إسلام ويب

تفسير سورة الجاثية [23 - 26]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كل من يعبد شيئاً من دون الله فهو عابد لهواه، ومن عبد هواه أضلَّه الله وإن أتاه من ينذره، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الهوى المتبع، وقد أضلَّ الله المشركين فأنكروا البعث، وجعلوا غايتهم هي الدنيا، وحجتهم في ذلك أنهم يموتون ويحيون وما يهلكهم إلا الدهر، كما يزعمون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الجاثية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:23-24].

    يذكر الله عز وجل أمر الذين عبدوا الهوى من دونه سبحانه وتعالى، وكل من يعبد شيئاً من دون الله فهو عابد لهواه؛ لأنه يعبد ذلك معرضاً عن الحق، معرضاً عن الله سبحانه، معرضاً عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، متبعاً بزعمه ما يهواه وما يحبه، متبعاً ما يراه أنه هو الذي يصلح، وإن كان حقيقة الأمر أنه لا أحد ممن يعبد مخلوقاً من دون الله سبحانه وتعالى يقتنع بذلك، فالذين عبدوا الأصنام وعبدوا الأحجار وعبدوا الشمس وعبدوا القمر علموا أن هذه الأشياء لا تنفع ولا تضر، ولكن كل منهم أراد أن يجعل لنفسه شيئاً يختص به كنوع من الهوى ونوع من المزاج، هذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا يعبد الصنم الفلاني، وهذا الصنم صنم القبيلة، وإذا كان الإنسان سيداً في قومه فله صنم لوحده، وكل إنسان بمزاجه يعبد ما يريد، فهنا ربنا سبحانه وتعالى عجب من هؤلاء، يعني: أمر الدنيا صارت بالأهواء، وكذلك العبادة يعبدون بأهوائهم، ولا يعبدون الله سبحانه، وقد علموا أنه خالقهم، وأنه رازقهم، وأنه محييهم، وأنه مميتهم سبحانه، فعجباً لأمر هؤلاء الذين اتخذوا الهوى إلهاً من دون الله سبحانه.

    وذكرنا أن الإنسان الذي يتبع غير سبيل الله سبحانه، ويتبع غير سبيل المؤمنين متبع للهوى، سواء كان في العبادة أو في المعاملة أو في العادة أو غير ذلك، وسبيل الله عز وجل كما قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

    فصراط الله واحد، وهو طريق واحد جاءنا من عند الله سبحانه وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، هذا طريق الله، وغير هذا الطريق على رأس كل منها شيطان يدعو إليها ويهوي بصاحبها إلى النار.

    ثلاث يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الانزلاق فيها

    جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي رواه الطبراني ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الأعور السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإماماً ضالاً) ، يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ثلاثاً:

    أولها: الشح، والإنسان شحيح بطبعه كما قال الله عز وجل: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] يعني: خلقت النفس ومن طبيعتها الشح، والله عز وجل جعل ذلك في طبيعة الإنسان وأمره أن يقاوم هذه الطبيعة، كما ركب في نفس الإنسان الشهوة وأمره أن يهذب هذه الشهوة، ولو كان الإنسان ليس فيه شهوة أصلاً لما نهاه الله عز وجل عن الزنا؛ لأنه ليس فيه شهوة أصلاً حتى يزني، ولو كان الإنسان ليس فيه شح لما نهاه عن السرقة؛ لأنه ليس طماعاً أصلاً، ولكن جعل الله عز وجل في نفس الإنسان ما يدعوه إلى الخير وفي نفسه ما يدعوه إلى الشر، وأنزل القرآن وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة والسنة حتى يهذب نفس الإنسان، ويعين ما فيه من خير على فعل الخير، فجاء الكتاب من عند الله عز وجل ليعدل نفس هذا الإنسان، وليقوي جانب الخير فيه، ويوضح له أن احذر من هذا وامش في هذا، ولو لم يكن في داخل الإنسان ما يدعوه إلى الشر ما احتاج إلى كتاب وما احتاج إلى سنة، وما احتاج إلى رسول، وما كان الله ليخلق هؤلاء الخلق لو كان الأمر على ذلك، فعنده ملائكة سبحانه وتعالى يعبدون الله لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ، ولكن لحكمته العظيمة سبحانه أراد أن يخلق مخلوقاً فيه الخير وفيه الشر، وأن يمتحن هذا المخلوق، وأن يبتليه، وأن يعينه على الخير، فينزل الكتاب، ويرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ليدعو الخلق إلى الخير، فشح الإنسان في نفسه، وجاء الكتاب والسنة يهذبانه أن احذر من هذا الشح، فإن نفسك تدعوك إلى أن تجمع الدنيا، واجمع ما تنتفع به لدنياك ولأخراك، واحذر أن تجمع من الحرام أو أن تجمع ما لا تنتفع به بل تحاسب عليه، فقال: (إنما أخاف على أمتي ثلاثاً: شحاً مطاعاً) فيطيع الإنسان شحه، ويدعوه الشح إلى أن يأخذ الحرام فيفعل، ويدعوه الشح إلى أن يقتل فيقتل، وإلى أن يسرق فيسرق، وإلى أن يغصب فيغصب.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (وهوى متبعاً) فالإنسان كلما هوى شيئاً اتبع هواه في ذلك، إذا هوى شيئاً من الشهوات اتبعها، فانزلق ووقع في الحرام، وإذا هوى شيئاً من الباطل اتبعه فوقع في الحرام، وإذا هوى شيئاً من الهوى ومن الشرك وقع في الشرك بالله فكان من أهل النار، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة الهوى المتبع، الذي يجعل الإنسان ليس له قيد يحكمه، وليس عنده شيء يرسم له طريقه، ترك الكتاب وترك السنة ومشى في هواه فاتبع الهوى فوقع في النار.

    قال: (وإماماً ضالاً)، والإمام بمعنى: من يكون إمام الناس، والذي يكون قدوة للناس، فإذا كان على الحق اتبعه الناس على الحق، وإمام المؤمنين وإمام المتقين هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71] والإمام: الكتاب، والإمام: من يقتدى به، فيكون هؤلاء الأمة خلف إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، معهم كتبهم فيها أعمالهم الصالحة يأخذونها بأيمانهم.

    والإمام الضال قد يكون إنساناً كبيراً في قومه، شيخاً أو غير ذلك، والناس يجعلونه قدوة، وإذا به يدعوهم إلى الهوى فيسيرون وراءه في الهوى، يفتيهم بالباطل فيسيرون وراءه بالباطل، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من ذلك، ولذلك جاء عن معاذ رضي الله عنه أنه في كل درس من دروسه كان يقول للناس: إني أخاف عليكم زيغة العالم، قالوا: كيف يزيغ؟ قال: اتقوا ما يقوله، فيقع في صدوركم ويفزع منه الناس، أي: أن الناس كانوا على خير، يعرفون أن هذا في كتاب الله حرام، وفجأة يقول لهم العالم: هذا حلال ليس فيه شيء! فيحدث في نفوس الناس شك وريب، والله عز وجل يجعل في نفوس المؤمنين ما يدلهم على الحق وأن هذا صواب، والكلام الصواب له نور يجعله الله عز وجل في الأذن فينزل إلى القلب، والكلام الباطل يدخل الأذن لا يتجاوزها إلى القلب، والمؤمن يستشعر بقلبه أن هذا العالم بعيد عن الصواب فيما قاله، وإن كان عالماً وإن كان حكيماً، ولكنه زاغ في هذه المسألة فاحذر أن تتبع الزيغ، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من اتباع الهوى ومن اتباع الأئمة الضلال، فالإمام هنا: إمام عامة الناس، وأميرهم أو رئيسهم أو حاكمهم، وأما الإمام الخاص للناس: من يتبعونه ويقتدون به في دينهم أو في دنياهم، فحذر من ذلك صلى الله عليه وسلم وأخبرنا في حديث آخر في إسناده ضعف ولكن يشهد له هذا الحديث وأحاديث أخر في هذا المعنى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت هوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك).

    الإنسان يلزمه أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، حتى إذا وصل إلى درجة لا يستجيب له فيها أحد، ويصاب بالضرر من وراء ذلك، ولا يتغير هذا المنكر، فعند ذلك عليه بخاصة نفسه، ويترك أمر هؤلاء.

    فالإنسان المؤمن يلزمه أن يدعو إلى الله عز وجل كما قال الله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] .

    وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: (بلغوا عني ولو آية) ، فالقرآن يأمر بالدعوة إلى الله عز وجل، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالتبليغ، حتى إذا أصاب الإنسان الضرر جراء ذلك فإن الله عز وجل يقول: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] .

    فقوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ المعنى: مُرْ بالمعروف، وانه عن المنكر، ولست مسئولاً عند الله إلا عن نفسك.

    إذاً: عليك بنفسك فأصلحها، ومن إصلاح النفس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن نفس الإنسان تصاب بالمرض إذا لم يأمر صاحب هذه النفس بالمعروف وينهى عن المنكر، ويضعف إيمانه شيئاً فشيئاً، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستشعر أنه يقيم شرع الله عز وجل، وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيكون في قلبه حرارة الإيمان، فقوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ أي: نفسك هذبها، ومن تهذيب نفسك: أن يفيض ما في القلب من إيمان على الجوارح فيخرج منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    فإن لم تستطع ذلك وأصابك من إيذائهم ما أصابك، وخفت من تأثيرهم فيك وفي دينك، فلا تضرَّنَّ نفسك في أن تخالط أهل السوء طالما أنك لا تقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ..)

    قوله تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ (على علم): جار مجرور، يتعلق بلفظ الجلالة الله سبحانه، أو بالضمير العائد إلى هذا الإنسان الذي يتكلم عنه (وأضله الله).

    فلفظ الجلالة يعود على علم يعني: الله علم أن هذا لا يستحق إلا ذلك، فقوله: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ أي: أنه لا يستحق إلا ذلك، فالجار والمجرور يتعلق بهذا الإنسان بمعنى: أضله الله بعد أن أنذره، وبعد أن أخبره، وبعد أن بصره، وبعد أن أقام عليه الحجة، فلا أمل في هذا الإنسان أن ينجو، فأضله الله بعدما علمه سبحانه وتعالى الحق، ولكنه أصر على الباطل.

    إذاً: الإنسان حين يبتعد عن دين الله عز وجل يبتعد عن الهدى فاستحق الغشاوة، واستحق الضلالة فأضله الله، وهذا قضاء الله وقدر الله الذي نؤمن به، أن الله عز وجل يهدي بفضله، ويضل بعدله، فمن يهديه الله عز وجل ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4]، ومن يضله الله ذاك عبد الله، يفعل به ما يشاء سبحانه وتعالى، والعباد يتقلبون بين فضله وعدله سبحانه وتعالى، فقال لنا هنا: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ؛ لأنه لا يستحق إلا ذلك.

    وقال تعالى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ الختم: الطبع على السمع فإذا به يسمع كمن لا يسمع، ويسمع ولا ينتفع، ويسمع ولا يصل هذا الذي يسمعه إلى قلبه، قال تعالى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً .

    جعل بصره لا يرى الحق، فكأنه يسير في ضلال، وفي مكان قد أغمض عينيه فيه ولا يعرف كيف يسير، والله سبحانه يقول: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد:17] ، الذين آمنوا زادهم إيماناً، لكنَّ أهل الضلال طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، قال سبحانه: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (غشاوة): ما يغشي الشيء ويغطيه، فهنا وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً أي: لا يرى ببصيرته، ولا يرى بقلبه، فجعله كالأعمى الذي لا يرى أمامه شيئاً.

    وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً هذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف : (وجعل على بصره غشوة) بمعنى: غطاء تغطية، على عينيه غشوة.

    قال تعالى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ إذا أضل الله إنساناً لا يقدر أحدٌ أن يهديه؛ ولذلك قال لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]. إذاً: كل إنسان يدعو إلى الله عز وجل عليه بالأخذ بالأسباب، والنتيجة ليست له، وإنما السبب فقط، وكم من نبي دعا قومه فلم يؤمن معه إلا القليل، هذا نوح قال الله عز وجل عنه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، قلة من الناس آمنوا به بعدما دعاهم إلى الله سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاماً!

    وقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ هذه قراءة حفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء يقرءون: (أفلا تذَّكَّرون) أصلها: تتذكرون، فخففت (تَذَكَّرون) وثقلت (تَذَّكرون) وأدغمت، فالمعنى فيها: يذكر فلا ينسى، أي: اذكر هذا الشيء الذي تعرفه، واذكر بمعنى: اعتبر واتعظ، أفلا تعتبرون؟ أفلا تتعظون؟ أفلا تحمدون الله سبحانه أن هداكم ودلكم على الطريق الصواب؟ وهذا هدى الله يهدي به من يشاء، هو أعلم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال، فاحمد ربك على ما أعطاك، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر كما أمرك الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ...)

    قال الله تعالى عن هؤلاء الكفار: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] وتقدم قبل ذلك قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، (إن هي) بمعنى: ما هي، إن بمعنى: ما، وهنا قالوا: (ما هي إلا حياتنا الدنيا)، ولذلك كان يأمر بعضهم بعضاً أن يأخذوا من الدنيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعللون ذلك بقولهم: إن هي إلا حياتنا الدنيا، هي حياة واحدة فقط وسنموت ونصير تراباً، فنحن نأخذ الذي نريده ونفعل ما نشاء، فيقولون: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ، يقولون: (نموت ونحيا) ولا يقصدون أنهم يبعثون، ولكنهم يقصدون أن أناساً يموتون وأناساً يحيون، هذا يموت وهذا يُولد، يعني: نموت ويحيا من يخلفنا بعد ذلك، فلماذا نضيع حظنا من الدنيا طالما نحن ميتون؟ ثم ينسبون الإهلاك إلى الدهر: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ والدهر: الزمن، يعني: نحن نعيش وبعد عمر طويل نموت، إذاً: كر الليالي والأيام علينا هي التي تهلكنا، ومع ذلك لو سألتهم من خلقهم ليقولن: الله!

    وقوله تعالى: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ أي: هي حياة في الدنيا نعيش حتى نعجز ثم بعد ذلك نموت، والدهر الأيام والليالي التي تأخذنا بعد ذلك.

    قال الله عز وجل: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ والعلم بمعنى: اليقين، أي: ما عندهم علم بما يقولونه، هل عندهم أثاره من ذلك الذي يقولونه، من تكلمهم عن الغيب، وإنكارهم للبعث، وهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه جاء بكتاب من عند الله عز وجل، يقول الله لهم فيه: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ بل علمهم هذا مجرد ظن وخرص، قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، هذه ظنون وهذه شكوك يتكلمون بها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا ...)

    قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية:25] .

    فقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ أي: يتلو عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ عليهم ويرشدهم ويهديهم ويعلمهم القرآن البين، وقوله: آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ أي: واضحات جليات ليس فيها إشكال، وبلسان عربي وأهل اللغة العربية هم الذين يفهمون ذلك، والقرآن نزل واضحاً ليس مشكلاً.

    وقال تعالى: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ وهل عندهم حجة حقيقية؟ فقد أخبرنا الله بقوله: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فقوله تعالى: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ أي: هاتوا آباءنا إذا كنتم صادقين، فحجتهم أنَّ قصي بن كلاب كان جدهم، ونريد إحياء قصي بن كلاب ؛ لأنه كان رجلاً صادقاً يتكلم بالحق، وهم يعرفون الصادق المصدوق ويعترفون به صلوات الله وسلامه عليه ويسمونه الصادق الأمين الذي يستشيرونه ويأخذون رأيه ويصدقونه في كل ما يقول، وكان فخرهم صلوات الله وسلامه عليه، فيريدون قصي بن كلاب وعندهم رسول الله الذي جاءهم بالكتاب من عند الله، فلو جاءهم قصي بن كلاب وقال لهم: محمد صلى الله عليه وسلم صادق، فهل هم معترفون بصدقه صلى الله عليه وسلم؟

    من المشركين من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهباً، وبعضهم طلب منه أنه يفجر في هذه الأرض ينبوعاً، والبعض طلب منه شق القمر، ولما أشار إلى القمر، ودعا وانشق القمر لم يؤمن هؤلاء الذين طلبوا ذلك، بل قالوا: سحرنا! فالله أعلم بعباده، يعلم أنهم لن يستجيبوا حين يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات، وقد عرفنا ربنا سبحانه أنهم إذا رأوا الآيات سيأتيهم العذاب بعد هذه الآيات، ولذلك أصحاب المائدة لما طلبوا من المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم المائدة من السماء قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:112] فقالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113] فدعا عيسى عليه السلام ربه فقال: أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114] .

    واستجاب الله عز وجل لعيسى وقال لهم: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]، أي: ستنزل المائدة من السماء، وستأكلون من هذه المائدة، والذي سيكفر بعد ذلك له أشد العذاب من الله رب العالمين، فالآيات الحسية التي تنزل لابد من الإيمان بها، فإن لم تؤمن استحققت العذاب الشديد الأليم، فكان من رحمة رب العالمين بعباده أنه لم ينزل عليهم آية حسية عامة للجميع، ولما انشق القمر انشق للبعض ممن استيقظ في تلك الليلة وتحدى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه فانشق القمر ثم التأم مرة ثانية، فلو كانت آية عامة للخلق كلهم لكان العذاب من بعد ذلك حين لم يؤمنوا.

    قال الله عز وجل هنا: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ بينات: واضحات جليات، مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ، (ما كان) اسم كان هنا: (أن قالوا) وخبرها مقدم: (حجتهم) مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ليس فيها قراءة أخرى، كل القراء يقرءونها على الخبر المقدم: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ وإن كان في غيرها قد يأتي الضم والفتح.

    فهم طلبوا ذلك والحجة في زعمهم: ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ...)

    قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:26] ليس الدهر الذي يحييكم ويميتكم، ولكن الله عز وجل هو الذي يفعل ذلك، فلما ذكر قولهم: (الدهر) أخبر الله أنه هو الذي يفعل ذلك، فهو يبين أن الدهر شيءٌ والله شيء آخر، فقول الله في الحديث القدسي: (أنا الدهر) ليس معنى ذلك: أن من أسمائه الدهر، ولكن معناه: أن هذا الدهر الذي تسبونه ما هو إلا أنكم تسبون ربكم سبحانه، قال تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية:26] .

    فقوله تعالى: اللَّهُ يُحْيِيكُمْ أي: يوجدكم وينشئكم في هذه الدنيا، كنتم عدماً، كنتم لا شيء، كنتم نطفة لا حياة فيها فصرتم أحياء، ثم بعد الحياة تموتون، قال تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ وذلك رداً على قولهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ أي: ليس هناك بعث بعد ذلك، فالله عز وجل ردَّ عليهم بقوله سبحانه: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ والجمع: فيه ما فيه من معنى السوق والحشر، تقول: جمعت الغنم إلى مكان كذا، أي: سقتهم بالعصا يميناً وشمالاً، فلا يستطيع أحد أن يفر أو يزيغ أو يهرب في يوم القيامة، بل يساقون إلى المحشر، ويساقون إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك في هذا اليوم، فكلمة (لا) يمدها حمزة -وإن كان ليس هناك همزة بعدها-؛ لتأكيد النفي، فيمدها أربع حركات فقط للتفرقة بينها وبين غيرها، ولتأكيد النفي في ذلك.

    يقول تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي: ولكن أكثر الناس لا يوقنون، علمهم علم ظاهر، علموا فلم يدخل العلم في قلوبهم ليدعوهم إلى العمل؛ فلذلك أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فليحذر الإنسان من العمل الخبيث في الدنيا، ومن الشرك بالله، ومن اتباع الهوى، فهو مجموع مع غيره إلى الله عز وجل ليسأله وليحاسبه الله سبحانه على ما قدم وعلى ما أخر.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755903190