إسلام ويب

تفسير سورة الشورى [23 - 25]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لم يعهد الكفار في الجاهلية على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً قط، فكان لزاماً لذلك بل الأحرى ألا يكذب على الله عز وجل، فالذي يكذب على الله عز وجل أو يعصيه له عذاب شديد، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، فقد جعل باب التوبة مفتوحاً لكل مذنب تائب، حتى المشرك يغفر الله له شركه إذا تاب قبل موته، ولابد في يوم القيامة من القصاص لرد الحقوق إلى أهلها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذباً ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الشورى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:24-25].

    قال الله سبحانه وتعالى للنبي صلوات الله وسلامه عليه: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، ومعناها كما قدمنا: لا أطلب أجراً على تبليغ رسالة الله سبحانه، والاستثناء استثناء منقطع، أي: ولكن الذي أطلبه منكم أن تودوني في قرابتي، وأن يود بعضكم بعضاً، ولا تقطعوا الأرحام، بل تصلوا ما بيننا من أرحام، حتى ولو لم تتابعوني في أمر الدين، ودعوني أبلغ رسالة الله عز وجل.

    فكأنه يقول لهم صلى الله عليه وسلم راعوا ما بيننا من أرحام في أن تكفوا شركم عنا، إذا لم تتقوا الله عز وجل وتخافوا من الله سبحانه وتعالى، وتدخلوا في هذا الدين فأقل ما فيها مراعاة الأرحام، وهذا الطلب منه صلوات الله وسلامه عليه لأن قريشاً كانوا من أوصل الناس رحماً، وكانوا يعرفون صلة الأرحام ويفعلون ما يصلون به أرحامهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بما قاله الله سبحانه: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، أي: صلوا الرحم التي بيني وبينكم، ولا تقطعوها ودعوها موصولة، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهم لو قاتلوا وحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم انقطعت الأرحام التي بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، فيقول: صلوا الأرحام ودعوني أدعو غيركم إلى الله، فإذا استجاب هؤلاء فذلك خير، وأنتم انظروا في هذه الاستجابة إما أن تتابعوا وإما أن تظلوا على ما أنتم عليه، ولكن عليكم لصلة الرحم، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى.

    ثم قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [الشورى:23]، الذي يقترف ويكتسب حسنة من الحسنات يعطيه الله عز وجل من فضله الحسنى وزيادة.

    قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ، أي: بل أيقولون؟ تسمى (أم) هذه الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، تحذف (أم) وتوضع مكانها (بل أ) كأنه يقول: أضرب عن هذا وانظر في أمر هؤلاء هل يقولون أنك افتريت على الله سبحانه وتعالى، اعجب لأمر هؤلاء، بل أيقولون قد افترى على الله كذباً، وهم قد قالوا ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].

    فالله عظيم وكريم ولطيف، فانظر إلى تلطفه بنبيه صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان عندما يكون صادقاً إذا قيل له: أنت كذاب، يتألم ويتوجع ويتأسف، بخلاف الإنسان الكذاب، إذا أتى إنسان وقال له: أنت كذاب لا يتأثر؛ لأنه يعرف نفسه أنه كذاب، وإن كان يظهر أمام الناس أنه متأثر، فكل ذلك كذب وكله تمثيل، لكن الصادق عندما يقال له: أنت كاذب، فهذا يؤلمه جداً ويتعبه، وقد يهلكه مثل هذا الافتراء ومثل هذا الاتهام.

    فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كذاب، فأتعبه ذلك جداً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بالله يتلطف معه ويقول له: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، أي: هم يعرفون الحق تماماً، وأنا أظهر لك ما بداخل قلوبهم، فهم يجحدون، والجحود عكس الإقرار، فالإقرار: أن تشهد على نفسك بالحق الذي تعلمه، والجحود: أن أنفي ما أنا مقر به في داخلي، وهذا بخلاف الإنكار، فالإنكار: كمن يقول لك: ليس لك عندي شيء، والله ما لك عندي شيء، فهو يحلف وفي زعمه أنه صادق في نفسه، فهو ينكر هذا الشيء وقد يكون ناسياً، إما الجاحد فإنه يجحد الشيء وينفيه وهو في قلبه معترف به ويعرفه، فالظالمون بآيات الله لا ينكرون وإنما هم بآيات الله يجحدون، قال تعالى: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].

    ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، أنت ستهلك نفسك عليهم لماذا؟ فقوله تعالى: بَاخِعٌ، أي: مهلك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، أي: ألا يكونوا مؤمنين، فالنتيجة ليست عليك، فلست عليهم بمسيطر، ولست عليهم بوكيل ولا حفيظ، النتيجة على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99]، عليه الصلاة والسلام، فعليك أن تبلغ الرسالات، فإن استجابوا فلك الأجر ولهم الأجر، وإن لم يستجيبوا فلك الأجر وعليهم الوزر، فعلى ذلك إن قالوا: افتراه، فهم يجحدون ويكذبون.

    فقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، أي: بل أيقولون افترى على الله الكذب، وافترى، أي: جاء بالفرية، والفرية: أعظم الكذب، فكأنه يقول: هل يقولون عنك جئت بأعظم الكذب؟ تركت الكذب على الناس وكذبت على الله سبحانه وتعالى؟ وقد سأل هرقل أبا سفيان فقال: هل عهدتم منه كذباً؟ قال: لا، قال: فما كنت لأراه يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى.

    عقاب الله تعالى لمن يفتري عليه

    قال الله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، لو حصل أنك افتريت على الله سبحانه -وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه- لختم الله عز وجل على قلبك، فهؤلاء بلغت بهم السفاهة أن يظنوا أنك تكذب على الله سبحانه، ويؤيدك الله بالمعجزات وأنت تكذب عليه كيف يكون ذلك؟ ولو حصل أنك كذبت على الله- وحاشا له صلى الله عليه وسلم- لطبع الله على قلبك وعاقبك، وهم يعرفون كيف ينتقم الله عز وجل ممن يعصيه وخاصة في الحرم، فقد كان عندهم تمثالان: إساف ونائلة، يقولون: هما رجل وامرأة كانا يزنيان في الحرم فمسخهم الله إلى صنمين، فكانوا يعرفون أن هذين ارتكبا معصية لله عز وجل في الحرم، والكفار كانوا يقعون في الزنا.

    فالله عز وجل يعاقب داخل الحرم من يقع في معصية أو يكذب على الله سبحانه، فإن أبرهة لما أتى إليهم من اليمن وأراد أن يدمر الكعبة وأن يصرفهم من التوجه إلى البيت إلى القليس دمره الله عز وجل وجنده، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الفيل:1-2]، أي: في ضلال، تاه كيدهم وذهب والإنسان يجمع كيده حتى يتوجه بهذا الكيد كله على عدوه فيقصمه، فإذا جمع العدد والعدد، وجاء بسلاحه هذا، وفجأة ضرب بالسلاح فكان هباءً منثوراً، وذهب وضل كيده، قال تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:3-4]، أي: من نار جهنم فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5]، أي: صاروا كتبن أكلته البهائم ثم روثتهم، فالله هو الذي يصنع ذلك بأعدائه دائماً، فهل يترك الله إنساناً يفتري عليه، وليس هذا فقط، بل ويؤيده بالمعجزات، فيعطيه القرآن العظيم المعجزة الخالدة، ويجعله يشير إلى القمر فينشق القمر، ويرون من آياته صلوات الله وسلامه عليه ومعجزاته، أين ذهبت عقول هؤلاء؟

    ولذلك يقول لهم سبحانه وتعالى، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، ولها معانٍ من ضمنها هذا المعنى الذي ذكرناه، فقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، أي: إن كذبت على الله سبحانه وتعالى فالله عز وجل يطبع على قلبك وينسيك هذا الذي أنت فيه من أمر الدعوة إلى الله والرسالة وغير ذلك.

    والمعنى الآخر لقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]: إن يشأ الله يحرمهم من هذا الفضل العظيم ويحرمهم من هذا القرآن، فيختم على قلبك فلا تبلغهم شيئاً، ففي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم جميعهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم اطلع الله على أهل الأرض فأبغضهم جميعهم ومقتهم، والمقت: أشد البغض لشركهم بالله، إذ كانوا يعبدون الأصنام وكانوا يتوجهون بها إلى الله سبحانه، وكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغصب بعضهم مال بعض، ويأخذ بعضهم حريم بعض، ولا يوجد عدل بينهم، ولا إحسان فيما بينهم، فمقت الله أهل الدنيا جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على التوحيد، وليس كل أهل الكتاب، وإنما الذين كانوا على التوحيد، وكانوا ينتظرون خروج النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    الغرض: أن الله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنْ يَشَإِ اللَّهُ [الشورى:24]، (إن) لفظة جازمة، تفيد تأكيد أن هذا قبل الحدوث، بخلاف (لو) فإنها تفيد امتناع وقوع شيء لامتناع وجود شيء آخر، فهي حرف امتناع لامتناع، تقول: لو جئتني أكرمتك، فهو يعرف أنك لن تأتي، ولكن الله تعالى قال: إِنْ يَشَإِ اللَّهُِ ، فالقدرة صالحة، والله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.

    ولذلك كان يقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ويقول: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان طالما وهو في الدنيا فهو في قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، فلا يعجزه شيء، فإذا قال ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى أن يخاف المشركون على أنفسهم؛ إذ إن هذا القول للنبي الذي هو خليل الرحمن وحبيب الله سبحانه وتعالى ومع ذلك يقال له ذلك، إذاً: خافوا على أنفسكم أنتم.

    فقوله تعالى: إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، أي: ينسيك هذا الذي آتاك الله سبحانه وتعالى، ويحرمهم من هذا الفضل.

    المعنى الثالث لقوله تعالى: إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، أي: يربط على قلبك، ويقويك على هؤلاء، وهذا وعد قد فعله الله سبحانه وتعالى ونفذه، فـ (إن) تفيد احتمال وجود ذلك، بخلاف (لو)، والآية تحتمل معاني كما ذكرنا، وبعضها يعضد بعض وليست متنافرة.

    محو الله للباطل وإحقاقه للحق

    قال الله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الشورى:24] ستجد هذه الكلمة مكتوبة في المصاحف كلها: وَيَمْحُ [الشورى:24] ياء، ميم، حاء، لا يوجد بعدها واو، وإن كان إعرابها أنها استئنافية مبتدأ بها، فهي جملة جديدة، فهو فعل مضارع مرفوع وليس مجزوماً، فليست معطوفة على ما قبلها، وهذا من جمال كتاب الله سبحانه ومن توفيق الله سبحانه للذين كتبوا المصحف فقد كتب المصحف بطريقة في غاية العجب، ولو أن الإنسان تفكر كيف كتب هذا المصحف لشعر أن من ضمن إعجاز القرآن كتابة القرآن.

    والقرآن العظيم كتب من غير نقط، والذين كتبوه هم الذين تلقوا القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكتبوا القرآن على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن بكل قراءاته، فكتبوا الكتاب الذي يحتمل جميع القراءات التي فيها، بل وتحتمل اللهجة أيضاً في الكلام، فتجدهم كتبوا الكلمة التي ترجع لأصل فيها، مثل كلمة (الصلاة) فقد وضعوا بعد اللام واواً؛ لأن ألفها أصلها واو، ولذلك ردها للأصل، والزكاة أصلها واو وأعادها إلى أصلها، فعندما يعيدها إلى أصلها وتقرأ قراءة من القراءات لأهل الإمالة مثل: حمزة والكسائي وخلف، فإنك تعرف أن ألف الزكاة واوية، وليست يائية، ومستحيل أن يكون فيها إمالة، إلا أن يخطئ الإنسان في قراءة أو في كلام، كقراءة البعض من الناس، وكلهجة بعض الناس يقول لك عن الساعة: السيعة مثلاً، فهذه لهجته.

    وقد راعى القرآن لهجات العرب في ذلك، ومن كتب القرآن راعى أصول الكلمات حتى لا يخطئ من يقرأ على أي وجه من الوجوه، ويعرف أن هذه واوية لا تقرأ أبداً بإمالة، فلا نقول في الصلاة: الصلية مثلاً، ولا في الزكاة: الزكية، بخلاف الربا، وإن كتبت لاحتمال الأمرين، فتقرأ بالإمالة وتقرأ: (والربا)، كذلك هنا في هذه الكلمة لاحظ الكاتب أن يَمْحُ اللَّهُ ، الواو بعدها ألف الوصل، فلو أنه كتب (يمحو الله) فستقرأ: (ويمحو الله) وهذا لا يصلح، فلالتقاء الساكنين لابد من حذف واحد من الاثنين والتعبير عنه بحركة من الحركات، لذلك كتبت وَيَمْحُ اللَّهُ ، لأنك تنطقها هكذا: وَيَمْحُ اللَّهُ ، ولكن لا تعرب أنها معطوفة على ما قبلها.

    فقوله تعالى: إِنْ يَشَإِ اللَّهُ ، إن: أداة جزم، يشأ: فعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط، والجواب: يختم، وَيَمْحُ ، لو جعلناها معطوفة على إِنْ يَشَإِ ، لكان المعنى: يمحو الله الباطل إن يشأ، وهذا لا يصلح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى بأنه يحق الحق ويبطل الباطل، فقد قضى أن هذا لا بد أن يكون، فلذلك (يمحو) ليست معطوفة ككلمة، وإنما العطف عطف جملة، فتصبح الواو عاطفة لما بعدها للجملة كلها على ما قبلها، وتصير (يمحو) كلمة في ابتداء، فيصبح فعلاً مضارعاً مرفوعاً.

    ومثل هذه الكلمة قوله تعالى: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:18]، فليست لزوماً، بل أصلها (سندعو): فعل مضارع مرفوع، ولكن كتبوها عيناً مضمومة لالتقاء الساكنين، وهذا من حكم كتابة القرآن بهذه الطريقة العجيبة الجميلة، كذلك عندما تقرأ في المصحف الذي لم يكن منقوطاً فإن الله يذكر معنى في آية ما، وإذا قرأت نفس الآية بوجه آخر فإنك تجد لها معنى آخر، يريد الله عز وجل هذا المعنى ويريد هذا المعنى، ففي القراءة الأولى لا نضع نقطاً، وطالما أن هذه قراءة وهذه قراءة فلا نضع نقطاً، حتى إن الذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك، والذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك.

    قال تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ، أي: يزيل الباطل، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32]، ويقول تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف:8] انظر لهذا التعبير، نور الله سبحانه نور عظيم، وكأنهم ظنوا أنها نار خافتة بسيطة سوف يطفئونها بالنفخ فيها، وقد حاولوا وفعلوا، وإذا بهؤلاء الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله سبحانه يجعل الله عز وجل في قلوب بعضهم نوراً فيدعون إلى دين الله بعد ذلك، منهم: عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تبارك وتعالى عنه، الذي أراد في يوم من الأيام أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يقرأ القرآن فإذا به يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الصحابة خافوا منه، فقد أتى وهو متقلد سيفه، وإذا بـحمزة رضي الله عنه يقول: دعوه فإن أراد شيئاً قتلناه بسيفه، ويدخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم ويمسكه النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه ويقول: أما آن لك أن تؤمن؟ قال: لقد جئت لأسلم، فكان إسلام عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً، وما تجرأ المسلمون أن يمشوا في الطريق إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه.

    ولم يكتم عمر إسلامه؛ بل خرج بين الناس وصرخ فيهم بلا إله إلا الله، وأعلن إسلامه، يقول عبد الله بن عمر وكان صغيراً: إذا بهم يفيضون إليه كالسبيل، أراد الكفار من كل وادٍ أن يهجموا على عمر ويضربوه رضي الله عنه، ومن العجب أن الذي أنقذ عمر هو الوليد بن المغيرة ، فقد قال: أنا على ما هو عليه، فخافوا من الوليد بن المغيرة ، ولم يكن على ما هو عليه، فإذا بهم يتركون عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يصرخ فيهم بلا إله إلا الله، ويخرج المسلمون مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه ويتوالى إيذاء الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك.

    قوله تعالى: ويُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ، أي: بما أنزل من هذا القرآن العظيم، يحق الحق بقضائه وقدره، ويحق الحق بكن فيكون، ويحق الحق سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين، والمؤمن يجاهد بلسانه وبيده وبقلبه وإيمانه ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فالإنسان يجاهد والذي يأتي بالنتيجة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي ينصر الدين وينشره ويفتح له القلوب، وإنما المجاهد سبب من الأسباب فقط.

    قال تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ، أي: يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فهو العليم، وهو الشهيد، وهو الخبير، وهو اللطيف سبحانه وتعالى، وهذه كلها من أسماء الله الحسنى العظيمة التي فيها معانٍ متقاربة، وإن كان كل منها يختص بشيء فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فالله عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب، يعلم كل ما ظهر وما خفي، وما كان في السر وما كان في العلن سبحانه وتعالى.

    ولكن يعطي معنى زائداً هنا أنه ما خفي علمه الله سبحانه وتعالى، ففي هذه الآية إشارة للعلم الخفي، والله شهيد أي: عليم سبحانه، ولكن العلم بالجلي أي: الشيء الظاهر المشاهد، فالله عز وجل عليم وخبير وشهيد، والله سبحانه لطيف عليم، فيعامل العباد بعلمه سبحانه وتعالى وبلطفه الخفي، فيرفق بهم لما يعلم في قلوبهم سبحانه وتعالى مما يستحقون، وقد فسرنا قبل ذلك هذه الكلمة العظيمة.

    فقوله تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى:24]، أي: عليم بما تحتويه صدور خلقه.

    وقوله: بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى:24]، أي: بما في القلوب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده...)

    قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، فانظروا إلى كرم الله سبحانه وتعالى، هم يقولون: افتراه، والله عز وجل يخبر عن هذه الجريمة التي قالوها وعن العقوبة، ثم يقول: إنه يبسط لهم يد التوبة إن تابوا إلى الله، فيتوب الله عز وجل على هؤلاء إن تابوا إليه، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ، أي: يقبل توبة عباده، فعل وفاعل ومفعول، قوله تعالى: عَنْ عِبَادِهِ ، يعتبر المفعول الثاني، فكلمة (يقبل) تتعدى لمفعول واحد فقط، ولا تتعدى للمفعول الثاني إلا بمن أو بعن، فهنا تعدَّت للمفعول الثاني بقوله: عَنْ عِبَادِهِ .

    ومن العباد من يتوبون إلى الله فيقدمون هذه التوبة فيتجاوز الله عن عباده سبحانه وتعالى، فكأن معنى: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ، أي: يعفو ويتجاوز عن عباده، فالقرآن كتاب فصيح وبليغ، يعبر بالكلمة عن الجملة، وبالحرف عن الجملة، فقوله تعالى: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ، أي: أخذها، ولكن لا نعرف ماذا فعل بهم، لكن لما قال: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى:25]، قد قبل ما قالوا، قالوا: تبنا، فقال: تبت عليكم ولن أعاقبكم، ومحونا هذا الذنب وتجاوزنا عنه وعفونا عنه، فقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ، اي: يعفو عن هؤلاء العباد فيما أسرفوا وفيما وقعوا فيه، يقبل التوبة عمن تابوا إلى الله وأخلصوا لله، ودخلوا في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص : (مد يدك، فمد يده ثم سحبها، قال: لم يا عمرو ؟! فقال: أريد أن أشترط، قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر الله لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تهدم ما قبلها).

    فإذا كان إنساناً كافراً دخل في دين الله عز وجل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصلح، فهذه تجب ما قبلها، ويغفر الله له كل ما وقع فيه قبل ذلك، ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فالله يتوب عليه.

    قال الله تعالى: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ ، أي: يتجاوز سبحانه وتعالى عن سيئات وقع فيها صاحبها، وقوله: السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، أي: جنس السيئات وكل السيئات يعفو عنها، ولا يوجد ذنب يتعاظم على الله سبحانه وتعالى، فإن اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، وإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، فيغفر الله الشرك فما دونه، فكل الذنوب يغفرها الله سبحانه بالتوبة.

    وإذا مات العبد على الشرك فـ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، لأن الشرك يحبط كل الحسنات، فهو أقبح السيئات التي يقع فيها العبد، فإذا مات العبد على الشرك فإنه لا يرجو مغفرة من الله عز وجل، ولو أن العبد لم يقع في الشرك بالله سبحانه، ووقع في معاصٍ، فإنه يكون في خطر المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أوبقه وعذبه، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، وإذا لم يمت العبد وتاب فإن الله يغفر الذنوب جميعاً الشرك وما دونه، طالما أن العبد يتوب إلى الله فالله يتوب عليه، ولكن التوبة بشروطها.

    فمن تاب إلى الله عز وجل إذا كانت المعصية بينه وبين الله يتوب إلى الله ويستر نفسه ولا يفضحها، وإذا كان بينه وبين الخلق مظالم فلابد من إرجاع المظالم لأصحابها أو التحلل منهم، فالله يعفو عن السيئات بالتجاوز عمن تاب إليه سبحانه.

    وقوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، هذه قراءة حفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب ، وباقي القراء وهم الجمهور يقرءونها: (ويعلم ما يفعلون) سبحانه علام الغيوب، فهو يعلم ما يفعل هؤلاء الكفار، وما يفعلونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن تاب منهم تاب الله عز وجل عليه.

    بعض الآيات والأحاديث الدالة على كرم الله على عباده وتوبته عليهم

    نذكر في التوبة بعض هذه الأحاديث كي نعرف توبة الله وكرم الله سبحانه وتعالى على عباده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فالله عظيم سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، وعندما تسمع قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، تجد كرم الله سبحانه في كونك مسلماً ولست مشركاً، فترجو من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى، فكل من يقول ذلك لا يقع في الشرك ولا يدعو إلا الله، ولا يتوسل إلا بالله، ولا يطلب من غير الله ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى.

    فالدعاء والاستغاثة والاستعانة كلها عبادات، فتلجأ إلى الله عز وجل، وتقول: لا إله إلا الله بشروطها: علم، ويقين، وقبول، وانقياد، وصدق، وإخلاص، ومحبة، وولاء، وبراء، فإذا أتيت بحقها وعرفت معناها، وأيقنت بذلك فإنك مسلم، وإذا وقعت في الذنوب يتوب الله عليك إذا تبت إليه.

    ومن الأحاديث: ما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135])، فليس هناك أحد يغفر الذنوب إلا الله، قال تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، بشرط وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فلابد أن تتوب إلى الله ولا تصر على فعلك، وإذا كانت المعصية تتعلق بحق إنسان، وقيل لك: اذهب استسمح من فلان إذا أردت التوبة، فلم تذهب بل أبيت، فأنت مصر على ما أنت عليه من المعصية، وقد تظلم إنساناً وتقول: لأنه سيئ الأخلاق، فلابد أن تعطيه حقه حتى وإن كان سيء الأخلاق.

    ومن الناس من تجده كثير العناد فيقع في الكفر؛ لأنه يعبر بتعبيرات يخسر بسببها عند الله عز وجل.

    والذي يريد أن يتوب إلى الله لابد أن يرد المظالم إلى أصحابها، ويستسمح ممن وقع في حقهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً).

    وروى الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس ، -وهذا يدل على اهتمامهم بطلب العلم- إذ إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع حديثاً، وهذا الحديث لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعه ممن كان معه، فأحب أن يكون إسناد الحديث عالياً، أي: أقصر سلسلة توصل إلى راوي الحديث، فأراد جابر بن عبد الله أن يسمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فقام يشد رحله إلى الشام شهراً كاملاً، يركب جملاً ويسافر من المدينة إلى الشام لسماع حديث واحد.

    قال: ثم شددت عليه رحلي، فسرت إلى الشام شهراً حتى قدمت عليه، فإذا عبد الله بن أنيس -وهو صحابي من الصحابة الأفاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: فقلت للبواب: قل له: جابر ، قال: جابر بن عبد الله ؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقد تعجب عبد الله بن أنيس من حاله، فقد أتاه من المدينة قائلاً له: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، أي: في قصاص الآخرة، قال: فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعك، قال عبد الله بن أنيس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس -أو قال: العباد- يوم القيامة عراة غرلاً بهماً)، قوله: (عراة)، أي: كما خلقهم الله عز وجل، (غرلاً)، أي: غير مختونين كما نزلوا من بطون أمهاتهم، قال: (قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء)، أي: فقراء ليس لديهم دراهم ولا مال، قال: (ثم يناديهم -أي: ربهم سبحانه وتعالى- بصوت يسمعه من قرب)، يعني: الجميع يسمعونه؛ لأن الصوت قريب منهم، قال: (بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان)، والديان: الذي يدين العباد سبحانه وتعالى، والدين بمعنى: الجزاء، أي: الذي يجازي العباد، ولا أحد يجازيهم غيره (أنا الملك الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه).

    فهذا من أهل الجنة ذاهب إلى الجنة وقد جاوز الصراط، وحسناته غلبت سيئاته، ولكنه عمل عملاً أوقفه عن دخول الجنة، كأن يكون ظلم شخصاً حتى إن كان من أهل النار، قال: (ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة)، أي: ضرب إنسان بيده ظلماً، وقد كان أهل الجاهلية عداة ظالمين بغاة، فقد كانوا يفتخرون بأنفسهم أنهم طغاة، هذا منطق أهل الجاهلية، فلما جاء الإسلام منع الظلم ورد المظالم إلى أهلها، فالمسلم إذا تطاول على خلق الله يأتي به الله يوم القيامة فيأخذ من حسناته ويعطيها لمن ظلم، وهذا هو المفلس يوم القيامة، يأتي بحسنات أمثال الجبال، ولكنه ظلم الخلق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، ولطم هذا، وقذف هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاته فطرحت عليه فطرح في النار).

    هنا يقول الله عز وجل: (حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)، هذا المفلس هو المسكين يوم القيامة؛ لأنه وجد نفسه سيدخل الجنة، لكنه ظلم خلقاً كثيرين، فتؤخذ من حسناته لهذا ولهذا ولهذا، حتى تفنى حسناته كلها، فإن بقي عليه مظالم أخذ من سيئاتهم إلى سيئاته فيقذف في النار، فإياك إياك والظلم، واحذر من العناد والكبر، فهي معصية إبليس، فإياك أن تقتدي بإبليس، فقد قال لله عز وجل عنه أنه قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، ما دمت قد خلقته من طين فأنا أحسن منه خلقتني من نار، فلماذا أسجد له؟ وهكذا تكبر إبليس، فكانت أول معصية يعصى بها الخالق سبحانه أن يستكبر إبليس عن الطاعة، فاحذر أن تقلده حتى لا تكون معه في النار.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756405141