إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة النور [5]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اشتملت سورة النور على بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالأرقاء، ومن ذلك الإرشاد إلى تزويجهم حال علم صلاحهم لإقامة بيوت الزوجية، وإرشاد مواليهم إلى تحريرهم من الرق عن طريق المكاتبة حال علم الخير في العبد أو الأمة وكفايته نفسه بعد تحريره. كما اشتملت هذه السورة المباركة على ذكر عظم نور الله تعالى، وبيان مثل نور المؤمن الذي فطره الله عليه وأمده بنور الوحي والعلم، وذكر فطنة ابتغاء هذا النور المبارك والتماسه، وهي المساجد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم ...)

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فما زلنا -بعون الله تعالى- في تفسير سورة النور، سائلين الله أن يرزقنا وإياكم نوراً نهتدي به.

    قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].

    هذه الآية جاءت تبعاً لما قبلها، وما قبلها ذكر الباري جل وعلا فيه ما يدعو إلى غض البصر وحفظ الفرج وتحصين العورات، وقد جاء القرآن مسلسلاً ذلك الأمر بحسب أحوال الناس، فمنع الله جل وعلا دخول البيوت بلا استئذان، وأمر بغض البصر، ثم أمر بحفظ الفرج.

    ولكي تكون هناك نواة لمجتمع مسلم كان لا بد من وجود أسرة، وبعض أهل الفضل والعلم يقول: إن هناك أمرين لا بد للإنسان من أن يطلع عليها شرعاً، وهما أحكام النكاح وأحكام البيوع؛ لأن الإنسان بحاجة إلى الغذاء الذي يحصل عليه عن طريق الأخذ والعطاء، وفي حاجة إلى أن تكون له أسرة، ويعبرون عن ذلك بالنكاح أو بالزواج، فيحتاج إلى أن يكون ذا علم بأحكام النكاح، وهذا من باب الجملة.

    والرب جل وعلا هنا يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32] وقوله: (أنكحوا) فعل أمر، ووجود فعل أمر لا بد من أن يكون معه مأمور، والمأمور بهذه الآية قطعاً وفق قواعد اللغة هم الأولياء والسادة، وليس كل أحد مأموراً بنفسه؛ لأنه لو كان كذلك لجاء الفعل: (وانكحوا) من غير همزة قطع، لكنه جاء هنا بهمزة قطع وَأَنكِحُوا [النور:32]، فهذا في المقام الأول يخاطب به الولي ويخاطب به السيد.

    يقول ربنا جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] و(الأيامى) يدخل فيه الرجال والنساء، والأصل أن الأيم هي من لا زوج لها، أو فقدت زوجها، ثم استخدمت هذه اللفظة مجازاً أو استعارة، فأطلقت على الرجل والمرأة إذا كان أحدهما لا زوج له، والأصل إطلاقه على النساء، وهو الأكثر.

    وقد جاء فيه قول الشاعر: وأزواج سعد ليس فيهن أيم

    وهو بيت قدح فيه في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فدعا على من قال فيه هذا البيت فداهمه جمل شارد فقتله.

    والشاهد كلمة (أيم) فالأيامى: جمع أيم، وهذا خطاب للأحرار، والدليل على أنه خطاب للأحرار أن الله قال بعد ذكر ما يتعلق بالأرقاء والمماليك من العبيد والإماء: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] أي: زوجوهم.

    وقد اتفقت كلمة العقلاء على أن النكاح أفضل وأعظم المباحات ظهوراً، فالمباحات يتردد منها ما اتفق على أنه مباح، ومنها ما اختلف فيه، ومنها ما يدور حول الكراهة، ولكن الإجماع منعقد على أن النكاح من أفضل المباحات ظهوراً من حيث الحكم الشرعي، فقد جعله الله سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال جل وعلا: وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].

    وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حق من استحدث هدياً غير هديه: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)

    فالنكاح أعظم ما أباحه الله جل وعلا لعباده، ويترتب عليه مصالح عظيمة، وقد قال بعض الفقهاء: إن النكاح تدور عليه الأحكام الفقهية الخمسة، والعلم عند الله.

    بيان المراد بالصالحين من العبيد والإماء

    قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، ونكاح الإماء والعبيد جاء مقروناً مقيداً بقوله جل وعلا: وَالصَّالِحِينَ [النور:32]، واختلفت كلمة المفسرين في المقصود بمعنى الصالحين هنا على قولين:

    فقال بعضهم: إن الصلاح المقصود به الصلاح الإيماني، بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات، وهذا ظاهر الرأي.

    وقال آخرون -وهو الذي أرجحه-: إن المقصود أنهم صالحون للنكاح، وصالحون لأن يرعوا أسراً، وصالحون لبيت الزوجية؛ لأن الصلاح الأول عام لا يمكن تخصيص الإماء والعبيد به دون الأحرار، لكن الثاني يحسن التخصيص به؛ لأن الإنسان إذا رأى في عبده قدرة على النكاح وإقامة بيت زوجية رغبه في ذلك الأمر، وإلا فالأصل أن يبقيه على ما هو عليه في نطاق العبودية.

    بيان المراد بقوله تعالى (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)

    قال الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] هذه الآية توافق ما كان عليه الناس آنذاك، فقد كانت العرب في جاهليتها كانت تخشى الفقر، وكانت تظن أن من أسباب الفقر كثرة العيال، فقال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] .

    والمقصود أنه في ظل هذا الجو الخائف من الفقر عند فتح باب الزوجية إذا كثر العيال وتغير الحال قال الله جل وعلا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] والمعنى: أيها الولي! إن أتاك فقيراً يطلب نكاحاً وكنت تثق به في دينه وأمانته فلا يجعلنك كونه فقيراً ترده، بل زوجه، قال الله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].

    ولا خلاف في أن الجملة شرطية، وأدوات الشرط تنقسم إلى قسمين: الأول: أحرف، وهي (إن)، والثاني: أسماء، مثل (متى) و(أين)، فهذه أدوات شرط لكنها أسماء، وأما (إن) فهي حرف.

    وهذا الشرط اختلف الناس في فهمه، فهل المعنى أنه وعد من الله جل وعلا بأن المتزوج إذا كان فقيراً سيغنيه الله قطعاً، أم أن المقصود منه أنه لا يمنعنكم كونه فقيراً من أن تزوجوه؟

    وهذا الذي تميل إليه النفس، وإن كان الأكثرون من أهل التفسير على الأول، ولهم حجج ظاهرة بينة. أظهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين كان حقاً على الله أن يغنيهم ويعينهم، وهم: الناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب، والمجاهد، وهذا قول نبينا صلى الله عليه وسلم.

    وقد وجه للقائلين بهذا القول سؤال، وهو أننا نرى واقعاً، وهو أن هناك من ينكح ولا يغنى، والواقع لا يمكن رده؛ لأن الواقع في عرف الفضلاء والعقلاء أعظم الشهود، والدين لا يمكن أن يصادم الواقع أبداً، وقد ألف شيخ الإسلام (درء تعارض العقل والنقل)، والمقصود بالعقل في المقام الأول الشيء المشهود الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يطالب الناس بأن يتخلوا عن أعينهم وبصيرتهم ويمتنعوا عن قبول الشواهد التي يرونها عياناً.

    فأجاب هؤلاء الفضلاء عن القول بأننا نرى من ينكح وهو فقير فقالوا: إن الإطلاق في سورة النور مقيد بنظائره في سور أخرى، كقوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، فقالوا: هذا القيد يسري على هذا.

    ولكن صناعة الأصول تقتضي عدم حمل الإطلاق على هذا التقييد لاختلافهما في السبب، واختلاف السبب يمنع جريان أحكام الإطلاق والتقييد على منحى واحد، وفي المسألة أخذ ورد بين العلماء، ولكننا هنا نثير القضية بمجملها، ولا يلزمنا الفصل، ولكنني قلت: أختار أن المقصود من الآية أن المخاطب الولي، والمراد: لا يمنعنك فقر ذلك الرجل الطالب النكاح أن ترده لفقره؛ لأن الدنيا عرض زائل ولا ينبغي أن يمنعك ذلك.

    ثم إن فضل الله واسع، ولا يعني ما قلناه أنه لا يعان، ولكن من الصعب أن نقول: إن هذا وعد من الرب تبارك وتعالى؛ إذ أسلوب المقطع في نفس الآية لا يساعد على القول بأن يكون ذلك وعداً من الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنهم الله من فضله)

    ثم قال جل شأنه: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33].

    الألف والسين والتاء في قوله: وَلْيَسْتَعْفِفِ للطلب، أي: يطلبون العفة في حالة عجزهم عن تحقيق أمر النكاح.

    والعجز هنا المقصود به العجز عن السبب في الوصول إلى فتح باب الزوجية، إما لفقر وهو الأظهر، وإما لحالة اجتماعية يمتنع من خلالها الناس أن ينكحوه، وأمثال ذلك.

    ولا يمكن لنا أن نقيد ما أطلقه القرآن؛ لأننا إذا قيدنا ما أطلقه القرآن فلن نجعل هذا القرآن حاكماً على كل زمن، والأصل أن القرآن حاكم على كل زمن ومهيمن على كل كتاب.

    وبيان ذلك أنه قد يخرج إنسان من السجن وهو شاب ثري عنده مال، ومع ذلك لا ينكح من أهله أو من قبيلته أو من أبناء جلدته، فلو جعلنا عدم الوصول للنكاح محصوراً في المال فماذا سنقول في هذه الصورة؟! هل نقول: إنها غير مذكورة في القرآن؟! فقول الله: يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] جملة واسعة، بمعنى: إن كانوا فقراء فسيغنيهم، وإن كان هناك عارض آخر فسيزيل الله جل وعلا.

    والمفسر للقرآن يحتاج إلى تأن واطلاع على أحوال الناس قبل أن يخوض في الحكم على آيات الله ويبين مراد الرب تبارك وتعالى منها.

    يقول تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ [النور:33] وطريقة الاستعفاف مفتوحة؛ لأن أحوال الناس تختلف، ولكن هناك طريقة منصوصاً عليها، وهي ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: مانع.

    والمقصود أن الإنسان أدرى بنفسه، فكل ما يستطيع أن يعف به نفسه فليفعله.

    الحث على مكاتبة الأرقاء

    ثم قال ربنا: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] هذا استدراج، فلما ذكر الله العبيد والإماء في المقام الأول نبه جل وعلا على إحدى الوسائل التي يكون بها العبيد والإماء أحراراً، فقال ربنا: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ [النور:33] أي: يطلبون الْكِتَابَ [النور:33] أي: يطلبون الحرية عن طريق المكاتبة، والأصل أن العبد وما ملك ملكٌ لسيده، فإذا كان هذا العبد صاحب حرفة تجر له مالاً فإن الله جل وعلا يضع له صورة من صور الخلاص من العبودية، ألا وهي أن يطلب العبد من سيده أن يكاتبه، والمكاتبة على وزن المفاعلة، وهي أمر يقع بين اثنين، فيقوم هذا العبد بصنعته تلك فيجمع مالاً في المقام الأول، ويمكن أن يستفيد مالياً من طرائق أخر، ثم يجعل هذه الأموال منجمة على أقساط تقدم لسيده يتفقان عليها وقتاً وزمناً، فإذا أتم العبد ما اشترطه عليه سيده أصبح بعد ذلك حراً.

    قال ربنا جل جلاله يفصل ذلك كله: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:33] (من) مدغمة في (ما) وأصلهما (من ما)، وملك اليمين يكنى به عن الأرقاء الذين تحت أيدينا.

    قال تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] أي: إن علمتم أن لديهم حرفة يستطيعون بها إذا أصبحوا أحراراً أن ينفقوا على أنفسهم، أما إذا لم تعلموا فيهم الخير فلا تجعلوهم عرضة لأن يكونوا أحراراً فيتكلوا على أوساخ الناس ويأخذوا من الصدقات وأمثالها، ويمتهنوا التوسل، لكن قال أهل العلم - ولا أعلم في هذا خلافاً -: لو فرضنا أنه لم يعلم فيه خيراً فإنه لا يوجد مانع من أن يكاتبه.

    بيان المراد بالخطاب في قوله (وآتوهم)

    ثم قال ربنا: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] .

    اختلفت كلمة المفسرين في المخاطب بقول الله جل وعلا: وَآتُوهُمْ [النور:33] على ثلاثة أقوال، وأجمعها أن نجمع بين الأقوال الثلاثة؛ لأن الآية تحتمل ذلك كله، فنقول: إن المخاطب به ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات من المسلمين.

    أما ولي الأمر فيعين المكاتب من بيت مال المسلمين، وأما السيد فيعينه بأن يسقط عنه جزءاً مما اتفقا عليه، وأما أصحاب الثراء والمال فإنهم يعطونه من الزكوات أو من الصدقات.

    وإجراء الكلام على هذا المنوال أفضل من تخصيصه؛ لأن الله أطلق، وقد قلت: من الصعب أن نقيد ما أطلقه الله.

    بيان معنى قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ...)

    ثم قال ربنا: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] .

    في هذه الآية نقول: لا يردن في ذهنك أن مجتمع المدينة في عهد النبوة كان البغاء فيه ظاهراً، فحري بتلك الحقبة زماناً ومكاناً أن يتحرر في أذهاننا أنها أفضل حقبة، وأن ذلك أمثل جيل وأكمل رعية، ولكن المراد هنا فئة من المنافقين كانت تسكن المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، وكان لديه جاريتان يكرههما على البغاء، فورد أنهما شكتاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية رحمة بالفتاتين وتوبيخاً لـعبد الله بن أبي .

    فالله جل وعلا يقول تعريضاً: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] فالله يقول له: كيف تفعل ذلك وأنت سيد؟! والأصل أن تحافظ على من تحت يديك فلا تكرههن على البغاء وهن لا يردنه وإنما يردن التحصن، وإلا فلو طلبت المرأة البغاء بذاتها فذلك لا يسمى إكراهاً، فالقيد هنا جاء مخاطباً للواقع، والقيد إذا جاء مخاطباً للواقع فلا مفهوم له.

    ولو اعتبرناه قيداً له مفهوم لأصبح لزاماً أن نقول: يجوز أن يكون هناك بغاء من غير إكراه، لكن هذا القيد لا مفهوم له، كقول الله جل وعلا في حق ذاته العلية: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، فلا يعني ذلك أنه يجوز أن تدعو إلهاً آخر لك فيه برهان؛ لأنه لا يوجد إله غير الرب تبارك وتعالى.

    يقول تعالى: وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] المراد بالآية تلك الفتاتان على وجه الخصوص، ومن كان مثلهما ممن لم تأت النبي عليه الصلاة والسلام للشكوى، والمخاطب بسبب النزول يدخل دخولاً أولياً عند الجمهور، ومالك يرى أن دخول من نزل بسببهم الآية يدخل دخولاً ظنياً، وهذا لا يتضح هنا، ولكن يتضح في آية الأحزاب في قول الله جل وعلا: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] فهل تدخل في ذلك أمهات المؤمنين أم لا؟ قال في المراقي:

    واجزم بإدخال ذوات السبب وانقل عن الإمام ظناً تصب

    فقوله: (واجزم بإدخال ذوات السبب) هو مذهب الجمهور، (وانقل عن الإمام) يقصد مالكاً ؛ لأن القائل مالكي (ظناً تصب) أي أن الإمام يرى أن دخولهم ظني في حين أن الجمهور يرون أن دخولهم قطعي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)

    ثم قال ربنا تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:34] .

    لقد ذكر الله جل وعلا في القرآن الكريم براءتين: براءة مريم وبراءة يوسف، ثم ذكر الله في هذه السورة الكريمة سورة النور براءة عائشة ، فهذا معنى قول الله: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النور:34] على الأظهر.

    أما قول ربنا قبلها: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ [النور:34] وقوله جل وعلا: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:34] فهو مطرد؛ إذ القرآن موعظة لكل مؤمن في أي زمان وفي أي مكان، وهذا ظاهر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض ...)

    بيان عظمة نور الله

    ثم قال الله جل وعلا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35].

    هنا نستشهد بقول لـابن القيم رحمه الله، والكلام إذا كان نفيساً حسن أن يستشهد به، بصرف النظر عن قائله، فإذا كان قائله قد عرف فضله وإمامته زاد ذلك الأمر قبولاً عندك وعند الناس.

    قال ابن القيم رحمه الله: الله جل وعلا من أسمائه النور، ومن أوصافه النور، وحجابه النور، وكتابه نور، وشرعه نور، ورسوله نور، والجنة التي وعدها عباده نور يتلألأ.

    وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: نور السماوات والأرض حساً ومعنىً، فالذين اهتدوا اهتدوا بنور الله، والأرض والسماوات إنما تشرقان بنور الله، واستنار بنور الله كل شيء حتى العرش وأركان العرش، فالله جل وعلا نور السماوات والأرض حساً ومعنىً.

    ثم ضرب الله المثل، وقد جرت العرب في كلامها على أن تضرب الأمثال، فأصابت ثلاثة أمور: إصابة المعنى، وإيجاز اللفظ، وحسن التشبيه. وبتعبير أصح: نالت العرب بالأمثال أموراً ثلاثة:

    على أن من أصل العرب في كلامها أنها إذا قالت المثل لا ترى أن أحداً يملك الحق في تغييره، فالمثل يقال كما قيل أول مرة، كمثل: (الصيف ضيعت اللبن) فهذا المثل يقال بهذه الطريقة خاطبت به ذكراً أو خاطبت به أنثى، خاطبت به فرداً أو خاطبت به مثنى أو خاطبت به جماعة، ويقولون: إن أصله أن امرأة كانت تحت رجل طاعن مسن، ولكنه كان ذا مال، فأصرت عليه أن يطلقها، فطلقها في الصيف، فتزوجها شاب من بني قومها، ولكنه كان فقيراً، فذات يوم أمسيا هي وزوجها فقيرين، فرغبت في اللبن، فبعثت إلى زوجها الأول تطلبه لبناً، فلما وصل المبعوث المرسول إلى الزوج الأول قال له: إن فلانة تطلبك لبناً، فأجابه: (الصيف ضيعت اللبن)؛ لأن الطلاق كان في الصيف.

    فأياً كان المثل فإنه يقال كما هو، والعرب لها أمثالها، والله جل وعلا ساق الأمثال في القرآن، وقال في خاتمة هذه الآية: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35].

    وقد ضرب الله أمثلة كثيرة في القرآن، وقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26].

    نورانية الرسول صلى الله عليه وسلم

    يقول ربنا جل جلاله: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] والنبي صلى الله عليه وسلم نور بنص القرآن، وقد جاء في مدحه عليه الصلاة والسلام في قصيدة كعب بن زهير بأنه نور عند من يقول بصحة نسبة قصيدة كعب بن زهير إليه، وهي قصيدة لا يملك أحد الجزم بصحة سندها، ولكن ذكرها عند أهل السير والأخبار والآثار وقبولهم لها يدل على أن لها أصلاً عظيماً، وكعب كان من عائلة مشتغلة بالشعر، وكانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة، فأهدر النبي عليه السلام دمه، فدخل المدينة وأنشد بين يدي رسول الله:

    بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول

    وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول

    تجلو عوارض في ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول

    كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيده إلا الأباطيل

    إلى أن قال:

    إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول

    وهذه رواية ابن قتيبة وأمثاله، وفي روايات أخر:

    إن الرسول لسيف يستضاء به

    والذي يعنينا الرواية الأولى؛ لأنها هي التي تتفق مع ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم نور وما جاء به النور، وكان يسأل من ربه النور إذا خرج في ممشاه إلى الصلاة وإذا قام من الليل، كل ذلك ثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه.

    مثل نور المؤمن

    قال الله: مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] هذا تقريب كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] والمشكاة هي الكوة التي في الجدار الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35] وفي زماننا نطلق المصباح على الآلة كلها، وأما في لغة القرآن فالمصباح المراد به الفتيلة، وهذا ظاهر؛ لأن الله قال: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] والفتيلة تقع داخل الزجاجة.

    قال تعالى: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35] لصفائه ونقائه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35]، فالله يشهد أن هذه الشجرة مباركة، أي: كثيرة النفع زَيْتُونِةٍ [النور:35] وهذا بيان لنوع الشجرة؛ لأن الشجر المبارك كثير، فلما قال الله: زَيْتُونِةٍ [النور:35] عرفنا أنها شجرة الزيتون، وأهل التاريخ يقولون: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان، ودعا لها بالبركة سبعون نبياً، وموطنها الأرض المقدسة في الأرض المباركة في موطن الأنبياء، فموطنها الأول في الشام.

    فالله يقول: هذا الزيت يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، والشجرة الشرقية هي التي لا تتعرض للشمس حالة الغروب، والغربية عكسها.

    وأما الشجرة التي تتعرض للشمس دائماً فهي التي لا تسمى شرقية ولا غربية، قال الله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35].

    ثم قال الله: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وخلاصة الأمر أن الكوة -المشكاة- هي قلب المؤمن، ويجتمع فيه نوران: نور الفطرة ونور الوحي والعلم من عند الله.

    ففطرته ظاهرة عليه، وهذا معنى قول الله جل وعلا: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35]، وقوله: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] هو نور العلم والوحي والإيمان، على نور الفطرة.

    قال تعالى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وذلك لئلا يقول قائل: إن الأمر واضح، فنحن سنهتدي إليه، فأخبر الله جل وعلا أنه ليس الأمر كذلك، وإن كان واضحاً جلياً، فقال: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] والإنسان ينبغي له أن يدرك أن المقصود لا يطلب إلا بالرب تبارك وتعالى.

    فهذا مجمل ما دلت عليه الآية.

    ذكر تفسير للآية غير مقصود بها

    وبعض أهل العلم بنحو منحىً آخر في تفسير الآية، فيعدل عن ظاهر القرآن، فيقول: إن المقصود بالنور النبي صلى الله عليه وسلم، وإن المشكاة هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن قول الله جل وعلا: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] المقصود به اليهود يصلون جهة المغرب، والنصارى يصلون جهة المشرق، فيقولون: قوله: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] أي: لا يهودياً ولا نصرانياً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا من الشجرة المباركة التي هي إبراهيم لكونه أباً لأكثر الأنبياء.

    وهذا القول من حيث معناه صحيح، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس يهودياً ولا نصرانياً، وهو وارث إبراهيم ومتبعه، وهذا لا خلاف فيه، ولكن القول بأنه المقصود بالآية بعيد جداً، فلا بد من أن تكون هناك آلة متفق عليها في التعامل مع آيات الكتاب، ولا يحق لنا ولا لغيرنا أن نغير الآلة التي نتعامل بها في آيات الكتاب حتى نصل إلى مقصودنا، على أنه ينبغي أن يعلم أن المعاني أحياناً تكون صحيحة، ولكن الوصول إليها قد يكون بطريقة خاطئة، فلو أصاب إنسان في المعنى فلا يعني ذلك أنه أصاب في الطريقة التي يتوصل بها إلى المعنى.

    1.   

    حصول نور الله في قلب المؤمن

    قال ربنا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35] وقد بينا قضية المثل في القرآن، وأن الله جل وعلا ذكره في أكثر من آية من كتابه، ولما كانت الحاجة داعية إلى معرفة مظان هذا النور قال الله بعدها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36].

    وبعض العلماء جعل قوله: فِي بُيُوتٍ [النور:36] معلقاً بالمشكاة، وتكلم عن المصابيح، ثم قال: إن هذا الكلام منتقض تاريخياً؛ لأن نسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه مصابيح، وهذا كله نرى أنه لا حاجة لنا إليه، فالآية تتكلم عن نور الهداية، ولهذا قال الله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] .

    فإذا كان الإنسان بعد ذلك قد رغب فيما عند الله وعلم أن الله هو الهادي حق له أن يبحث عن الأمكنة التي يجد فيها نفحات الله ونوره وهدايته، فقال الله جل وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] وهي المساجد.

    وبعض العلماء يقولون: إن كلمة (بيوت) محصورة في المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء، وهي المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومسجد قباء.

    فهذه الأربعة بناها الأنبياء، والصواب أن يقال: إن الأمر على إطلاقه، فالمساجد كلها بيوت الله، سواء بناها الأنبياء أو بناها غيرهم.

    1.   

    عمارة المساجد بالبناء

    قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] نبه الله جل وعلا على أمرين: عمارتها مادياً وعمارتها معنوياً.

    فعمارتها مادياً بتشييدها وبنائها وحفظها عما يضر بها.

    وعمارتها معنوياً بإقامة ذكر الله جل وعلا فيها، والثاني هنا أشرف من الأول، وفي كل خير، ففي الحديث: (من بنا لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة).

    وأول بيت وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى، وجدده -أي: المسجد الأقصى- سليمان بن داود عليه السلام، وتزعم إسرائيل اليوم أن تحته هيكل سليمان.

    ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المدينة من جهة الجنوب بنى مسجد قباء في بني عمرو بن عوف، فكان أول مسجد أسس في الإسلام، ثم أتى بطن المدينة فبنى مسجده عليه الصلاة والسلام، ولم تكن تقام الجمعة إلا في المسجد النبوي، ثم جاءه عليه الصلاة والسلام وفد من الأحساء من هجر ثم ارتحلوا عنه، فصلوا الجمعة في محافظة في الأحساء تسمى جواثا.

    وكثير من الفقهاء على أن ثاني جمعة أقيمت في الإسلام أقيمت في جواثا، لأنه لم تكن تقام الجمعة إلا في المدينة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وأقيمت بعد ذلك في جواثا في الأحساء، وقد مررت بها، ولكن لم يتيسر لي أن أدخلها، وهي ديار علم وفضل، يقول أهلها يفتخرون:

    والمسجد الثالث الشرقي كان لنا والمنبران وفصل القول في الخطب

    أيام لا مسجداً لله نعرفه إلا بطيبة والمحجوج بالحجب

    يقصدون المسجد الحرام.

    والمقصود من هذا تفصيل تاريخي عام عن المساجد في الأرض، ثم بنيت لله جل وعلا مساجد في كل مكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً) وهذا دعوة صريحة صحيحة لأهل الخير والفضل للتسابق في بناء المساجد.

    1.   

    عمارة المساجد بذكر الله

    وأما عمارتها شرعياً ودينياً، فأعظم ذلك إقامة ذكر الله جل وعلا فيها، وهذا الذي قال الله فيه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا [النور:36] جل جلاله بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [النور:36] أي: ينزهه عما لا يليق به، ويحمده الحمد الذي يستحقه، ويثني عليه أقوام ركع سجد، قال الله عنهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .

    وكلمة (رجال) هنا -وإن جاءت نكرة- مخصوصة بالوصف الذي بعدها، فالجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وكلمة (رجال) نكرة، فجملة: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] وصف لكلمة (رجال) وقد قال بعض السلف -وينسب ذلك إلى ابن مسعود -: إن المقصود بالآية في المقام الأول أصحاب الأسواق.

    قال الله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] فما الفرق ما بين التجارة والبيع؟

    إن التجارة هي العمل برءوس الأموال بحثاً عن ربح، فحين يقال: فلان تاجر عنده رأس مال فمعنى ذلك أن رأس ماله يتضاعف، أما البيع فهو أخص من التجارة، فلا يلزم كل أحد يبيع أن يريد ربحاً، فالإنسان قد تضطره مشاكله أحياناً إلى أن يبيع شيئاً غالياً نفيساً له عنده مقام أو ذكرى حميدة، فيبيعه بأقل من قيمته وهو لا يريد ربحاً، وإنما يريد مالاً.

    وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين

    فهذا هو الفرق بين التجارة والبيع.

    والمشهد يتحقق إذا رأيت أهل سوق، فإذا سمعوا المؤذن تركوا ما في أيديهم وتسابقوا إلى المسجد، وقد ورد أن ابن مسعود رأى أقواماً بهذه الصنيعة فقال: هؤلاء الذين عنى الله بقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .

    فالآية -وإن دخل فيها هؤلاء الرجال دخولاً أولياً، وهم أهل الأسواق- لا تمنع دخول غيرهم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما عمرت المساجد لأكثر من أن يذكر الله جل وعلا فيها.

    والغدو والآصال وقتان، ولكن يظهر لي أنه ليس المقصود حقيقة الوقتين، وإنما المقصود جملة الآناء من أطراف الليل والنهار.

    1.   

    ذكر ما يجازى عليه بالإحسان من الأعمال

    قال تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:37-38] .

    أعمال الناس على ثلاثة أقسام:

    عمل أذن الله به وأباحه ولم يأمر به، فهذا يسمى حسناً.

    وعمل أمر الله به وتعبد خلقه به، فهذا يسمى أحسن.

    وعمل نهى الله عنه وحرمه، فهذا يسمى قبيحاً مستهجناً.

    فإذا كان يوم القيامة جوزي العباد على الأحسن، وبهذا تفهم معنى قول الله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [النور:38] ولا يأتين أحد فيقول: إن العبد يعمل عملاً حسناً وعملاً أحسن منه، فيكافئه الله على الأحسن، فهذا من غير أن يشعر نسب إلى الله الظلم، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، ولكن نقول: إن هذا الذي صنفناه على أنه أحسن هو في ذاته مراتب عدة.

    ولا يقتصر فضل الله على المجازاة على أعمالنا، بل قال الله: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38] جاءت منصوبة لأنها معطوفة على الفعل (يجزي)، والفعل (يجزي) جاء منصوباً؛ لأنه مسبوق بلام التعليل.

    قال تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38].

    هذا بيان لفضل الله الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد تحرر معنا كثيراً أننا نقول: إن الله جل وعلا يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله عن مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.

    1.   

    خلاصة ما سبق تفسيره

    وخلاصة هذا الدرس أنه سلف ذكر آيات أحكام تكلمت عن النكاح وأحكام المكاتبة، ثم بين الله جل وعلا بآية فصلت بين القضايا الفقهية والقضايا الإيمانية بأن الله أنزل الله هذا القرآن موعظة ومثلاً.

    ثم تكلم الرب جل وعلا عن نوره الذي ملأ أركان عرشه، ثم قرب هذا المثال للناس بشيء يرونه بين أيديهم وأذكر في هذا أن أبا تمام الشاعر العباسي المسمى حبيب بن أوس الطائي دخل على أحد الخلفاء فمدحه بقوله:

    إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس

    وهؤلاء كانوا من المشاهير في العرب فـأحنف في حلمه، وإياس القاضي في ذكائهـ وعمرو في شجاعته، وحاتم في كرمه، وأي إنسان يظهر في بلاط الأمراء يكون له حساد، فقام أحد الناس يحسد أبا تمام وقد أصبح له مكان عند الخليفة، فقال: إن الأمير أكبر وأشرف ممن ذكرت، تصف أمير المؤمنين بأجلاف العرب! ومن يستطيع أن يقول في مجلس الأمير: إن هؤلاء ليسوا أجلافاً؟!

    فقال أبو تمام في ساعته يدافع عن نفسه:

    لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والبأس

    فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس

    وهذه تدل على ذكائه، ويقولون: إن الطبيب الكندي كان حاضراً، فلما فتشوا في أوراق أبي تمام لم يجدوا فيها هذين البيتين، بمعنى أن أبا تمام ارتجلهما مباشرة ليدافع عن نفسه، فقال: هذا رجل سيأكل الذكاء دماغه. أو كلمة نحوها، فمات أبو تمام صغيراً في الأربعينات، فقد يكون هذا بسبب ذكائه كما يزعم هذا الطبيب، والأصل أنه بقدر الله، وقد يكون هناك أسباب أخرى لم يطلع عليها الطبيب.

    وأياً كان فقد تخلص أبو تمام هنا تخلصاً عظيماً.

    وإنك لتعجب ممن يأتيك أحياناً فيحاول أن يكتب شعراً، وهو لم يقرأ قرآناً ولا حديثاً ولا شعر العرب، فمن أين تأتي الدرر والمعلومات والألفاظ حتى تستطيع أن تحررها إلى أبيات؟ فهذا محال.

    فعدم الأخذ بأسباب الشيء يحول بينك وبين الوصول، والله يقول عن ذي القرنين: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، فمن رام مجداً فلا بد له من أن يعلم أن لكل مجد طرائق وسبلاً توصل إليه، فيأخذ بها متوكلاً على الله جل وعلا ويرجو من الله التوفيق والسداد.

    وأقول: إن الله جل وعلا ذكر المساجد وحرمتها، وبين أن أعظم ما يمكن أن يقال فيها هو ذكر الله تبارك وتعالى، فطر الله قلبي وقلوبكم على توحيده، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

    فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وفي الدرس القادم -بإذن الله تعالى- سنعرج على أعمال الذين كفروا، ثم نذكر ما ذكر الله جل وعلا من دلائل قدرته وجليل صنعته في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43].

    نسأل الله التوفيق والسداد والعون والقبول، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755958083