إسلام ويب

تفسير سورة الممتحنة [8-11]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين... فأولئك هم الظالمون)

    لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9]. قال بعض العلماء في تفسير: (المقسطين) هنا: إنه مأخوذ من القسط وهو العدل، أي: إن الله يحب أن يحكم بين الناس بالعدل، إلا أن الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى فسرها بمعنى آخر، فقال: أن تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة خاصة، إذ تضمن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وهو مجيء قتيلة أُم أسماء راغبة في صلتها. فالله سبحانه وتعالى يقول: (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ )) عن الكفار، (( الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ )) مع أن هناك كفاراً هم من أعداء الله، لكن الكفار نوعان: كافر منشغل بحاله، ويمكن أن يحصل نوع من حسن الخلق معه كما بينا، وكافر يحارب الله والرسول والإسلام، ويقاتل المسلمين، فهذا محارب لا يدخل في هذا القسم، إنما تتناول هذه الآية الكافر الذي تنتفي عنه صفة العداوة، فيجوز الإحسان إليه والبر والصلة، فقوله تعالى: (( أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ )) أي: تعطوهم قسطاً أي: نصيباً من أموالكم على وجه صلة الرحم، أو الإحسان، وليس المقصود بها أن تعدلوا، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، فلا يختص بأناس دون أناس، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] فيجب العدل حتى مع الكافر. وهناك مواقف كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي تبيِّن عدل المسلمين، فما ملكت أمة قط وحققت العدل كما حققه المسلمون، فالعدل واجب فيمن قاتل، وواجب أيضاً فيمن لم يقاتل، لذلك جاء في تفسير قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190] أي: ولا تظلموا. وقد دخل ذمي على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون ذلك، فتلا عليهم هذه الآية: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8] أي: أن هذا ذمي وليس محارباً، ثم بين الله من الذين ينهانا عن فعل ذلك معهم فقال: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:9]. فهذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، فهو في المعنى تخصيص لقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاء [الممتحنة:1] فقوله هنا: (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ )) أي: من أهل مكة (( وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ )) وذلك بالبر والإحسان إليهم. فهذا القدر من الموالاة -إن سميناه موالاة- من الإحسان إليهم، والصلة بالمال أو بنحو ذلك، وحسن الخلق، هذا لا حرج فيه، بل مأمور به في حقهم، والخطاب وإن كان في مشركي مكة إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فرد ذلك الإمام ابن جرير بقوله: والصواب قول من قال: عنى بقوله تعالى: (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ )) من جميع أصناف الملل والأديان أياً كان، أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فإن الله عز وجل عمَّ بقوله: (( الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ )) وهذه صيغة عموم عمَّ بذلك جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض. ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ -أي: أن بعض الناس قالوا: إن هذه الآية نسخت بآية السيف- لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورات لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. ومما يوضح المعنى الذي نقصده أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدت -تعني: في فترة صلح الحديبية- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) ويفهم من بعض الروايات أن قولها: (أفأصلها؟) تعني: هل أعطيها مالاً وغيره، ويحتمل أن المعنى: أصلها بقبول ما جاءت به معها من هدايا. وهذا الحديث رواه أحمد والشيخان، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم، صلي أمك). وعن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة -وهي: بنت عبد العزى - على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا: ضباب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها. وقال الرازي : قوله تعالى: (( أَنْ تَبَرُّوهُمْ )) بدل من: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ)، وكذلك قوله: (( أَنْ تَوَلَّوْهُمْ )) بدل من قوله: (الذين قاتلوكم)، والمعنى: لا ينهاكم عن برّ هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهناك فرق بين البر وبين التولي والموالاة، فالموالاة للكافر لا تحل بحال من الأحوال، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، وقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51] إلى آخر الآيات. فالموالاة التي هي بمعنى المحبة القلبية لا تكون على الإطلاق بين مسلم وكافر، فيقول: والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة. وهذه الآية تدل على جواز البر بين المسلمين والمشركين الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة، لكن البر والإحسان جائز.

    أهمية الولاء والبراء في هذا الدين

    وقبل أن نختم الكلام على أن أي خلل في قضية الولاء والبراء، يؤدي إلى فتنة في الأرض كما قال الله سبحانه وتعالى فيه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] فنجد الآن أن كل من صوب سهامه تجاه المسلمين فإنهم يصبونها في قضية الولاء والبراء خصوصاً، فتجد التشويش لجودة الدين ولبِّه، فإن من أعظم حقوق لا إله إلا الله موالاة من والى الله، ومعاداة من عادى الله، ففي الإسلام عبادات قلبية وقولية ومالية وبدنية، ومن أعظم العبادات القلبية عبادة الحب والبغض. فالحب عبادة، والبغض عبادة، فحب الله ورسوله والمؤمنين عبادة كما قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56]، والبغض عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، فمن عادى الله، وعادى الرسول، وعادى الإسلام فلابد أن تعاديه، وأن تبغضه من قلبك. وأما الكلام في السموم التي تنفث في كل مكان: في مناهج التعليم، وفي الإعلام ليل نهار، فهي محاولة لكسر هذا الحاجز، وقد فُتح على الناس باب فتنة، وشر كبير، والمشكلة أن بعض الناس لا يسمي الأشياء بمسمياتها، فهناك تلاعب كبير في المصطلحات، ومن أخطر هذه المصطلحات الذي تروج لهذه الأفكار مصطلح التعصب، وأن هذا من التعصب، فإذا وجدت رجلاً يدعو بالرحمة لكافر مثلاً فقلت له: لا تدع لكافر، فإنهم يقولون لك: لا داعي للتعصب، الإسلام دين التسامح! أقول: لا، لن يجد في الإسلام دليلاً واحداً على ذلك لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من سيرة السلف، ولا حتى الخلف إلا خلفنا الذين نعيش بينهم الآن، فلن يجد أبداً تسامحاً بمعنى أنه يصف الكافر بأنه مسلم، أو بتعبير أدق أن يجعل الكفر سواسية مع الإيمان، فهذا لا يحصل أبداً، وهذا تحريف للدين، فعدم التمييز بين الأمرين يأتي بكثير من الخلط بين الأوراق وبين الأمور، فهناك فرق بين التعصب والتسامح.

    الفرق بين التعصب والتسامح

    فالتعصب والتسامح له مجال معين، فليس من مجال التعصب والتسامح مجال العقيدة، أو المفاهيم التي تستقر في قلب الإنسان، فهذه الأمور لا يوجد فيها تعصب ولا تسامح، حتى عند الكفار فإنهم يسمونها حرية الاعتقاد، فكل واحد حر يعتقد بقلبه ما شاء عندهم، لكن التعصب والتسامح له منطقة معينة وهي: منطقة المعاملة، فتكون متعصباً إذا ظلمت أحداً، أو بخسته حقه، أو آذيته بدون وجه حق. أما إذا اعتقدت بقلبي أن أحداً من الناس كافر بالله ورسوله، وأنه مكذب فأبغضته لذلك، فهذا ليس من التعصب في الدين، بل هذا من واجبات الدين وأركانه الركينة، فإن محبة الكافر وموالاته، واعتقاد أنه متساوٍ مع المسلم خروج من الملة كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24]. إن بعض الناس يخلطون بين لفظة التعصب ولفظة التسامح خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم وأنت تقول: لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني مثلاً؛ لأنه لا يدخل الجنة، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وعد نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام، وأنه أولى بالإسلام منك، فالإسلام دين السماحة، وأنت متشدد متعصب متطرف؛ لأنك تصف الكفار بأنه كافر! فنقول له: إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة فقط، فالتعصب أن تعامل الذمي مثلاً -يهودياً كان أو نصرانياً- فتظلمه أو تبخسه حقه، فالشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من ظلم معاهداً، أو كلفه ما هو فوق طاقته، فأنا خصيمه يوم القيامة)؛ ولأن هؤلاء لهم عهد الله وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم هذه الحقوق، فالمتعصب هو الذي يبخسهم حقهم أو يظلمهم، والتسامح هو أن تعامل الكافر بعدل بشرط ألا يكون محارباً.

    أحوال اليهود وأذنابهم في حرب الإسلام والمسلمين

    من غير المعقول أن آتي إلى الإخوة الفلسطينيين وأقول لهم: لابد من التسامح وحسن الجوار، مع أناس فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، فاليهود المحاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، يفتعلون الحرب، ومع ذلك هي حرب ليس فيها أدنى قدر من التكافؤ، حرب بين مدنيين عزّل وبين جيش مزود بالطيارات والدبابات والقذائف. فهؤلاء اليهود الجبناء الأنذال يفعلون ذلك مع أناس لا يملكون إلا الحجارة، ومع ذلك يفعلون بهم ما يفعلون، ولذلك تجد ما يسمونه بالمجتمع الدولي وعلى رأسهم الفتوة العالمي أمريكا الظالمة الباغية، يتلاعبون بالألفاظ، فبدلاً من أن يقولوا: نريد وقف إطلاق النار من قبل اليهود، فإنهم يقولون: نريد وقف إطلاق النار! فهلا استحوا على أنفسهم؟ فإنه أمر مخجل عندما يقولون: وقف إطلاق النار، أيّ نار يعنون؟! فليس هناك إلا شباب وأطفال مساكين لا يملكون إلا الحجارة، فهم لما أحسوا أن كلمة وقف إطلاق النار لا تركب، وأن النار لا تطلق إلا من طرف واحد فقط، أتوا بكلمة جديدة، وهي من ألاعيب السياسة، فقالوا: وقف أعمال العنف! فينبغي أن ننتبه لمثل هذه المصطلحات، فيقولون لك: وقف أعمال العنف. والحقيقة هي أن الموضوع أخطر مما نتصور، فاليهود يتدرجون في سبيل هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل على أنقاضه، فهذه هي القضية، وقد أعطت السلطات اليهودية تصريحاً لجماعة بناء الهيكل بوضع حجر الأساس لهيكل سليمان بجوار قبة الصخرة، لكن فيما يبدو أن المظاهرات التي حصلت في نفس اليوم صوروها لنا على أنّها إما مؤيدة أو معارضة لشرم الشيخ، وهي ليست من أجل موضوع شرم الشيخ في الحقيقة، بل كانت من أجل موضوع الهيكل، لكن لو أنهم أذاعوا هذا الكلام فإن العالم الإسلامي سيثور من جديد، فأرادوا تهدئته، فسحبوا الترخيص بوضع حجر الأساس للهيكل إلى حين؛ لأن هذا هو المعهود من مكر اليهود وخداعهم أنهم يؤجلوا القضية شيئاً فشيئاً. وسوف يجتمع المحامون عن قضية فلسطين في قمة، فنرجو منهم ألا يخيبوا أملنا، فقد كشفت لنا الحقائق وكشف لنا التاريخ فيما مضى أن هؤلاء الحكام هم أفشل محامين في أعدل قضية على الإطلاق، فنرجو ألا يخيبوا أمل المسلمين، وأن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى تطبيق شرع الله، وإلى معاهدة سلام مع الإسلام، ونقول لهم: ساوونا باليهود على الأقل، واعملوا معاهدة سلام مع الإسلام، وكفوا عما فعلتموه من الصد عن سبيل الله، وتشويه الدين، وقولكم إن هذا الدين هو دين تطرف، إلى آخر هذا الكلام، ونقول: كفوا عن حرب الإسلام، وسووا بين المستقيمين وبين الفنانين والفسقة والرياضيين، فكل الناس قد تركت لهم الحرية، فسوونا بهم فقط، وارفعوا عنا الظلم الذي نعانيه ليل نهار، والمحاولات الدءوبة لإطفاء نور الله عز وجل، وإطفاء نور الإسلام في بلاد المسلمين. والحديث في هذا الأمر ذو شجون، لكن إن لم يعودوا إلى موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين وبقوا في أحضان الكفار، واستمروا في حربهم للإسلام؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. وأما بالنسبة لهؤلاء الأشاوس فإن آخر شيء كنت قرأته: أن مجموعة من المثقفين يسمونهم: (مثقفين يهود) تكلموا في الإذاعة الإسرائيلية فيما يبدو عن الاستغراب الشديد الذي عمهم حينما حصل رد الفعل الغريب من هذه الأمة الإسلامية، فقد ظنوا أنها قد خمدت أنفاسها إلى الأبد، فقال بعضهم -وهو الشاعر اليهودي باراك - يفتخر بأنه يحفظ أشعاراً له كثيرة، فقال: أنا آسف، ليس في كل من حكموا إسرائيل من يفهم العرب أكثر من بنيامين نتنياهو ، فقالوا له: لماذا؟ قال: لأنه هو الوحيد الذي أصر على أن العرب لا يصلح معهم سلام على الإطلاق، فقالوا: لماذا؟ قال: قال نتنياهو : إن السلام الذي نصنعه هو مع الحكومات وليس مع الشعوب، لأن هؤلاء الحكام يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، فمتى ما تخلصوا من هؤلاء الحكام ستعود إلينا العداوة من جديد، وتنكشف الحقيقة، فالسلام ليس مع الشعوب! وهذا الكلام موافق للواقع إلى حد كبير؛ فانظر إلى هذا اليهودي الخبيث كيف تفطن للأمر! ولذلك قال بعضهم في نفس البرنامج وهو يعبر عن الصدمة والذهول: حتى المغرب التي كنا نظن أنها في جيبنا تخرج فيها مسيرة مليونية! أي: مظاهرة من مليون شخص تنادي بمحاربة اليهود لعنهم الله، فهم كانوا يؤملون أملاً كبيراً أن المغرب قد هدأت، لأن أقوى موضع في العالم الإسلامي لليهود هو في المغرب، فلهم هناك وضع متميز جداً، فوزير السياحة هناك يهودي، ومع ذلك ذهل اليهود من ردّ الفعل في المسلمين. فالحاصل أن المجتمعين في القمة هداهم الله وأجرى على أيديهم كل خير، على الأقل ينبغي أن يصطلحوا فيما بينهم ويكفوا عن محاربة الدعوة الإسلامية، فإن بعض البلاد تحارب الإسلام حرباً لا يقدر اليهود أنفسهم على القيام بها، فلعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله سبحانه وتعالى، ويثوبون إلى رشدهم، ويكفوا عن حرب الإسلام. وهذا هو المفتاح الصحيح؛ لأن القضية قضية عقيدة شئنا أم أبينا، وهذه الحرب دينية بين الإسلام وبين الكفر، ولن تتغير طبيعتها، ولن يقوى أحد على الإطلاق أن يغير طبيعتها مهما فعل، فإن أردنا الطريق الصحيح فهو أن نعود إلى ديننا.

    أثر مقاطعة المسلمين لمنتجات من حارب الإسلام والمسلمين

    نعود إلى ما تبقى من الكلام عن الفرق بين التعصب والتسامح، وقد ذكرنا أن التسامح هو أن تعامل الكافر بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك؛ لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كالقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله ألا يكون محارباً. فلو كانت هناك شركات اقتصادية يهودية أو أمريكية مثلاً ممن يحاربون الإسلام والمسلمين، ويؤيدون اليهود، فيمكن مقاطعتها إضعافاً لاقتصادها، فيستطيع كل مسلم أن يستغني عن البيبسي والكوكاكولا وغيرها من الأشياء التابعة للأمريكان. وقد أعلنت بعض الشركات إعلاناً تصرخ فيه من مقاطعة المسلمين لمنتجاتها، وذلك في جريدة (الأهرام)؛ تقول فيه: إن أكثر من 1500 عامل فقدوا عملهم بسبب المقاطعة. وهذا التصرف كان فردياً، لكنه أثر عليهم لدرجة أن شركة أمريكية عملت إعلاناً تقول فيه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] ويسردون الآيات، ويقولون بأنهم تبرعوا بـ(10%) تقريباً لإخواننا الفلسطينيين في فلسطين من ضحايا هذه المجازر، والسبب أن المسلمين حصل منهم مقاطعة أثرت على اقتصادهم، فإذا كان مجرد الإعراض عن هذا الاقتصاد له هذا الأثر الكبير، فكيف لو أن الجماعة الأشاوس أصحاب البترول قطعوا عنهم البترول؟! أليس كل مرة يقولون: سنقاتل حتى آخر جندي مصري، فليأتوا هذه المرة وليعملوا كما عمل الملك فيصل يرحمه الله، فالملك فيصل في حرب رمضان قال للأمريكان: لا يوجد بترول، فركع الغرب أمامه، وقال لهم: سنرجع مرة أخرى إلى حياة البدو، ولا توجد أي مشكلة في أن نعيش في الصحراء والخيام، ونرجع للفقر، وأبى رحمه الله، فهلا يأتسون به؟ فهم يملكون أسلحة في غاية القوة، فنرجو أن يهديهم الله. فكما قلنا: لا بأس بجريان بعض المعاملات الدنيوية مع الكافر من قرض أو رهن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على صاع من شعير، فكل ما لا تعلق له بالدين فلا بأس من التعامل مع الكافر فيه بشرط ألا يكون محارباً. ومع حسن المعاملة والبر والإحسان للكافر، فيجب عليك أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً فلا يجوز الترحم عليه، ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الفرقان:23] أي: في الخير من بر أو صلة رحم ونحو ذلك: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] فلا ثواب له في الآخرة. إذاً: لا يوجد من الكفار ولي أو قدّيس كما يقولون؛ لأن الولاية أو القداسة هي في العمل الصالح المقبول، وأعمال هؤلاء غير مقبولة، بل مردودة؛ لأن دينهم مخالف للإسلام، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). فمن جوز وجود ولي منهم، أو تبرك بأحد قديسيهم فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما يظن المخلِّطون الواهمون، لكنه تنازل عن العقيدة يلزم منه الخروج من الدين؛ لأن الدين مبني على العقيدة، فإذا فُقدت العقيدة فقد الدين، فينبغي عدم إقرار الكافر على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه لبغض الله تعالى له، وعدم موالاته ومودته لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28] وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطر إلى أضيق الطريق، فهذا كله من الدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل! فالعبارات التي نسمعها والناس يرددونها حتى لا يكاد يشك فيها أحد كقولهم: إن الإسلام يحترم الأديان! عبارت باطلة، فكيف يحترم الإسلام الأديان التي جاء لهدمها والقضاء عليها؟! فعجيب أن يسمى هذا تسامحاً، إن التسامح لا يكون إلا في منطقة التعامل فقط. حدثني أحد الإخوة بالأمس أنه رأى أحد الدعاة ظهر في قناة تلفزيونية، وهو داعية مشهور جداً من خارج مصر، فظهر يتناقش مع المذيعة، وهي متبرجة، فتناقشه وهو آخذ موقف الدفاع، ويحامي عن الإسلام في قفص الاتهام، والمذيعة تقول له: أنتم تقولون عنا إننا كفار؟ وتقولون عن النصارى إنهم كفار؟ فرد عليها رداً متميعاً جداً من ذلك الكلام الذي تعودنا أن نسمعه، ولو أنه رد عليها وقال لها: نعم، نحن نعتقد أنكم كفار، لكن لا نبخسكم حقوقكم التي أعطاكم إياها الشارع الشريف، وأنتم الذين تقولون علينا كفار، لاعتقادكم أنني إذا لم أؤمن بالمخلص فأنا كافر، وهكذا في كل ملة من الملل، واليهود ألا يقولون: إننا لسنا على شيء، ومعلوم أن عقيدتهم باطلة؛ لكن أقول: لسنا نحن فقط الذين يعتقدون هذا. فمن لازم إسلامي وإيماني أن كل ما خالف الإسلام من الأديان فهو دين باطل، فليس من التسامح تمييع الدين بهذه الطريقة، ولا علاقة لذلك على الإطلاق بالتسامح، بدليل أن هذا الذي يقول: إن الإسلام يحترم الأديان، فإن أصغر طفل يأتي له بآيات من القرآن تفحمه وتسكته، وتبين أنه ينافق، ويداهن، ويزور، فعندما يقال له: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، ويقال له: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، ويقال له: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] ماذا سيقول إزاء هذه الآيات؟ هل سيقول: نسخت؟ وبماذا نسخت؟ فأي إنسان مزور ومداهن يفتضح في النهاية، فالعقيدة لا تنازل عنها، والتمسك بالعقيدة ليس تعصباً، إنما يكون التعصب في المعاملة بإضاعة الحقوق ونحو ذلك.

    بعض صور معاملة الإسلام الحسنة للمشركين وأهل الذمة

    وقد ذكر الشيخ عطية سالم بعض صور المعاملة الحسنة لأهل الذمة، فقال: وقصة الظعينة صاحبة المزادتين في صحيح البخاري ، فلم يقتلوها، أو يأسروها، أو يستبيحوا ماءها، بل استاقوها بمائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من مزادتيها قليلاً، ودعا فيه، وردَّه، ثم استقوا فقال لها: (اعلمي أن الله هو الذي سقانا، ولم ننقص من مزادتك شيئاً) وأكرموها وأحسنوا إليها، وجمعوا لها طعاماً، وأرسلوها في سبيلها، فكانت تذكر ذلك، وتدعو قومها للإسلام، وقد كانت مشركة. وقصة ثمامة لما جيئ به أسيراً ورُبط في سارية المسجد، وبعد أن أصبح عاجزاً عن القتال لم يمنعهم ذلك من الإحسان إليه، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق، حتى فُكّ أسره، فأسلم طواعيه. وهكذا قول الله تبارك وتعالى أيضاً: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8] * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9] فلا يتصور أن يكون هناك أسير بين يدي المسلمين وهو مسلم، فإن الأسير لا يكون إلا كافراً، فالمقصود بهذه الآية الأسير الكافر قطعاً. وقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان:8] يعني: يؤثرون على أنفسهم مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، فهذه الآية تدل على جواز الإحسان بالإطعام ونحو ذلك كما ذكرنا. وفي سنة تسع -وهي سنة الوفود- كان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين فيتلقون بالبر والإحسان، كوفد نجران وغيرهم، وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر ويفاوض في أسارى له، فيأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع مفاخرتهم، ويأمر من يرد عليهم من المسلمين، وفي النهاية يسلمون، ويجيزهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالجوائز، فهذا الوفد أتى متحدياً مفاخراً بالشعر، ومع ذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة أن يرد عليهم بنفس طريقتهم؛ وذلك بالشعر، وجاءوا بأمر جارٍ في عرف العرب، فجاراهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن لهم أنه بُعث ما بالمفاخرة، ولكن ترفق بهم إحساناً إليهم، وتأليفاً لقلوبهم، وقد كان، فأسلموا. يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8] من كانوا كذلك من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم، وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فعم بقوله: (( الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ )) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمنين لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )). قال الشافعي رحمه الله تعالى: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين؛ وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين، والإقساط إليهم.. إلى آخر كلامه. ثم يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: فهذا هو الذي يقتضيه روح التشريع الإسلامي، ويقول معبراً عن وجهة نظره: إن المسلمين اليوم مختلطة مصالحهم بعضهم ببعض، ومرتبطة بمجموع دول العالم من المشركين وأهل الكتاب، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية في تداخل المصالح وتشابكها، ولاسيما في المجال الاقتصادي عصب في الحياة اليوم: من إنتاج، أو تصنيع، أو تسويق، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين، ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير ، وبينه الشافعي ، وبينه الشيخ أيضاً -يعني: الشيخ الشنقيطي رحمه الله- في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية، وبشرط سلامة الباطن، بمعنى: أن القلب لا يميل إليهم بمحبة ومودة، وإنما هذه في المعاملة الظاهرة فقط، ومع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم، فالمسلمون أولى بالتكافل فيما بينهم. يقول: ومما يؤكد ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، ومع ذلك لا توجد موالاة قلبية في كل الأحوال، ولكن لما أخرجهم النبي عليه السلام من المدينة، وحاصرهم بعد ذلك في خيبر، ففتح الله عليه خيبر، وأصبحوا في قبضة يده، فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا المظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم، فحينئذ عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسط، فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها، وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأُجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط مع أنهم يحرم موالاتهم. والآية نصت في النهي: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51] لكن في المعاملة ماداموا غير محاربين، ولا يخرجون المسلمين من ديارهم، ولا يظاهرون عليهم فلا حرج، كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب يخرص عليهم النخيل بخيبر:وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة؛ ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي، وقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي عليه الصلاة والسلام، ولن يحملني بغضي لكم ولا حبي له أن أحيف عليكم -أي: أظلمكم- فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض! أي: بالعدل والقسط، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه عليه الصلاة والسلام، وخلافة الصديق ، وصدراً من خلافة عمر حتى أجلاهم رضي الله تعالى عنه عنها، وكذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي عليه السلام بعد الفتح، وأعطاهم الصديق ، ثم منعهم عمر رضي الله تعالى عنه. إن أشد ما يظهر وضوحاً في هذا المقام هو قوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] فهذه حسن معاملة وبر وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين، فكان حق الأبوة مقدماً ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك. وكذلك جاء في نهاية هذه السورة: (( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ))، فتأمل قول الله تعالى بعد ذلك: (( وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا )) أي: آتوا المشركين ما أنفقوا، بيان ذلك: أن المؤمنات المهاجرات كن متزوجات بأزواج مشركين، وهؤلاء المشركون عندما تزوجوا بهن دفعوا لهن مهراً، فأسلم النسوة وهاجرن، فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين أن ادفعوا للمشركين الذين هم أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم، لأنها بعد أن أسلمت وهاجرت، انحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر، وفاتت عليه ولم يقدر عليها، فيأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن -وهم مشركون- ما أنفقوا من صداق عند الزواج، لعجزهم عن استرجاع الزوجات، وعدم جواز إرجاعهن إليهم. فجاء الأمر بالمعاملة بالقسط، مع أن هؤلاء الكفار لم يقهروا المسلمين على ذلك. فهذه كلها نماذج تؤكد هذا المعنى الذي نذكره وهو أن التسامح والتعصب دائرته هي المعاملة فقط، وأما العقيدة فلا لا نسمي الكلام فيها تسامحاً؛ لأنه خروج من الملة، ومصادمة لأحكام القرآن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات...)

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة:10]. فيما تقدم من الآيات بيّن الله تبارك وتعالى وجوب ترك موالاة المشركين، وبما أنه يجب ترك موالاة المشركين فإن ذلك يقتضي الانفصال عن المشركين، والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام، وهذه الهجرة يترتب عليها فراق المؤمنات المتزوجات بالكافرين أزواجهن الكافرين، وأن يهاجرن إلى ديار الإسلام، فيقول تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ )). فالخطاب هنا للمؤمنين، والمقصود به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (( مُهَاجِرَاتٍ )) أي: من مكة إلى المدينة، (( فَامْتَحِنُوهُنَّ )) أي: فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان، (( اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ )) أي: الله سبحانه وتعالى هو المطلع على قلوبهن لا أنتم، فإنه غير مقدور لكم، فحسبكم أماراته وقرائنه. والمقصود بالامتحان هنا كما بينت بعض الروايات: بأن تشهد الشهادتين، وقال بعضهم: بأن تحلف أنها ما هاجرت إلا حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما هاجرت بغضةً لزوج، أو غير ذلك من الأغراض، فتذكر المرأة ما عندها، ويقبل منها قولها في الظاهر. فإذاً: هذا لا يعني التفتيش عما في الباطن؛ لكن هناك أمور اقتضت هذا الامتحان في حق النساء دون الرجال، فإنه لم يحدث امتحان للرجال، وإنما كان الامتحان للنساء خصوصاً، وإلا فقد أتى كثير من المهاجرين من مكة إلى المدينة ولم يحدث مثل هذا الامتحان وسوف نبين إن شاء الله تعالى الفرق بين الرجال والنساء في ذلك. فالمقصود من قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ )) يعني: اختبروهن كي تسمعوا منهن ما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان، ولا يلزم من هذا الامتحان القطع بأنهن مؤمنات في القلب؛ لأن ما في الباطن لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

    معاملة الناس على الظاهر والله يتولى السرائر

    وقوله: (( اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ )) أي: الله هو المطلع على قلوبهن لا أنتم، فهذا لا يدخل تحت قدرتكم، وإنما يكفيكم قرائن الإيمان وأماراته، كأن تأتي بالشهادتين، وتجيب ما يوجه إليها من السؤال. وهذا هو الذي ينبغي أن نعتمده في الحكم على إيمان الناس، فيقبل من الناس الظواهر والله سبحانه وتعالى يتولى السرائر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، فالشاهد في قوله: (وحسابهم على الله) يعني: حسابهم في الآخرة، فنقبل منهم الظاهر، وأما هل هم صادقون في ذلك أم لا؟ فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى. فالنبي نفسه عليه الصلاة والسلام لا يملك ذلك، فيقول في الحديث: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم، وإنما نقبل من الناس ظاهرهم)، هذه هي معاملة العبيد للعبيد، وقد تجد بعض العباد يصرون على أن يعاملوا الآخرين معاملة الرب للعبد، وهي التفتيش عما في قلوبهم، وهذا خطأ، فإن هذه المعاملة هي معاملة الرب للعبد، ولذلك جاء في موطأ مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. فيحذر الإنسان أن يتعامل مع الآخرين معاملة الرب للعبد، بل عليه أن يعامل العبد كعبد مثله، فيكتفي منه بما يظهره، ولا يفتش عما يبطنه. روى الإمام ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت مهاجرة من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت في التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم). يقول ابن زيد : وإنما أمرنا بامتحانهن؛ لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة قالت: لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، كأنها تريد أن تكيد زوجها! وقال مجاهد : فامتحنوهن، أي: سلوهن ما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن، أو سخط أو غيرة ولم يؤمن، فارجعوهن إلى أزواجهن. قوله: (( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ))، قال الزمخشري : يعني: إن علمتموهن العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به. قوله: (( فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ )) أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين؛ إذ لا حلّ بين المؤمنة والمشرك؛ لأن إيمانها قطَع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

    ما يوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة وزوجها المشرك

    قوله تعالى: (( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ )). يقول القرطبي : وهذا أول دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتُها، وهذا محل خلاف بين العلماء: فجمهور العلماء على أن الذي أوجب الفرقة هو إسلامها، فمتى أسلمت فإنها تنقطع العصمة بينها وبين زوجها؛ لأن الكافر لا يكون كفؤاً للمسلمة. وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين؛ لأنها صارت في ديار الإسلام وهو باق في ديار الكفر. يقول القرطبي : والصحيح الأول، يعني: أن الذي أوجب الفرقة هو اختلاف الدين بإسلام المرأة، وليس اختلاف الدارين، لأن الله تعالى قال: (( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ))، فبين أن العلة هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدار، والله تعالى أعلم. وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها وقعت الفرقة على انقضاء عدتها، يعني: تمهل حتى تنقضي العدة لاستبراء الرحم، وهذا قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : تقع الفرقة باختلاف الدارين كما ذكرنا. قوله: (( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ )) قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وإنما قيل ذلك للمؤمنين لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية أن يرد المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلماً، فأبطل الله سبحانه وتعالى ذلك الشرط في حق النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات فامتُحن فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم بما ذكرنا، وأمروا ألا يردوهن إلى المشركين إذا علموا أنهن مؤمنات. وقال بعض العلماء: إن النساء لم يدخلن أصلاً في عقد الحديبية، فالمشهور في الروايات: لا يأتيكم رجل منا، والأرجح -والله تعالى أعلم- أنه عام في الجميع، إلا أن هذا العموم خصه الله سبحانه وتعالى في حق النساء، فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لم يشترط ردهن في العقد لفظاً، أي: لم ينص على حالة النساء، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهن من هذا العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم؛ لأن حكم الشرع أن المرأة المسلمة لا يحل لها أن تكون تحت كافر، لذلك لا يصح أن ترجع إلى زوجها الكافر. الأمر الثاني: أن النساء أرق قلوباً، وأسرع تقلباً من الرجال، فيسهل أن يفتنها المشرك عن دينها. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليه، فلو أن امرأة أتت المدينة تلتجئ إليها لأي سبب من الأسباب، ولم تزل باقية على شركها؛ فهذه ترد إلى مكة. قوله: (( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ))؛ لأن المرأة مؤمنة ومسلمة، وزوجها مشرك فتنقطع العصمة بينهما؛ ولأن الكافر ليس كفؤاً للمسلمة. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وكان هو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، فأثارت عواطف النبي عليه السلام، وذكرته بـخديجة وأبكته. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد الوفاء لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان يكرم من يأتي من النساء ممن كان بينهم وبين خديجة مودة، ويقول وقد سمع صوت بعضهن: (قد كانت تغشانا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان)، فهذا من وفائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. فلما رأى قلادتها تبذلها زينب في فكاك زوجها الأسير في بدر رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه)؛ فوفى بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً، ومنهم من يقول: بعد سنتين وهو الصحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين.

    سبب امتحان النساء المهاجرات دون الرجال المهاجرين

    وهنا يرد سؤال وهو: أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ )) فقيل: كان امتحانهن بأن يأمرها النبي عليه السلام أن تحلف بأنها ما خرجت كرهاً لزوج، أو فراراً لسبب آخر، وقيل: كان امتحانهن بالبيعة الآتية في قوله أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [الممتحنة:12] إلى آخر الآية في آخر السورة. ومفهوم هذه الآية الكريمة أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون، وأن هذا الامتحان خاص بالنساء فقط، فلم تخصيص النساء بالامتحان؟ يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: وفعلاً لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه من الرجال، والسبب في امتحانهن دون الرجال هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى: (( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ )) فكأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال، فالرجل يقبل منه إذا أتى مهاجراً، وأما المرأة فلا يقبل منها، إلا بشرط أن تمتحن هذا الامتحان. وأما الرجال فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجراً فإنه يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة، وهو يعرف جيداً ما الذي تعنيه الهجرة من التضحية بماله، ومفارقة أهله ووطنه، ثم الانتقال إلى المدينة حيث يجب عليه أن يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ينصره، فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان، ومستعد لأن يتحمل تبعات هذه الهجرة، لذلك لم يحتج إلى امتحان. ولا يرد على ذلك حديث مهاجر أم قيس ؛ لأنه أمر جانبي، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنها في أول السورة في قوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي [الممتحنة:1]، وهذا بخلاف النساء، فليس عليهن جهاد، ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعة، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره فإنه قد يجعلهن يخرجن باسم الهجرة، والأمر على خلاف ذلك، بل هي هاربة من زوجها لسوء العشرة مثلاً، أو أرادت أن تكيده، كما كان النسوة يهددن أزواجهن أحياناً في مكة، وتقول إحداهن لزوجها: والله لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وليس ذلك إيماناً بالله وبرسوله، فكان ذلك الأمر موجباً للتوثق من هجرتهن، وذلك بامتحانهن؛ ليعلم إيمانهن. ويرجح هذا المعنى قولُه تعالى: (( اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ))، وفي حق الرجال قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]. ومن جانب آخر: فإن هجرة المؤمنات يتعلق بها حق لطرف آخر وهو زوجها المشرك، فإن هذه الهجرة يترتب عليها أن ينفسخ نكاحها منه، وأن تنقطع العصمة بينهما مباشرة، وأن يعوض هو عما أنفق عليها، وهذه الأمور: من إسقاط حقه في النكاح، وإيجاب حقه في العوض، قضايا حقوقية تتطلب إثباتاً، وذلك يكون بالامتحان، بخلاف هجرة الرجال.

    كيفية امتحان النساء المهاجرات

    إن الامتحان للنساء إما أن يكون بالبيعة المذكورة في آخر السورة، وإما بأن يأتين بالشهادتين، وإما بأن يحلفن ما خرجن سخطةً لزوج أو غير ذلك من الأسباب، ويقبل هذا الظاهر كما بينا. وهذه الآية كانت عمدة فرقة الخوارج الجدد وزعيمها شكري مصطفى ، فقد كانوا يوجبون ما أسموه: التوقف والتبين، بمعنى أنه لا يكتفى بظهور الإسلام حتى يمتحن هذا الذي يدعي الإسلام امتحاناً معيناً، فإذا تبين لنا إيمانه حكمنا عليه بالإيمان! وهذا استدلال في غير موضعه؛ لأن الامتحان كانت كيفيته ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا دليل على تعميمه في الأمة كلها بعد ذلك. ثانياً: أن هذا الامتحان كان بالصور التي ذكرناها، وأما هم فالامتحان عندهم كان عبارة عن عرض قضايا المنهج، فتجلس المرأة من خلف ستار، ويقوم بتلاوة الأدلة عليها بزعمهم، وتتلى عليها قضايا منهجية طويلة وعريضة، ثم بعد ذلك إن قبلتْ ذلك فهي مسلمة وإلا فإنها بعد إقامة الحجة عليها تصير كافرة. وقد كانت من وراء ذلك فتن كثيرة جداً، ونرجو -إن شاء الله تعالى- فيما بعد حينما نعود لدراسة قضايا الكفر والإيمان أن نفصّل في هذا الموضوع، أعني موضوع التوقف والتبين، وما ذكرنا هنا إشارة عابرة على أن الامتحان هنا ليس كالامتحان الذي زعموه.

    تخصيص السنة بالقرآن

    قوله: (( إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ...)) قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية، وقد كان في هذه المعاهدة: من جاء من الكفار مسلماً إلى المشركين ردوه على المشركين، ومن جاء من المسلمين كافراً لم يردوه على المسلمين، فأخرجت هذه الآية النساء من المعاهدة وأبقت الرجال، وذلك من باب تخصيص العموم، وهذا تخصيص للسنة بالقرآن، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم، وقد قال في مراقي السعود: وخص بالكتاب والحديث به أو بالحديث مطلقاً أن تنتبه ومن أمثلة تخصيص السنة بالقرآن الكريم: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبين من حي فهو ميتة)، فلو جاء رجل إلى كبش مثلاً وقطع ذيله لأجل ما فيه شحم، فهل يجوز أكله؟ الجواب: لا يجوز أكله؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبين من حي فهو ميت) أي: ما فصل من حي فهو ميت، ولذلك فإنّ الإنسان الذي بترت ذراعه أو ساقه فإنها تعامل معاملة الميت؛ فتكفن، وتدفن إلى آخره. وهذا العموم في قول النبي عليه الصلاة والسلام جاء تخصيصه بقوله تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأشْعَارِهَا [النحل:80] يعني: ليس محرماً، فهذا تخصيص، فالقرآن الكريم يخصص عموم السنة. ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، فجاء تخصيص هذا العموم في هذا الحديث -إن صح-: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت ...). وقال القرطبي : (جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب -يعني: صلح الحديبية- والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعدُ، فأقبل زوجها -وكان كافراً- فقال: يا محمد! اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله هذه الآية). وقال بعض المفسرين: إنها ليست مخصصة للمعاهدة؛ لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء، وإنما كانت في حق الرجال فقط. وذكر القرطبي وابن كثير (أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت فارّةً من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها: عمارة والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ردها علينا بالشرط، فقال صلى الله عليه وسلم: كان الشرط في الرجال لا في النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية)، فالظاهر أن الآية مخصصة لمعاهدة الهدنة، أي: أنّ القرآن مخصص للسنة، وهذا من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن. ومما يدل على أنها مخصصة أمران مذكوران في الآية: الأول منهما: أنها أحدثت حكماً جديداً في حقهن، وهو عدم الحِلِّيَّة بينهن وبين أزواجهن، فلا محل لإرجاعهن، ولا يمكن تنفيذ معاهدة الهدنة مع هذا الحكم، فخرجن منها، وبقي الرجال. والثاني منهما: أنها جعلت للأزواج حق المعاوضة على ما أنفقوا عليهن، ولو لم يكنَّ داخلات أولاً لما كان طلب المعاوضة ملزماً، ولكنه صار ملزماً، وموجب إلزامه أنهم كانوا يملكون منعهن من الخروج بمقتضى المعاهدة المذكورة، فإذا خرجن بغير إذن الأزواج كُنّ كمن نقض العهد، فلزمهن العوض المذكور، والله تعالى أعلم.

    معنى قوله تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا ...)

    يقول تعالى: (( وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا )) أي: أعطوا المشركين الذين جاءت نساؤهم مؤمنات إذا علمتموهن مؤمنات فلم ترجعوهن إليهم، أعطوهم ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق. قال مقاتل في قوله تعالى: (( وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا )) هذا إذا تزوجها مسلم، يعني: لا ندفع لزوجها المشرك الصداق الذي بذله إلا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء. وقال القرطبي : وذلك من الوفاء بالعهد؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر الله عز وجل برد المال إليه؛ حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين، أي: خسارة الزوجة، وخسارة الصداق الذي بذله. وهذا من عدل الإسلام حتى مع الكفار. وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق.

    معنى قوله تعالى: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن)

    يقول الله تبارك وتعالى: (( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )). (أجورهن) هنا بمعنى: صداقهن، فهذا المنطوق، ويدل بمفهومه على أن النكاح بدون الأجور فيه جناح، أي أن من نكح بدون صداق، أو أسقط المهر، فعليه جناح وإثم في ذلك، أي: فلابد في الزواج من مهر. فالمهم في عقد الزواج ألا يتم الاتفاق فيه على إسقاط المهر، فذلك خطأ كبير فادح، لكن لو لم يتحدث عن المهر أصلاً، وحصل الزواج، ثم حصل طلاق، أو وفاة للزوج، أو طالبت المرأة بحقها في الطلاق، فإنها تعطى صداق المثل، ولذلك إشارة في قوله تعالى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]. والمهر قد يكون مسمى أو غير مسمى، والمسمى قد يكون مقدماً كله أو مؤخراً كله، أو بعضه مقدماً وبعضه مؤخراً، وذلك حسب تفاوت الأحوال، فأهم شيء ألا يكون هناك اتفاق على إسقاط المهر. ويؤخذ وجوب الصداق أيضاً من قوله تبارك وتعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، فهذه المرأة وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، وَهِبَةُ المرأة نفسها بدون صداق حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، ولا يحل لغيره على أي حال. وقوله: (( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )) ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور، وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق؛ وذلك في قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]. وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة: أنه إن دخل بها فلها صداق المثل، يعني: إذا تزوجها ولم يحدد لها مهراً فالزواج صحيح، لكن المهم ألا يكون هناك اتفاق على إسقاط المهر، ويجوز تأخير الكلام في المهر لسبب أو لآخر، ففي هذه الحالة تسمى هذه المرأة بالمفوضة، قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]. ويدل على إطلاق الأجور على الصداق آيات عدة في القرآن الكريم، فإن الصداق من أسمائه الأجر، وهذه الملاحظة مهمة جداً حتى نحذر من تلبيس الشيعة الرافضة في تحليلهم نكاح المتعة، واستدلالهم بلفظ: (الأجر) فنقول: قد أُطلق الأجر في القرآن مراداً به الصداق، مثل قول الله تبارك وتعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولاً للحرائر: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] إلى أن قال تعالى: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:25] يعني: مهورهن. وفي نكاح أهل الكتاب قال تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [المائدة:5] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب:50] فبهذا كله يرد على من استدل بلفظ الأجور على نكاح المتعة. ثم قال الله عز وجل: (( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ )) يعني: أن تنكحوا هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب مفارقات لأزاجهن، وإن كان لهن أزواج (( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )) أي: مهورهن. قال ابن زيد : لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن.

    معنى قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)

    قوله: (( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ )). أشار إلى أنه كما بطل نكاح المؤمنة عن الكافر بطل نكاح الكافرة عن المسلم، فكما أن المؤمنة لا تتزوج كافراً بحال من الأحوال، كذلك أيضاً يبطل نكاح المسلم الكافرة، فقال عز وجل: (( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ )) قرئت: (ولا تُمسِّكوا بعصم الكوافر) وقرئت أيضاً: (ولا تَمَسَّكوا بعصم الكوافر) يعني: بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال. يقول ابن جرير : يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأستارهن، والكوافر: جمع كافرة، وهي تشمل كل من يطلق عليها لفظ الكافرة بما في ذلك الكتابية من اليهود والنصارى، والعصم: جمع عصمة، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب، وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهم بفراقهن. ثم روى ابن جرير عن مجاهد قال: أُمر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بطلاق نساء كوافر بمكة قعدن مع الكفار. وليست هذه الآية على عمومها (( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ))، فقد خص من الكوافر حرائر أهل الكتاب، والمخصص هو قول الله تعالى في سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]. وعن الزهري قال: لما نزلت هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) إلى قوله: (( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ )) كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلق امرأتين كانتا له بمكة: ابنة أبي أمية ، وابنة جرول ، وطلحة بن عبيد الله ، طلق زوجته أروى بنت ربيعة ، ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر. وكان ممن فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فحبسها وزوجها رجلاً من المسلمين: أذينة بنت بشر الأنصارية ، كانت عند ثابت بن الدحداحة ، ففرت منه -وهو يومئذ كافر- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف أحد بني عمرو بن عوف، فولدت عبد الله بن سهل .

    جواز استمتاع المسلم بالمشركة بملك اليمين

    وننبه هنا على أمر: وهو أن مفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين، فإذا قلنا: إنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تتزوج مسلمة بكافر، فكذلك المسلم لا يحل له أن يتزوج بكافرة مشركة وثنية بأي حال من الأحوال، لكن هل هذه العصمة تمنع الإمساك بملك اليمين؟ الجواب: لا تمنع الإمساك بملك اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين على أساس أنها سرّيّة، أي: أمة وليست زوجة حرة، فمفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين، وعليه تكون حرمة المسلمة على الكافر مطلقاً، لقوله تعالى: (( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ )) أي: الآن، (( وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ )) يعني: في المستقبل.

    الحكمة من حلّ نكاح المسلم الكتابية وحرمة المسلمة على الكتابي

    يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم، وتحريم المسلمة على الكافر، فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب؟ والجواب من جانبين: الأول: أن الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه، والقوامة في الزواج تكون من جانب الرجولة قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالقوامة واليد العليا في الزواج تكون للرجل وإن تعادلا في الحلِّيَّة بالعقد؛ لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين، فإذا امتلك رجل امرأة حلَّ له أن يستمتع بها بملك اليمين، وأما المرأة إذا امتلكت عبداً فلا يحل لها أن تستمع به بملك اليمين. وكذلك باعتبار قوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر، فإنه لا يَسْلم لها دينها، فلو تزوجت مسلمة بكافر فإنه لا يصحح دينها، ولا دين أولادها، بل سيفسد عليها دينها هي وأولادها؛ لأن الرجل هو صاحب القوامة. الجانب الثاني: شمول الإسلام وقصور غيره من الأديان، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة؛ وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية فهو يؤمن بكتابها وبرسولها، فيكون معها على مبدأ من يحترم دينها؛ لإيمانه بدينها في الجملة. وهذا التعبير حساس قليلاً أعني جملة: (يحترم دينها) وذلك أننا معشر المسلمين نؤمن بجميع الأديان وجميع الرسل، فنؤمن بموسى وعيسى ومحمد، وأما الكافر فحتى لو زعم أنه مؤمن بموسى أو بعيسى فهو لا يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يتصور أن مسلماً إذا تزوج كتابية يسب عيسى، أو يسب موسى، أو أحداً من الأنبياء، بحجة أن هذا نبي اليهود أو النصارى، فموسى نبي الإسلام، وعيسى نبي الإسلام وموسى وعيسى عليهما السلام يعاديان هؤلاء الذين حرفوا دين الإسلام الذي بعثا به، فكفروا بسبب ذلك، بدليل أن المسيح سوف يقاتل اليهود، وأن المسيح نفسه إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيحكم بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما الإسلام وإما القتل، ولذلك قال تعالى على أحد وجهي التفسير: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] أي: بالمسيح قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] قبل موت المسيح عليه السلام حينما ينزل إلى الأرض. فالشاهد أن المسلم لا يتصور منه أن يؤذيها في موسى، أو في عيسى، وأما الكافر إذا تزوج مسلمة فإنه سوف يؤذيها في نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلا تعلم أمة هي أشد تعظيماً للأنبياء، وأشد حفظاً لحرمتهم من المسلمين، فهؤلاء اليهود والنصارى في هذه المسألة يشتركون في الهوى، فإن النصارى يؤمنون بالتوراة وبالإنجيل، واليهود يؤمنون بالتوراة، فالتوراة التي هي فاصل مشترك بينهم اشتملت على نصوص كثيرة فيها سب مُقذع للأنبياء، فسليمان عليه السلام ليس بنبي عندهم؛ بل هو مَلِك، وأما عندنا فسليمان نبي معصوم. وعندهم أن سليمان عليه السلام عبد الأصنام قبل موته، وأنّ داود عليه السلام فعل كذا وكذا من الفواحش، وشرب الخمر والعياذ بالله، وأن لوطاً عليه السلام فعل كذا، فتجدهم ينسبون كثيراً من الفواحش التي يتأذى أفسق الفساق أن تنسب إلى الأنبياء عليهم السلام، فهم لا يعرفون حرمة الأنبياء، لذلك فنحن أولى بالأنبياء منهم، فبالتالي لا يتصور أن مسلماً يسب موسى أو عيسى عليهما السلام، ومن فعل ذلك فإنه يخرج من ملة الإسلام. وأما ما حصل في الحوادث الأخيرة من أنّ بعض الإخوة الفلسطينيين هدموا ضريح يوسف عليه السلام، فأخبرتُ أنّ بعض الناس حاول إقناعهم بأننا نقدس ضريح يوسف عليه السلام، فأقول: نحن لا نقدس الأضرحة، ثمّ من ذا الذي قال: إن هذا الضريح ليوسف عليه السلام؟! فإنه عاش في مصر، وطلب أهله فجاءوا إلى مصر، ومات ودفن في مصر، أما أن يظن أن هذا هو ضريح يوسف عليه السلام فهذا غير صحيح، فإنه لا يقطع بضريح نبي من الأنبياء غير نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وما عدا ذلك فإنه لا يعلم على وجه التحديد. فالشاهد: أنّ هذا الجدال ليس في محله؛ لأن يوسف عليه السلام عاش في مصر، ومات فيها، ودفن فيها. وكذلك أيضاً فإن المرأة الكتابية إذا كانت تحت المسلم الموحد فإنه قد يكون هناك مجال للتفاهم والتواد بينهما، فلعل ذلك يكون سبباً في دخولها في الإسلام، وقد وقع هذا كثيراً، فالأخ المسلم بحسن خلقه، واجتهاده في طاعة الله سبحانه وتعالى، وحسن أسلوبه، يجل الزوجة تنقاد إلى الدخول في الإسلام، ونتذكر هنا حادثة ثمامة بن أثال حينما أسر، وربطه النبي عليه الصلاة السلام في سارية من سواري المسجد، وجاء في القصة: (أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام في أول يوم أتاه فقال له: كيف تجدك يا ثمامة ؟! قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن كريم، وفي اليوم الثاني هدأت اللهجة، فسأله النبي عليه الصلاة السلام، فقال له: إن تعف تعف عن كريم، وإن تقتل تقتل ذا دم)، ففي المرة الأولى بدأ بالقتل وفي الثانية بالعفو، وفي اليوم الثالث أطلق النبي عليه الصلاة والسلام سراحه، فذهب ثمامة فاغتسل، ثم أتى وشهد الشهادتين. وهذه حكمة تربوية رائعة جداً، وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحبس هذا الأسير في منزل، أو في حجرة، وإنما ربطه في سارية من سواري المسجد؛ حتى يراقب المسلمين، ويرى أخلاقهم، ويسمع كلامهم في التوحيد وغيره، ويرى آيات النبوة، ويرى حسن خلق المسلمين، ويرى نموذجاً حياً للمجتمع المسلم، فالمسجد في ذلك الوقت كان هو المركز للواقع الحياتي بالنسبة للمسلمين، فيرى صورة الإسلام مرسومة على الواقع، فأسلم بسبب أنه رأى هذا النموذج المبشر بالخير. وعلى الجهة الأخرى -للأسف الشديد- فإن الزوج إذا كان غير ملتزم فإنه ينفرها من الدين، بل وجدت حالات أن المرأة أسلمت، ثم هي تشكو من زوجها الذي يضربها، ولا يصلي الفجر، وغير ذلك من الشكاوى. فالشاهد من الكلام: أن المرأة المسلمة إذا كانت تحت كافر فلن يرقب فيها إلاً ولا ذمة، وربما آذاها في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفي القرآن، وفي الإسلام، وخاصة أن المستشرقين والكفار قد أوصلوا كثيراً من الشبهات التي يرددونها إلى كثير من الناس، فربما يرددها كثير من الناس على حد قول الكافر: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته). وكذلك الذرية سوف تتأثر بالأب، وبالتالي يكونون مشركين، فالمرأة نفسها يمكن أن تفتن في دينها، وإذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام. وأيضاً فنكاح الكتابيات لا ينبغي التساهل فيه في هذا الزمان؛ لأن القوامة الآن لا تكون كما يريد الزوج المسلم، ففي المجتمع الغربي بجانب تبرج المرأة واسترجالها هناك أمر آخر أخطر من ذلك، وهو أن القوانين التي تعلو الناس هناك تعطي المرأة حقوقاً مبالغاً فيها، بحيث إن الرجل لابد أن يخضع -شاء أم أبى- لكثير من قوانينهم التي ربما يترتب عليها أنها تستأثر بالأولاد، فتسميهم بأسماء النصارى، فيكونون من الذرية الكفار، والحوادث في ذلك كثيرة. فعلى أي الأحوال: فإن الكتابي إذا تزوج امرأة مسلمة فهو لا يؤمن بدينها، ولا يحترم دينها، ولا يوجد مجال للتفاهم معه في أمر هو لا يؤمن به بالكلية، فلا جدوى من هذا الزواج؛ لذلك مُنع منه ابتداء، لكن لا توجد هذه المشاكل فيما يتعلق بزواج الكتابيات، مع أن كثيراً ما يطلق عليهن الآن وصف كتابيات وهن في الحقيقة لم يعدن كتابيات، فالكتابية هي التي تؤمن بعيسى أو بموسى، أو بدينهما حتى مع تحريفهم له، وأما الآن فمعظمهن وثنيات لا دين لهن، وهذا حكم عام سواء في الزواج أو في الذبائح؛ لأنهن في الغالب لم يعدن أهل كتاب: لا نصارى ولا يهود ولا غير ذلك، فهذا أمر ينبغي الانتباه له، وسبق أن وضحناه بالتفصيل في محاضرة: (حكم نكاح الكتابيات). وقد تكلم أحد العلماء أيضاً في الحكمة من إباحة زواج المسلم بالكتابية، وحرمة زواج المسلمة بالكتابي، فيقول: إن المسلمين يؤمنون بجميع الأنبياء الذين منهم موسى وعيسى، ويؤمنون بكتب الله المنزلة كلها، لكن الكتابيين -وهم اليهود والنصارى- لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا بكتابه، ويوجهون إلى شخصه الكريم وكتابه العظيم جملة من المطاعن التي تنبئ عن داء دفين، وحقد كمين، والمنصفون منهم يعترفون بعظمته، ولا يؤمنون بنبوته، فمن ثَم جاز لنا أن ننكح نساءهم، ولم يجز لهم أن يتزوجوا نساءنا، فهذه حكمة. وحكمة ثانية: وهي أن الإسلام دين التسامح، فلا يجيز إكراه أي شخص على اعتناقه، وهو يعتمد في نشر دعوته على الإقناع بالحجة والبرهان، قال الله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يكرهها على مفارقة دينها، بل يدعها حرة في عقيدتها، ولا يحل له شرعاً أن يكرهها على الدخول في الإسلام. وليس معنى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أننا لا نبين الحق، ولا ندعوها إلى سماحة الإسلام، ونقدم لها الحق، وكذلك ليس معناها أن نمتنع نحن عن إبطال العقائد الشركية، والأديان المحرفة، وإقامة الأدلة على صدق النبوة والتوحيد وغيرها! فإن هذا ليس من الإكراه، فأنت تعطي اليهود بضاعتك. فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يفكر في إكراهها على مفارقة دينها، وأما الكتابي إذا تزوج بمسلمة فإنه يحاول إخراجها من دينها بمختلف الوسائل ولو بالتهديد، يقول: والشواهد على ذلك كثيرة أقربها: أن نضلة أم الملك فاروق تزوجها طبيب أمريكي، فأخرجها عن دينها فهي الآن نصرانية -وهذا الكتاب مطبوع سنة (1968م)- وبنتها فتحية تزوجها قبطي مصري بدعوى أنه أسلم، ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها وفارقها، وقد تزوج فرنسيون بمسلمات جزائريات أيام استعمارهم للجزائر، فأخرجوهن عن دينهن بترغيب مشوب بترهيب

    1.   

    حرمة أذية الأنبياء

    إن الكلام عن شيء يؤذي الرسول عليه السلام لا يجوز، مثل كثرة الجدال، فبعض الناس يروق لهم أحياناً فتح بعض الموضوعات، وكثرة الجدل والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، لكن يكفي فيها التنبيه، مثل كثرة الكلام في مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، فهذه المسألة دليلها واضح، ولا تحتاج إلى كلام كثير، فقد كره بعض العلماء ذلك؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا نقول كما تقول الصوفية: إن الله قد أحيا له والديه فآمنا ثم ماتا، فهذه من خرافاتهم، ولكن نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل أين أبي؟ (قال: إن أبي وأباك في النار) ، وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته بأن أزورها فأذن لي أن أزورها) يعني: أمه عليه الصلاة والسلام، فالإنسان يكفيه هذا ولا يكثر الكلام؛ مراعاة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69] فهذا من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء حتى وصل بهم الأمر إلى حد القتل، فقد قتلوا بعض الأنبياء، وهنا آذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه، فقد آذوه مراراً، وقاسى منهم الأمرين عليه السلام كما حكى الله عنه مخاطباً قومه: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]، فالشر كامن في بني إسرائيل فهم كالذيب، ومن التعذيب تهذيب الذيب، فلو أردت أن تهذب الذيب أو أن تعدل أخلاقه فإنه لا يتعدل ولا يقبل التعديل، وهذا مما يستفاد من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود -لعنهم الله- فإن أخلاقهم واحدة في كل جيل، ففيهم نفس اللؤم والغدر، ونقض العهد، والكفر، والمكر، وكراهية الخير للناس، والحسد، فكل هذه الصفات لاصقة فيهم، وغير قابلة للمحو والتغيير من طباعهم.

    تفسير قوله تعالى: (واسألوا ما أنفقتم)

    قوله تبارك وتعالى: (( وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ )). أي: إذا ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين فاطلبوا ما أنفقتم عليهن من الصداق ممن تزوجهن منهم، فلو أن رجلاً مسلماً لحقت امرأته بالمشركين كافرة، وتزوجها أحد المشركين، فإنه يطالب من تزوجها بما أنفق من الصداق. (( ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )) أي: هذا الحكم الذي حكم به بين المؤمنين والمشركين في هذا الأمر، فهذا حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار ... )

    يقول تعالى: وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الممتحنة:11]. (( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ )) أي: وإن ارتدت منكم امرأة فلحقت بالكفار فلم يردوا مهرها: (( فَعَاقَبْتُمْ )) وفيها قراءة أخرى: (فعقبتم)، وقراءة ثالثة: (فعقّبْتم)، وكلاهما بدون ألف ومعناهما: وكانت العقبى لكم بأن غلبتم وانتصرتم عليهم، وبالتالي أخذتم الغنائم. (( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ )) أي: من الغنيمة التي أخذتموها في هذا القتال، وذلك من رأس الغنيمة قبل التوزيع، فالمراد: أخرجوا الصداق المستحق لزوج تلك المرأة التي فرت إلى المشركين. (( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ )) يعني: من المسلمين: (( مِثْلَ مَا أَنفَقُوا )) في مهورهن. قال مجاهد : مهر مثلها يدفع إلى زوجها. وقال قتادة : كن إذا فررن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفار -أي: ليس بينهم وبين نبي الله عهد-، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم. وقوله: ليس بينه وبين نبي الله عهد، إنما اشترط هذا الشرط؛ لأنه لو كان هناك عهد لم تحصل حرب. (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )) يعني: فإن الإيمان به يقتضي أداء أوامره، واجتناب نواهيه تبارك وتعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756362098