أمَّا بَعْــد:
فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في محكم كتابه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176] ضرب الله هذا المثل لكل من جحد نعمته، ورد معروفه عز وجل، فإن كثيراً من الناس ينعم الله عليهم بنعم ظاهرة وباطنة فيكفرونها ويجحدونها؛ فيسلبها سُبحَانَهُ وَتَعَالى منهم، ثم ينكل بهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى جزاء ما جحدوا من المعروف وأنكروا من الجميل.
وكثيرٌ من الناس يمنحهم الله الشباب، فيفسدون به، ويستغلونه فيما يبعدهم عنه عز وجل فيسلب الله نعمة الشباب منهم.
وكثيرٌ منهم يرزقهم الله الصحة في الأجسام، فلا يُرونَ الله عز وجل ثمرة هذه الصحة ولا العافية، فيأخذهم الله عز وجل بهذا.
وكثيرٌ يمنحهم الله الأموال فلا يؤدون حق الله فيها، بل يجعلونها سلماً إلى المعاصي، وسبباً في المنكرات والفواحش، فيأخذهم الله عز وجل، ويحاسبهم بأموالهم.
فالله عز وجل يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] وهذا الرجل اسمه بلعام بن باعوراء من بني إسرائيل، منحه الله عز وجل نعمة العلم والفهم والفقه، ولكنه لم يستغلها فيما يقربه من الله عز وجل، بل نسي حق الله وموعوده، ونسي أمره عز وجل ثم عصاه، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175].
هذا الرجل كما قال أهل التفسير: كان مع موسى عليه السلام، وعلمه الله التوراة فلما تعلمها ذهب إلى قوم كفار ليفاوضهم على الصلح مع موسى عليه السلام، فلما رأى دنياهم، وكنوزهم، وذهبهم، وفضتهم، استهواه هذا؛ فكفر بالله العظيم، وقدم الدنيا على الآخرة، وقدم موعود أهل الدنيا على موعود رب الدنيا والآخرة؛ فسلب الله نعمة الفقه والفهم منه، وتركه بليداً كالحمار، ومؤخراً كالخنـزير،و نجساً كالكلب، نعوذ بالله من ذلك.
حتى قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف:176] لو شئنا أن يرتفع بلا إله إلا الله وبمعناها؛ لرفعناه بها. وهذا جزاء العبد الذي يرتفع بالطاعة، والذي يحب أن يتقرب إلى الله عز وجل بطاعته فيرفعه الله، وأما العبد الذي يتأخر إلى المعصية، ويتأخر عن كل ما يقربه من الله، فلا يزال يتأخر حتى يؤخره الله، قال تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف:176] أي: قدم الدنيا على الآخرة.
قال تعالى: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]. يقول عز من قائل: مثل هذا الرجل مثل الكلب، والكلب من طبيعته أنه يلهث، فهو يمد لسانه ويلهث سواء في الظل أو في الشمس، فهذا مثل رجل يلهث في الجهل والمعصية، سواء تعلم أو لم يتعلم؛ لأن قلبه خبيث؛ ولأن فيه مكراً؛ ولأنه صادٌ عن الله عز وجل، وإلا فلو كان فيه خير يوم أن قربه الله عز وجل إليه لعرف النعمة والجميل، ولعرف عطاء الله عز وجل فانقاد إليه.
يقول عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
قال أهل العلم: لا تزال كل قرية في أمن الله ما أقامت فروضه، وما نهت عن المعاصي التي تغضبه، فإذا انحرفت أخذها الله كما يأخذ الظالم ثم لا يفلتها أبداً، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً [الطلاق:8-9].
أعد الله لهم عذاباً شديداً في الآخرة، ما كفاها عذاب الدنيا، بل أعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لها الخزي والعار والدمار والنار؛ لأنها انحرفت عن منهج الله.
فتشوا واسألوا كل مدينة وكل قرية أخذها الله في هذا العصر، أو قبل هذا العصر، واسألوا جيراننا، ومن حولنا ومن دوننا: مالهم ابتلوا بالحروب والمنكرات والفواحش والبعد عن الله؟! إنما ابتلوا بذلك لأنهم عصوا أمر الله، وخرجوا عن طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويوم أن يعود الشخص إلى الله ولو ببصيص من نور؛ ينصره سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويؤيده، ويسدده ويهديه.
وقد جربنا وجرب غيرنا، وسمعنا وسمع غيرنا، أن أناساً كثيرين وقفوا في وجه الطغيان، في وجه اليهود، فما استطاعوا أن يقفوا أمامه؛ لأنهم أهل معاصٍ؛ ولأنهم خرجوا عن لا إله إلا الله، حتى أتى في هذا العصر حفنة قليلة من الناس في أفغانستان، تسجد لله، وتعترف به، وتتحاكم إلى شرعه، فوقفت في وجه أكبر قوة من قوى الأرض. فلما رجعوا إلى الله أراهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى نصره، ورفع لهم كلمة لا إله إلا الله، وثبت أقدامهم.
فكيف لو رجعت الأمة كلها إلى الله عز وجل؟! والله لو رجعنا إلى الله لما كان في الدنيا يهود يسيطرون على بلاد الله، وعلى عباده، ويمتهنون شرائعه. والله لو رجعنا إلى الله عز وجل لما كان هناك جوع ولا خوف، ولا دمار ولا نار، ولا عار ولا شنار، لكننا لما تخاذلنا عن أن نجتمع في بيوت الله، وأن نتناصح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبنا بهذا.
قال عز من قائل: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19].
قرية كانت منفلتة في اليمن، كانت غائصة في الحدائق والبساتين وأنواع الثمرات من بين يديها ومن خلفها، لهم سد عظيم يختزن آلاف آلاف البراميل من المياه، أغدق الله عليهم النعم، فسماؤهم مليئة بالغيوم، لا شمس لديهم تحرقهم، وثمارهم يانعة يقطفونها، حتى قال الأئمة من أمثال ابن كثير: تمر المرأة بزنبيلها فيمتلئ مما يتساقط من الأشجار.
يشربون ماءً بارداً، ويتظللون في ظل وارف، ويتعاونون في معيشة هادئة ساكنة.
فأرسل الله إليهم الرسل ليقولوا: لا إله إلا الله، وليؤدوا شكر نعمة الله، وليسجدوا له، وليتناهوا عما يغضبه، فماذا فعلوا؟ كفروا، وجحدوا، وأنكروا، وتمردوا على الله، شأن الشاب الذي لا يعرف بيوت الله، جسمه كجسم البغل، يتنهد على الأرض من كثرة النعم، ومن كثرة المشروبات والمطعومات والملبوسات، فإذا سمع الأذان كأن في أذنيه وقراً، لا يعرف طريق المسجد، إنما يعرف طريق المعصية والانحراف، فهذا مثل هذه القرية.
فأتتهم رسلهم وفاوضتهم على لا إله إلا الله، وفاوضتهم إلى الرجوع إلى الله عز وجل، وأخذتهم بالتي هي أحسن ليعودوا إلى الحي القيوم، فكفروا وقالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19] معنى ذلك: أنهم رفضوا حتى أداء الزكاة من هذه الأموال والصدقة، وقالوا: اجعل بيننا وبين هذه القرى مسافات؛ حتى لا يأتينا فقير ولا مسكين، ولا يأتينا طالب حاجة.
فماذا فعل الله بهم؟ هل حاربهم بطائرات أو بجيوش جرارة، أو بدبابات مصفحة؟ لا -والله- أتي بفأر صغير فنحت في هذا السد، وهو سد مأرب العظيم، ثم دخل الماء وسقط السد، وذهبت دنياهم وآخرتهم، لقد اجتاحهم ماء السد، فدمر قراهم بعضها على بعض، وبيوتهم بعضها على بعض، واجتاح أشجارهم وأعنابهم ونخيلهم ومزارعهم، فصاروا حدثاً بعد عين لكل معتبر.
قال تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً [الفرقان:40] فأوقع الله بهم ما هم له أهل، فذهبوا وتفرقوا حتى صاروا مثلاً، فتقول العرب: تفرقوا أيدي سبأ. وخرجوا من بلادهم على وجوههم وهم يتباكون، الحبيب فقد حبيبه، والوالد فقد ولده، والأخ فقد أخاه، والزوجة فقدت زوجها؛ لأنهم عصوا الله عز وجل.
ولذلك قيل لرجل من البرامكة الوزراء لما سجنوا في عهد هارون الرشيد: لم سجنتم وذهبت دنياكم؟ لم أخذت قصوركم؟ ولم جلدت ظهوركم؟ فدمعت عينا خالد البرمكي وقال: بغينا، وطغينا، ونسينا الله، وسرت دعوة مظلوم في جنح الليل فسمعها الله والناس عنها هجوع. ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوة المظلوم يرفعها الله عز وجل على الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).
ومروا برجل مقعد -كما في السير- قد نهشته الأمراض، وأصابته الأوصاب، وهو في حالة مزرية، لا يستطيع حراكاً ولا قواماً، ولا يستطيع أن يمد يده، فقالوا: مالك؟ قال: كنت في صحة وعافية، وفي قوة لا يعلمها إلا الله، وكنت إذا سمعت نداء الله أتباطأ، فيقال لي: اتق الله عز وجل، وتعال إلى بيوته، وأقم فرائضه، فكنت أقول لهؤلاء: وماذا يصيبني إذا لم أفعل؟ فابتلاني الله بهذا المرض.
وقد كان عليه الصلاة والسلام، وهو يعظ أصحابه، ويردهم إلى الله وينصحهم، وهم من أحيا الناس مع الله، ومن أقربهم إليه، يقول صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء -فيقولون له عليه الصلاة والسلام، وهم يظنون أن الاستحياء دخول الإسلام، وهذا من الحياء، لكن مرتبة الحياء الكبرى أن تجعل بينك وبين المعاصي حجاباً- قالوا: يا رسول الله! والله إنا لنستحيي من الله حق الحياء. قال عليه الصلاة والسلام: ليس ذلك بحق الحياء، حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ومن تذكر البلى ترك زينة الحياة الدنيا).
قال أهل العلم: الحياء في العين: ألاَّ تنظر بها إلى ما يغضب الله عز وجل، وحياء الأذن: ألا تسمع بها ما يغضبه تبارك وتعالى، وحياء اليد: أن تكون محبوسة تحت طاعة الله عز وجل، وحياء الرجل: ألاَّ تمشي بها إلا في مرضاته عز وجل، ولذلك كان من معالم المحاسبة عند أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة، فيحاسبهم كما خلقهم وكما بدأهم أول مرة، يحاسبهم على الأعضاء، ولن تجد عضواً أشد خطورة ولا ضراوة على الإنسان من لسانه.
ويحق لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن مثل أبي بكر في إيمانه وزهده وعبادته؟ أبو بكر الذي أنفق ماله كله في سبيل الله، وأتعب جسمه لرفع لا إله إلا الله، وبقي ساهراً حريصاً على الأمة يقودهم إلى الله عز وجل، وهو مع هذا يقف في مزرعة رجل من الأنصار، ويمد لسانه ويبكي ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] أي: المهالك، فإذا كان الصديق خائفاً، فما بالنا نحن لا نخاف؟! وما بالنا لا نعود ونحاسب أنفسنا؟! وقل لي بالله عليك كم نذكر الله في اليوم؟ وكم نتكلم بكلام ليس بذكر؟ وإذا عادلنا كلامنا مع الناس، وهذاءنا، وهراءنا، وتسويفنا، كم نعادله؟ هل هو بمعشار العشير مع سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؟
ومقصود هذا الكلام حفظ النعم التي أنعم الله بها علينا، فإن الله عز وجل إذا أنعم على العبد انتظر سُبحَانَهُ وَتَعَالى حتى يرى ماذا يفعل العبد هذا، فإن حفظ النعمة بالطاعة زاده سُبحَانَهُ وَتَعَالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] وإن ضيعها أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
فيا من أنعم الله عليه بنعمة الشباب، إن كنت تريد حفظ هذا الشباب فليس حفظه إلا بحفظ الله.
ويا من أنعم الله عليه بالمال، حفظ المال بحفظ الله.
ويا من أنعم الله عليه بجاه، أو بمنصب، أو بولد، إذا أردت المحافظة على ذلك فاحفظ الله عز وجل، وإلا فانتظر الزوال والنكبة إن عاجلاً أو آجلاً.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: والله إني لأعصي الله عز وجل في الليل فأجد جزاءها في النهار. فقال له بعض أهل العلم: نحن لا نجد الجزاء في النهار، جربنا أنا نعصي الله عز وجل في الليل كثيراً فلا نجده في النهار. قال: إنكم أكثرتم من الذنوب فما تعلمون من أين تؤتون. أي: لا تعلمون من كثرة جزاءاته من أين تؤتون.
ولا يظن ظان أن الجزاء والعقاب أن تنـزل عليه صاعقة أو قذيفة، أو يعذب بمرض، لا. إن أشد العقاب أن يقسي الله قلب هذا المجرم، وأن يطبع على فؤاده، وأن يبتليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالصد عن سبيله، ويزيده سُبحَانَهُ وَتَعَالى ضلالاً؛ لأنه هو الذي زاد ضلالاً وحياداً عن الله، قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5].
وحكي عن بعض الصالحين وقد ذهب إلى صلاة الجمعة، فانقطعت حذاؤه، فقالوا له: مالك؟ قال: تذكرت أني لم أغتسل للجمعة؛ فانقطعت حذائي. قال ابن تيمية: قللوا الذنوب فعرفوا من أين يؤتون. فلما أكثرنا الذنوب والخطايا أصبحنا لا ندري من أين نصاب، أبالهموم والغموم والأحزان؟ أم بفساد الأبناء؟!
وليست النعمة في مفهومها عند عقلاء المسلمين أن تكثر الأرزاق، هذه نعمة، ولكن النعمة أن نستقيم مع الله، وأن نتجه إليه، وأن نحسن معاملتنا معه، وإلا لو كانت النعمة بهذا المعنى لكان الكفار وهم أكثر منا قصوراً ودوراً، وذهباً وفضة، وجاهاً ومنصباً، وأموالاً وأولاداً، أصحاب نعمة. لكن الله يقول: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ [الزخرف:33-34].
أولها: أن تردد على لسانك: "الحمد لله"، فإنها تملأ الميزان، وإن سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماوات والأرض، ويعجب ربك إلى العبد إذا قال: الحمد لله. وأول من يدخل الجنة الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء، فقد ضاع فرسٌ لـجعفر الصادق، فقال: والله لئن ظفرت بفرسي لأحمدنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمحامد ما حمدها به إلا أولياؤه وأحباؤه، فلما وجد الفرس، قال: الحمد لله، فقال له أبناؤه: أين المحامد؟ قال: وهل أبقت الحمد لله محامد بعدها؟! ولذلك قال عز من قائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
فواجبك أن تردد دائماً الحمد على لسانك؛ ليبقي الله عليك النعمة، البس ثوبك إن كنت مسلماً وقل: الحمد لله، وكل طعامك وقل: الحمد لله، واشرب شرابك وقل: الحمد لله، وقم من نومك وقل: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. وكلما لمع لك لامع من النعمة، أو لمح لك لامح من الجميل فقل: الحمد لله، ليبقي الله عليك النعمة.
ثانيها: أن تعقدها بقلبك، وأن تتصور أن ما أتاك من النعيم إنما هو من الله لا من الناس، وما صرف عنك من العذاب ومن المصائب، إنما صُرف عنك من الله عز وجل.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، في كلام ما معناه: [[إن من النكران أن ينعم الله عليك بنعيم فتقول: هذا بسبب فلان، أو يصرف الله عنك سوءاً، فتقول: هذا بسبب فلان، والله ما أتى من نعيم، ولا صُرف من عذاب إلا بتقدير الله ورحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى]].
أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام فقال له داود في أثناء الكلام: يا رب! بأي لسان أشكرك؟ أنعمت علينا بنعم ظاهرة وباطنة فبأي لسان أشكرك؟
قال الله عز وجل: يا داود! أتدري أن هذه النعم مني؟ قال: نعم يا رب! قال: إن علمت ذلك فقد شكرتني. قال: يا رب! إني أريد أن أشكرك بالعمل، قال: يا داود! تقرب إلي بما استطعت من عمل.
وفي كتب التفسير أن داود عليه السلام جمع آل داود، وكان عددهم ما يقارب ثلاثين ألفاً، وهم الملوك في بني إسرائيل، فيهم المملكة كابراً عن كابر، ومنهم سليمان بن داود، فجمعهم أعماماً وأخوالاً وأبناءً وأقارب، حتى ملئوا الشرفات في بيت المقدس، فقال داود عليه السلام وهو يبكي: يا آل داود! إن الله أنعم علينا نعماً ظاهرة وباطنة، فعليكم بطاعته، فوالله إن لم تطيعوه ليسلبنها الله منكم. قالوا: ماذا نفعل؟ قال: قسموا ساعات الليل والنهار، فليكن منكم في كل ساعة من ليل أو نهار مصلون وصائمون وذاكرون ومستغفرون، فقسم عليهم الساعات في الليل والنهار، فكان قوم منهم يسبحون، وقوم يستغفرون، وقوم يصلون، وقوم يصومون، فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] وقليل من الناس من يشكر الله.
فالأمر الثاني: أن تعتقد أنها من عند الله، وأن ما ساق الله لك من نعيم، إنما هو بقضائه وقدره، ولم يسقه لك أحد من الناس، فو الله {لو اجتمع الناس على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} فالقضاء والقدر من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثالثها: أن تظهر آثار النعمة عليك، بالعمل وبالتجمل، فإذا أنعم الله عليك بنعمة، فإنه يحب أن يرى أثرها عليك، فإذا أنعم عليك بمال فالبس من الجمال ما يري الناس أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنعم عليك بنعيم، ولا تزري بربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تشكوه بثيابك، أو بملبسك، أو بمسكنك، أو بمركبك، فكأنك تقول: لم يعطني الله شيئاً. والله يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] أي: بلسانك وبفعلك.
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه} والواجب عليك أن تستغل هذه النعمة في مرضاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد، وأن يستغلنا بنعمته في طاعته، وأن يجعلنا ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر