إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [46 - 47]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه الآيات توجيهات ربانية هامة، فقد أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن واتباعه، وإقامة الصلاة؛ لأنها تنهى عن الفواحش والمنكرات، وذكر الله تعالى الذي يكون في كل حال وعلى كل حال، ثم بين المولى سبحانه كيفية جدال أهل الكتاب بالأسلوب الحسن الجميل، وأن يبين لهم أننا مؤمنون بما أنزل الله من كتب وأرسل من رسول، وإلهنا جميعاً إله واحد نحن له منقادون ومذعنون لأحكامه.

    1.   

    أمر الله تعالى لنبيه بتلاوة القرآن والصلاة والذكر

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يتلو ما أوحي إليه من الكتاب وأن يقيم الصلاة صلوات الله وسلامه عليه فقال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فأُمر صلى الله عليه وسلم بالتلاوة والتبليغ.

    وقال له ربه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94].

    فأمره بأن يجهر للناس بهذه الدعوة العظيمة ويدعوهم إلى الله سبحانه، ويستعين على الدعوة إلى الله عز وجل بالصلاة وبذكر الله سبحانه وتعالى.

    والصلاة عظيمة يستعين بها الإنسان على الدعوة إلى الله سبحانه ويتقرب بها إليه، وهي صلة بينه وبين الله.

    والصلاة تنهى العبد عن معصية الله سبحانه، وتنهاه عن الفواحش والمنكرات، وتعينه على طاعة الله سبحانه، وعلى تبليغ هذه الدعوة بما يفتح الله عز وجل على العبد بذلك.

    وأمره بذكر الله والإكثار من ذكره سبحانه فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] أي: ذكر الله أكبر من كل شيء، فإذا كان الإنسان يصلي فينتهي عن الفحشاء والمنكر بهذه الصلاة، وهنا ذكر الله يكون في صلاته وفي عمله وفي قيامه وفي قعوده وفي كل أحواله.

    فإذا كان الذكر قد استولى على قلب الإنسان ليل نهار في كل أحواله سواء في صلاة أو في غير صلاة، فهذا أكبر بكثير من الصلاة وحدها.

    والمعنى: أكثر من ذكر الله سبحانه ولا تترك الذكر.

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، سواء كان على وضوء أم لا، وكان لا يمنعه ولا يشغله عن ذكر الله شيء.

    وذكر الله تعالى يستعين به العبد على طاعة الله سبحانه ويستعين به على الدعوة إلى الله.

    فالذين يدعوهم إلى الله: إما أن يكونوا مسلمين، وإما أن يكونوا كفاراً، وهؤلاء الكفار منهم من في قلبه طيبة، وقد يستمع إلى هذا القرآن فيؤمن؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ مثل هذا وأن يجادله بالحسنى.

    إذاً: بذكر الله وإقامة الصلاة يكون عند الإنسان رصيد في قلبه من تقوى الله عز وجل، ومن طاعته سبحانه، فيدعوه هذا إلى أن يدعو إلى الله بالحسنى، ويدعو إلى الله سبحانه بالموعظة الحسنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ...)

    قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]

    فالإنسان المؤمن يدافع عن دين الله سبحانه: إما بالقول، أو بالفعل.

    والدفاع بالقول يكون بالجدال مع أهل الكتاب ومع غيرهم ممن يريدون أن يتعلموا هذا الدين العظيم، فإذا أرادوا أن يتعلموا فلعل أحدهم يناقش: لماذا قال كذا؟ ولماذا يفعل كذا؟ وما هو الدليل على كذا؟

    فإذا كان يناقش بالحسنى فناقشه بالحسنى، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].

    قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) يقول مجاهد : هي آية محكمة، يعني: ليست منسوخة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى دعائهم إلى الله سبحانه وتعالى، والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم.

    والإنسان الداعي إلى الله تعالى قد يدعو أناساً مسلمين إلى المزيد من الطاعة، وقد يدعو كفاراً ليدخلوا في هذا الدين.

    فالدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فإما أن يستجيب المدعو ويدخل في هذا الدين، وإما ألا يستجيب.

    والمدعو قد يكون كافراً مشركاً، وربنا سبحانه ذكر في سورة براءة كيف يدعى هؤلاء فقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6] انظر إلى هذا الكلام العظيم من رب العالمين: لو أن أحداً من الكفار من أعدائك قال لك: أريد أن أسمع هذا القرآن، وأريد أن أعرف ماذا تقولون، وهو كافر حربي ليس بينك وبينه أمان، فتقول له: اسمع هذا القرآن واسمع هذا الدين العظيم، وتدعوه إلى دين الله عز وجل، وهذا قد يستجيب وقد لا يستجيب، فالذي عليك أن تدعو فقط أما أن يستجيب فهذا أمر الله سبحانه.

    فإذا أتى إليك وسمع منك وقال لك: سأفكر، ولم يدخل في هذا الدين، فما تعمل مع هذا الإنسان؟

    قال: (ثم أبلغه مأمنه) أي: أرجعه إلى مكانه مرة أخرى آمناً حتى لو كان عدوك، ومحارباً لك، بمعنى: أنه لو أتى إليك لقتال جاز قتله، لكن في حال الدعوة إلى الله وعندما يطلب أن يسمع كلام الله فليس شرطاً إذا سمع أن يدخل في الإسلام وإلا قتل.

    فهذا العدو الذي جاء من الكفار إليكم ليستمع إلى هذا القرآن أسمعوه القرآن، وعلموه كلام رب العالمين سبحانه، فإذا استجاب فالحمد لله، وإذا لم يستجب فاصبروا عليه واتركوه يرجع إلى مأمنه مرة ثانية، وبعدما يرجع إلى مأمنه رجع الأمر إلى أنه كافر حربي وأنتم مسلمون، والحرب دائرة بين الإسلام والكفر.

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل كلام رب العالمين سبحانه، ويدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.

    قال سبحانه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ [العنكبوت:46] والأصل أن المسلم لا يجادل إلا دفاعاً عن هذا الدين، فإذا كان بعض المنافقين يتكلم فيجادل ويرد على هذا الإنسان؛ لأنه يستحق ذلك حتى لا يفتن أحداً من المسلمين.

    وكذلك أهل الكتاب لا تدخل معهم في جدال إلا إذا بدءوا بذلك وأحبوا أن يتعرفوا على هذا الدين فيرد عليهم بذلك، ولابد أن يكون معك أساليب الجدال، فليس أي إنسان يصلح للجدال مع هؤلاء، إنما ذلك لأهل العلم.

    فقد يجادل في التفسير فيكون العالم بالتفسير هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في الفقه فيكون العالم الفقيه هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في غير ذلك.

    إذاً: أهل العلم هم الذين يتصدرون لهؤلاء فيجادلوهم بالتي هي أحسن.

    ولكن قد يتطاول هذا الكتابي أو الكافر على المسلمين، ويخرج عن الجدال والمناقشة إلى سوء الأدب وإلى الشتم والتحدي، وإلى أن يقذف هذا الدين، أو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحالة يكون ظالماً فيستحق أن يرد عليه بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.

    ولذلك قال بعض المفسرين: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وقوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] أي: قاتلوا الذين كفروا من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان فيهم الصغار فلا يقاتلون، لكن إذا وصل الأمر إلى التحدي وإلى الاعتداء على هذا الدين، وخرجوا عن الجدل بالحسنى إلى الجدل بالفحش؛ فهنا يستحقون الجهاد والدفع والرد عليهم؛ فلذلك قال الله سبحانه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ [العنكبوت:46]، إذاً: الأصل عدم الجدال، إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] أي: إذا احتجت للرد فرد بالتي هي أحسن مع من يحسن من هؤلاء ويريد أن يتعرف على هذا الدين.

    لكن الذين ظلموا منهم، والذين يسبون ويطعنون في كلام رب العالمين وفي النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح معهم الجدال بالحسنى، قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] أي: فيستحقون أن يجاهدوا في سبيل الله سبحانه.

    قال تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] يعني: قولوا لهؤلاء الذين يجادلون ليتعرفوا ثم يدخلوا في هذا الدين: إن الذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام، وعلى عيسى عليه السلام، والذي أنزل الكتاب على محمد صلوات وسلامه عليه هو إله واحد، وهو الذي نتوجه إليه بالعبادة وحده لا شريك له.

    وقوله: (وإلهنا وإلهكم واحد) أي: الإله المعبود الذي نزل التوراة، ونزل الإنجيل، ونزل القرآن إله واحد لا شريك له لا نعبد إلا إياه سبحانه وتعالى.

    إذاً: هم لا ينكرون الربوبية ولكن يشركون في ألوهية الله سبحانه، فالرب عندهم الذي خلق ورزق وأعطى وأحيا وأمات هو الله سبحانه، ولكن في العبادة يعبدون الله وغير الله، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه [التوبة:30] فعبدوا وأشركوا بالله سبحانه، فقولوا لهم: الإله واحد لا شريك سبحانه وتعالى فاعبدوا هذا الإله الواحد.

    وقولوا: آمنا بما أنزل على الأنبياء جميعهم، وبما أنزل علينا؛ فآمنوا بذلك وانظروا في التوراة تجدون التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وانظروا في الإنجيل تجدون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بهذا القرآن العظيم، قال الله سبحانه: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [العنكبوت:46] أي: آمنا بالقرآن وبالتوراة وبالإنجيل، قال: وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [العنكبوت:46] أي: المعبود الذي نعبده ولا نشرك به هو واحد لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد ولا والد.

    قال تعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون [العنكبوت:46] أي: مذعنون وطائعون ومستسلمون ومنقادون لشرعه سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب... )

    ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:47] أي: كما أنزلنا كتب السابقين من السماء على هؤلاء الأنبياء كذلك أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وهو القرآن.

    قال تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت:47] أي: آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وما نزل عليه من القرآن، فهم يؤمنون ويصدقون بذلك.

    إذاً: هنا المؤمنون هم الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم.

    أو أن قوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [العنكبوت:47] يعني: من اليهود والنصارى من عرفوا البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا القرآن فآمنوا وصدقوا، كـعبد الله بن سلام رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في هذا القرآن الذي جاء به، ونظر في علامات نبوته فآمن وصدق رضي الله تعالى عنه.

    ثم قال: وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ [العنكبوت:47] إذاً: هنا المسلمون آمنوا، جاءهم الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، وكذلك من أهل الكتاب من آمن من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم.

    وقوله تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49] أي: الذي يجحد ويكذب مع معرفته بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الظالم.

    فـعبد الله بن سلام كان مع اليهود في مدارسهم وفي بيته يتعلمون منه ومن غيره، ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد لهم، ودعاهم إلى دين الله سبحانه؛ فإذا باليهود يكرهون ذلك منه، فطلب منهم الإيمان بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، فرفضوا وأبوا واستكبروا، حتى سألهم: (أما تجدون صفتي عندكم؟ فقالوا: لا) فلما أراد الخروج فإذا بـعبد الله بن سلام ينادي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنك على الحق، ويتبع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أنه على الحق، ومعرفتهم بذلك حقيقية؛ ولذلك الله عز وجل يشهد عليهم فيقول: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون ما جاء به؛ كما أن الإنسان يعرف ابنه ولا يخطئ فيه.

    قال سبحانه: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا [العنكبوت:49] أي: يكذب وهو يعلم: إِلَّا الْكَافِرُونَ [العنكبوت:47] أي: من كفر فهو يجحد بآيات الله سبحانه ويكذب بها.

    وقد ذكرنا أن الإنسان المؤمن لا يتعرض للجدال مع أهل الكتاب إلا بالحسنى، والمتعرض لهم بالجدال يحتاج أن يطلع على كتبهم حتى يرد عليهم، لكن الذي يطلع ليرد ليس كل إنسان مسلم يفعل ذلك؛ ولذلك يقول الإمام البخاري : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)، فيذكر الحديث تعليقاً، ويذكر الحافظ ابن حجر حديثاً أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب) أي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له أصدقاء من أهل الكتاب فطلب من بعضهم أن ينسخوا شيئاً من التوراة فكتبوه له، فأخذ الصحيفة وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الصحيفة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

    إذاً: عمر المسلم ووقته لا يتسع للاطلاع على كل كتب أهل الكتاب وعلى كلامهم، ولعله إذا اطلع على ذلك يطلع على شيء فيكون من الحق الذي جاء به موسى أو الذي جاء به عيسى عليهما الصلاة والسلام؛ فيكذب بهذا الشيء فيكون قد كذب بكلام حق من عند الله عز وجل، أو يطلع على شيء يكون باطلاً مما حرفه أهل الكتاب فيصدق بهذا في نفسه فيكون مكذباً بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قطع عنهم ذريعة الوقوع في ذلك ومنعهم من قراءة كتب أهل الكتاب.

    وهنا قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]

    إذاً: ضروري للذي سيجادلهم أن يكون مطلعاً على ما يقولون، فمثلاً: لما جاء عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليباً، وكان يناقش النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن ينزع الصليب عنه، ثم بعد ذلك دعاه إلى الدين فقال: أنا على ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك، منك ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك ولا يحل لك في دينك؟) فهنا بهت الرجل ولم يعرف الرد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى وقد جعل نفسه أنه رجل من أهل الدين وأنه يعلم النصرانية جيداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه ويقول له: أنت من فرقة الركوسية من النصرانية، وتأكل مرباع قومك، وذلك يحرم عليك في دينك أن تأكل ضريبة قومك، تأخذ الربع من أموال قومك وأنت تعرف أن هذا لا يحل لك في دينك، فهنا عرف الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرى منه بدينه، فإذا به يدخل في دين الله عز وجل ويستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: المناظر الذي يناظر أهل الكتاب لا بد أن يطلع على ما يرد عليهم به، ولذلك كأنه يستثنى ذلك؛ لهذه الآية: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46].

    إذاً: العلماء من المسلمين يجوز لبعضهم أن يطلع على كتب هؤلاء ليرد عليهم إذا ناظروا المسلمين وناقشوهم في دينهم.

    أما أن كل المسلمين يقرءون في كتب أهل الكتاب، فهذا حرام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فليس كل إنسان يقرأ يفهم، ولكن الذي درس القرآن ودرس سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم ذلك وعقله، فهذا الذي يجوز له في حالة الجدال مع أهل الكتاب أن يطلع ليرد على كلامهم.

    وأيضاً جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وقال في رواية: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا) أي: كيف سيهدونكم وهم قد ضلوا عن سبيل الله سبحانه؟!

    قال: (وأن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل) يقول المهلب : هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه.

    وعندما أمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الذين أوتوا الكتاب من قبل، قال: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس:94] فهنا قيد: إذا كنت في شك، وهل يشك النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشا له عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نشك ولا نسأل) أي: مستحيل أننا نشك، ولا نحتاج أن نسأل هؤلاء، فقلوبنا مطمئنة بالإيمان، فكأن هذا الكلام فيه التحفيز على الإيمان والتصديق.

    إذاً: هنا المؤمن يقول: لست محتاجاً أن أسأل أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا مصدق بهذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين.

    للحديث بقية إن شاء الله.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756185155