إسلام ويب

شرح عمدة الفقه كتاب الحج [4]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدماء الواجبة في الحج خمسة: - الدم الواجب على المتمتع والقارن ومن ترك نسكاً. - الدم الواجب بالحلق والترفه. - الدم الواجب على المحصر إذا لم يشترط عند الإحرام. - الدم الواجب على من قتل صيداً. - الدم الواجب على الوطء.

    1.   

    الفدية في الحج

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: الفدية.

    وهي على ضربين: أحدهما على التخيير ].

    الفدية: ما يفتدي به الإنسان عن نفسه بسبب فعل محظور أو ترك واجب، فيفدي به الإنسان نفسه من المعصية التي وقع فيها من عذاب الله، ويقدم فدية حتى تكفر عنه هذه المعصية التي ارتكبها، أو إذا احتاج إلى فعل محظور فيقدم فدية حتى يسقط عنه الإثم.

    وقوله: (أحدهما على التخيير) هي نوعان:

    الأول: على التخيير والثاني: على الترتيب، التخيير: أن يخير بين اثنين فأكثر، والترتيب يكون واحداً بعد واحد.

    مثال التخيير في قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، تخيير بين الصيام والصدقة والنسك.

    والترتيب مثل كفارة اليمين، حيث خير بين ثلاثة أشياء ثم قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89].

    فدية التخيير وما يقاس عليها

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة ].

    وسميت بفدية الأذى؛ لأنه يحلق الإنسان الرأس لإزالة الأذى الذي يصيبه، فهذا هو الأصل، فيحلق إذا كان في رأسه أذى من جروح تحتاج إلى مداواة أو قمل أو نحو ذلك، فتسمى فدية الأذى، وهذا هو الأصل في هذا. والأصل فيه قول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196]، هذا الأذى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] يعني: فعليه فدية إذا احتاج أن يحلق رأسه لإزالة الأذى الذي أصابه وهو محرم، وهي الصيام أو الصدقة أو النسك، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجرة فقال: (حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتساقط على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟) وفي لفظ: (ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى!) ثم أمره بأن يحلق رأسه ويذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام فقال: (صم ثلاثة أيام، أو انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين) فهذه تسمى فدية الأذى، فإذا كان الإنسان محرماً ويحتاج إلى حلق رأسه لإزالة الأذى سواء كان قملاً أو به جروح تحتاج إلى حلق الشعر؛ حتى يداوي الجرح، فله ذلك وعليه فدية، ولا إثم عليه.

    أما إذا حلقه من دون حاجة متعمداً فهو آثم وعليه التوبة مع الفدية، وإذا حلقه ناسياً أو جاهلاً فليس عليه فدية.

    فتكون الأحوال خمسة:

    الحالة الأولى: أن يحلق شعر رأسه وهو محرم عالماً مختاراً، ذاكراً محتاجاً، فهذا عليه الكفارة وليس عليه إثم.

    الحالة الثانية: أن يحلق رأسه عالماً مختاراً، ذاكراً بدون حاجة، فهذا عليه الكفارة مع الإثم، وعليه التوبة والاستغفار.

    الحالة الثالثة: أن يحلق رأسه ناسياً، فهذا لا شيء عليه، لا إثم ولا كفارة.

    الحالة الرابعة: أن يحلق رأسه جاهلاً، فهذا أيضاً لا شيء عليه.

    الحالة الخامسة: أن يحلق رأسه مكرهاً، فهذا ليس عليه شيء على الصحيح.

    والمذهب أن الحلق لا يعذر فيه الناسي ولا الجاهل؛ لأن هذا من باب الإتلاف، والإتلاف يستوي فيه العمد والجهل، والصواب: أن الجاهل والناسي معفو عنهما؛ لقول الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

    وحديث كعب بن عجرة قاس عليه العلماء تقليم الأظفار، والطيب، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، فإذا كان محتاجاً إلى ذلك فعليه الفدية، وإذا كان غير محتاج فعليه الإثم والفدية، والناسي والجاهل والمكره ليس عليهم شيء.

    ولبس المخيط وتغطية الرأس خاص بالرجل دون المرأة، فهذه خمسة أشياء، وقيست أربعة منها على حلق الرأس.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أحدهما على التخيير وهي: فدية الأذى واللبس والطيب ].

    حلق الرأس واللبس والطيب وتغطية الرأس، هذا نقص ويضاف إليها تقليم الأظفار، فتكون خمسة أشياء.

    وقد ورد في تغطية الرأس قصة الذي وقصته راحلته قال صلى الله عليه وسلم: (لا تخمروا رأسه ولا وجهه ولا تحنطوه).

    وثبت في الطيب ما جاء عن الرجل الذي أحرم ثم لبس جبة مضمخة بالطيب فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسكت، ثم نزل عليه الوحي فقال: (انزع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).

    لكن العلماء قاسوا الطيب على حلق الرأس من جهة الفدية بجامع الترفه في الكل، فالفدية ما جاءت إلا في حلق الرأس، فقاسوا عليها الطيب من جهة أنه محظور، وهذا النص يثبت أنه من المحظورات، وتقليم الأظفار قيس قياساً على حلق الرأس، ولبس المخيط ورد فيه حديث ابن عمر : (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرانس) وفي هذا الحديث: (ولا شيئاً مسه زعفران أو ورس)، وتقليم الأظفار هو الذي لم يذكر فيه نص، ويقاس على الحلق بجامع الترفه في الكل.

    وثبت حديث ينهى من أراد أن يضحي عن تقليم أظفاره عند دخول عشر ذي الحجة، قيل: وهذا فيه تشبه بالحاج، وقيل: لأن الأضحية من أسباب المغفرة، فأمر بأن يترك جميع أجزائه لا يأخذ منها شيئاً؛ حتى يكون مهيئاً للمغفرة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، أو ذبح شاة ].

    قوله: (إطعام ثلاثة آصع) لكل مسكين نصف صاع، ونصف الصاع يقدر بكيلو ونصف، والصاع أربع حفنات كل حفنة ملء كفي الرجل المتوسط، يكون عليه حفنتان، ويفرق العلماء بين البر وغيره، فقالوا: البر يكفيه ربع الصاع حفنة واحدة، والتمر وغيره لا بد من نصف الصاع؛ لأن معاوية رضي الله عنه اجتهد لما وجدت البر فقال: أرى أن نصف الصاع من هذه السمراء يعدل صاعاً؛ فأخذ الناس بقول معاوية ، وجعلوا ربع الصاع يقابل نصف الصاع من التمر، والصواب: أنه نصف صاع من الجميع من البر أو التمر أو الأرز من قوت البلد.

    جزاء الصيد

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وجزاء الصيد مثلما قتل من النعم، إلا الطائر فإن فيه قيمته ].

    يعني: جزاء الصيد إذا صاده وهو محرم مثله إن كان له مثل، وهو ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم أو قضى به الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم قضى بالضبع كبشاً، وقضى الصحابة بالحمامة شاة، والنعامة بدنة، واليربوع جفرة، والأيل والتيتل والوعل والبقر الوحشي بقرة؛ لأن فيها نوعاً من الشبه.

    الحمامة فيها شاة لأنها تشبهها في عب الماء، فما قضى به الصحابة يقال: له مثل، وما لم يقض فيه الصحابة يرجع فيه إلى قول عدلين، فإذا قتل صيداً وله مثل فإن عليه المثل، وإن شاء قوم المثل بدراهم واشترى بها طعاماً، وأطعم كل مسكين نصف صاع، أو قدرها وصام عن كل مسكين يوماً، هذا إذا كان له مثل، أما إذا لم يكن له مثل فإنه يخير بين الإطعام وبين الصيام، تقدر قيمته ثم يشتري به طعاماً فيطعم كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وجزاء الصيد مثلما قتل من النعم، إلا الطائر فإن فيه قيمته، إلا الحمامة ففيها شاة، والنعامة فيها بدنة ].

    النعامة قضى فيها الصحابة؛ لأنها تشبهها في طول الرقبة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام، فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً ].

    وهذا إذا كان له مثل، فإذا صاد مثلاً حمامة نقول له: عليك شاة؛ لأن الصحابة قضوا بهذا، فأنت مخير بين أن تشتري الشاة وتذبحها وتفرقها على المساكين، ولك الخيار في أن تقدر ثمن الشاة وتشتري بها طعاماً وتطعم كل مسكين نصف صاع، أو تذبح الشاة، فإذا قلنا: تقدر الشاة بخمسمائة ريال فتشتري بخمسمائة ريال براً أو تمراً وتقسمها آصاعاً، فتعطي كل مسكين نصف صاع، فإذا قدرنا مثلاً الخمسمائة ريال بعشرين صاعاً فيقسم كل صاع على مسكينين فيطعم أربعين مسكيناً.

    فنقول له: أنت بالخيار: تصوم أربعين يوماً أو تطعم أربعين فقيراً كل واحد نصف صاع، أو تشتري شاة وتذبحها، هذا إذا كان له مثل.

    وأما الصيد الذي ليس له مثل فإنه يقوم، فتقدر قيمته ويشتري به طعاماً ويطعم كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً، فإذا قوم هذا الصيد مثلاً بمائة ريال، فيشتري بمائة ريال طعاماً، ويعطي كل مسكين نصف صاع، فإذا قال: لا، أريد الصيام، نقول له: لا، قدرنا الآن أن عليك مثلاً ثلاثين صاعاً، لكل مسكين نصف صاع، إذاً: تصوم عن كل مسكين يوماً، فتكون الأيام ستين يوماً وهكذا!

    فدية الترتيب

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الضرب الثاني: على الترتيب وهو: المتمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع ].

    هذا ورد فيه نص من القرآن الكريم قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196].

    فالمتمتع الذي اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه عليه أن يذبح شاة، وهذا الدم يقال له: دم الشكران، بخلاف الدم واجب لترك الواجب أو فعل محظور، يقال له: دم جبران.

    فإن كان فقيراً لا يجد صام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم العيد، فإن فاتته صام أيام التشريق، وسبعة إذا رجع إلى أهله، فهذا هو الأصل، وأما ما عداه فهو مقيس عليه كما سيأتي كالدم لفوات الحج، ودم الوطء، كله مقيس عليه، ودم المضطر الذي أحصر.

    وهذا الهدي يكون على الترتيب أولاً: ذبح شاة، فإن لم يجد صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، والثلاثة الأيام الأولى نص الله أنها في الحج قبل العيد، فإن فاتت صامها أيام التشريق، وإذا كان مريضاً لا يستطيع صيامها يضمها إلى السبعة، وذلك المراد به، أما إذا كان يستطيع فإنه يجب عليه أن يصومها في الحج، لابد أن تكون في الحج سواء بعدما يتحلل من العمرة أو بعدما يحرم بالحج، فإذا أحرم بالحج فيصوم السادس والسابع والثامن.

    وإذا فاته الصيام كأن يكون معه مال وما وجد هدياً فإنه يصوم أيام التشريق، ويضم الباقي إلى السبعة الأيام فيصومها كلها، وإن خرجت أيام التشريق وما زال يبحث ولم يجد هدياً يصومها كلها بعد الحج، لكن لو قدر أنه عنده نقود ولكن ما وجد إن أمكن أن يصوم قبل ذلك صام، وإن لم يمكن ضمها إلى السبعة.

    فدية الجماع

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفدية الجماع بدنة، فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع ].

    إذا جامع الحاج وهو محرم قبل التحلل الأول عليه بدنة كما سبق وفسد الحج، وعليه المضي فيه، وقضاؤه من العام المقبل، فإن لم يجد البدنة لفقره أو لم يجدها ومعه قيمتها صام عشرة أيام قياساً على هدي التمتع.

    فإذا جامع امرأته بعد أن رمى وحلق ولم يطف فعليه دم شاة وحجه صحيح، وعليه أن يخرج إلى التنعيم ليحرم من جديد لأنه أفسد إحرامه، أما إذا جامع بعد الطواف فلا.

    دم فوات الحج

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك الحكم في دم الفوات ].

    إذا فاته الحج، وتأخر حتى طلع الفجر يوم العيد فقد فاته الحج، فيتحلل بعمرة وعليه دم لفواته، فيذبح شاة، فإن عدم صام عشرة أيام قياساً عليها.

    دم المحصر عن البيت

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ].

    المحصر هو الذي منع من دخول مكة، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم وأحصر في صلح الحديبية، فإنه يذبح شاة في مكانه ثم يتحلل، فإن لم يجد شاة صام عشرة أيام وهو على إحرامه ثم يتحلل، قياساً على هدي التمتع.

    والأصل هو دم التمتع والباقي مقيس عليه، وقد قال الله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196].

    لكنهم قاسوا الهدي على دم التمتع، وبعض العلماء يرون أن الصحابة لما أحصروا لم يكن معهم كلهم شيء، فقد كانوا فقراء وهم أكثر من أربعمائة، ولا نقل أن أحداً منهم صام، لكن العلماء قاسوها فقالوا: كل جميع الدماء مقيسة على دم التمتع، ودم التمتع فيه الصيام عند العجز، وهذا مقيس عليه، أما النص فلا يوجد نص يدل على ذلك.

    أحكام الكفارات إذا اجتمعت أو اختلفت

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن كرر محظوراً من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة ].

    إذا كرر محظوراً من جنس واحد غير الصيد فالكفارة واحدة، فمثلاً تطيب مرة، ثم تطيب مرة أخرى.. أربع مرات.. خمس مرات، فعليه كفارة واحدة من جنس واحد، أو حلق جزءاً من رأسه، ثم حلق الجزء الثاني، ثم حلقه كله فعليه كفارة واحدة؛ لأنها من جنس واحد، إلا الصيد كأن قتل حمامة وغزالاً فهذه أنفس متعددة كل واحدة منها عليه كفارة، لا تتداخل، فإذا صاد حمامة عليه شاة، وإذا صاد نعامة عليه بدنة، فلا يقال: إنها تتداخل؛ لأنها مختلفة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه ].

    إذا تطيب ثم كفر فأطعم ستة مساكين، ثم تطيب مرة أخرى، فيجيب عليه فدية أخرى، لكن إذا لم يكفر عن الأولى تداخلت الكفارة، أما إذا تطيب ثم كفر، ثم تطيب فعليه فدية ثانية.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن فعل محظوراً من أجناس فلكل واحد كفارة ].

    إذا كان المحظور من أجناس مختلفة، فكل واحد كفارة، فمثلاً: تطيب، وغطى رأسه، وحلق شعره، وقلم أظفاره، ولبس المخيط، فعليه كفارة متعددة، كل فعل له كفارة؛ لأنها أجناس مختلفة، خمس كفارات.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه ].

    والحلق والتقليم والوطء والصيد هذه الأربعة لا يعذر فيها الناسي ولا الجاهل، إذا حلق أو قلم أظفاره أو وطئ أو قتل الصيد فإنه لا يعذر في هذا سواء كان ناسياً أو جاهلاً أو عامداً فعليه كفارة، بخلاف الطيب وتغطية الرأس، ولبس المخيط، فهذه يعذر فيها الجاهل والناسي هذا المذهب، والتعليل قالوا: لأن هذا فيه إتلاف، والإتلاف يستوي فيه العمد والجهل والنسيان.

    فالشعر فيه إتلاف، وتقليم الأظفار فيه إتلاف، والصيد فيه إتلاف، فلا يعذر الجاهل ولا الناسي ولا العامد.

    أما ما ليس فيه إتلاف كالطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس، فهذا إن كان متعمداً فعليه الفدية وإن كان جاهلاً ناسياً فإنه يعذر.

    القول الثاني: أنه لا فرق بين ما فيه إتلاف وما ليس فيه إتلاف، وأنه إذا فعلها ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وهذا هو الصواب.

    والقول الثاني لأهل العلم أنه لا فرق في ذلك حتى الصيد، وعند الجمهور أن الصيد لا يعذر فيه الناسي، ولا الجاهل، وأما قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، قالوا: هذا فيه جزاء الصيد المتعمد في القرآن، وثبت في السنة أيضاً أن على غير المتعمد الكفارة، والصواب: أن الناسي والجاهل معفو عنهم، ولا فرق بين ما فيه إتلاف، وما ليس فيه إتلاف.

    أما المذهب فيفرق بأن ما فيه إتلاف فلا يعذر فيه الناسي والجاهل، وما ليس فيه إتلاف فيعذر فيه الناسي والجاهل، ولا فدية عليه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وسائر المحظورات لا شيء في سهوه ].

    يعني: غير ما سبق مما ليس فيه إتلاف، مثل: الطيب، وتغطية الرأس، ولبس المخيط.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق به ].

    أي: إذا كان عليه هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم، والمراد بمساكين الحرم: من وجد في مكة من الفقراء الذين لهم أخذ الزكاة، سواء كانوا من أهل البلد أو من غيرهم، حتى ولو من الحجاج القادمين، فمن كان في مكة وهو مستحق للزكاة فإنه يعطى.

    قوله: (إلا فدية الأذى) وذلك إذا كان في الطريق وهو محرم -قبل أن يصل إلى مكة- احتاج إلى حلق رأسه أو إلى تغطية رأسه؛ لأن الوقت بارد، يغطي رأسه ويدفع الفدية في مكانه، ولا يجوز أن يخرجها في مكة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهدي المحصر ينحره في موضعه ].

    أي: إذا منع من دخول مكة فإنه يذبح في مكانه؛ لأنه لا يستطيع إيصاله، إلا إذا سمح له أن يدخل إلى مكة ويذبح فيها فلا بأس، فيذبحه في مكانه ثم يتحلل في المكان الذي أحصر فيه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الصيام فيجزئه بكل مكان ].

    إذا قيل: عليه صيام فإنه يجزئ في مكة وفي غيرها؛ لأنه لا ينتفع منه أحد، بخلاف الهدي أو الإطعام فإنه يكون في الحرم؛ لأن المراد نفع مساكين الحرم.

    أما الصيام إذا وجب عليه الصيام فيصوم في أي مكان، أو في الطريق، أو في أي بلده؛ لأنه لا ينتفع منه أحد.

    فإذا منع المحرم عن البيت لابد أن يذبح ويتحلل قبل أن يلبس ثيابه.

    وإذا لبس ثياباً غير لبس الإحرام لئلا يمنع وهو محرم في قلبه فإن عليه فدية؛ لأنه متعمد.

    1.   

    ما يستحب فعله عند دخول مكة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب دخول مكة.

    يستحب أن يدخل مكة من أعلاها، ويدخل المسجد من باب بني شيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منه ].

    يستحب دخول مكة من أعلاها، والمسجد من باب بني شيبة، والخروج من أسفلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فدخل من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى، فيستحب للمسلم أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل مكة من أعلاها من جهة الحجون؛ لأنه إذا جاء من جهة الحجون يكون مقابل الكعبة من أمامها، وهو الذي كان يأتيه حجاج نجد، ويخرج من أسفلها وهذا من باب الاستحباب، وأعلاها يقال له: كَدى بالفتح، وأسفلها يقال له: كُدى، وأهل مكة يقولون: افتح وادخل واضمم واخرج، افتح وادخل: كَدى، واضمم واخرج: كُدى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها من كَدى وخرج من كُدى، وهذا من باب الاستحباب، وإلا فلو دخل من أي جهة فلا حرج.

    وكذلك دخول المسجد من باب بني شيبة، ويقال له مؤخراً: باب السلام؛ لأنه إذا دخل منه يأتي الكعبة من أمامها مواجهاً لها، ويقابل الحجر، وإن دخل من أي باب فلا حرج عليه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله، وحمده ودعا، ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً ].

    وهذا وردت فيه آثار من الصحابة، لكن في ثبوتها نظر، ولكن الثابت: أنه يقدم رجله اليمنى، ويقول الذكر المشروع في دخول المساجد: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.

    أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم.

    وقول: رب افتح لي أبواب رحمتك، أخذ من عدة آثار، وأما التسمية فإنها وردت في حديث منقطع من رواية فاطمة بنت الحسين عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فاطمة الصغرى ، وفاطمة الكبرى ، وهي لم تسمع منها، فهو منقطع، لكن يدل على التسمية الأدلة العامة في الحث على قول باسم الله عند كل أمر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً أو بطواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً ].

    وكذلك إذا كان متمتعاً، فالمعتمر هو الذي أتى بعمرة وحدها في أي وقت يبدأ بطواف العمرة، وطواف القدوم يكفي عنه طواف العمرة في هذه الحالة، كما لو جاء وقد أقيمت الصلاة في الفريضة، فأداء الفريضة تكفي عن تحية المسجد، كذلك طواف العمرة يكفي عن طواف القدوم، هذا إذا كان معتمراً.

    وكذلك إذا كان متمتعاً -وهو الذي أتى بالعمرة ويريد أن يحج من عامه- فطوافه يكون للعمرة، ولا يحتاج لأن يطوف طواف القدوم، فلا يطوف طوافين أحدهما للقدوم والثاني للعمرة، يطوف طواف العمرة فيكفي عن القدوم.

    أما إذا كان مفرداً أو قارناً -والمفرد: هو الذي لبى بالحج وحده، والقارن: هو الذي لبى بالحج والعمرة معاً- فهذا يطوف طواف القدوم، وهو سنة وليس بواجب.

    أما طواف الحج بالنسبة للقارن فإنه يكون يوم العيد، وهو طواف الإفاضة، ويكون طوافه الأول سنة للقدوم.

    أما المعتمر فطوافه فرض؛ لأن عليه طوافين وسعيين، طواف للعمرة وسعي للعمرة، وطواف للحج وسعي للحج.

    أما المفرد والقارن ما عليهما إلا طواف واحد وسعي واحد، فلهذا كان الطواف الأول للقدوم.

    وأما تحية الكعبة فهي الطواف، وتحية المسجد صلاة ركعتين، فإذا أراد أن يطوف طاف، وإذا لم يرد الطواف صلى ركعتين، وجلس كسائر المساجد.

    1.   

    صفة الطواف

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فيضطبع برادئه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ]

    والاضطباع يكون في طواف القدوم، وهو أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، فيكون كتفه الأيمن مكشوفاً، فهذا سنة في جميع السبعة الأشواط، وهو أول طواف يقدم به مكة، فيسن فيه الاضطباع سواء كان طواف العمرة أو طواف القدوم.

    والسنة الثانية في هذا الطواف: الرمل، ومعناه: الإسراع في المشي مع مقاربة الخطا، لكن الرمل لا يكون إلا في الثلاثة الأشواط الأولى فقط، وأما الأربعة الأخيرة فلا يرمل، وإنما يمشي مشياً، فهما سنتان في أول طواف يقدم به مكة لحج أو لعمرة.

    وما عدا الطواف الأول فلا تشرع هاتان السنتان، لا في طواف الإفاضة، ولا في طواف الوداع، ولا في طواف التطوع، فلا اضطباع ولا رمل.

    وبعض الحجاج تجده يضطبع من أول ما يحرم حتى يحل إحرامه، وهذا غلط؛ لأن هذا الفعل فيه إضاعة للسنة، فتجده في عرفة مضطبعاً كاشفاً للكتف، وفي منى مضطبعاً، وفي السعي مضطبعاً، وفي جميع أحواله حتى يحل إحرامه! وهذا من جهلهم!

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ويقبله ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ].

    أول ما يبدأ بالطواف يبدأ بالحجر الأسود فيمسحه بيده اليمنى ويقبله بشفتيه ويقول: باسم الله والله أكبر، هذا مستحب.

    فالاستلام هو المسح، والتقبيل: التكبير، فلو ترك فلا حرج، لكن هذا مستحب، فيستلمه ويقبله، فإن شق عليه التقبيل من الزحام استلمه بيده وقبل يده، فإن شق عليه استلمه بعصا وقبله، فإن شق عليه أشار إليه بيده وكبر.

    ويقول في بداية الطواف: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مستحب، فالاستلام والتقبيل والتكبير والدعاء كلها أمور مستحبة، ولو تركها فلا حرج.

    والطواف له شروط فمن شروطه أولاً: النية، ينوي بقلبه أن هذا طواف القدوم، أو هذا طواف العمرة، أو طواف الحج، لا بد من النية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فلو لم ينو ما صح الطواف، ولا يتلفظ بالنية كما يفعله بعض الناس من التلفظ بالنية من قولهم: اللهم إني نويت أن أطوف بالبيت سبعة أشواط طواف القدوم أو طواف العمرة أو طواف الوداع، التلفظ هذا بدعة ليس له أصل، وإنما النية محلها القلب، فينوي أن هذا طواف القدوم، وهذه النية لا بد منها فهي شرط، فإن لم ينو لم يصح الطواف.

    الشرط الثاني: أن يكون مستور العورة، فإن كان مكشوف العورة لم يصح الطواف.

    الشرط الثالث: أن يكون متطهراً من الحدث الأكبر والأصغر.

    الشرط الرابع: أن يجعل البيت عن يساره فإن جعله عن يمينه لم يصح.

    الشرط الخامس: أن يوالي بين الأشواط السبعة، فإن فصلها لم يصح إلا بفاصل يسير كما لو أقيمت الصلاة فإنه يصلي ثم يواصل من حيث وقف.

    الشرط السادس: أن يطوف من وراء الحجر، فإن دخل بين الحجر وبين الكعبة لم يصح الطواف.

    الشرط السابع: أن يستوعب الأشواط السبعة كلها، فإن ترك ولو شيئاً يسيراً منها لم يصح.

    الشرط الثامن: ألا يطوف على الشذروان وهو ما فضل عن جدار الكعبة.

    هذه كلها شروط لا بد منها ولا يصح الطواف إلا بها.

    وما عدا ذلك فهو: إما سنن أقوال وإما سنن أفعال.

    فسنن الأفعال: مثل استلام الحجر وتقبيله، والاضطباع، والرمل، كل هذه سنن.

    وسنن الأقوال: مثل التكبير، وكذلك الإشارة إلى الحجر الأسود في كل مرة مع التكبير، وقول: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، والقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، والذكر أثناء الطواف أو تلاوة شيء من القرآن، كل هذا مستحب، المهم الإتيان بهذه الشروط الثمانية، فإن أتى بهذه الشروط صح الطواف وإلا لم يصح، ولو طاف الأشواط السبعة وهو ساكت لم يتكلم صح طوافه، لأن الأذكار مستحبة، ولو لم يضطبع أو لم يشر أو لم يرمل، صح، المهم الإتيان بهذه الشروط.

    وهناك بعض الناس قد يكون معه نساء فيستدبر الكعبة من أجل الحفاظ على النساء في الزحام، وهذا لا يجوز، لا بد أن يجعل البيت عن يساره؛ لأن هذا شرط، فإذا استدبرها يرجع في الجزء الذي استدبره، فإن لم يرجع لم يصح الطواف، ولا يجوز أن يستدبر الكعبة، فيرجع إلى المكان الذي استدبر الكعبة فيه.

    وأما بالنسبة للإشارة والتكبير فيشير بيده ويكبر وهو ماش ولا يحتاج أن يقف مثلما يفعل بعض الجهال، يقف على الخط، ويكبر عشر تكبيرات أو عشرين تكبيرة فيحبس الناس ويؤذيهم!

    وأما بالنسبة للرمل فهذا حصل في عمرة القضاء، أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يرملوا من الحجر الأسود إلى أن يصلوا الركن اليماني، فإذا وصلوا مشوا؛ وذلك لأن كفار قريش كانوا من جهة الحجر يرونهم، فإذا جاءوا إلى الركن اليماني اختفوا عنهم، فأمرهم النبي أن يمشوا ما بين الركنين حتى لا يشقوا على أنفسهم؛ وذلك لأن كفار قريش قالوا: يقدم عليكم محمد وأصحابه قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يروا من أنفسهم القوة، فنظروا إليهم وهم يرملون فقالوا: انظروا إليهم ينقزون نقز الغزلان، ثم بعد ذلك في حجة الوداع أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا من الحجر إلى الحجر، واستقرت السنة في أن الرمل يكون في جميع الأشواط حتى ما بين الركنين.

    كذلك إذا سقط عنه الإزار فإذا أخذه بسرعة وستر عورته يعيد الشوط، وإذا طال الفصل وهو مكشوف العورة فإنه يعيد الطواف من جديد.

    أما الوضوء للطواف فقد جاء اشتراط الطهارة في الطواف من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه).

    والأحناف يرون أنه واجب، وبعضهم يرى أنه سنة، ويميل إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله، لكن المعتمد الآن أنه شرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وطاف بالبيت على طهارة، وقال: (خذوا عني مناسككم) وقال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه)، وإن كان فيه كلام عن ابن عباس في رفعه ووقفه، ولذلك إذا انتقض وضوءه فإنه يذهب يتوضأ ويعيد الطواف من جديد كما لو أحدث في الصلاة فإنه يتوضأ ويعيد الصلاة من جديد.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره فيطوف سبعاً ].

    وهذا شرط يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره.

    وقوله: (سبعاً) هذا شرط، أن يستوعب سبعة أشواط.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ] هذا الرمل سنة، والرمل: هو إسراع المشي مع مقاربة الخطا، وإذا دار الأمر بين أن يقرب من الكعبة ولا يرمل، أو يبعد من الكعبة ويرمل، فأيهما يقدم؟! إذا كان بعيداً عن الكعبة استطاع أن يرمل، وإذا قرب ما استطاع، فأيهما يقدم؟! أن يقرب من الكعبة ولا يرمل أو يبعد من الكعبة ويرمل؟!

    الصواب: أنه يبعد ويرمل؛ لأن الرمل سنة تتعلق بالطواف أي: بذات العبادة، والقرب من الكعبة سنة تتعلق بمكان العبادة، والمحافظة على سنة تتعلق بذات العبادة مقدمة على المحافظة على ما يتعلق بمكان العبادة.

    فالقاعدة تقول: المحافظة على سنة تتعلق بذات العبادة مقدم على المحافظة على سنة تتعلق بمكان العبادة.

    [ يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ].

    هذه السنة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع وفي عمرة القضاء أن يرملوا إلا ما بين الركنين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويمشي في الأربعة الأخرى، وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل ].

    قوله: (استلمهما) يعني: المسح باليد اليمنى.

    قوله: (وكبر) قال: الله أكبر.

    أما التهليل فلا أذكر في هذا سنة؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في طوافه، قال نافع : وكان ابن عمر يفعله).

    وروى البخاري عن ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر).

    فلا يوجد تهليل في هذه الأحاديث، فالسنة أنه يستلمه ويكبر، فإذا لم يستلمه بيده يستلمه بعصا ويكبر، وإذا لم يتمكن يشير إليه إشارة ويكبر.

    والركن اليماني يستلمه ويكبر إذا أمكن، وإذا لم يمكن فلا يكبر على الصحيح.

    والرواية الأخرى: أنه يكبر، والصواب: أنه لا يكبر إلا إذا استلم الركن اليماني، وإذا لم يستلمه مشى وتركه، فهذا هو الصواب.

    أما الحجر فإنه يستلمه ويكبر، فإن لم يتمكن من استلامه أشار إليه وكبر، فهذا خاص بالحج على الصحيح.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] ].

    وهذا مستحب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويدعو في سائره بما أحب ].

    وكل هذا من المستحبات.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يصلي ركعتين خلف المقام ].

    هذا هو السنة، إذا انتهى صلى ركعتين خلف المقام إن تيسر؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، يقرأ فيهما الفاتحة في الأولى وبعدها سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، والركعة الثانية: يقرأ الفاتحة وسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فسورة الكافرون والإخلاص شعار بأن الإنسان إنما يطوف بالكعبة امتثالاً لأمر الله، فهو يعبد الله ولا يعبد الكعبة ولا غيرها، وإذا نسي الركعتين فلا حرج لأنهما مستحبتان.

    وأما السترة في مكة فلا يوجد دليل على تخصيص مكة، ولهذا بوب البخاري في الصحيح فقال: باب: السترة بمكة وغيرها، فلا يوجد دليل يخص مكة، والأحاديث في هذا ضعيفة.

    ومن الأدلة على هذا حديث أبي جحيفة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأبطح وجعل العنزة أمامه سترة)، لكن قد يقال: إن الأبطح خارج مكة في ذلك الوقت، وخارج حدود البنيان.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويعود إلى الركن فيستلمه ].

    لكن إذا اشتد الزحام سقط الواجب، وهذا إذا كان لا يستطيع قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    والأدلة العامة تدل على أن الواجب إذا عجز عنه سقط، وهذا ليس بواجب عند الجمهور، والسترة ليست واجبة وإنما هي مستحبة.

    وقال آخرون من أهل العلم: إنها واجبة، لكن الجمهور على أنها مستحبة، فتسقط في المسجد الحرام.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويعود إلى الركن فيستلمه، ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ويكبر الله ويهلله ويدعوه ].

    هذا هو السنة، إذا انتهى من صلاة ركعتين، يذهب إلى الحجر ويستلمه إن تيسر له، وإن لم يتيسر تركه، ثم يذهب إلى الصفا فيقف على الصفا إن تيسر، ويكبر الله ويحمده ويهلله ويقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ويدعو ويكرر هذا ثلاثاً وهو رافع يديه على الصفا والمروة في كل مرة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من الطواف استلم الركن، ثم ذهب إلى الصفا -صعد الصفا- ورفع يديه وكبر الله وهلل ودعا، قال هذا ثلاث مرات).

    ويفعل ذلك مستقبلاً البيت، وفي كل شوط يرفع يديه فيكبر ويهلل ويدعو.

    وكذلك أيضاً إذا قرب من الصفا يقرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لما قرب من الصفا قرأ الآية.

    وأول الصعود إلى الصفا هو أول الجبل، فأول ما يبدأ الارتفاع هذا هو أول الجبل، وكذلك في المروة، فكونه يصعد سنة، وإن لم يصعد فلا حرج، إذا وصل إلى أصل الجبل كفى.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم ينزل فيمشي إلى العلم ثم يسعى إلى العلم الآخر ]

    الأخضر.

    قوله: (ثم يسعى) يعني: يسرع، والسعي: هو الإسراع، فيسعى سعياً شديداً، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تدور به أزرته من السعي، يعني: يسرع إسراعاً أشد من الرمل من العلم إلى العلم، وهذا سنة وليس بواجب، وهو خاص بالرجال، أما المرأة فلا تسعى، ولا تصعد الصفا، ولا المروة، وكذلك لا ترمل؛ لأنها عورة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيفعل كفعله على الصفا ].

    يعني: يرفع يديه ويكبر ويهلل ويدعو ثلاثاً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط ].

    يعني: إذا وصل إلى العلم سعى سعياً شديداً إلى العلم الآخر، وهذا في كل شوط.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة ].

    ذهابه سعية، ورجوعه سعية، يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، فإذا انتهيت بالصفا فإما أنك نقصت واحداً أو زدت واحداً، فإذا انتهيت من السبع بالصفا فأنت مخطئ، لا بد أن تنتهي بالمروة.

    أما بالنسبة للدعاء في الشوط الأخير فلا بأس أن يدعو، فالدعاء مستحب.

    والسعي له شروط ومن شروطه: النية، لابد أن ينوي أن هذا سعي العمرة أو سعي الحج، فإن لم ينو فلا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

    كذلك من شروطه أن يكون بعد طواف مشروع في الحج أو في العمرة، فيكون بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة أو طواف الوداع، ولا يكون بعد طواف التطوع.

    كذلك من شروطه أن يستوعب الأشواط السبعة من الصفا إلى المروة، وما عدا ذلك فليس بواجب، فالطهارة ليست واجبة في السعي بل هي سنة، بخلاف الطواف فالطهارة له واجبة.

    وستر العورة كذلك مستحب، فلو سعى وهو محدث أو بدا شيئاً من عورته صح السعي، كذلك صعود الصفا والمروة، والسعي بين العلمين والدعاء والذكر، كل هذا مستحب، أما الموالاة بين الأشواط ففيه خلاف بين العلماء، والأحوط أن يوالي بين الأشواط.

    أما إذا قدم السعي قبل الطواف ففيه قول بجواز هذا في يوم العيد، لحديث أسامة : (سعيت قبل أن أطوف قال: طف ولا حرج)، لكن الجمهور تأولوا هذا، فينبغي للإنسان الاحتياط فيطوف قبل السعي، ولا يسعى إلا بعد طواف حج أو عمرة، لكن إذا وقع هذا الشيء ولا يمكن تداركه فهذا قد يفتى به، أما إذا لم يقع فينبغي للإنسان أن يسعى ويقدم الطواف على السعي خروجاً من الخلاف.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يقصر من شعره إن كان معتمراً وقد حل، إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن والمفرد فإنه لا يحل، والمرأة كالرجل، إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي ].

    طواف الوداع بعد ا لعمرة الراجح أنه ليس بواجب، لكن ينبغي للإنسان أن يحافظ عليه، فالجمهور على أنه ليس بواجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الحجاج ينفرون من كل وجه قال لهم: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، فهو إنما قال هذا للحجاج، وإذا طاف للوداع لا بأس في أن يصلي ركعتين خلف المقام ثم يمشي.

    وإذا كان قارناً وسعى بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم فلا بأس بذلك إن قدم السعي على طواف الإفاضة، لأن السعي أتى بعد طواف مشروع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755964255