إسلام ويب

سلسلة شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحة والفراغ من النعم التي يغبن فيها كثير من الناس، فكم من إنسان أعطي صحة وقوة وعافية فلا يستغل ذلك في طاعة الله تعالى، وكم من إنسان عنده من الفراغ والوقت الشيء الكثير فلا يجعل ذلك سبيلاً للتقرب إلى الله تعالى، وهذا أمر مشاهد وفي غاية الوضوح، والله المستعان.

    1.   

    شرح حديث: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس....)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

    فهذا تعليق موجز على أحاديث من كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، وقبل الشروع في هذا التعليق وسؤال الله جل وعلا التوفيق والقبول، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح من نطق لغة الضاد، وحديثه صلى الله عليه وسلم بين ظاهر؛ ولهذا نسأل الله الأدب في التعليق على كلامه صلوات الله وسلامه عليه، وما سنقوله إنما هو محاولة لفهم المراد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقديس والبعد عن الكذب وأنه الصدق لا محالة هو قول رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأما شرح من يشرح أحاديثه عليه الصلاة والسلام فهو عرضة للخطأ وعرضة للصواب، والموفق من سدده الله جل وعلا.

    لكن نبرأ إلى الله أن نتعمد أن نقول على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أن نحاول أن نفهم شيئاً يغلب على الظن أنه لم يقصده صلوات الله وسلامه عليه، اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    سيقرأ أحد إخواننا الحديث ثم نعقب عليه حسب ما يقتضيه مقام الحديث، محاولين أن نستوعب أحاديث الباب كله، فنسأل الله التوفيق.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب الرقاق.

    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) ].

    هذا أول أحاديث الباب، (ونعمتان) مفردهما نعمة، وهي بالكسر وصف من حال مخصوص، وبالفتح حال عامة تليق بالأمم والدول والشعوب والجماعات، وأما إذا قيل: (نعمة) فإنما يراد بها حال خاصة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الصحة)، وقال: (الفراغ) أي: لكل جزئية منهما، وأما إذا فتحت وقلت: (نَعمة) فالمراد الإطلاق العام على الأمم والشعوب، قال الله جل وعلا عن بني إسرائيل: وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [الدخان:27]، وقال جل وعلا عن المجتمع المكي أيام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل:11] أي: أهل الترف العام.

    وأما بالكسر فهي حال مخصوصة من رحمة الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، (نعمتان) خبر مقدم؛ للفت الانتباه لغرض بلاغي، والأصل (الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، (والصحة) مبتدأ، وما بعدها معطوف عليها، و(نعمتان) هي الخبر، هذا من حيث الصناعة التأصيلية النحوية أولاً.

    أما حيث معنى الحديث: فإن الغبن أصلاً يختار ويقال في قضايا البيع، وهذا النبي إنما بعث ليرشد الناس وينقذهم، والبائع التاجر له رأس مال يريد من ورائه ربحاً شريطة أن يسلم له رأس ماله، فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمقتضى ما يعرفونه في حياتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، وكيف يغبن فيهما كثير من الناس؟

    والجواب: أن هناك صحة وهناك فراغاً، فبعض من الناس لديه متسع من الوقت لكنه يعاني سقماً، فلا يستفيد ولا يستطيع أن يقضي فراغه بما ينفعه؛ لانشغاله بمرضه، وآخرون لديهم صحة لكنهم مشغولون بالكد في سبيل تحصيل الرزق أو شيء آخر.

    ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لـجليبيب لما زوجه: (اللهم لا تجعل عيشهما كداً، وصب عليهما الخير صباً)؛ حتى لا يشتغلا بالكد عن الطاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر هنا أنه قد يوجد في عبد من الترف وإرث الأموال والنعمة التي أفاءها الله عليه ما هو مستغن لا يحتاج إلى الكد والسعي، وفي نفس الوقت أعطاه الله جل وعلا عافيةً وصحةً في بدنه، فإذا اجتمعت هاتان النعمتان في عبد: (الصحة والفراغ) ولم تجعلاه في طاعة الله جل وعلا، ولم ينتهزهما في التعامل مع ربه جل وعلا بالإيمان والعمل الصالح، وقول الله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7] فهذا الرجل مغبون، أي: أنه خاسر لم يفقه كيف يستثمر تلك النعمتين التي وهبهما الله جل وعلا إياه، ومن استثمرهما لا يقال له: مغبون، وإنما يغبط على أنه استثمر تلك النعم في طاعة الله جل وعلا.

    هذا هو المقصود الأسمى من الحديث تقريباً، وجاز عليه أن يقال: إن الله جل وعلا يهب نعماً ويضع صوارف، ووضع موعداً، والناس في هذا يكدحون ويمضون ويغدون ويروحون لابد لهم من ذلك، فمن جعل همه الأكبر السعي في طاعة الله، وما أفاء الله عليه من النعم، وما دفع الله عنه من الصوارف، جعله عوناً على الطاعة، فهذا الذي فقه الشرع وفقه لقاء الله تبارك وتعالى.

    ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، فعبر بكلمة (كثير) لأن القلة من الناس من يفقه هذا الأمر، ويستثمر هاتين النعمتين في طاعة الرب جل وعلا، وقد جرت سنة الله في خلقه أن الأصفياء الفضلاء قليل، قال الله جل وعلا: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود:41]، وقال قبلها: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، وقال تبارك وتعالى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24] كما في سورة (ص).

    والمقصود أن هذه الصفوة هي التي قال الله فيها: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، ثم أخبر أنهم قلة إذا ما قيسوا بغيرهم، هذا هو المقصود الأسمى من الحديث.

    شاهد على الغبن والظلم

    والحديث كذلك يمكن أن يعرج فيه على قضية الغبن، والغبن شعور في القلب، وأصله من الطي، وكلمة (غبن) هي الكلمة التي يستخدمها العامة اليوم فيقولون: خبن، في كلمة الثياب، إذا طوي الثوب يسمونه خبناً، وهي نفسها مرادفة لـ(غبن)، وهي شيء في الصدر لا يستطيع الإنسان أن يبوح به خاصة إذا غلب وقهر، وأهل الفضل والعلم إذا ذكروا الغبن ذكروا ما جرى لـسيبويه أبي بشر إمام النحاة رحمة الله تعالى عليه، وأنه خرج من بلده فاختصم معه الكسائي والفراء -وهما إمامان في النحو- في مسألة عرفت بالمسألة الزنبورية، فسأل الفراء قبل مقدم الكسائي سيبويه عنها وهي: كنت أظن أن العقرب أشد لسعاً من الزنبور فإذا هو هل هي بالرفع؟ أو إياها بالنصب؟ فقال سيبويه بالرفع، وقال: إن العرب لا تعرف هذا، أي بالنصب، ولم يقبل أولاً أن يجادل الفراء وقال: أنتظر حتى يأتي رئيس بلدكم، يقصد الكسائي ، فلما قدم الكسائي جرت في تلك الحالة أو الحادثة أمور سياسية نجم عنها أنهم انتصروا للفراء والكسائي على سيبويه ، فخرج يتوارى من الناس من سوء ما لحق به من الظلم والغبن، ثم خرج إلى بلدة فيها أحد طلابه ومات هناك وهو صغير السن رحمة الله تعالى عليه، وقد بلغ من العمر آنذاك أربعة وثلاثين عاماً.

    وقد ذكرنا هذا لأننا نتكلم إلى طلبة علم، ونجم هذا من الكسائي والفراء غفر الله لهما على علو كعب الكسائي في القراءات وعلو كعب الفراء في العلم، إلا أنه نجم من التحاسد في الدنيا، وقد صاغ حازم القرطجني رحمة الله تعالى عليه هذه المسألة:

    لكنها أعيت على الأفهام مسألة

    إلى آخر القصيدة، وقال في آخرها:

    ولا يخلو امرؤ من حاسد أظم

    ثم ذكر قضية انتصار الكسائي والفراء ظلماً على سيبويه رحمة الله تعالى عليه. فقال:

    والغبن في العلم أشجى محنة علمت وأبرح الناس شجواً عالم ظلما

    والقصة طويلة لعلك ترجع إليها في (مغني اللبيب) لـابن هشام ، أو في شرح الشنقيطي على كتاب القيرواني في فقه مالك أو في غيرها من المواطن التي ذكرت هذا الخبر، والمقصود منه: أن الإنسان ينبغي عليه أن يكون سليم الصدر في التعامل مع أقرانه، هذا ما تيسر ذكره على هذا الحديث المبارك، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) ].

    إن عظمة نبينا صلى الله عليه وسلم متعددة، لكن من عظمته علمه بأصحابه، وفراسته فيهم، وتوخيه بالخطاب الذي يوجهه لكل صحابي، فلما غلب على ظنه أن معاوية سيملك قال له: (يا معاوية إذا ملكت فاعدل)، ولما رأى ضعف أبي ذر قال له: (لا تحكم بين اثنين)، ولما جاءه رجل كأنه لاحظ فيه الحدة، قال له: (لا تغضب).

    وابن عمر رضي الله تعالى عنهما من أكثر الصحابة زهداً وتقوىً، وقد عمر حتى بلغ الثمانين، ومات في عهد بني أمية أيام ولاية الحجاج لـعبد الملك بن مروان ، وهذا الصحابي منذ أن نشأ كان تقياً زاهداً ورعاً في الدنيا، وهنا يخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبيه، والمنكب: مجمع الكتف مع العضد، فقال له صلى الله عليه وسلم لأنه تفرس فيه أنه اختط لنفسه طريق الزهد، فقال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

    فقه البخاري في تراجمه

    وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا الباب بقوله: باب: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، ترجم له بنفس المتن، وقصد البخاري ، بترجمة الباب بنفس المتن أن يشير إلى ما وقع عند بعض الحفاظ من أنهم رأوا أن هذا الحديث موقوف على ابن عمر ، فلما جعل متن الحديث هو عنوان الباب أراد أن يشير إلى ثبوت أن الحديث مرفوع عنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومعلوم أن البخاري رحمة الله تعالى عليه كان فقيهاً جداً، وقد ظهر للناس في زمانه وبعده فقه البخاري في تراجم الأبواب وكيف يصنعها، فدلت على دقة فقهه، كما دلت على دقة حفظه، وهذا نظيره في الأدب صنيع أبي تمام في ديوان الحماسة فديوان الحماسة، ديوان جمع فيه أبو تمام الشعر، واختار فيه مقطوعات شعرية ليست من شعره، فهو ليس ديوانه، وإنما اختياره.

    فأعجب الناس باختيارات أبي تمام ، وكذلك البخاري هنا في قضية ترجمته للأبواب فإنها تدل على دقة فقهه رحمه الله تعالى، وأما الحديث فهو وصية نبوية تدعو إلى عدم الركون إلى الدنيا، وحتى لا يركنن ابن آدم إلى الدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته هذه لـابن عمر : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) (أو) هذه مشكلة: هل هي للشك، أو للتخيير، أو للإضراب؟

    اتفقت كلمة الشراح على أنها ليست للشك، وهي تقع للشك نحوياً، لكن اتفقت كلمة الشراح على أنها هنا ليست للشك، فبقي حالان: إما للتخيير وإما للإضراب، فإن قلنا للتخيير فيصبح المعنى أن النبي يقول لـابن عمر فليكن حالك في الدنيا كحال الغريب أو كحال عابر السبيل أياً كان منهما، فكل منهما لا يركن للبلد الذي هو فيه، لكننا نقول: إن الاختيار أنها تكون للإضراب ومعنى الإضراب، الانتقال، فيصبح المعنى أنه قال له أولاً: (كن في الدنيا كأنك غريب)، ثم أراد أن يرتفع به منزلة أعلى في الزهد فقال له: (أو عابر سبيل).

    الفرق بين الغريب وعابر السبيل

    والفرق بين الغريب وعابر السبيل أن كليهما ليسا من أهل الوطن، لكن الغريب يقيم مدة غير قصيرة، فهو غريب عن البلدة، لكنه مقيم فيها شهوراً أو أعواماً.

    وأما عابر السبيل فإنه عابر ماض ليس له بتلك البلدة حاجة، ولهذا نرجح أن تكون (أو) هنا للإضراب، والمقصود منها الانتقال في حالة ابن عمر من كونه غريباً إلى عابر للسبيل، والسبيل: الطريق، وهي تؤنث وتذكر، قال الله جل وعلا: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76].

    والمقصود من هذا: وصيته صلى الله عليه وسلم أن الدنيا معبر، قال أحد الصالحين في وصيته الشهيرة لابنه:

    ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجد لما خلقت

    فالدنيا مزرعة للآخرة، وهذه وصية نبوية من نبي عليه الصلاة والسلام من أعلم الخلق بالله، ومن أعلم الخلق بما ينفع الناس في الدنيا، (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فإذا كان الإنسان يحيا في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل فلا يزاحم الناس في دنياهم.

    فإن تجتنبها تجتنبها بعزة وإن تجتذبها نازعتك كلابها

    ثم قال ابن عمر رضي الله عنه استقاءً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالقول الثاني قول ابن عمر وليس قول النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)، ومحال جداً أن يأتي إنسان بفهم صوفي للحديث، فيظن أن الإسلام يجعلنا نركن في بيوتنا إذا أصبحنا ننتظر الموت، وإذا أمسينا ننتظر الموت صباحاً، محال أن يدعونا الإسلام إلى هذا، لكن المقصود: أن الإنسان يدفع نفسه في طاعة الله جل وعلا كمن يترقب الموت، وفي نفس الوقت الإنسان إذا كان تاجراً وأصبح وأخذ بوصية ابن عمر : (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء) فإن ذلك يمنعه من الغش، والإنسان إذا كان شاباً فتياً فإذا علمه أنه إذا أمسى أو أصبح قد يلقى الله فإن ذلك يمنعه من أن يزيغ بصره ميمنة وميسرة، وإن كان حاكماً منعه خوفه من لقاء الله وقرب الأجل منعه من أن يظلم أو أن يجور أو يفتح على الناس باب شر.

    وعلى هذا يمكن أن تقيس كل شيء، هذا هو المعنى المقصود من قول ابن عمر : (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)، وهو مستقىً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

    وقد قيل: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام قيل له: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان: دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، ثم قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (وخذ من صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك)؛ لأن الصحة لا يعقبها إذا زالت إلا السقم، والفراغ لا يعقبه إذا زال إلا الشغل، ويعقب الاثنان الهرم، ويعقب بعد ذلك كله الموت.

    فالدنيا مطية إلى الآخرة لا محالة، وهذه وصية نبوية في عدم الركون إلى الدنيا، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث ابن مسعود وأنس في الأمل والأجل

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن عبد الله رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج عمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا).

    عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذا جاءه الخط الأقرب) ].

    هذا الحديثان كما سمعتم وذكرناهما في مكان واحد لتقارب معنييهما، وبيان ذلك كالتالي:

    هناك أمل، وهناك تمن، وهناك ترجي، وهنا أجل وهنا عرض، ونفصل كالتالي:

    الترجي يكون فيما يغلب على الظن وقوعه، والحرف المناسب له (لعل)، قال الله جل وعلا على لسان كليمه موسى: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الكهف:60] فتوافر أسباب بلوغ موسى لمجمع البحرين موجودة؛ ولهذا سمي هذا ترجي.

    وأما التمني فيكون أقرب إلى الخيال، وهو في الشيء الذي قد فات وانقضى ولا سبيل إلى ارتجاعه، أو في الشيء الذي يستحيل أن يقع مما قدر الله أنه لا يكون، والحرف المستخدم له (ليت)، ومنه قول العرب:

    ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

    فقطعاً إن الشباب لا يعود بعد زواله وانتهائه وذهابه.

    وأما الأمل: فيمكن أن تقول: إنه بينهما، والمقصود به: حب زيادة الغنى والعمر.

    وأما الأجل: فهو الوقت الذي كتبه الله جل وعلا على كل أحد بعينه أن تفارق روحه جسده. فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يرشد الناس كيف يتعاملون مع الآمال والأماني والترجي ومع آجالهم بضرب الأمثال، وضرب الأمثال سنة في القرآن وسنة في الحديث، فهو عليه الصلاة والسلام يملك عاطفة ملحة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فلما ذكر مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم شبك بين أصابعه، ولما ذكر اليتيم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه السبابة والوسطى)، فكل ذلك تقريب للناس.

    وهو الآن في محفل بين أصحابه فوضع نقطة على أنها بني آدم، وأحاط هذه النقطة بمربع على أنه الأجل، والمربع محيط ببني آدم، والخطوط الأربعة محيطة ببني آدم، أي: أنه لا مفر من الأجل، والأعراض العرض بسكون الراء ضد الطول، وتأتي عرض مقابل النقدين، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94]، لكن المقصود هنا الآفات والحوادث التي تمر على الفتى.

    فمن أصابته تلك الآفات والحوادث ولم تهلكه ونجا منها فإن ذلك لا يعني أبداً أنه سينجو من الموت أو ينجو من غيرها، وحتى لو نجا من غيرها فإن الموت واقع لا محالة، لكن الأمل جعله النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً عن ذلك المربع، فهو خارج من حيث الصورة في ذهن بني آدم، وهو في الحقيقة ليس بخارج، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذ جاءه الخط الأقرب)، وقد اتفقت كلمة العلماء على أن الخط الأقرب هو خط الأجل.

    والإنسان في هذه الدنيا يسير فتارة تعرض له أسقام أو حوادث أو كوارث فينجو ما دام في العمر بقية، وحتى لو نجا ولا أعني ذلك النجاة من الموت، لكن طول الأمل يكبر مع بني آدم كما سيأتي في الحديث، وقديماً يقولون: لولا الأمل لما عاش ابن آدم.

    قال الطغرائي في لاميته:

    أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

    وهذه اللامية تسمى لامية العجم، ويقابلها لامية العرب للشنغري ، ومطلعها:

    أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل

    وكان عمر يأمر الناس أن يحفظوا لامية العرب، ولم يأمرهم أن يحفظوا لامية العجم؛ لأن الطغرائي متأخر عن عمر بأزمنة، وأما الشنغري فجاهلي، فـعمر بلغه شعر الشنغري وتأديبه للناس في لاميته.

    والمقصود من هذا أن الإنسان يؤدب نفسه بأخبار الأولين، والغاية من هذا أن يعلم الإنسان أن هناك أملاً، فينبغي أن يكون استثمارنا للأمل محدوداً أو بتعبير أصح مقيداً بالشرع، فلا نغرس في الناس اليأس، لكن كذلك نجنبهم الأمل الكاذب الذي يدعوهم إلى التسويف، وتأخير التوبة، والإغراق في المعاصي، ونحيي فيهم الأمل في لقاء الله تبارك وتعالى، واستثمار الطاعات، وعلو الهمة، والوصول إلى الغايات، وعدم اليأس من رحمة الله جل وعلا، وعدم القنوط من فضله، فهذا أمر محمود، لكنه يكون مذموماً إذا كان يدعو إلى التسويف والبعد عن الرب تبارك وتعالى.

    هذا ما يمكن التعليق عليه على هذا الحديث المبارك.

    1.   

    شرح حديث: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة) ].

    قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)، وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى رجل أخره إلى ستين سنة)، والله جل وعلا ذكر في سورة فاطر صراخ أهل النار، وقال عنهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] واختلف العلماء في المراد بالنذير، فقال بعضهم: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم -على قراءة (والنذر)-: إنها الآفات، وقال آخرون: هو الشيب، وعليه أكثر المفسرين.

    وإذا قلنا: إنه الشيب على هذا القول من أقوال المفسرين، نسوق ههنا قوله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ -أو إلى رجل- بلغه ستين سنة).

    فالستون عاماً تأتي بعد الأربعين قطعاً، وقال مالك رحمه الله: أدركت طلبة العلم في بلدنا يطلبون العلم والدنيا ويخالطون الناس، حتى إذا بلغوا الأربعين تركوا الدنيا ومخالطة الناس، وتفرغوا ليوم القيامة، أي: جعلوا أعمالهم منصبة فيما يعينهم على أهوال يوم القيامة.

    ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ) أي: لا حجة لذلك المرء عند الله، والستون هي عمر نبي الله جل وعلا داود، كما جاء في الخبر الصحيح: (إن الله جل وعلا لما خلق أبانا آدم أخرج من ظهره ذريته وكل نسمة كائنة منه إلى يوم القيامة، فوجد بين عيني أحدهم وبيصاً من نور، قال: أي رب من هذا؟ قال: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، فقال آدم: أي رب كم جعلت عمره؟ قال: ستون عاماً، فقال آدم: يا رب هبه من عمري، فوهبه من عمره أربعين عاماً).

    والغاية من الحديث أن الستين فيها يظهر الشيب، وهي منحنى من منحنيات العمر ومنعطفاته العظيمة، وإن امرءاً بلغ الستين ولم يفقه أنه سيلقى الله ويخلص في العمل ويجعل أكثر وقته في الطاعة، لا حجة له أبداً عند الله تبارك وتعالى، ولا يعني ذلك أبداً أن من دون الستين لهم الحجة على الله، فليس لأحد حجة على الله بعد إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لكن المقصود من الحديث حث من بلغ هذا السن من الناس أن يتقي الله جل وعلا فيما بقي من عمره، هذا المقصود والمراد من هذا الحديث النبوي.

    1.   

    شرح حديث: (لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل) ].

    الكبير من الناس من تقدم به العمر، والأصل: أن الإنسان إذا تقدم عمره وهن بدنه، والأصل أن يصاحب وهن البدن وضعفه وهن في حب الدنيا وطول العمر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقرر هنا وهو الموحى إليه من ربه أن من بني آدم من حتى إذا كبر وقرب من الأجل فإنه يكبر معه اثنان: حب الدنيا، ويحب أن يطول عمره.

    وهذا من جنس الأمل الذي تكلمنا عنه، وستأتي أحاديث تبين أنه لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب، أو لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، لكن هذا كله في سياق قوم ما عرفوا الله جل وعلا حق معرفته؛ ولهذا سيأتي بعد ذلك حديث وليس مباشراً يبين قضية من عرف الله تبارك وتعالى حق معرفته، ومن نظر في واقع الناس اليوم رأى فيهم أن منهم -عياذاً بالله- من كبر سنه، واحدودب ظهره، ومع ذلك يبقى متشبثاً بالدنيا وكأنها ستدوم له.

    وقد كان الصالحون من قبلنا يوصي بعضهم بعضاً بالانقطاع عن هذه الأمور، وأن يبقى الإنسان رهن طاعة الله جل وعلا، ويخشى لقاءه؛ حتى لا يكبر فيه حب الدنيا، وحب الدنيا يكبر في قلب كل امرئ قل في قلبه معرفة الآخرة، وأما حب المال فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن فتنة هذه الأمة في المال، وهذا مشاهد محسوس، فكم من الناس من يتخلى عن مبادئ وقيم منصوص عليها في الكتاب والسنة؛ من أجل دينار ودرهم، ويقتتل الناس على هذا، وهذا حاصل قديماً وحديثاً، وينشأ في الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما ضرب هذا المثل ضربه حتى يتخلى الناس عن التشبث بالدنيا والتشبث بحب المال.

    1.   

    شرح حديث: (لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله....)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله، إلا حرم الله عليه النار) ].

    إذا حرم العبد على النار فهذا من أعظم المكتسبات، فإن من حرمه الله على النار نجا، وثمة أفعال ومعتقدات لها عند الله جل وعلا منزلة عظيمة، فلا شيء في الدين يعدل: (لا إله إلا الله)، فهذا الفضل من العمل إذا اقترن بالفضل من الإخلاص فاجتمع قلب صادق، ومعتقد صحيح، وكلمة طيبة وهي: (لا إله إلا الله)، فلا يمكن بعد ذلك لهذا العبد أن تنال النار منه شيئاً.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يوافي الله عبد قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، فلا إله إلا الله كلمة جليلة القدر من أجلها أنزل الله الكتب، ومن أجلها بعث الله الرسل، ومن أجلها نصب الله الموازين، ومن أجلها أقام الله الحجج والبراهين، ومن أجلها خلقت السماوات والأرض، بل من أجلها خلق الثقلين: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وعبادة ربهم أن يوحدوه في المقام الأول، فقال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله يبتغي وجه الله حرمه الله جل وعلا على النار).

    الأعمال التي تحرم على النار أن تمس أصحابها

    والمحرمون على النار ورد في أحاديث كثيرة ذكر أعمالهم، منها: (من صلى لله أربعاً قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله جل وعلا عن النار)، ومن كان هيناً ليناً سهلاً مع الناس حرمه الله جل وعلا على النار، ومن بكى من خشية الله حرمه الله جل وعلا على النار، ومن جاهد في سبيل الله حرمه الله جل وعلا على النار، ومن أحبه الله حرمه الله على النار، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يلقي الله حبيبه في النار).

    معرفة الله حق المعرفة

    ثم إن النار إذا دخلها من دخلها من عصاة المؤمنين فإن الله جل وعلا لن يجعل للنار سلطاناً كاملاً على أجسادهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود).

    وأما قول: لا إله إلا الله، فإن الإنسان لا يمكن أن يقولها حق القول حتى ربه تعالى، فإن من لوازم ذلك أن يعرف الله جل وعلا حقاً، وحتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة أن يعرف ويتمكن من أن يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله لابد أن يكون هناك علم ويقين بالرب تبارك وتعالى، وحتى يكون هناك علم ويقين بمعنى هذه الكلمة وجلالتها لابد أن يذهب ويلجأ إلى المصدر الأول في فهمها وهو كلام الله، ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فأول ما ينبغي على العبد فيها ألا يستكبر عند سماعها، وألا يدخله أنفة عند علمه بمعناها، قال الله جل وعلا عن أهل معصيته: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36].

    الأمر الثاني: لابد أن يكون هناك علم حق بالله عن طريق ما ذكره الله جل وعلا في كتابه من وجهين:

    الوجه الأول: تعريف الله بذاته العلية.

    والوجه الثاني: تعريف الرسل بربهم.

    فأما تعريف الرسل بربهم فقد حكاه الله على لسان محمد عليه الصلاة والسلام، وأكثر ما حكاه على لسان إبراهيم وموسى، فإن إبراهيم عليه السلام لم يشهد خلق السماوات والأرض ومع ذلك قال لقومه: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:75-80].

    فذكر أن الله جل وعلا هو الذي فطر السماوات والأرض، ثم قال: وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:56].

    ونبيه كليم الله موسى قال له فرعون بكل تبجح: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟ فأجابه الكليم عليه السلام بقوله: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، فعاوده فرعون السؤال: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]؟ فتأدب موسى مع ربه لا مع فرعون فقال: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، فهذا مما جرى على ألسنة بعض الرسل في التعريف بربهم.

    وأما الرب جل وعلا فلا أحد أعلم به منه، ولله جل وعلا في كتابه العظيم في تعريفه بذاته العلية طريقان:

    الطريق الأول: ذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلى.

    والطريق الثاني: ذكر خلقه تبارك وتعالى.

    فتعريفه بأسمائه الحسنى: كقوله جل وعلا في آخر الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22] إلى آخر السورة، وتعريفه جل وعلا بالخلق كقوله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:43-44].

    فمن نظر بعين التدبر فالسحب مخلوق واحد، فجمع الله جل وعلا فيها أضداداً أربعة: جمع فيها الماء غوثاً لمن أحبه، وجعل فيها الصواعق من النار تحرق من أراد الله أن يصيبهم بها إما نقمةً أو نعمة، ولا يجتمع الماء والنار لكن الله جمعهما في مخلوق واحد، والسحب إذا تراكمت وأطبقت حجبت نور القمر وضوء الكواكب، وأصبح الناس في ظلمة، فإذا خرج منها وميض البرق أضاء للناس، ولا يجتمع النور والظلمة في مصدر واحد، لكن الله جل وعلا بقدرته وحكيم صنعته ونفاذ مشيئته جعل فيها النور والظلمة، والماء والنار في آن واحد، ولا يقدر على هذا إلا الله.

    فإذا تحقق عقلاً ونقلاً أنه لا يقدر على هذا إلا الله وجب ألا يرجا ولا يدعا ولا يسأل ولا يعبد أحد غير الله.

    فإذا تحرر عقلاً أنه لا أحد يستحق أن يعبد أو يرجى إلا الله وجب أن يتحقق قلباً أن الله وحده خالق كل شيء، وأن بيده سبحانه مقاليد كل شيء، وأنه جل وعلا إليه مصير كل حي، والله جل وعلا يرزق كل شيء، إذا تحرر هذا آخر الأمر يأتي اللسان يترجم ذلك المعتقد وهو قول المؤمن: لا إله إلا الله، فلا يريد بها بعد أن استقرت في قلبه وعلم حقيقة معناها إلا ربه جل وعلا، فإذا وصل إلى هذه المرحلة كافأه الله جل وعلا بأن الله يحرمه على النار.

    هذا المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يوافي الله عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي وجه الله إلا حرمه الله جل وعلا على النار)، وما سلك أحد في باب، ولا طرق أحد مجالاً يبتغي فيه نفعاً أعظم من نفع أن يعرف الإنسان من خلاله ربه تبارك وتعالى، فمعرفة الله جل وعلا هي الحياة كلها، فمن عرف الله وعبده وأحبه جل وعلا فلا يضره ماذا فقد.

    وهذا والعياذ بالله لم يعرف الله، فلم ينفعه أي شيء حصل عليه؛ لأن الله جل وعلا وحده هو من بيده الجزاء والحساب. هذا ما يمكن التعليق عليه من قول نبينا صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    شرح حديث: يقول الله تعالى: (ما لعبد مؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ما لعبد مؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) ].

    يقول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالموت واعظاً)، وهذا الحديث فيه إخبار أن الإنسان أحياناً يفقد بعض أصفيائه، والصفي كلمة واسعة لها أصل قرآني، فهي الاجتباء والاختيار والتقريب، قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا [آل عمران:33]، وقال الله جل وعلا في حق موسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فكلمة صفي أوسع من كلمة ابن، وأوسع من كلمة أخ، فالصفي قد يكون ابناً، وقد يكون أخاً، وقد يكون طالباً لك، وقد يكون شيخاً لك، وقد تكون الزوجة، وقد يكون للزوجة زوج، وقد يكون جاراً، وقد يكون صديقاً، فكل من تؤثره على غيره وتقربه منك وتدنيه، وله في قلبك محبة وحفاوة، وبينك وبينه حياة قلبية واسعة، فهذا يسمى صفياً.

    والله جل وعلا كتب على الناس الموت، وكل صفيين لابد أن يفترقا، والصديق رضي الله عنه ورد عنه لما مات النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان بالسنح في العوالي، وهي الآن في جنوب المدينة، فلما بلغه الخبر دخل بيت عائشة بوصفها ابنته، فلما كشف عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أن النبي قد مات، فقبله وقال: واصفياه! والمقصود بالصفي من حيث الجملة: كل من قربته بصرف النظر عن قرابته أو عدم قرابته أو سنه أو غير ذلك.

    فيقول صلى الله عليه وسلم: إن الله جل وعلا يقول: (ما لعبدي إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا)، ولا ينتهي الخبر هنا، (ثم احتسبه)، ومعنى (الاحتساب): الصبر المقرون برجاء الثواب، بمعنى: أن المبتلى بفقد صفيه يصبر وهو يرتجي الثواب من الله جل وعلا، فإذا وقع هذا من الرجل أو من المرأة إذا فقد صفياً له فاحتسبه عند الله جل وعلا، فليس له جزاء عند الله إلا الجنة.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (فليس له إلا الجنة) يدل على عظم هذا العمل؛ لأن الله لم يعلق الجنة على عمل مفرد إلا في جلال الطاعة، كما قال: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، فعلقها هنا في عمل قلبي وهو الصبر، كما علقها في عمل بدني مالي تعبدي وهو الحج.

    والمقصود أن الله جل وعلا يبتلي: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

    احتساب الأجر في كل نازلة تنزل بالمؤمن

    وينجم عن هذا أمور وفوائد أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، أولها وأعظمها: أن المؤمن يحتسب الأجر من الله في كل نازلة تنزل به، فكل ما أساء المؤمن فهو مصيبة، فلو انطفأ سراج بيتك فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولو انكسرت ريشة قلمك فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لأنها مصيبة، ولأنك تقول: أنني لا أستغني عن الله أبداً.

    لكن إن قلتها في مواطن ولم تقلها في مواطن فكأنك من حيث لا تشعر تريد أن تقول: هذه أمور أنا أدبرها بنفسي، وأما هذه فأنا أدبرها بالله، لكن المؤمن في كل شيء يعلم أنه ضعيف عاجز يحتاج إلى ربه، فكلما فقد شيئاً ولو يسيراً يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه الفائدة العملية الأولى من الحديث.

    توطين النفس على مفارقة الأحباب

    الفائدة الثانية: أن يوطن الإنسان نفسه على مفارقة من يحب، يقول الحسن البصري : اعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.

    قال جرير :

    لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ليل يفر عليهم ونهار

    ألا يعلق الإنسان قلبه بأحد من أهل الدنيا

    الفائدة الثالثة: ألا يعلق الإنسان قلبه بأحد من أهل الدنيا، وهذا مبني على الحديث الذي قبله وهو قضية: يبتغي بذلك وجه الله، فلا يكون في القلب إلا الله، نعم أننا نحب الوالدين، ونحب مشايخنا، ونحب طلابنا، ونحب أبناءنا وجيراننا، لكن الإنسان يجعل عاطفته في كل شيء بقدر، ولا تعلق قلبك تعليقاً كلياً بأحد من الخلق؛ لأنك لابد من مفارقه، وكونك لا تتعلق به تعلقاً كلياً لا يمنع أن يكون صفياً لك، فهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه سمى النبي عليه الصلاة والسلام صفياً له، وأبو هريرة يقول: (أوصاني خليلي)، لكن لا يعني ذلك أن أبا بكر أو أبا هريرة تعلقت قلوبهما برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فالمحبة الشرعية لها قدر تنتهي إليه، وأما الإطراء فيكون مع الرب تبارك وتعالى، وحتى الإطراء مع الرب تبارك وتعالى فإنه يكون وفق نظرة شرعية، فالإنسان ينطلق في أفعاله وأقواله بالنظرة الشرعية.

    وأما قبض الأصفياء فهذا أمر بديهي، فالنبي صلى الله عليه وسلم فقد عمه حمزة وحزن عليه حزناً شديداً؛ لأن حمزة أبا عمارة رضي الله عنه وأرضاه كان عم النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأخوه رضاعةً، فـحمزة والنبي عليه السلام رضعا من ثويبة مولاة أبي لهب .

    كما أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن ابنه إبراهيم قال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، وهذا حاصل في كل دهر وعصر.

    و عمر بن عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه الخليفة العادل كان له ولد يقال له: عبد الملك ، وكان فيه من الصلاح والتقوى والورع ما تقر به الأعين، فمات في حياة أبيه، فلما دفنه عمر قال: الحمد لله الذي جعلك في ميزاني ولم يجعلني في ميزانك؛ لأنه كان يرى أن ابنه أفضل منه، ولهذا ألمح بعض العلماء إلى أن من أعظم الناس أجراً في الدنيا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها فقدت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فأصبح النبي عليه الصلاة والسلام في ميزانها، وأما أخواتها فهن في ميزان الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وهو صلى الله عليه وسلم بالنسبة لنا -باعتبار كونه نبينا- فهو صلى الله عليه وسلم في ميزاننا بوصفه نبينا، وهو في ميزان فاطمة من جهتين: بوصفه نبي، وبوصفه أب صلوات الله وسلامه عليه، وقد قلت: إن هذا الأمر -أعني المفارقة- يقع لا محالة، قال جرير كما بينا:

    لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ليل يفر عليهم ونهار

    لكن المؤمن يوطن نفسه على الصبر وعلى الاحتساب، وعلى عدم التعلق بالدنيا، وأنت ترى أيها الأخ المبارك أن أحاديث الباب مرتبطة بعضها ببعض، فبعض الأحاديث علقنا عليها بما لا يتجاوز الكلمتين؛ لأنها من الوضوح بمكان، ولو تكلمنا فيها كثيراً لكنا كالمتهمين رسولنا صلى الله عليه وسلم بالعجز، وما كان يجمل ويكمل أن نتوسع فيه توسعنا فيه، فكل بقدر، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.

    هذا ما تيسر وتهيأ قوله في هذا المجلس المبارك، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755903117