إسلام ويب

تفسير سورة الفتح [2]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك..)

    قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]. يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يعني بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، إنا حكمنا لك -يا محمد- حكماً لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر؛ لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك لفعالك ذلك ربك ما تقدم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخر بعد فتحه لك ذلك ما ذكرته واستغفرته. وبهذا يتبين ما قد يستشكل بعض الناس من العلاقة بين قوله تعالى: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))، وبين قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، فما وجه الارتباط بينهما يقول الإمام ابن جرير : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يعني: لتحمد الله سبحانه وتعالى على هذا الفتح، ولتسبحه وتستغفره، فبكل هذا يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك: قبل الفتح، وما تأخر أي: بعد الفتح. يقول الإمام شيخ المفسرين: وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، يعني: بعد الفتح أمره بقوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، يغفر لك بعد الفتح، ولذلك قال في سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ )) يعني: فتحنا لك فتحاً مبيناً، حتى إذا ما جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره؛ يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. إذاً: لابد أن نفهم هذه الآية في ضوء آية سورة النصر، فهذه السورة تدل على صحة هذا التفسير. يقول الحافظ الإمام ابن جرير : إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه تواب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تبارك وتعالى: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) إنما هو خبر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم على توحيده وشكره له على النعمة التي أنعم بها عليه، وإظهاره إياها؛ والله تعالى لا يجازي عباده إلا على أعمالهم دون غيرها؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ))، وهذا كله جزاء، والجزاء والثواب دائماً يكون مبنياً على فعل العبد نفسه وليس على فعل الله، يعني: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ))، فمغفرة الله وإتمام النعمة على النبي عليه الصلاة والسلام تكون جزاء لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، أنه يسبح الله ويحمده، ويستغفره فيغفر له، وقد صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقوم حتى تتورم قدماه، فقيل له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً)، ففي ذلك دلالة واضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى إنما وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة على شكره له على نعمه التي أنعمها عليه، وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة)، ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى لنبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا؛ لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ولا لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلم ربه جل وعلا من ذنوبه بعدها معنى يعقل؛ لأن الاستغفار معناه: أن العبد يطلب من الله غفران ذنوبه، فإذا لم يكن له ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى؛ لأنه من المحال أن يقال: اللهم اغفر لي ذنباً لم أعمله، وقد تأول ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال فيه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )). وأما الفتح الذي وعد الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليها فإنه فيما ذكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية.

    كلام السرخسي في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

    قال العلامة السرخسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))، لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها؛ لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له! والجواب عن هذا من وجهين: الأول: وهو اختيار ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه، أن المعنى: إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح. الدلالة الوضعية للألفاظ إما أن تكون دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام، ودلالة المطابقة هي أن اللفظ يدل على المعنى الذي وضع له، مثل: لفظة (الإنسان) فيها دلالة مطابقة على الحيوان الناطق، فتنطبق تماماً عليه، أما دلالة التضمن فهي تدل على جزء المعنى، أي: دلالة اللفظ على جزء معناه، كما إذا قلت مثلاً: (الإنسان)، فتدل على جزء معنى الإنسان، أما دلالة الالتزام فهي دلالة تدل على لازم المعنى العقلي، يعني: إذا قلنا: أربعة فنفهم من هذا أن ذلك يلزم منه أن الأربعة عبارة عن عدد زوجي، فهذه دلالة الالتزام. فقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يدل بدلالة الالتزام أنه يلزم من ذلك شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح، فإذا شكر الله على نعمة الفتح كافأه الله بأن يغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة بسبب شكره؛ لأنه يشكر الله بأنواع من العبادات يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والجزاء إنما يكون على فعل العبد، لا على فعل الرب سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يقول: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، وهذا الفتح في حد ذاته لا يترتب عليه مغفرة الذنوب؛ لأن الذي فتح هو الله، وإنما الذي فعله النبي عليه السلام هو أنه بعدما فتح الله عليه قال بشكر نعمة الفتح، وامتثل ما أمره الله تعالى في قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، حينئذ فكان بعد الفتح يكثر من التسبيح والاستغفار، فغفر الله له طبقاً لذلك ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكراً على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه؛ لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، ثم قال: فَسَبِّحْ فهذا فيه ترتيب المعلول على علته، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا . فهذا من حيث الدلالة من القرآن بتفسير الآية بسورة النصر، وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أزواجه: (أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً ؟!) يعني: قد غفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فيترتب على ذلك أن أشكر الله سبحانه وتعالى، فبين عليه الصلاة والسلام أن اجتهاده في العمل هو لشكر تلك النعمة، وترقب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به، فـ: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) هذه عاقبة وثمرة اجتهاده في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتسبيح والعبادة. الوجه الثاني في تفسير الآية: أن قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله، بمعنى: بما أنك -يا نبي الله- قد جاهدت في الله حق الجهاد، وترتب على هذا الجهاد الفتح من الله سبحانه وتعالى، فإن جهادك يكون سبباً لغفران ذنوبك المتقدمة والمتأخرة، فيكون المعنى هنا: ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح؛ لأن فتح الله له سبب، والسبب هو الجهاد في سبيل الله، فالمعنى: أنه ترتب على جهادك في سبيل الله سبحانه وتعالى حق الجهاد أن فتح الله عليك، فبسبب جهادك يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، هذا حاصل ما قاله المفسرون في هذه الآية، كذلك قال القاسمي كلاماً قريباً من هذا، وقال: أبو السعود : قوله: (ليغفر لك الله) غاية للفتح من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب. قوله: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) أي: جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل صلى الله عليه وسلم.

    كلام ابن كثير في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

    قال الحافظ ابن كثير القرشي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: لم تثبت هذه الفضيلة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً في عاشوراء يكفر السنة الماضية، ويوم عرفه صيامه يكفر سنة ماضية وسنة مقبلة، أما أن يقال لعبد من عباد الله: إنه قد غفر الله له على سبيل التحقيق ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذه من تشريف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم، ولما كان أطوع خلق الله لله وأكثرهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: (حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) وقوله: (حبسها حابس الفيل) أي: الذي حبس الفيل عن أن يدمر الكعبة المشرفة، ففيه إشارة إلى أن هذا أمر إلهي من عند الله سبحانه وتعالى، فحينما بركت الناقة -كما سيأتي إن شاء الله في القصة المطولة لصلح الحديبية- فمعنى ذلك أن هذا من عند الله، ثم قال لهم: (والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها)، فهو أطاع الله سبحانه وتعالى في هذا الفعل، وأجاب إلى الصلح الذي حصل مع المشركين، فلما أطاع الله هذه الطاعة، وانقاد لأمره قال الله له: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ )) أي: في الدنيا والآخرة (( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )) أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم، والدين القويم، ثم قال: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3] أي: بسبب خضوعك لأمر الله، يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله). وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

    المراد من قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

    قوله تبارك وتعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )، هو كقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، وقوله تعالى: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]، وقوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، وبعض المفسرين قالوا: معناه ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعدها. وقال بعضهم: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ) يعني: من ذنب أبويك آدم وحواء ، ( وَمَا تَأَخَّرَ ) أي: من ذنوب أمته، وما أبعد هذا التفسير عن معنى القرآن كما قال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى! فهذا تأويل بعيد جداً عن قواعد علم التفسير. وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا أيضاًً بعيد كالذي قبله. وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين السابقين في البعد عن المدلول، وقوله: ما تقدم من ذنب يوم بدر، هو إشارة إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً)، فقال: هذا هو الذنب المتقدم! لكن هذا يحمل على الوجه الصحيح، حيث لم يكن على الأرض مسلمون غير تلك الفئة؛ فليس فيها أي معنى محذور، وقوله: ( وَمَا تَأَخَّرَ ) أي: يوم حنين، هو إشارة لما روى أنه لما رمى المشركين بالحصباء قال: (لو لم أرمهم لم ينهزموا؛ فأنزل الله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17])، وهذا هو المتأخر، وهذا قول بعيد. وقيل: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ) أي: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأول أولى، فيكون المراد بالذنب الأول هو ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعد الرسالة، والمراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن ذنباًً في حق غيره، فهو من باب: (حسنات الأبرار سيئات المقربين). وقوله تعالى: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:2-3]، الوضع يكون للحط والتخفيف، ويكون للحمل والتثقيل، فإن عدي بـ(عن) كان للحط كقوله: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، وإن عدي بـ(على) كان المعنى الحمل، فوضعت عنك، غير وضعت عليك. والوزر لغة: الثقل قال تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] أي: ثقلها من سلاح ونحوه، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل ثقل أميره وشغله. والوزر شرعاً: هو الذنب، كما في الحديث: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وقد يترادفان في التعبير، كقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [النحل:25]، وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق، ولم يبين ما هو وما نوعه، فلذلك اختلف المفسرون فيه اختلافاً كبيراً كقوله: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، قيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية، وحفظه من مشاركته معهم، فلم يلحقه شيء منه، مع أنك كنت بعيداً عن أهل الجاهلية، لكن وضعنا عنك وزرك، أي: حفظناك من أن تفعل ما كان يفعله الجاهليون، وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه أمر الناس ولم يستطع تغييره، وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني: أن هذه الآية: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) كقوله تعالى -على هذا التفسير-: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، يعني: أسفاً عليهم. وقال أبو حيان : (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب، وتطهيره من الأوزار. ومهما يكن من شيء فإن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها؛ لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ولوجوب التأسي به، وامتناع أن يكون في شيء من ذلك خطأ، فحكمة الله أن جعل الأنبياء معصومين؛ لأننا مأمورون بالاقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة معصوم من الصغائر والكبائر، أما قبل البعثة فلا شك في العصمة من الكبائر أيضاً؛ لأنه كان في مقام التهيؤ للنبوة منذ صغره، وقد شق صدره الشريف في سن الرضاع، وأخرج منه حظ الشيطان، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته، ولم يذكر من ذلك شيء، فلم يبق إلا القول في الصغائر، فهي دائرة بين الجواز والمنع، فإن كانت بعد البعثة فهو معصوم من الصغائر والكبائر، وقبل البعثة فقطعاً هو معصوم من الكبائر، أما الصغائر فالأمر يدور فيها بين جواز وقوع ذلك أو منعه، وإن كانت جائزة الوقوع فوقعت فإنها لا تمس بمقامه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها وقعت قبل البعثة وقبل التكليف، وقد غفرت وحط عنه ثقلها، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه فهذا هو المطلوب. وقد ساق الألوسي رحمه الله تعالى خبر أن عمه أبا طالب قال لأخيه العباس يوماً: لقد ضممته إلي وما فارقته ليلاً ولا نهاراً، ولا ائتمنت عليه أحداً، وذكر قصة مبيته ومنامه في وسط أولاده أول الليل، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظاً عليه، ثم قال: ولم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون. ومما جاء في كتب التفسير: أنه عليه الصلاة والسلام أراد مرة في شبابه أن يذهب إلى مكان عرس ليرى ما فيه، فلما دنا منه أخذه النوم، ولم يستيقظ إلا على حر الشمس، فصانه الله من رؤية أو سماع شيء من ذلك، ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة، حين سقط منه الرداء ومنع منه وفي الحال استتر، فهذه أدلة أصحاب المذهب الذي يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم حتى من الصغائر قبل البعثة. فما هو الجواب عن قول الله تبارك وتعالى: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]؟ ما هو هذا الوزر؟ ولماذا قال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]؟ قيل في الجواب: إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم، فكلمة: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) هذا تكريم له، وكما جاء في أهل بدر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أنهم لم يفعلوا محرماً، ولكنه تكرم منه لهم، ورفع لمنزلتهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب ويستغفر، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان كل ذلك منه شكراً لله تعالى ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال في أحد أصحابه -وهو صهيب رضي الله عنه- : (نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه)، وصهيب حسنة من حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)، فبالنسبة لمقامه الشريف هو يرى أنه توقف لسانه عن الذكر، وبلا شك أنه كان يذكر الله بقلبه حتى في حال التخلي، لكن كان يضطر إيقاف لسانه عن ذكر الله في هذه الفترة التي لا يليق فيها ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان، ويقتصر على ذكر الله بالقلب، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا منه ذنب وتقصير، حيث حرم من ذكر الله باللسان، فكان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك)، يعني: لإمساك لساني عن ذكرك في هذه الحال، فهو سأل الله المغفرة مع أنه لم يأت في الحقيقة بموجب للاستغفار، وإنما شعوره بترك الذكر في تلك الحالة هو الذي استوجب منه الاستغفار، وقد استحسن العلماء قول الجنيد : (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، فالمسألة نسبية بالنسبة لمقام العبد عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا في حق أمهات المؤمنين: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.. [الأحزاب:32]، إلى آخر الآية، وقال: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:30-31]، وهذا لعظم مقامهن، فإذا صدر من أي أم من أمهات المؤمنين ذنب فإنه يضاعف لها العذاب؛ لشرف وعلو مقامها عند الله سبحانه وتعالى في الجهتين، فما بالك بالنبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو أن المراد بمثل هذه الآيات: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، هو ما جاء في القرآن الكريم من بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة، فما ظن أنه ذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو وصفه ربه على أنه ذنب فهو في الحقيقة واحد من اثنين: إما أنه من باب ترك الأولى، وهو ذنب بالنسبة لمقامه الشريف، أو أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد وظن أن في هذا الأمر الذي فعله رضوان الله، فبعد ما فعله أعلم أن رضاء الله كان في الاجتهاد الآخر؛ فعد ذنباً في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، أما أن يتعمد معصية فلا وألف لا، ومثال

    1.   

    عصمة الأنبياء

    قول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، واجتهاده في إيمان عمه، فقد كان حريصاً جداً أشد الحرص على إيمان عمه حتى قال الله له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء [القصص:56] ونحو ذلك، فتحمل الآية: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) على معنى الوزر اللغوي، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2] يعني: الثقل الذي كنت تتحمله من أعباء الدعوة، وتبليغ الرسالة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت وعرفت أن الناس مكذبي)، يعني الناس سوف يكذبوني، وكيف يصدقون خبر الإسراء؟! قال: (فقعدت معتزلاً حزيناً فمر بي أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وقص عليه الإسراء) ففيه التصريح بأنه فظع، والفظاعة هنا: ثقل وحزن، فلا شك أن الحزن ثقل، ولا شك أن توقع تكذيب قومه إياه أثقل على نفسه من كل شيء، فهذا الثقل هو المقصود من قوله: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2] أي: رفعنا عنك هذا العبء وهذا الثقل. ومن ضمن الآيات التي فيها ذكر الاستغفار أو الإشارة إلى ذنب قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1].. إلى قوله: وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، قال البعض: إن الاستغفار إنما يكون عن ذنب فما هو هذا الذنب؟ وتقدمت الإشارة بإيجاز عن عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن التوبة دعوة الرسل، ولو بدأنا من قصة آدم عليه السلام قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، ومعلوم موجب تلك التوبة، وهو ما وقع من آدم عليه السلام، ثم نوح عليه السلام قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وإبراهيم عليه السلام قال: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، وقال أيضاً: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] فبناء على هذا قال بعض العلماء: إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح، يعني: التوبة هي دعوة الأنبياء، فحتى الاستغفار نفسه هو عبادة في حد ذاته كالتسبيح، ولا يلزم من الاستغفار وجود ذنب. وقيل: (( وَاسْتَغْفِرْهُ )) هذا تعليم لأمته صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: (( وَاسْتَغْفِرْهُ )) هذا تكريم له ورفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، فيكون الاستغفار والتوبة عبارة عن الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. وحاصل كلام الأصوليين في مسألة عصمة الأنبياء أو ما قاله العلماء في هذه المسألة هو: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة من الكفر، وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة أو تطفيف حبة، فهذه أشياء متفق عليها بين الأصوليين، ولا شك أن كل الأنبياء معصومون من الكفر، وليس في هذا جدال، والحوار الذي قصه الله علينا في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75].. إلى آخر الآيات، إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً ولم يكن ناظراً، وناظراً معناه: مفكراً لنفسه، يبحث عن الحق والتوحيد، فلما رأى الشمس قال: هذا ربي، وقال: هذا القمر أو هذا الكوكب ربي لا، هذا لا يمكن أبداً، فإبراهيم عليه السلام نبي، وإبراهيم معصوم مما هو أدنى من هذا بكثير، فكيف يوصف إبراهيم -والعياذ بالله- بالشرك والحيرة في أمر الله؟! هذا مستحيل! وإنما كان يناظر قومه ويستدرجهم حتى يصل بهم في النهاية إلى الإقرار بالتوحيد، كنوع من الإلزام في أسلوب الحوار، لكن لا يمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام ناظراً لنفسه، فإن الأنبياء قطعاً معصومون من الشرك. إذاً: الأصوليون يتفقون على عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام من الكفر، وعن كل ما يتعلق بالتبليغ، فكل ما يتعلق بتبليغ الرسالة هم معصومون فيه، ومعصومون من الكبائر، ومعصومون من صغائر الخسة، وصغائر الخسة هي التي تدل على دناءة النفس وخستها، كسرقة لقمة أو تطفيف حبة عند الميزان مثلاً، فالحرص على هذه من صغائر الخسة، وتدل على دناءة النفس، فلا شك أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من ذلك، وأكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر -غير صغائر الخسة- منهم، ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك -وإن جاز عقلاً- لم يقع فعلاً، وقالوا: ما جاء في الكتاب والسنة من ذلك إنما فعلوه بتأويل أو نسيان أو سهو أو نحو ذلك.

    كلام الشنقيطي في مسألة عصمة الأنبياء

    قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراكزهم العلية، ومناصبهم السامية، ولا يستوجب خطأً منهم، ولا نقصاً فيهم صلوات الله وسلامه عليهم، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب، فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات. حتى ما وقع منهم من هذه الأشياء اليسيرة لو فرض أنها وقعت فالأنبياء لا يقرون على ذلك ولا يصرون عليه، وإنما لابد أن ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه توبة ترفع درجاتهم، بحيث إن النبي لم يكن يصل إلى الدرجة العليا لولا هذه التوبة. إذاً: يقول الشنقيطي : ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب؛ فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات، فتكون بذلك درجاتهم أعلى درجة ممن لم يرتكب شيئاً من ذلك، ومما يوضح هذا قوله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122]، فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه واجتبائه -أي: اصطفائه- إياه وهدايته له! ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة، والعلم عند الله تبارك وتعالى. وقد قال بعض العلماء: رب معصية أوجبت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً. ولذلك قال النبي عليه السلام: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب العجب!) وقيل أيضاً: لأن يبيت الرجل نائماً ويصبح نادماً، خير له من أن يبيت قائماً ويصبح معجباً مغتراً بعمله.

    كلام ابن حزم في عصمة الأنبياء

    ما زلنا في بيان معنى قوله تبارك وتعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، الحقيقة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الفصل سرد تقريباً كل ما يظن البعض أنه ذنوب وقعت للأنبياء نص عليها في القرآن الكريم، ثم ظل يبين أن هذه الآيات لا تخرج عما ذكرناه، فالذنب إما أن يكون من باب ترك الأولى، أو أنه ذنب بالنسبة لمناصبهم الجليلة أو الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى، أو أنه اجتهاد أرادوا فيه إرضاء الله، فبان بعد ذلك أنه خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، ولكنه لا يقر إذا أخطأ في اجتهاده، بل يأتي الوحي مصححاً له هذا الأمر، فتكلم في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، ولوط، وإخوة يوسف، وموسى وأمه، ويونس، وداود، وسليمان، وهذا في كتاب الفصل، وهو فصل كبير في هذه المسألة، وهو من أوسع الأبواب في ذلك. لكن سنقتصر على ما ذكره هو وغيره متعلقاً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار أننا نفسر هذه الآية: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))، قالوا: فإن لم يكن له ذنب عليه الصلاة والسلام فماذا غفر له وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك؟! يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: قد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان لا بتعمد نسيان أو بقصد ما يظنونه خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم. فهذان هما الوجهان اللذان غفرهما الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما حصل منه على سبيل النسيان، أو ما فعله يقصد فيه الخير فلا يوافق رضوان الله سبحانه وتعالى، من ذلك مثلاً قول الله تبارك وتعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، ما هو الذي أخذوه؟ الفداء من الأسارى، قال ابن حزم : إنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية لا يفهم منها أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ارتكب هذا الذنب، وإنما الخطاب للمؤمنين: (( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ )) يعني أيها المسلمون (( عَذَابٌ عَظِيمٌ ))، وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين، يبين ذلك قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال تعالى في نفس هذه السورة النازلة في هذا المعنى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، وقال تعالى أيضاً قبل ذلك الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، فهذا نص القرآن، وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المذكورة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، فيه أنه لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون: (( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ )) يعني: حكم سبق في قضاء الله أنه لا يمكن أن يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، أي: حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية أولاً. واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال كما في قوله تعالى: (( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ))، وأصح هذه الأقوال أنه ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا، فلما كان يوم بدر أسرع الناس إلى الغنائم، فأنزل الله عز وجل: (( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ )) أي: بتحليل الغنائم، (( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغنائم لا تحل لأحد سود الرءوس غيركم، وكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها) رواه أبو داود الطيالسي والترمذي وقال: حسن صحيح. فكان فيما مضى النبي إذا جاهد مع قومه يجمعون الغنائم في مكان واحد، ثم تنزل النار من السماء فتلتهم هذه الغنائم، ولم تكن تحل لهم الغنائم، ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ولأمته، فأنزل الله تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:68-69]. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معيناً، والعموم أصح؛ لقول الرسول السلام لـعمر في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أخرجه مسلم ، هل معنى ذلك أنهم يصبحون معصومين؟ لا، بل معناه: أن أهل بدر إذا عاشوا بعد نزول هذه الآية، فمن يرتكب منهم معصية فإنه يأخذ لإزالة هذه المعصية بالتوبة، كلما ارتكب خطأً أو ذنباً فإنه يوفق إلى التوبة. وقيل: الكتاب السابق: هو ألا يعذب أحداً بذنب أتاه جاهلاً حتى يتقدم إليه. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو ما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.

    عدم دلالة أول سورة عبس على وقوع المعاصي من الأنبياء

    أما قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2].. إلى آخره، فبعض الناس يستدل بهذا على وقوع المعصية من الأنبياء، حتى إن الله عاتب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال ابن حزم رحمه الله: فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فرأى أن جواب هذا الأعمى ابن أم مكتوم لا يفوت، فهو موجود معه، فممكن أن يؤجل الإجابة قليلاً حتى يستدرك بعد ذلك، بخلاف ما لو فاته دعوة هذا الرجل وإسلامه، فاشتغل عنه صلى الله عليه وسلم لِما خاف فوته من عظيم الخير مما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فلو واحد منا في هذا العصر فعل ذلك الفعل لحمد على ذلك حمداً عظيماً، لكن في هذه المسألة بالذات اجتهاد النبي عليه السلام ونظره لمصلحة الدعوة رغم ما فيه من المعاني العظيمة لم توافق رضا الله سبحانه وتعالى، يقول: وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فعاتبه الله عز وجل على ذلك، إذ كان الأولى عند الله أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه. وكما سها صلى الله عليه وسلم من اثنتين ومن ثلاث، وقام من اثنتين، ولا سبيل إلى أنه يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم سها من اثنتين ومن ثلاث في الصلاة، فهذا يعني من نفس الباب. قال القرطبي : قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب، ولكنه لم يكن عالماً بأن النبي عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره. يحتمل أن ابن أم مكتوم لم يحس بذلك؛ لأنه لم يكن يرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلام هؤلاء، ولكن الله تبارك وتعالى عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وهو أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً نوع من المصلحة، وعلى هذا يكون قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال في الحديث: (إني لأصل الرجل -يعني: أعطيه- وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه)، كذلك أنزل الله سبحانه وتعالى في حق ابن أم مكتوم على نبيه صلى الله عليه وسلم: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، وتأملوا أيضاً غاية الرق والحب والتعظيم من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل له: عبست وتوليت، بصيغة الخطاب، لكن ترفقاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وشفقة عليه، قال تبارك وتعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] بلفظ الخبر عن الغائب تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: عبست وتوليت، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأليفاً له؛ لأن الاستمرار بخطابه بصيغة الغائب فيها إعراض، فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، ثم التفت إليه تأليفاً له حتى لا يستوحش من صيغة الغائب، قال له: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:3] تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يدريك: يعني: ما يعلمك لعله يزكى؟ يعني: بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين؛ بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في (لعل) للكافر يعني: إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن؟ هذا تفسير آخر، يعني: وما أعلمك أن هناك أملاً في هذا الكافر أنه سوف يتزكى إذا التفت إليه وانصرفت عن الأعمال. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه بلقب يكرهه الناس، مع أنه تعالى قال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11] والجواب ما نبه عليه بعض العلماء من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه. فهذا هو السر الذي وصفه الله تعالى لأجله؛ لأنه متى ما كان هناك مندوحة وسعة في أن تعبر عن أخيك المسلم إذا أردت تعريفه بصفة لا ذم فيها تعين عليك ذلك، ولا يجوز أن تذكره بصفة يكرهها كالأعرج أو الأعمى أو كذا أو كذا من الصفات، إلا إذا لم تجد وسيلة لتعريفه إلا هذه الوسيلة، ويجب ألا تقصد بذلك التنقص أو السخرية أو الازدراء. والله سبحانه وتعالى -مع أنه قال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11]- استعمل هنا لفظ الأعمى، فقال: أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ، حتى يفهم قارئ القرآن أو مستمع القرآن أن هذا الرجل الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه لم يكن سيئ الأدب، بحيث إنه أقدم على قطع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يراه يخاطب غيره، وإنما كان معذوراً بسبب هذا العمى؛ لأنه لم يبصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب غيره، فمن ثم أقدم على المقاطعة في قطع كلامه وسؤاله عما سأل من أمر الدين. وقال الفخر الرازي : إنه وإن كان أعمى لا يرى فإنه يسمع، وبسماعه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكباً معصية، فكيف يعاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه إنما عاتبه لعدم رفقه به، ومراعاة حال عماه، فعليه يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، يعني: أنه وصف بكونه (الأعمى)، والمقصود أنه في الحقيقة ليس أعمى؛ لأنه مبصر بقلبه بنور الإيمان، أما الأعمى الحقيقي فهو أنتم أيها الكفار كما قال الله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فعليه: يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ، فهذا كفيف البصر، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن، وجاء مع عماه يسعى طلباً للمزيد، وأنتم تغلقت قلوبكم، وعميت بصائركم، فلم تدركوا الحقيقة، ولم تبصروا نور الإيمان، كما في الآية الكريمة: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . وسورة عبس فيها كثير من آداب طالب العلم كما تلاحظون قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2] يعني: أن طالب العلم هو الذي سعى إلى الشيخ وإلى من يتعلم منه؛ لأن الآية بعدها: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى [عبس:8-9] هذا من شدة حرصه على طلب العلم. وقد حث الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام على الصبر مع المؤمنين فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ.. [الكهف:28] إلى آخر الآية، فمن ثم عاتبه لما أعرض عن الأعمى. وقال عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:52] من رزقهم من شيء، وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]، ثم قال بعد ذلك: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.. [الأنعام:54] إلى آخر الآية. وقال نوح عليه السلام لما قال له قومه: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]، يعيرون نوحاً عليه السلام بأن أتباعه هم الضعفاء والفقراء، يعني: من ضمن الأشياء التي نفرتهم من الحق أن قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ، الفقراء والمساكين بَادِيَ الرَّأْيِ يعني: مجرد أن دعوتهم اتبعوك، وهذا ليس عيباً في الإنسان أبداً، بل الإنسان يمدح للانقياد إلى الحق بمجرد ظهوره، فإذا ظهر الحق فالإنسان لا عذر له في التأخير للانقياد له، بل يمدح الإنسان بانقياد له كما مدح سحرة فرعون، حيث آمنوا في لحظات! قال فرعون: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71] فمدحوا في القرآن الكريم بسبب أنهم عندما ظهر لهم الحق انقادوا في الحال، ولم يؤخروا الانقياد، فيا عجباً ممن يتضح له حكم الشرع في كثير من القضايا فلا ينقاد! كالمرأة المتبرجة

    دحض ما نسبه المستشرقون إلى النبي من الكذب

    توجد أشياء تنسب زوراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثل ما يذكره بعضهم في تفسير سورة النجم من أن الرسول عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- ألقى الشيطان على لسانه وهو يقرأ الآية: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فهذا بلا شك كذب موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد، وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:52-54]، وقد ناقشنا بالتفصيل الشديد الكلام في هذا الآية، والرد على هذه الضلالة، وهناك رسالة للعلامة الألباني اسمها: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق. وهذا ليس ذنباً فقط، بل هذا شرك، والرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أدنى من هذا، فكيف يظن أنه سجد وسجد المشركون معه؟! هذا شيء صعب، وقد صح أنه سجد وسجد المشركون معه في نهاية سورة النجم، لكن هذا الكلام لم يصح على الإطلاق.

    عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) على وقوع المعاصي من الأنبياء

    بعض من جوز الصغائر على الأنبياء احتجوا بقول: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24]، قال العلماء: عاتب الله نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: (غداً أخبركم بجواب أسئلتكم) ولم يستثن في ذاك يعني لم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك عليه، وأرجف الكفار؛ فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. فكيف نرد على الذين يستدلون بهذه الآية على أن النبي عليه الصلاة والسلام ارتكب معصية؟ نرد عليهم بكلمة واحدة موجودة في الآية: (( نَسِيتَ ))، وبهذا يعلم نسيانه، فلم يكن عمداً، قال تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24]، فقد كفى الله سبحانه وتعالى الكلام في ذلك، لبيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسياناً فعوتب عليه السلام في ذلك.

    عدم دلالة قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) على وقوع المعاصي من الأنبياء

    واحتجوا كذلك بقوله تعالى في حق النبي عليه السلام: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول، ومن أمثلة ذلك هذه الآية: (( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ))، (ما) مجملة يعني: الذي أبداه الله، فأبهم الله سبحانه وتعالى هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة رضي الله عنه؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا )). هذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم، أما ما تزخر به كتب الجهلة والمستشرقين من الطعن في النبي عليه الصلاة والسلام بكلام سخيف لا يصدر إلا من الكذابين، أنه ذهب -أستغفر الله- الرسول يزور زيد بن حارثة فتحرك الستر من على الباب فرأى بنت عمته زينب بنت جحش، فرآها جميلة، فقال: سبحان مقلب القلوب.. ثم عشقها، وأمر زيد بن حارثة أن يطلقها ليتزوجها! فهذا من كذبهم وافترائهم وعدوانهم على مقام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم يستدلون بقوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى تكفل بأن يبدي هذا الشيء الذي أخفاه الرسول عليه السلام في نفسه، فهل فيما أبداه الله وفيما أوحاه الله للنبي عليه السلام أنه عشق بنت عمته؟ وكيف وهو لم يرها من قبل؟ وأنه أول ما رآها قال: سبحان مقلب القلوب.. إلى آخر هذا الكلام الظالم المعتدي المفترى؛ فلما تأملنا الذي أبداه الله رأينا التفاصيل التي نذكرها، ولم نجد فيه أنه عشقها وكتم ذلك في نفسه، فدل على كذب هذا؛ لأنه لو كان مما أخفاه في نفسه لكان الله سبحانه وتعالى قد أبداه. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: فإنه قد أبهم هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة ، فزواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ))، فمن الذي تولى عقد زواج زينب بنت جحش ؟ الله سبحانه وتعالى! ولذلك كانت زينب بنت جحش تفاخر سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سماوات؛ لأن نون الضمير هنا في (زوجناكها) نون العظمة. فهذا هو اللائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه فاعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله وقوع محبة زينب في قلبه، ومحبته لها وهي تحت زيد ، وأنها سمعته يقول: سبحان مقلب القلوب .. إلى آخر القصة؛ فهذا كله لا صحة له، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئاً مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي رحمه الله تعالى: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة بن دعامة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره: إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان زينب بنت جحش وهي في عصمة زيد ، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، إلى أن قال: وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، يعني في قوله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:37]؛ لأنها كانت تترفع عليه، ويحصل منها خصومات، فكان يذهب يشتكي للرسول عليه الصلاة والسلام فيقول له: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ))، ولا شك أن هذا القول غير صحيح، وأنه غير لائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم. ونقل القرطبي أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زينب ، وأن الله يزوجها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن علم هذا بالوحي قال لـزيد : (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ))، مع أنه كان يعلم بالوحي أنه سيطلقها، وأن الرسول هو الذي سوف يتزوجها لحكمة عظيمة كما سنبين إن شاء الله تعالى. فبعد أن علم هذا بالوحي قال لـزيد : (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ )) فالعتاب على كلمة: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ))، وأن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها. ثم قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كـالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم.. إلى أن قال: فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ العشق، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا أو مستخف بحرمته صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها .. إلى آخر كلامه. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة هو ما ذكرنا أن القرآن دل عليه؛ وهو أن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأن زيداً يطلق زينب ، وأن الله يزوجها إياه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد ، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ )) فعاتبه الله على قوله: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ )) بعد علمه أنها ستصير زوجته صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أن يقولوا: يريد تزوج زوجة ابنه -بالتبني- في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد . يقول تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:37]، كلما كان يأتي يشتكي له يقول: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ))، مع أنه قد نزل عليه الوحي يخبره أنه سيطلقها، وأن الله سيجوز الرسول عليه الصلاة والسلام من زينب رضي الله تعالى عنها، فهذا هو الذي عاتبه الله تعالى عليه، أنه كان يقول: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ )) مع أنه يعلم أنه سيطلقها وأنه سيتزوجها عليها الصلاة والسلام. (( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ )) خشي مقالة الناس لو قال لهم ما أوحاه الله إليه من أنه سوف يطلقها وسوف يزوجها إياه، فالناس سيقولون: إنه يريد التزوج من زوجة ابنه في الوقت الذي هي مازالت في عصمة زيد ، والدليل على هذا أمران: الأول: ما قدمنا أن الله عز وجل قال: (( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ))، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا هو زواجه إياها في قوله: (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ))، ولم يبد جل وعلا شيئاً مما زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى. الأمر الثاني: أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها: (( زَوَّجْنَاكَهَا ))، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء، في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ، فقوله تعالى: (( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ )) تعليل صريح لتزويجه إياها فيما ذكرنا، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد كما زعموا، ويوضح هذا قوله تعالى: (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ))؛ لأن الآية تدل على أن زيداً قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فمعناه أنه طلقها باختياره المحض، ولم يبق له عندها حاجة فطلقها، فإنما طلقها باختياره، والله تبارك وتعالى أعلم. قال النحاس : قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وهو أنه أخفى ذلك في نفسه .

    عدم دلالة قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم ..) الآية على وقوع المعاصي من الأنبياء

    كذلك من الآيات التي قد يظن منها صدور المعصية عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، وأخبره الله بالعفو قبل الذنب؛ لئلا يطير قلبه فرقاً صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: هذا افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك حصل كذا وكذا. وقيل: المعنى: عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أنك أذنت لهم، ما هو هذا الإذن؟ قيل: هو الإذن لهم في الخروج معه، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة. وقيل: المعنى: لم أذنت لهم في القعود لما اعتلوا بالأعذار؟

    عدم دلالة قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) على وقوع المعاصي من الأنبياء

    كذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1]، ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير ..) والمغافير: صمغ متغير الرائحة، يكون فيه حلاوة، واحدها مغفور، وطعمه مثل العسل، فتواطأت حفصة وعائشة أنه كلما أتى إليهما النبي عليه السلام ذكرتا له ذلك؛ لأنه أكل عند زينب عسلاً، كان يأتيها فيمكث ويشرب عندها عسلاً، تقول: (فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزل قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ))، إلى قوله تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ [التحريم:4] أي: عائشة وحفصة فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]). قال القرطبي : (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ )) يعني: هو العسل المحرم بقوله: (لن أعود له)، (( تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ )) أي: تفعل ذلك طلباً لرضاهن: (( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) غفور مما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة، وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه عليه الصلاة والسلام لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

    عدم دلالة قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) على وقوع المعاصي من الأنبياء

    كذلك قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ثبت في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج رأسه؛ فجعل يمسح الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟! فأنزل الله تعالى: (( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ))[آل عمران:128])، يعني: لا تقل: كيف يفلحون، لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ . قال القرطبي : قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم)، فيه استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به، فيستبعد كيف يفلح أمثال هؤلاء الذين عاملوا نبيهم هذه المعاملة، وقوله تعالى: (( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ))، تقريب لما استبعده، وإقناع في إسلامهم، ولما أقنع في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وقد آمن منهم فعلاً كثير مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وها نحن نترضى عنهم إلى آخر الزمان، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر ورفع رأسه من الركوع: اللهم ربنا ولك الحمد في الركعة الأخيرة ثم قال: اللهم العن فلاناً وفلاناً،، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ).

    عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره) على وقوع المعاصي من الأنبياء

    كذلك قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، هذه الآية نزلت في صلاته عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي، وقد صلى عليه بناءً على الظاهر من تلفظه بالإسلام وإظهاره له، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه، وإنما أراد الإحسان إلى ابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي ، وفي نفس الوقت اكتفى بظاهر انتساب أبيه إلى الإسلام.

    الرد على من يطعن في النبي عليه الصلاة والسلام من الملاحدة والحذر من مكرهم

    كذلك فيما يتعلق بحادثة السحر هل هي تنال من العصمة؟ موضوع السحر للنبي عليه الصلاة والسلام قطعاً لم يمس قضية تبليغ الرسالة من قريب ولا من بعيد على الإطلاق، وسنبين إن شاء الله تعالى أن هناك أشياء لا يعصم منها الأنبياء، فالأنبياء يمكن أن يشكوا من مرض، بل إن النبي عليه السلام كان يمرض مرضاً شديداً وقال: (إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم)، وقال (إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر ..) . فعلى أي الأحول: كما ترون هذه الآيات التي استدل بها بعض الذين ينفون عصمة الأنبياء أو ينسبون الذنوب حقيقة إلى الأنبياء، وكلها أجاب عنها العلماء بما ترون، فموضوع التجرؤ على مثل هذا فيه اعتداء على جناب النبي عليه السلام، وهو من هو عند الله سبحانه وتعالى، وعند ملائكته، وعند المؤمنين كما فصلنا ذلك، فعملية القدح في الأنبياء عن طريق القدح في صفاتهم هذا من قبل الكائدين لهذا الدين. وبعض الناس يندفعون في الحكم على أشياء توصف بأنها إسلامية، كما حصل منذ أسبوعين في جريدة الشعب، ففيها عنوان لمكان معين في الإنترنت، هذا الموقع يمدح بأنه موقع إسلامي، وفيه كثير من الموضوعات .. يتكلم عن النبوة، وعن وعن .. موقع لا يوجد مثله، ويمدح الكاتب فيه مدحاً عظيماً جداً جداً بنحو هذا الكلام، واكتفى فقط بذكر العناوين: النبوات، القرآن، الملائكة، الشهادة، الصلاة، الزكاة، صلاة الجماعة، الأسرة، هذه عناوين كلها عن مكتبة إسلامية رائعة، وذكر أنها بشتى اللغات بما فيها الصينية والماليزية وغيرها، فما بالك باللغات الأكثر شيوعاً، مع أن صاحب هذا الموقع هو رشاد خليفة مسيلمة مدينة توكسان في ولاية أرزونا في أمريكا قرب المكسيك، وهذا الرجل رشاد خليفة مصري خريج كلية الزراعة من القاهرة، وقد ادعى النبوة! وقد سلك مسلك التدرج في هذا الأمر، ففي أول الأمر ظهر على المسلمين بحكاية معجزة الرقم: (19)، وكالعادة نحن نغفل عن أصول هذه الأشياء، فمثلاً يوم (21) مارس هذه عيد من أعياد البهائية، فيعملون فيه عيد الأم ليشاركوا احتفال البهائيين بعيد مقدس عندهم! فرقم (19) الذي دوى في الدنيا كلها، هو قام بنوع من الدجل، فقد شغل الكمبيوتر ليعطيه بيانات، ويعمل عمليات معينة، فلو أعطيت مثلاً رقم (13) فسيخرج لك علاقات مبنية على رقم (13)، ورقم (19) مقدس جداً عند البهائيين، ودينهم يدور عليه، فالشاهد أن هذا الرجل يهدم دعوة الإسلام هدماً لا يستطيعه اليهود ولا النصارى لو اجتمعوا، وعدوانه على مقام النبي عليه الصلاة والسلام عدوان صارخ، فيقول: إنه اكتشف كتاباً مذهلاً ومدهشاً والأمة بقيت غافلة عنه من ساعة وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، أمر خطير جداً! المسلمون أجمعوا على هذا الأمر منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهو اكتشف حقيقة مذهلة على حد تعبيره، وهي: أن السنة النبوية بكل أقسامها الفعلية والقولية والتقريرية هي من عمل الشيطان، ويصف جميع علماء الحديث بالمجرمين، ويستدل بقوله تبارك وتعالى: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، يصف بهذا المحدثين! ويزعم أن الإمام البخاري هو المقصود بقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31]. إلحاد ما بعده إلحاد! ومع ذلك نجد أننا نتساهل في تقبل مثل هذه الأشياء التي ينبغي الحذر الشديد منها، فالمصائب كثيرة، وأنا كنت في مدينة توكسان مرة، ثم مريت على مسجد هذا الملحد، وكان هناك إخوة يريدونني أن أدخل هذا المكان الملعون الذي هو أشد خطراً من مسجد الضرار. الشاهد أنه لا ينبغي أن نتعامل بسذاجة وبساطة في تزكية أمثال هذه الأشياء دون أن نأخذ منها الحذر الكافي. فعلى الإخوة التنبيه والتحذير من الانخداع بمثل هذه الأشياء، ولابد أن نرجع إلى العلماء، ونفحص هذه الأشياء قبل أن نزكيها أو أن ندل الناس عليها. ومن العجائب التي سمعتها من الإخوة الذين كانوا يعيشون معه في نفس المدينة أن عنده صلاة الجماعة تكون بين الرجال والنساء جميعاً، ومع هذا نجد من يجازف ويتهور ويقول: هو موقع إسلامي ليس له مثيل، وهو متميز! فهذا هو رشاد خليفة مسيلمة الكذاب في مدينة توكسان، ودجال هذا العصر، ورغم أن الله سبحانه وتعالى أهلكه منذ سنوات، لكن ما زال هناك من يصفون خلفه، ويبثون دعوته بكل اللغات في شتى أنحاء الأرض! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفي المسلمين شرهم أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756326105