الحج فينظر الله هل كان يستطيع الحج؟ لماذا لم يذهب ليحج؟ والأوامر كثيرة جداً، فإن وجدوه كاملاً في الأوامر انتقلوا به إلى جانب المنهيات، فالله سبحانه وتعالى نهانا عن الظلم وقال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) احذر أن تظلم أحداً.

    ثم النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والنهي عن شرب المسكرات والمخدرات، والنهي عن التبذير في المال الذي جعل الله لك فيه قياماً، والنهي عن الإساءة إلى مسلم من قريب أو من بعيد، والنهي عن تضييع فرائض الله عز وجل، والنهي عن السخرية بالمسلمين، والنهي عن الغيبة والنميمة، والنهي عن شهادة الزور، والنهي عن المحلل والمحلل له، كل هذه المنهيات تحاسب عليها:

    فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً

    1.   

    ذكر الله تعالى

    لنأت إلى جانب الذكر، قيل لـعلي بن أبي طالب : يا علي ! كيف يحاسبهم الله على كثرة عددهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرة عددهم. يقول الله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] فمن ذكر الله ذكره، ومن نسي الله نسيه، فإذاً: جانب الذكر، وقيام الليل والتوكل على الله، فإذا تقلبت في فراشك في الليل فاذكر الله؛ لأن الملائكة تكتب لك الحسنات، فلا داعي لأن يضيع الوقت، فلا تضحك على نفسك تستغفر وتجلس أمام التلفاز إلى أن يطلع الفجر، لا تستطيع أن تخادع الله، لا يمكن أن تنصب على من يعلم السر وأخفى، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه تجلس أمام التلفاز إلى الفجر وتذكر الله!

    فاذكر الله عز وجل على كل حال، واشكره على نعمه وآلائه.

    نعم الله على العباد

    الخامس: جانب النعم، فتحاسب على نعمة الإسلام ماذا عملت فيها؟ كذلك نعمة الإيمان، ونعمة التوحيد، ونعمة الصحة، ونعمة السكن، ونعمة الزوجة، ونعمة الأولاد، ونعمة المال، كل هذه نعم ستحاسب عليها، فهل استخدمتها في عصيانك لله أو استخدمتها في طاعة الله؟! أم أنك ستأخذ المال حراماً وتقول: سأتصدق به؟ لا، إن من يتصدق بالمال الحرام كمن يغسل الثوب المتنجس بالبول، فهذا لا ينفع.

    ثم بعد هذا يكتمل حسابك، سواء رجحت الكفة أو خفت، ثم ينادي جبريل هنا: لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لن يشقى بعدها أبداً، وتخيل فرحتك أنت بهذه السعادة في هذا الوقت، فهي تختلف عن سعادتك في الدنيا التي كنت ترائي فيها المخلوقين بأعمالك، وتجعل نفسك رجلاً وقوراً ومحترماً وقواماً لليل وصواماً للنهار، ورجلاً تمشي مع أهل العلم والصالحين، ورجلاً متصدقاً، ورجلاً تحل مشاكل المسلمين، وتجعل في ذهنك هذا الهم الكبير من أجل الناس، لكن انظر إلى هذه السعادة والناس كلهم يغبطونك يوم القيامة، وأنت تجري وسطهم وترفع كتابك قائلاً: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، يعني: إني أيقنت أنني سآتي إلى هذا اليوم، فكنت مستعداً له، وأعددت نفسي ليوم الامتحان، فالله أكرمني: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:20-21]، العيشة نفسها راضية فما بالك بمن يعيش فيها؟! أصبحت العيشة راضية؛ لأنه هناك سوف ينظر العجب في الجنة بإذن الله رب العالمين!

    الجنة فيها العجب العجاب لا ألم ولا تعب، ولا ضيق ولا كد ولا اكتئاب، ولا ملية ولا منية، ولا بصاق ولا مخاط، ولا عرق ولا حيض، ولا نفاس ولا ولادة ولا تعب، ولا مدارس ولا فرق، ولا مشاكل ولا حكام ولا شيء من هذا الكلام كله.

    المسكين الذي لا يجد ما يأكل، يصبح في الجنة ملكاً عند ملك الملوك سبحانه، نعم؛ لأن الله هو الذي سيملكه، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74] حتى يقول المولى عز وجل في الجنة: (يا عبادي! إني رضيت عنكم فهل رضيتم عني؟).

    إذاً: الحديث عن الدار الآخرة يشجع للاستعداد للقاء الله عز وجل، فإذا نادى جبريل: لقد سعد فلان سعادة يرفع كتابه وينطلق إلى أهله مسروراً؛ لأنهم قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] يعني: خائفين من عذاب الله في الآخرة، فيوم القيامة يأمن من العذاب، أما الذي قال: هؤلاء هم يكذبون عليكم ويخوفونكم فيزيدون من عندهم، إن الله غفور رحيم فهم يؤلفون لنا كلاماً من عندهم، المطلوب أنك تميز بين الأوامر والنواهي فقط، فالمسألة مسألة تمييز، اتركنا يا سيدي من العلم والعلماء، افتح أنت المصحف واقرأ؛ دعنا من علم العلماء، دعنا من الدروس، دعنا من الكتب، افتح كتاب الله واقرأ ما فيه، وانتهى الأمر.

    والعكس! الأوامر والنواهي والذكر والشكر إن كنت مقصراً فيها تساقطت الحسنات التي معك يأخذها أصحاب الحقوق والمظالم الذين أنت أكلت حقوقهم واغتبتهم، حتى قال أهل العلم: لو علم المغتاب ما يؤخذ منه من الثواب لكان حرياً أن يغتاب أبويه. يعني: لو أنه أراد أن يوزع الحسنات فليعطها أقرب الناس إليه أباه وأمه، فلماذا تذهب لأحد غريب؟! وقد قلنا يوم الجمعة: المغتاب إن تاب فهو آخر أهل الجنة دخولاً، وإن مات المغتاب ولم يتب فهو أول أهل النار دخولاً، يعني: المغتاب الذي تاب فهو آخر شخص يدخل الجنة، والمغتاب الذي لم يتب يكون أول شخص يدخل النار والعياذ بالله يا رب العالمين، نسأل الله السلامة لنا ولكم وللمسلمين.

    فإذا خفت الموازين والعياذ بالله على الشخص فإنه يخبئ كتابه ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].

    قد يجد العبد وسائط في الدنيا أما في الآخرة فهل سيحن عليه أحد؟ قال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26]، يا ليتني لم أعرف الحساب هذا.

    ثم يقول: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:27] لا يوجد أحد يقول: ارحموه، بل يقول الله: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:30-31] أي: أحرقوه بالنار ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] قالوا: وما هذه السلسلة يا رسول الله؟ قال: لو وضعت منها حلقة على جبل أحد لذاب من ساعته.

    فكثير من الناس يرتكب الحرام، بعضهم لا يصلي والبعض يأكل الحرام، والذي يخرج امرأته عريانة، والذي بناته ذاهبات الجامعة ببنطلون وقلة أدب فهذا سوء أدب مع الله، فلابد أن أراجع حساباتي؛ لأنني سوف أقف في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، الذي جعل سيدنا عيسى يقول: يا رب! لا أسألك عن مريم بنت عمران، وسيدنا موسى يقول: أنا لا أعرف هارون، ويقول سيدنا إبراهيم: وأنا مالي ولإسماعيل؟! نفسي نفسي! كلهم يقول: نفسي نفسي.

    1.   

    محاسبة الأمم يوم القيامة

    ثم بعد ذلك يحاسب الله عز وجل الأمم، وأول أمة يؤتى بها أمة نوح، يؤتى بنوح فيقال له: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! بلغت قومي فيقول الله: هل بلغكم نوح؟ فبين مصدق ومكذب، القليل الذين آمنوا به يقولون: نعم بلغنا، والأغلبية الكافرة يقولون: لم يبلغنا، فيقول الله: يا نوح! إن قومك يقولون: ما بلغتهم، مع أن الله هو الحكيم الخبير، وهو العليم الخبير، لكن من أجل أن يلزم الحجة لعباده، يقول: يا نوح! أمعك من يشهد لك؟ فيقول: نعم يا رب، محمد وأمته، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: هل بلغ نوح قومه؟ فيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح:1] إلى آخر الآية، حتى قال أهل العلم: حتى إن المسلمين يسمعون صوت النبي كأنهم ما سمعوا القرآن من قبل، فربنا يسمع المؤمن ساعتها بصوت الحبيب المصطفى بالشكل هذا، فسيدنا محمد شهد، ويأتي أصحاب محمد فيقولون: نعم يا ربنا لقد بلغهم، فيقولون: كيف يشهد علينا من لم يرنا؟! فيقول الله عز وجل: نعم كيف تشهدون عليهم وأنتم ما رأيتموهم أيضاً من أجل يلزمهم الحجة؟ فيقولون: يا ربنا! قرأنا كتابك، وتلاه علينا رسولك، وعلمنا أن ما فيه صدق وحق، وقرأنا فيه أن نوحاً بلغ قومه، فيقول الله: صدق محمد، وصدق أصحاب محمد، ثم نفس القضية، وموسى وعيسى كلهم يكذبون من قبل أقوامهم.

    ثم ينادى على جبريل وكل واحد سيسأل يوم القيامة قال: فيأتي جبريل تصطك ركبتاه يكاد أن يقع فرطاً وخوفاً من الله عز وجل تعالى، فيقال له: يا جبريل! هل بلغت محمداً؟ فيقول: نعم يا رب! فيقول الله: يا محمد! فيقول: نعم يا رب العباد! فيقول الله: يزعم جبريل أنه بلغك فيقول: نعم يا رب صدق جبريل، ثم يقول الله: يا أمة محمد! هل بلغكم محمد؟ قالوا: نعم يا ربنا، قد بلغنا، فيقول الله: صدقتم يا أمة محمد، فهذا هو سؤال الأمم، يقول تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] عليه الصلاة والسلام، كل أمة يطلع منها شهيد .. ويأتي سيدنا الحبيب فيشهد علينا وعلى الأمم كلها، صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المقام المحمود يوم القيامة، والجزئية الباقية التي هي مسألة الشفاعة إن شاء الله رب العالمين.

    إذاً: مثقال الذرة ربنا يحاسبنا عليها، وإن تك مثقال ذرة، يعني: لذلك يقول يوم القيامة: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فهذه الذرة التي لا ترى بالعين المجردة ستوزن في الميزان يوم القيامة، يعني: لا توزن بالموازين العادية التي معنا، فيوم القيامة ربنا سيزن مثقال الذرة، إذاً: النظرة والضحكة والسخرية والكلمة والغدوة والروحة، والذهاب والإياب، والقعود والجلوس والحركة، كلها مسائل يجب أن يراعي العبد فيها ربه؛ لأن الله سوف يسألنا على صغير الأمر أو كبيره.

    هذه حلقة من الحلقات الصعبة جداً على الناس، والمرعبة جداً والمخيفة، ولكن هذا من أمانة العلم، فيجب علينا أن ننقلها إليكم.

    بارك الله فيكم، ولا تنسونا من صالح دعائكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767116527