إسلام ويب

سلسلة شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري [4]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أرسل الله تعالى رسوله مبشراً ونذيراً، فمن أطاعه أفلح ونجا، ومن عصاه خاب وخسر، فهو نذير بين يدي عذاب بشديد، وحساب عسير. وقد حجب الله تعالى الجنة بالمكارة؛ حتى يظهر الصابر على الطاعة، والعامل لوجه الله على كل الأحوال، وحجب النار بالشهوات حتى يظهر المفرط والمتبع لهواه، ومن لا يخشى الله ولا يقوم بعبادته.

    1.   

    شرح حديث أبي موسى: (مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل...)

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    نستأنف بفضل الله جل وعلا وحمده وتوفيقه المجلس الرابع في تعليقنا الموجز على كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، ونبدأ مستعينين بالله جل وعلا علا.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الانتهاء من المعاصي.

    عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قوماً فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، النجاء النجاء، فأطاعه طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم).

    هذا الحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة مثل، والمثل هو: الصفة العجيبة الشأن التي يذكرها البليغ لتفهيم المعنى، وتقريب المفهوم إلى الناس، هذا هو المقصود بالمثل من حيث الجملة، والعرب تقول المثل وتريد به ثلاثة أمور:

    تريد به إصابة المعنى، وحسن التشبيه، والإجازة في اللفظ.

    والمثل ذكره الله جل وعلا في كتابه، وجاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر ما ضربه الله جل وعلا من أمثال في القرآن قوله جل وعلا: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35].

    ومعلوم أن نور الله جل وعلا أعظم من ذلك كله، لكن الله جل وعلا ذكر هذا المثل جرياً على سنن العرب في كلامها أنها تذكر الأمثال وتريد بها أن تقرب الأمر إلى الناس.

    وقد ذكروا أن أبا تمام الشاعر العباسي المعروف وقف بين يدي أحد الأمراء يمدحه، فكان من قول أبي تمام في هذا الممدوح:

    إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس

    فقال بعض الحاضرين: إن الأمير فوق من ذكرت، ما زدت على أن شبهت الأمير بأجلاف العرب، فكان لا بد من أبي تمام أن يرد على ما قاله هذا الرجل، فقال:

    لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس

    فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس

    يريد أبو تمام أنه إذا كان الله جل وعلا قد ضرب مثلاً لنوره من المشكاة والنبراس فمن باب أولى أن يضرب هذا المثل لهذا الأمير بصناديد العرب وأجلافهم على تعبير أول.

    والمقصود بالمثل تقريب المعنى، والنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلا بالهدى، ودين الحق، والنور المبين، والمعجزات الظاهرة، والأدلة الباهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهذا مهم أن تفهمه حتى تربطه بالحديث- قبل أن ينبأ لم يجرب عليه ولم يعرف له للناس غشاً، ولم يجرب عليه أن يتقول على أحد، ولم يجرب عليه أن يطلب مجداً لنفسه أو لآبائه.

    فهذه كلها كانت صفاته عندهم، فكانوا مقرين له بذلك صلى الله عليه وسلم، ثم أيده الله مع هذا الأمر الذي كان فيه أيده الله بالقرآن والمعجزات، إذاً: فما العلاقة ما بين المثل الذي ضربه صلى الله عليه وسلم وحالته هو؟ قال عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل ما بعثني الله به) أي: من الهدى والدين والحق والنور، (كمثل رجل رأى جيشاً بعينيه، ثم أتى قومه فقال: إني النذير العريان)، هذا المثل اختلف الناس في أصله، لكن أظهر الأقوال أن أصله: أن رجلاً من العرب أسره جيش وهم مقبلون على قومه، فلما أسروه سلبوه ثيابه فأضحى عرياناً، ثم استطاع أن يفلت منهم، فلما انفلت منهم دخل على قومه وحذرهم الجيش، وقال لهم: إني رأيت الجيش بعيني.

    فالآن نأخذ الهيئة النبوية مع هيئة هذا النذير، فهذا النذير صدقه قومه؛ لأن الرجل لم يجرب عليه من كذب من قبل، وليس من عادته التعري، وظاهره يدل على صدقه؛ لأنه كان عرياناً، ولا يعلم عنه كذب، ولا يعرف عنه غش، فصدقه الناس ربطاً بين أمرين: بين ماضيه بين واقعه، فماضيه ليس فيه شيء يثرب فيه عليه، وفي نفس الوقت واقعه يدل على صدقه، فقد جاءهم عرياناً، وقد قلنا: إنه لم يجرب عليه من قبل أنه يتعرى.

    قال صلى الله عليه وسلم: (فأطاعته طائفة، وكذبته طائفة)، نعود لهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم على شخصه هو عليه الصلاة والسلام، فهو لما قدم بالنبوءة والرسالة أول الأمر على خديجة ، قالت له رضي الله عنها وأرضاها: (إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتصل الرحم، وتنصر المظلوم) وذكرت أوصافاً فيه صلى الله عليه وسلم، وقومه كانوا يعلمون ذلك منه، فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه: هل جربتم عليه كذباً من قبل؟ قال: لا. قال هرقل : ما كان ليكذب على الله وقد ترك الكذب على الناس، فهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم شبيه جداً بحالته، وفيه اختصار، وهم يسمعون بهذا الرجل النذير العريان، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أنا النذير العريان)، والجيش المقصود به الفتن والنار، وآثار الكفر.

    (فأطاعته طائفة وكذبته طائفة) وانظر: فقد قال في الأولى: فأطاعته، وقال في الثانية: كذبته، وليست الطاعة ضد التكذيب، ولا التكذيب ضد الطاعة، لكن هذه أمور تدل عليها لوازمها، فلما قال: فأطاعته طائفة، ولا طاعة إلا بعد التصديق، ففي المثل هؤلاء صدقوا صاحبهم فأطاعوه فنجوا.

    قال عليه الصلاة والسلام: (النجاء النجاء) يعني: الإسراع الإسراع؛ لأن الأمر لا يحتمل، وهي منصوبة على الإغراء، ويصح فيها التخفيف (النجا النجا) من غير همز، هذه لغويات لكن الذي يعنينا الآن قال: (فأطاعته طائفة)، فلا طاعة إلا بعد التصديق، وأنت لن تطيع أحداً حتى تصدقه، لكنه قال في الثانية صلوات الله وسلامه عليه: وكذبته طائفة، والذي ينجم عن التكذيب هو العصيان؛ لأنهم ما داموا كذبوه ولم يقبلوا قوله فإنهم لن يستمعوا له، فسيعصونه فيقع عليهم الهلاك.

    فوصف من أطاعه بالتصديق دون أن يصرح به؛ لأن من لزوم الطاعة التصديق، ومن ثمراتها النجاة والفوز يوم القيامة، وذكر في الثانية: التكذيب؛ لأن من لوازمها العصيان، ولم يصرح به، ومن ثمراتها عياذ بالله: الخسران المبين، والهلاك في النار.

    فهذا مثل حي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً مشهوداً برسالته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه، وحال اختلاف الناس فيه عليه الصلاة والسلام، والعلم عند الله.

    1.   

    شرح حديث: (حجبت النار بالشهوات...) و(الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)

    قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره).

    وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) ].

    هذان الحديثان المتتابعان يتكلمان عن الجنة والنار، وقد جاءت الألفاظ النبوية بأمرين:

    الأول: حجبت النار بالشهوات.

    الثاني: حجبت الجنة بالمكاره.

    وفي الحديث الثاني: أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وكذلك النار.

    والجنة والنار مخلوقتان لله تبارك وتعالى، لا تبيدان ولا تفنيان، وهما موجدتان الآن، والله تبارك وتعالى جعل الجنة داراً لأوليائه، وجعل النار داراً لعصاته، ولما خلق الجنة بعث إليها جبريل ليراها، فلما رآها قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها الله جل وعلا بالمكاره)؛ لأن الجنة درجة عالية تحتاج إلى صعود، فلما رآها جبريل مرة أخرى قال: (وعزتك ما ظننت أن سيدخلها أحد)؛ لأن بينها وبين الناس مفاوز وهي المكاره.

    والمكاره هي المشاق التي تحصل عند القيام بالعبادة، كالذهاب إلى الصلوات، والصيام، وإنفاق المال، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، والصبر على أقدار الله جل وعلا وقضائه، والكف عن الشهوات، وغض البصر، وحفظ الفرج، فهذه كلها مكاره، لكن الإنسان إذا هتك الحجاب وتخلص من هذه المكاره، واستطاع أن ينتصر عليها لم يكن بينه وبين الجنة شيء، ولهذا قال في الحديث الآخر: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).

    قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: المعنى في الحديث الثاني: أن الجنة سهل الحصول عليها إذا تحقق القصد، وقام العبد بالطاعة، وكذلك النار سهل دخولها إذا اتبع المرء هواه، وفعل المعصية.

    فهذان الحديثان مرتبطان بعضهما ببعض، وقد بينا أن الجنة والنار داران قد خلقهما الله تبارك وتعالى.

    فهذه الجنة كما حفها الله بالمكاره فقد حف الله جل وعلا النار بالشهوات، وفي رواية البخاري : حجبت، وفي رواية مسلم : حفت، والمعنى واحد متقارب.

    والشهوات المقصود بها هنا: الشهوات المحرمات، وأما الشهوات المباحة فلا تكن بينك وبين النار.

    والمقصود من الحديث الثاني إضافة إلى ما بينه ابن الجوزي أن نقول: ألا يحتقر الإنسان أي عمل يصنعه، وألا يحتقر أي معصية يفعلها، فقد تكون تلك المعصية سبباً في هلاكك، وقد تكون تلك الطاعة سبباً في نجاتك، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله أخفى اثنتين: أخفى الله أولياءه في عباده، فلا تدري من تلقاه أيهم ولي لله، وأخفى رضاه في طاعته، فلا تدري أي طاعة أطعت الله بها كانت سبباً في رضوان الله تبارك وتعالى عليك).

    والمقصود من الحديثين: ألا يزدري الإنسان أي طاعة ولا يحتقرها، وأن يسابق في الخيرات وينافس بالطاعات، ويعلم أن الجنة درجة عالية تحتاج إلى صعود، ففي ذلك مشاق وعناء، وسيأتي في أحاديث أخر وصف هذه الجنة، أدخلنا الله وإياكم إياها.

    1.   

    شرح حديث: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه) ].

    هذا من تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فالله جل وعلا خلق الخلق متفاضلين فيما أعطاهم من النعم، وفيما صرفه عنهم من النقم، وبما جبلهم عليه من الخلق والخلقة، فالإنسان بين أمرين: بين أمر ديني وأمر دنيوي، ففي أمور الدين والطاعات ننظر إلى من هو أعلى منا؛ حتى نحتقر أعمالنا وننافسهم في الطاعات، قال الله جل وعلا: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

    وأما فيما أفاء الله علينا من الدنيا فإن الإنسان إذا نظر إلى أعلى دخل عليه الشيطان فجعله يزدري نعمة الله عليه، فحري به أن ينظر إلى من هو أسفل منه، وليس المقصود بأسفل أن من كان مبتلىً فهو أسفل لا، وإنما المقصود أقل فيما هو ظاهر من فضل الله الدنيوي عليه، والفضل الدنيوي لا ينجم عنه أجر ولا عقاب؛ فإن الله جل وعلا يعطي الدين لمن يحب، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يتعلق بالفقر والغنى، ولا بالصحة والمرض أي ثواب ولا عقاب، فلا يدخل أحد الجنة لأنه مجرد فقير، ولا يدخل أحد النار لأنه مجرد غني، ولا يدخل أحد النار لأنه معافىً، ولا يدخل الجنة أحد لأنه مبتلىً، لكن العبرة بتعاملنا مع الغنى والفقر، وتعاملنا مع الصحة والمرض، وتعاملنا مع العافية والابتلاء، فهذا هو الذي ينجم عنه العمل، وينجم عن العمل إما الثواب إن كان في الطاعات، وإما العقاب إن كان في المعاصي. هذا الذي يتحرر من هذا الحديث عموماً.

    فالإنسان متى ما سلم من الكبر كان حرياً به ألا يزدري نعمة الله جل وعلا عليه، ومن أعظم المهلكات -عياذاً بالله- أن يقع في الناس أو في الفرد أو في المرء كبر في أمور الدنيا؛ لأنه لا يمكن أن يقع في أمور الدين؛ لأن هذا لا يسمى ديناً أصلاً، لكن قد يقع في أمور الدنيا كبر ويشعر الإنسان بالعلو، فإذا شعر الإنسان بعلوه نجم عن ذلك تصرفات إما قولية أو فعلية، فتكون عياذاً بالله من أعظم المهلكات، والحجاج بن يوسف هذا أمير عرف عنه البطش الشديد، وكان من أذكياء الخلق، وأشدهم علماً باللغة، يقول عن غيره -رغم علوه-: أربعة كانوا بالكوفة لو أدركتهم لضربت أعناقهم -وذلك قبل أن يصل هو إلى الكوفة- قيل: من هم أيها الأمير؟! وأنا سأذكر نماذج كفرية، فالإنسان إذا علم هذه النماذج فلينظر إلى وقعها على قلبه؛ فإن رأيت في نفسك نكراناً لها فهذا والحمد لله فضل من الله، وإن رأيت في نفسك حباً أن تكون واحداً منهم فينبغي على المرء أن يصلح قلبه، قال الحجاج : صعد أحدهم على منبر فخطب خطبة أعجبت الناس، فقد كان بليغاً، فلما نزل من المنبر قال له أحد الناس: كثر الله من أمثالك، فقال هذا المتكبر عياذاً بالله: لقد كلفت ربك شططاً!

    فهذا كفر، لكن أنت لا تتوقع أن هذا الرجل قال هذه الكلمة بمجرد أنه صدم بالسؤال، لكن هذه سرائر، فهذا عتو أصلاً في القلب، فلما جاء الموقف الذي يستخرج منه باللسان قال هذه الكلمة.

    وأحدهم ضاع عليه فرس فقال: قسماً بالله! لئن لم يرد الله إلي فرسي لأتركن الصلاة والصوم، فما هي إلا برهة فرجعت إليه فرسه، فقال عياذ بالله: لقد علم ربي أن يميني كانت حقاً، وهذا أكفر من الأول عياذاً بالله، ولا أريد أن أذكر الإثنين؛ فأخشى على نفسي وعليكم من قسوة القلب، لكن المقصود أن هذين الرجلين كمثال، فهذه أشياء سرائر تقع في القلب سراح -عياذ بالله- فيشعر الإنسان فيها أنه كبر.

    ونبيكم عليه الصلاة والسلام كان مرة على قصعة من طعام، والناس ملتفون حولها، فكأنهم كثروا، فغير جلسته وجلس جلسةً أخرى، فكأن أحد الحاضرين تعجب منها، أي: كأنه اشمأز منها، وهو أحد الأعراب الذي لم يكن قد وصل الإيمان بعد إلى قلبه وصولاً حقيقياً، فنظر نظرة يستنكر فيها هذه الجلسة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد الله ورسوله).

    وسيمر عليكم في البخاري في حديث الشفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يأكل الذراع -فقد كانت تعجبه- أخذها ينهسها نهساً، فهذا النهس ليس أكل الملوك، ولا أكل المترفين، وإنما أكل شخص جائع، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أدباً، لكنه أراد بذلك أن يبين فقره ومسكنته وأنه عبد للرب تبارك وتعالى، فلا يصنع صنيع المترفين الذين ينظرون إلى ما حولهم نظرة استغناء.

    حمد الله وشكره على جميع النعم

    والمقصود من الحديث: (فلينظر إلى ما هو أسفل منه) أن الإنسان يحمد الله جل وعلا على نعمة العافية، وأي بلاء أنت فيه ثق تماماً أنه يوجد من هو أعظم بلاء منك، لكن عليك أن تفقه أن الإنسان متى سلم دينه فليس في بلاء قط، ومتى ابتلي في دينه فهو لم يرَ العافية أبداً، فالبلاء الحق أن يبتلى الإنسان في دينه وفي قلبه، وأما البلاء في الأبدان فإنه ينتصر ويتغلب عليه بالصبر واحتساب الأجر من الله جل وعلا يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة لو أنهم غلبوا بكذا وكذا)؛ لما يرون من إكرام الله جل وعلا لأهل البلاء، والمقصود أهل البلاء الذين عوفوا.

    فالله جل وعلا لما خلق أبانا آدم، وأخرج من ظهره ذريته، رأى آدم في أبنائه التفاوت: فمنهم المعافى، ومنهم المبتلى، فقال: أي رب! لو سويت بين عبادك، فقال الله له: يا آدم! إني أحب أن أشكر.

    فليتفكر كل واحد منا فيما أفاء الله جل وعلا عليه من النعم: من نعمة العافية، من نعمة المال، من نعمة الستر، من نعمة القدرة على الغدو والرواح، من نعمة القدرة على الذكر، فهل أدى شكر هذه النعم أو لم يؤدها، والله! إن المرء ليستحي من الله إذا آوى إلى فراشه وهو يخطو على قدميه، ويرى العافية في نفسه، ويرى العافية في أهله، ويرى العافية في أبنائه، ويرى العافية في بناته، يرى العافية في نظرة الناس إليه، ويقدر يصنع أي شيء، ويخرج بأي ساعة من الليل، فيقود سيارته ويشتري طعاماً، ويزور صديقاً، ويؤانس أخاً، ويتنقل في بيته كيفما يشاء، ثم يهم أن يضطجع، فليسأل نفسه: أين هو من شكر الله تبارك وتعالى على هذه النعم؟ على الأقل إن كنا عاجزين ومقصرين في شكرها عبادياً وعمل جوارح، فلا أقل من أن يشكر الله جل وعلا اعتقاداً بالقلب، فليقع في قلبك أن الله جل وعلا قادر على أن يسلبك هذه النعمة، وأن الله جل وعلا قادر على أن يأخذها منك، وأن الله جل وعلا قادر على أن يمنعك مما تستطيع أن تفعله.

    فإذا وقع هذا في القلب كان الإنسان قد وصل إلى طريق عظيم في شكر الله جل وعلا، وقد ورد أن الله جل وعلا قال لداود : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13] قال: أي رب! ونعمة الشكر منك، فأوحى الله جل وعلا إليه: الآن عرفتني يا داود!

    واعلم أن الله جل وعلا غني أصلاً عن طاعتنا كلها، ألا ترى إلى هذه الضفادع فنقيقها تسبيح لله تبارك وتعالى؛ فلهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم قتلها، والإنسان يمر على مستنقع ماء فيسمعها ويتأذى من صوتها، لكن من علمه الله القرآن والسنة إذا سمع نقيقها تذكر تقصيره في حق الله جل وعلا وشكره، والتسبيح بحمده، وذكر آلائه، وتعريف الناس بربهم تبارك وتعالى.

    والمقصود من هذا كله: ألا ينظر الإنسان إلى الخلق نظرة ازدراء، وأن يحمد الله جل وعلا على نعمه وفضله، والله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، علمني الله وإياكم، وأدبنا بأدبه تبارك وتعالى.

    1.   

    شرح حديث ابن عباس: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عليه سيئة واحدة) ].

    هذا الحديث لا يحسم شرحه إلا أن يكون مضموماً إلى أحاديث أخر، وعلى هذا سأفصل تقعيداً في معنى الحديث من الناحية الإجمالية:

    قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) هذا إجمال، (ثم بين ذلك) هذا تفصيل لذلك الإجمال، وسنشرع في هذا التفصيل بناءً على ما حرره أهل العلم رحمهم الله.

    فإذا وقع من الإنسان هم بالحسنة فلم يعملها تكتب له حسنة واحدة. هذه هي الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: أن يهم بالحسنة وصاحَبَها عملٌ، فتكتب عشر حسنات، وتضاعف إلى سبعمائة، أو تضاعف إلى أضعاف كثيرة، هذا في باب الحسنات.

    إذاً: باب الحسنات فيه قسمان:

    القسم الأول: أن يهم بحسنة فلا يفعلها، فله أجر الهم والعزم على الحسنة، لكن لا تصل إلى عشر؛ لأنه لم يعمل شيئاً.

    القسم الثاني: أن يعمل شيئاً فتصير الحسنة بعشر حسنات، وهي قابلة للمضاعفة إلى سبعمائة ضعف، ثم إلى أضعاف كثيرة.

    نأتي الآن للسيئة عياذاً بالله، وقلت: هذا الحديث لا بد أن يفهم مع أحاديث أخر:

    الحالة الأولى: أن يهم بالسيئة ويعزم عليها ثم لا يفعلها، فننظر ما السبب الذي من أجله لم يفعلها، فإن كان تركها خوفاً من الله فلا تكتب عليه سيئة، وإنما تكتب له حسنة، وقد جاء في الحديث القدسي: (من جرائي) يعني: بسببي، هذه الحالة الأولى.

    الحالة الثانية: همّ بها وعزم عليها، ومنعه من أن يفعلها مراقبة الناس له، أو الرياء، أو خوفاً من الناس، فهذا والعياذ بالله الصواب: أنه تكتب عليه سيئة، لكنه لا تكتب عليه سيئة عمل، وإنما سيئة عزم وهم؛ لأنه ترك العمل من أجل الناس لا من أجل الله، فهذا عمل محرم.

    الحالة الثالثة: أن يهم بالسيئة ويعزم عليها، لكن لا يمنعه منها الخوف من الله، ولا مراقبة الناس، وإنما منعه منها أنه لم يتمكن من فعلها بصارفٍ اضطراري، فهذا تكتب عليه سيئة، ودليله حديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما)، فقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المقتول قال: (لقد كان حريصاً على قتل صاحبه)، فهذا يأثم ويؤاخذ؛ لأن الذي منعه شيء غير اختياري منه.

    الحالة الرابعة: أن يهم بالسيئة ثم يغتر عنها، وينفسخ من فعلها، فإذا انفسخ من فعلها انقسم إلى حالين:

    الحالة الأولى: أن ينساها تماماً، فتصبح الأولى كأنها خاطرة، فهذا لا له ولا عليه.

    والحالة الثانية: أن يبقى هذا الهم بالسيئة والعزم عليها مصاحباً له مخالطاً له، يرتقب فعلها بين الحين الآخر، فجمهور العلماء: على أنه يؤاخذ بهذا العزم، وهو الذي نختاره إن شاء الله وهو الصحيح. فهذا التقسيم كله يتضح إذا ضممنا هذا الحديث إلى قرائنه من الأحاديث الأخر المذكورة في الباب الثاني.

    ويتفرع من هذه المسألة مسائل أخر، مثل قضية: هل تضاعف السيئة؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنها لا تضاعف، ولا حتى في مكة، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنها تضاعف في مكة؛ لأن القواطع في القرآن قائمة على أن السيئة لا تضاعف، قال الله جل وعلا: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160].

    لكن نقول من باب العلم -والعلم عند الله-: إنها قد تعظم لشرف المكان، لكنها لا تتعدد، بل تبقى سيئة واحدة، لكنها بتعبير علمي سيئة مغلظة وسيئة عظيمة؛ لشرف المكان، كالمعصية في رمضان، والمعصية داخل الحرم، فلا نستطيع أن نعددها؛ لأن الله يقول: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، لكن كذلك نقول: إنها تعظم لشرف المكان، أو شرف الزمان.

    وينجم عن هذا كذلك مسألة أخرى وهي: تفاضل الأعمال، فهل هناك سبب للتفاضل؟ الأعمال قد تفضل إما نية، وإما زماناً، وإما مكاناً، وإما شخصاً، فالإنسان قد تكون نيته صادقة والعمل واحد مع شخص آخر، لكن ذلك نيته أقل، فيفضل هذا.

    وزماناً كليالي العشر في رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، ورمضان من حيث الجملة، وليلة القدر، فالقيام في ليلة القدر ليس كالقيام في غيرها، فهذه فضيلة زمان.

    والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، ومعلوم أن المسجد كله هو مسجده، فذكْر هذا الكلام يدل على أن هناك فضيلة في هذا المكان، وإن لم يأت الشرع بتحديدها.

    وكذلك فضل مكة والمدينة وأمثال ذلك، والمسجد إذا ما قورن بغيره كالسوق، فهي بيوت الله، فهذا فضل المكان.

    وأما الشخص: فمثل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجري عليه ما يجري على غيره، والله جل وعلا يقول له: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75]، كما يقع هذا في حقه في السيئات يقع في حقه في الحسنات، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32]، فهذا لارتباطات شخصية أعطاها الله جل وعلا لبعض خلقه.

    هذا ما تيسر إيراده، وحرصنا في هذا اللقاء في هذا المجلس أن يكون الدرس علمياً.

    ختاماً: أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، وأن تكون الغاية من سماع هذه الأحاديث النبوية أن تترقق القلوب، وأن تكون باعثاً للإنسان على الطاعة والقرب من الله جل وعلا، والموفق الله، وهو المعين، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    سهولة دخول الجنة والنار

    السؤال: قلتم: إن دخول الجنة سهل، فما معنى ذلك؟

    الجواب: قلنا: دخول الجنة سهل إذا تحقق القصد وعمل بالطاعة، ودخول النار عياذاً بالله سهل إذا اتبع المرء هواه وفعل المعصية.

    التدرج في طلب العلم

    السؤال: هل يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (القصد القصد تبلغوا) التدرج في العلم؟

    الجواب: نعم. هذا استنباط جيد.

    تقديم الدروس العلمية على إجابة دعوة العرس عند التزاحم

    السؤال: ما هو الأولى: إجابة الدعوة، أو الدروس العلمية إذا توافقت في يوم واحد؟

    الجواب: الزواج قائم بك وبدونك إذا لم يكن قريباً ولصيقاً لك كأخيك أو ابنك؛ لأنه في الغالب لا يضر الناس القائمين على الأفراح أن يتخلف واحد أو اثنان أو ثلاثة، لكن يضرك أنت أن تفقد العلم، أو أن تغيب عن العلم، خاصة إذا كان في شيء يفوت.

    حكم الشرب قائماً

    السؤال: هل ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب قائماً؟

    الجواب: نعم، وهناك بيتان من الشعر:

    إذا ما شربت فاقعد تفز بسنة صفوة أهل الحجاز

    وقد صححوا شربه قائماً وإنما ذاك لبيان الجواز

    إذا جئت تشرب فاقعد تفز. يعني: بعين السنة.

    بسنة صفوة أهل الحجاز صلى الله عليه وسلم.

    وقد صححوا. أي: الأحاديث الواردة في شربه قائماً، وإنما ذاك بيان الجواز.

    نصيحة لمن يزعج الناس في المساجد بالجوالات وغيرها

    السؤال: لقد أزعجنا الذين حولنا بكثرة كلامهم في الجوال، فأرجو التنبيه لهم؟

    الجواب: لا ينبغي لأحد ذلك، فهذا بيت من بيوت الله، والأصل أن يذكر فيه الله جل وعلا، والدروس العلمية من ذكر الله، فلا يحرم الرد على الجوال ولا المكالمة ابتداءً في المسجد، ومن كان لديه شيء ضروري يخرج من المسجد وينهي أمره، ثم يعود.

    وقد أدركنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه في المدينة، فكان يصلي الفجر في الصف الأول، وله دوام في الجامعة، وكانت بعض حلقات العلم تقام في المسجد النبوي بعد أذكار الصلاة، والشيخ لم يكن له درس بعد الفجر؛ لأن وراءه دواماً في الجامعة، فكان والله! يمر على الحلقات واحدة واحدة فيجلس في كل حلقة قليلاً ثم يمضي؛ خوفاً من أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فأعرض فأعرض الله عنه)، حتى يصل إلى سيارته، ثم يذهب إلى بيته، ثم إلى دوامه في الجامعة.

    ومثل هذه الأعمال التي يتبع فيها المرء السنة يكتب بها للعبد القبول في الأرض، وقد نعلم من عرفناهم أو كانوا جيراناً، أو صحبناهم، أو سمعنا عنهم، كان عندهم في تعظيم السنة أمور جليلة جداً، ولهذا والله! إن رؤيتهم يعني: تؤثر في المرء.

    فالمقصود أن هؤلاء الناس يؤثرون فينا بما نعلمه عنهم من اتباعهم للسنة، وقيامهم بالواجب على أنفسهم ومع غيرهم.

    وصلى الله على محمد وعلى آله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755828580