إسلام ويب

تفسير سورة سبأ [10-13]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ قصة نبيه ورسوله داود عليه السلام، ومما ذكره سبحانه وتعالى عنه أنه أمر الجبال والطير أن تسبح لتسبيحه، وأنه ألان له الحديد، وقد أتبع الله ذلك بذكر ابنه سليمان بن داود عليهما السلام، وما تفضل الله سبحانه وتعالى عليه من المعجزات، وهو تسخير الجن والرياح له، وهو الملك الذي لا ينبغي لأحده بعده عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً ...)

    ننتقل ونحن لا نزال في سورة سبأ أو ابتدأناها من جديد إلى قصة داود وسليمان النبيين الملكين الإسرائيليين، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سبأ:10-11].

    يقول ربنا: وكما أكرمنا محمداً بالمعجزات وبالآيات الدالات على صدقه وعلى أمانته وبما أعطيناه من فضل وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، كذلك آتينا من سبق، آتينا داود وسليمان، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا ، وداود هو أبو سليمان، وكان أحد كبار أنبياء بني إسرائيل ورسلهم، وكان نبياً رسولاً ملكاً، وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا تفضلنا عليه، وأكرمناه، وفضل: نكرة، أي فضل؟ وما هو هذا الفضل؟ كل ما فعله الله له، وكل ما أكرمه الله به هو فضل من الله، تفضل عليه بأن جعله نبياً وبأن جعله من قبل موحداً، وجعله رسولاً، وجعله ملكاً داعياً للحق وللهدى والصلاح، وأكرمه بمعجزات، وأكرمه بعلامات، وأكرمه بآيات كما أكرم الأنبياء السابقين واللاحقين.

    وقد تفضل الله عليه وأكرمه بأنواع من الفضل، مع النبوءة والرسالة والملك، قال الله عنه: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، نادى الله الجبال أن تسبح معه، ونادى الطير أن تسبح معه، وكان لداود صوت سبق جميع آلات الطرب، كان صوته طرباً في حد ذاته، وكان إذا ناح بتلاوة ما أنزل عليه من زبور تجد الجبال تردد عليه نياحته وأنغامه وتوحيده وتسبيحه، وتجد الطير قد تجمعت جميعها بين يديه، تسبح بتسبيحه وتنوح بنواحه، وتذكر بذكره، يَا جِبَالُ أَوِّبِي أي: سبحي، والأوب هو الرجع، أي: رجعي معه ما يقوله، ومنه الترجيع الذي في الأذان، وهو أن يرجع المؤذن الشهادتين عندما ينطق بهما.

    ونحن قد ذكرنا ما قاله المفسرون من أقوال مختلفة، وأكدنا القول الحق أنه عرض عليها ذلك عرضاً، سمعته وأحسته، وللجبال من الحس ومن الحياة ما تدرك به ما تؤمر، بدليل قوله تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ، أي: من الفضل الذي أعطيناه أن نادينا الجبال إذا سبح، وإذا وحد، وإذا نزه، وإذا ذكر داود ربه أن ترجع معه تسبيحه، وترجع معه ذكره، فكان هذا مؤكداً للأول، ولا حاجة لكل تلك المعاني التي قالها من استبعد أن تتحرك الجبال وأن تعي، والله يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وهذا من ذاك.

    فمن المعجزات التي آتاها الله لعبده داود أنه نادى الجبال وأوحى إليها بأن تسبح معه، وداود في مزاميره في الزبور المنزل عليه، كان له من جمال الصوت ما لا يكون لمجموع آلات الطرب، فالله جل جلاله يزيد في الخلق ما يشاء، وفسروا (يزيد في الخلق): الصوت الحسن، وهناك قراءة خارج السبعة ( يزيد في الحلق ).

    وإحدى الشهيرات من مصر بجمال الصوت عالمياً هلكت، وكانوا يقولون: بأن حنجرتها فيها من أنواع العروق والشرايين ما لم يكن في جميع أنواع آلات الطرب، حتى إن شركة عالمية من شركات الطرب اشترت منها حلقها بعد موتها بكذا وكذا مليون، لترى ما هي الشرايين الزائدة، وتبني عليه معارفها وعلمها، ولكن هذه ماتت بسرطان الحلق، فذهبت الشرايين في حياتها، وانقطع الصوت في حياتها، وعندما ماتت كان هذا الحلق وهذه الشرايين كتلة مريضة، اختلطت بالقيح وبالصديد.

    وداود عليه السلام قالوا عنه: أكثر مما قالوا عن هذه.

    وهذا يرى في بعض الناس، فإذا تكلم أحدهم مجرد كلام تجد في صوته النغمة، وتجد جرساً، أما إذا تلا القرآن فتجد شيئاً عجيباً غريباً، وقد استمع نبينا عليه الصلاة والسلام يوماً إلى أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن الكريم، فلما أصبح قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، وكان أبو موسى مشهوراً بصوت إذا سمعه الطير سقط بين يديه، صوت يحمل له الإنسان والحيوان، وينصت إليه من يفهم لغته ومن لا يفهمها من الأعاجم.

    وأدركت وأنا صغير بأرض الشام منشداً، عندما يتغنى بالقصائد الإلهية أو المدائح النبوية تجد الطير يتجمع من أمكنة مختلفة، ويترامى بين يديه، ولا يهابنا ولا يهاب الناس، وقد يكون أيام برد شديد بأرض الشام، ونوافذ الغرف مغلقة من شدة البرد، ولكن البلور من الخارج فتجد الطير يترامى على البلور ويدخل أحياناً يرتمي بقوة ويصرخ ويموت.

    وهذا ما قاله الله لنا، وكل ما قال الله هو حق، وهذا الحق يتكرر مع الأيام والسنين والقرون، وإلى عصر الناس هذا. وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ، أي: كما تفضلنا عليه بأمرنا للجبال أن توحد معه، وأن تسبح معه، كذلك الطير، والألف واللام للجنس، أي: جميع أنواع الطيور، على كل أشكالها، كان داود إذا تغنى بتوحيده، وإذا رفع صوته بالتسبيح بمزاميره وبالزبور المنزل عليه تجد البهائم والطير والجبال والجمادات والمتحركات كلها تتحرك متأثرة بصوته، وتسبح معه، وهذا من المعجزات.

    وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ الحديد معروف، جعله الله ليناً بين يديه، قالوا: كان كالعجينة.

    ثم هل هذا التليين معجزة له بمجرد مسحه أو كانت له القوة في ذلك؟ قال بعض المفسرين: كانت له من القوة ما إذا مسح الحديد صنع به ما يصنع بالعجين، وأنه يأتي إلى قضبان الحديد ويلويها كما شاء، ويصنع منها ما شاء، فإن كان ذلك قوة فهي من الله، فهو الذي ألانها من أول مرة، إذاً: فهي كذلك معجزة من الله.

    (أن اعمل سابغات)، ألان له الحديد ليصنع السابغات، وهي الدروع الكوامل الساترة لكل البدن، والدرع هي تلك اللبسة التي يلبسها المحارب، ويغطي بها جميع جسده من الرأس إلى القدمين، ولا يبقي إلا فتحة صغيرة في عينيه، وليس بارز العين حتى لا تضرب بسهم أو برصاص.

    فالله ألان له الحديد، وأمره أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أمره وعلمه كيف يصنعها، والسرد: هو نسجها وصنعها، يقال لدروع الحرب واللأمة: سراد، وأصل السرد: التتابع، وفي المغرب نقول للمعيد: سارد، أي: يسرد الكلام بعضاً بعد بعض ما دام يؤمر بذلك.

    قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (لم يكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديثكم سرداً)، أي: لا يقول الكلمات متتابعة، ولا يخلط كلمة بكلمة بحيث يضيع بعض كلامه، ولكنه كان عليه الصلاة والسلام كما وصف أنس بن مالك ، وكما وصف غيره من الصحابة إذا قال كلمته أعادها ثلاثاً لتفهم عنه، وإذا قالها تأنى بها تأنياً، حتى إذا أراد العاد أن يعد الحروف التي ينطق بها لعدها، ومع الفصاحة والبلاغة أوتي جوامع الكلم، فكان سيد البلغاء وسيد الفصحاء.

    أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ أي: اصنع سابغات، وأسبغ الوضوء أي: أتمه ولم يترك عضواً بدون وضوء، وأسبغ الله عليه النعمة أي: أتمها.

    فسابغات: أي: دروع كوامل.

    وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: عندما تصنع جرساً وتدخل حلقة في حلقة قدر في السرد، أي: لا تصغر المسمار، فتتقلقل حلقة داخل مسمار، وربما تتفكك تلك الحلقات، ولا تغلظها فتكسر الحلقة، وبالتالي تنكسر الدرع، فلا تصون ولا تحصن المقاتل والمدرع.

    قالوا: إن داود كان من عادته -وهذه العادة كان يفعلها عمر أيضاً رضي الله عنه- يخرج ليلاً فيتحين الرجال الذين لا يعرفون داود، فيسألهم كيف داود بينكم؟ فقد كان حاكماً وكان مع حكمه نبياً، فكانوا يصفونه بالخير ويثنون عليه، وجاءه ملك في صورة إنسان فسأله: كيف داود واليكم بينكم؟ قال: نعم الرجل، لو استغنى عن العيش ببيت مال المسلمين، وإذا بداود يفزع فيسأل ربه أن يعلمه صنعة يعيش عليها، فعلمه صنع الدروع، قالوا: كان يصنع الدرع في يوم وليلة، ويبيعه بستة آلاف، وهذه قد تكون من الإسرائيليات، وقد يكون لها أصل، فيأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويضع الثلث في بيت المال، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري ومسلم : (خير طعام الرجل ما كان من صنع يده، وكان داود يعيش بصنع يده)، والصنعة كانت الميزة الفارقة بين العلماء قديماً وحديثاً، وأدركنا شيوخنا في أرض المغرب وأرض الشام فيهم الخياط وفيهم المزارع، وفيهم الحداد، وفيهم وفيهم، فيعيشون على كسب أيديهم، لذا استطاعوا أن يعيشوا بلا رفاهية ولم يأخذوا من بيت المال، فقد يكون خليطاً من حلال وحرام، ولم يأخذوا الهدايا ولا الصدقات.

    وهكذا كان علماؤنا في سلفنا الصالح وشيوخنا، وإن كان الخير لم ينقطع إلى يوم القيامة، ولا يزال الصالحون يعتمدون على صنعة أيديهم فيعيشون بها مع الزهد والورع.

    لقد كان داود كما كان ولده سليمان لا يشبعان إذا أكلا قط، وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام، بل كان نبينا في ذلك القدوة والأسوة والمثال العالي، وكان يأمر الناس بما هو أصح لأبدانهم وأحسن لدينهم، فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: (يكفي ابن آدم أن يأكل لقيمات، فإن كان ولا بد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس).

    وكان يقول: (ارفع يدك من الطعام وأنت تشتهيه) أي: لا تشبع، ولا تستكمل شهوتك، لأن المعدة ما دامت تشتهي فمعناه أنك صحيح، فإذا أملأتها يوشك أن تمرض بالتخمة، وقد مات الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بالتخمة، وغيره كذلك.

    وكان الطبيب العربي الحارث بن كلدة يقول: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء. والمعدة تكفيها لقيمات لقيام الحياة، وقلة الطعام أصح للبدن، وأحد للذهن، وأما التخمة فإنها تبلد الذهن، وتكثر النوم، وتمرض الأعضاء، وتفسد المعدة مع الأيام، وقلما تشفى من القرحة، نسأل الله السلامة.

    وقوله تعالى: وَاعْمَلُوا صَالِحًا الأمر هنا لداود وآل داود من أولاد وعيال وأتباع. والعمل الصالح: هو الطاعة لله ولنبييه سليمان وداود، والطاعة: فعل ما تؤمر به قدر ما تستطيع، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، وأما النهي فيجب أن يكون شاملاً كاملاً، (وما نهيتكم عنه فانتهوا).

    قال تعالى: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو بصير وناظر وعليم وخبير بأعمال الناس، ومن عمل الخير فله الخير، ومن عمل الشر فله الشر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر ...)

    قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12].

    أي: كما سخرنا الجبال لوالده تسبّح معه، وكما آتينا داود تسبيح الطير، وألنّا له الحديد، وعلمناه صنعة اللبوس، فكذلك وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ أي: آتينا سليمان الريح وسخرناها له.

    وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ سخر له الريح فكان يضع على الريح بساطاً، وأخشاباً تحمله وتحمل جميع جنده، وكانت الغدوة الواحدة عندما يطير ببساطه يقطع فيها ما يُقطع على الدواب مدة شهر، والغدوة: الصباح، والرواح: المساء، وكان يقطع في رواح واحد ما يقطعه الراكب وما تقطعه الدواب في مسافة الشهر، وهذا نحن نفعله اليوم.

    وهذا يؤكد ما قاله أحد كبار العارفين من أصحاب الرقائق والآداب والمعرفة قال: كل ما ذُكر في القرآن معجزة لا تنتهي الدنيا حتى تُصبح شيئاً عادياً في متناول كل الناس، قال هذا ولم يستدل، ولكن كان ذلك من بديع معرفته بالله ونظره البعيد.

    فآخر الأنبياء قد مات عليه الصلاة والسلام ورسالته لا تزال قائمة، وهو رسولنا كما كان رسول من قبلنا، وهو رسول من بعدنا، فالقرآن أُنزل عليه وأُمر به كل من معه وكل من يأتي بعده إلى يوم القيامة، فعندما يقول ربنا: يا أيها الناس! فنحن من المخاطبين بيا أيها الناس، وإذا قال ربنا: يا أيها الذين آمنوا! فنحن من المخاطبين بذلك، ومن هنا كان سلفنا من مفسري كتاب الله يقولون: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأعرها أذنك، فأنت المخاطب، فانظر ماذا يقول لك ربك.

    والمعجزات قد انتهت وبقيت الكرامات، لكن الكرامة لا يُتحدى بها، والمعجزة للتحدي، والتحدي لم تعد له حاجة.

    فقال هذا العارف: لا تنتهي الدنيا حتى يصبح كل ما مضى من معجزة شيئاً عادياً، وبساط سليمان منها، فنحن نسافر اليوم بأسرع من بساط سليمان، وأكثر الطيران اليوم عند من لم يؤمن بالله، وإن كان المخترع للطيران مسلم عربي وهو عباس بن فرناس من الأندلس، حيث صنع لنفسه جناحين كالطائر، ودرّب نفسه على ذلك زمناً إلى أن طار وحلّق وقطع مسافة، وحاول النزول فعجز؛ لأنه فكر في أجنحته وفي صعوده ولم يفكر في هبوطه، والطائر له ذنب يساعده على الهبوط، ولذلك تجد جميع الطائرات فيها ما يسمى بالمؤخرة كذنب الطائر، وهو يساعد الطائرة على النزول، ومقاومة ضغط الرياح والعواصف، فلما حاول النزول لم يستطع، فبقي يطير إلى أن عجز ووقع، وقبل أن يموت قال: غفلت عن حكمة وجود الذيل للطائر، وعندما مات لم يتشجعوا لأن يتابعوا عمله، وهابوا الموت ثم عادوا يفكرون الآن في صنعه، ويوشك أن نفاجأ به يوماً، وعندها سنحتاج أن نعمل أبواباً في الأسطح؛ حتى لا ينزل علينا طائر الإنسان، فهذا الطيران الذي كان بالنسبة لسليمان معجزة وذُكر في القرآن معجزة أتى هذا العصر ولم يبق معجزة، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ [فصلت:53]، وربنا قال هذا منذ 1400 سنة، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، والطيارة صنعها الإنسان نعم، ولكن من الذي أعطى الإنسان هذا العقل ليصنع هذه الطائرة؟ فلو فقد صانع الطائرة أو سائقها عقله والطائرة تطير لذهبت الطائرة بجميع من فيها، وهم لم يعطوه عقلاً احتياطياً حتى إذا ذهب عقله استعمل العقل الثاني، وهيهات، فلم يصنع هذا إلا الصانع الأول واهب الحياة والجسد وجميع حواس الجسد.

    ومن المعجزات التي ذكرها القرآن قصة بلقيس عندما قال أحد الجن لسليمان: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39]، وقال الله عن الثاني: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40] أي: أنا آتيك بعرشها قبل أن يرتد أهداب عينيك عاليها لسافلها، فكان العرش موجوداً في فلسطين في القدس وكانت بلقيس في صنعاء في اليمن، وبينهما آلاف الكيلو مترات، والآن هذه الصواريخ التي وصلت القمر تقطع الثلاثين والأربعين ألف كيلو متر في ثانية وقد فعلت، والطيران منذ اكتشف وأدركناه كان أشبه بجرادة، ثم تطور إلى أن وصل الآن إلى ما يسمى بطائرة كونكورد التي تقطع ما بين المشرق والمغرب في ثلاث ساعات، والقرآن كله معجزات في أخباره وأنبائه، والسنة النبوية أوسع؛ لأنها هي البيان والشرح.

    إن الصحابة آمنوا على معجزات شاهدوها وعاصروها، وآمنوا بما يأتي تصديقاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن كذلك، فقد أدركنا في حياتنا معجزات ذكرها القرآن وتحققت في أيامنا، فآمنا بها شهوداً وحضوراً ومعاصرة، وآمنا بالمعجزات السابقة التي وردت عن سلفنا إلى التابعين إلى الصحابة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    والله قال عن قبل يوم القيامة: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، أي: إذا بها بعد ذلك تُصبح حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كالزرع حين يُحصد وكأنها لم تكن؛ فأخبر عن الدنيا أهلها سيخدمونها وسيكونون عبيداً لها ويحرصون على أن يزخرفوها حتى يظنوا أنهم قدروا عليها، ونسمع اليوم الكثير من كلام جبابرة الأرض وطغاتها من الكفرة من الحكام وخاصة ممن يسمونهم الدولتين العظيمتين من أنواع الجبروت، فهذا يهدد هذا ويقول: عندي من الأسلحة ما أستطيع أن آتي لقارتك ودولتك وأمحوها من الوجود، وتقول الدولة الأخرى مثل ذلك؛ وهذا صحيح، ونحن لا نكذبهم، فقد اخترعوا من أنواع السلاح والتدمير والبلاء ما نخافه، وما يكاد يجف معه الريق في حلوقنا، ومع ذلك فلن يقيموا هم الساعة، وإنما الله سيقيمها، وسيرجع سلاحهم عليهم، والمسلمون بعد ذلك عليهم أن يأخذوا هذه الدروس من الذل والهوان والغلبة؛ لأنهم ابتعدوا عن الله وفروا عن كتابه وجعلوا القرآن وراءهم ظهرياً، تركوا محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه، وذهبوا لمن يسمونهم: فلاسفة القادة، وعندما نقرأ سيرة أحد هؤلاء في هذا العصر نجدها كلها فساد وفجور وسفك للدماء، وفي برلماناتهم وندواتهم يُعلنون مُبيحين أقبح وأخس أنواع الفواحش، فقد أباحوا اللواط وأصبح قانوناً، وأباحوا تعدد الأزواج للزوجة الواحدة وأصبح قانوناً، وأباحوا ما لا يكاد يخطر بالبال، وتحللوا تحللاً لم يسبق لا في روما قديماً ولا فيمن تحلل من تلك الشعوب التي أصبحت في أمس الدابر، والتي مقتها الله عندما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نظر الله إلى الأرض شرقها وغربها فلعن هؤلاء وهؤلاء إلا بقايا من أهل الكتاب) ثم أكرم من أكرمه بالإيمان بالله وبنبينا عليه الصلاة والسلام، فإذا بالأرض تتبدل غير الأرض، وإذا بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار يفتح الله لهم البلاد خلال خمسين عاماً من أقصى الهند إلى أقصى بلاد الغرب في الأندلس والبرتغال والجزء الكبير من فرنسا وأوروبا والصين، فكانوا أئمة الناس ومعلميهم وسادتهم وناشري العدل بينهم، ولكن جاء من بعدهم كما قال الله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، فأنذرهم الله بالتسويف البعيد فقال: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكما أريتنا يا ربنا ويا خالقنا قدرتك فأرنا عفوك، اللهم حوالينا ولا علينا.

    قال الله تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ:12]، والقطر: النحاس، أسال الله له عيناً من نحاس تجري كما تجري المياه في العيون والأنهار، قال تعالى: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ:12] فجعل للنحاس عيناً سالت وجرت كما تجري عيون الماء، وأخذ يصنع منها ما سخّر له الله به الجن، فأخذوا يصنعون له ما قاله الله: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ، أي: من الجن، عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ فقد سخّر له الرياح فكانت تطير به وبجنوده، وسخّر له الجن فكانوا خدماً وجنداً له، وتحت قهره وسلطانه وإذلاله، وكلّف الله ملكاً بيده عصاً من نار يضرب أي جن من هؤلاء الجن يعصي أمر سليمان بتلك العصا فيحترق، وذاك معنى قوله تعالى: وَمَنْ يَزِغْ ، أي: ومن يمل ويعصي ويخالف، نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ أي: يذقه من النار المتسعرة الملتهبة الحارقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب ...)

    يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].

    أي: أخذ يأمر الجن بأن يصنعوا من هذا النحاس العجائب، فيصنعون و يَعْمَلُونَ لَهُ أي: لسليمان مِنْ مَحَارِيبَ ، جمع محراب، والمحاريب قيل: هي المساجد والمعابد، وقيل: هي القصور، وفيها غرف تُعتبر صدر الدار كما نقول: صالون، ويُصعد إليه بدرجات، أي: يصنعون الصروح والقصور من النحاس ويصبّونه صباً كما نصب نحن اليوم الصب؛ ويصنعون له من ذلك النحاس ما يريد مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ جمع تمثال وهو الصور، صور الشجر والبشر والملائكة والأنبياء والصالحين، وكان ذلك في شريعته جائزاً، وهو ما تسلسل بعد ذلك إلى أن تغيروا وبدلوا وأصبحوا يعبدون هذه التماثيل، فجاء الإسلام الخاتم المهيمن فحرّم هذا، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين، وهو عند موته قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى، كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه التصاوير) أي: جعلوا في كنائسهم التماثيل والصور.

    والجفان: جمع جفنة وهي قصعة الطعام، فكانوا يصنعونها كبيرة كالجواب، وهي جمع جابية، والجابية: الحوض، وهو الحفرة الكبيرة، قالوا: كان يأكل على جفنته ألف إنسان، ويصعد عليها بالسلالم، وفي عصرنا الكثير من أهل الكرم من شيوخ العرب من الأمراء والسادة من له من هذه الجفان ما لا تملأ إلا بمائة جمل ومئات الشياه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755785180