إسلام ويب

تفسير سورة محمد [33-35]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم)

    قوله الله تعالى: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))، فهذا الجزء من هذه الآية من آيات الأحكام، حيث يشيع عند علماء التفسير -خاصة المصنفين في أحكام القرآن- الاستدلال بهذه الآية الكريمة في مسألة فقهية، وهي: هل يجوز لمن دخل في قربة نافلة أن يخرج منها قبل إتمامها؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: قول الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى، قالا: له -إذا شرع في نافلة- أن يخرج منها قبل أن يتمها إلا في نافلة الحج والعمرة، فإنه يجب عليه إتمامهما، ويستدلون على ذلك بقول الله تبارك وتعالى:وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فمن شرع في نافلة حج أو عمرة وجب عليه إتمامها. وأما الصلاة والصوم فإنه يستحب له إتمامهما ولا يجب عليه، وقالوا: إن المتطوع أمير نفسه، كما سيأتي في الأحاديث، فإلزامه إياه بالإتمام مخرج عن وقت التطوع، فالله تبارك وتعالى يقول: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، فهذا محسن أي: متطوع قطع ما لا يجب عليه أصلاً، فلا حرج عليه في ذلك. وقالوا: إن لفظ هذه الآية: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))، وإن كان عاماً يعم كل الأعمال، سواء كانت نافلة أو فريضة، وسواء كان حجاً أو عمرة أوغير ذلك، إلا أن هذا العموم مخصَّص؛ لأن التطوع يقتضي تخييراً، فهو مخصَّص بالأدلة التي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى. ومن الأدلة التي استدل بها الشافعي وأحمد على جواز ذلك: أنه قد ثبتت بعض الأحاديث التي فيها أن الإنسان إذا دعي إلى وليمة نكاح وكان صائماً فينبغي له أن يجيب فإجابة الدعوة أن يذهب إلى مكان الدعوة تقديراً لأخيه، وإدخال السرور عليه، فيجب عليه أن يجيب حتى لو كان صائماً، لكن لا يجب عليه أن يأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع. القول الثاني: قول الإمامين أبي حنيفة ومالك، فقد قالا: ليس له ذلك، فإذا شرع في نافلة فإنه يجب عليه الإتمام، فإذا أبطلها وجب عليه قضاؤها، ودليلهم عموم قوله تعالى: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما. وأجاب الإمامان أبو حنيفة ومالك عن أدلة الشافعي وأحمد في قولهما: إن المتطوع أمير نفسه، فقالا: إن المتطوع أمير نفسه لكن ذلك مالم يشرع، فهو: أمير نفسه في أن يبتدئ بالفعل أو لا يبتدئ، وأما إذا شرع فيه فليس أمير نفسه، بل قد ألزم نفسه بالإتمام؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، ولعموم قوله عز وجل هنا: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ )). وإذا كان متطوعاً في صيامه فله أن يفطر، خاصة إذا ألحّ عليه الداعي، أو كان قد تكلف له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر). وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا، قال: فإني صائم، ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حَيْس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله! إنه أهدي لنا حَيْس، فخبأت لك منه، قال: أدنيه، -أي: قربيه - أما إني أصبحت وأنا صائم، فأكل منه، ثم قال: إنما مثَل المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها)، ولم يذكر هنا قضاءً؛ بناء على أنه لا يجب قضاء النفل. وهذا هو الراجح، أي: ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال له: أفطر، وصم مكانه يوماً إن شئت) وفي هذا مراعاة للأدب، وهو أنه إذا كان يشق على صاحب الدعوة ألا تأكل من طعامه، وكنت في صيام نافلة، ففي هذه الحالة الأفضل لك أن تفطر؛ إدخالاً للسرور على أخيك المسلم، وهذا في صيام النافلة فقط. وقوله: (إن شئت) يدل على التخيير، وأنه لا يجب عليه قضاء ذلك اليوم. وكذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال: فجاء سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة - أي: لابسة ثياب المهنة، وتاركة لملابس الزينة -، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء ؟! قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء فرحب به، وقرب إليه طعامه، فقال له سلمان : اطعم -أي: كُل- قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه - وهذا هو الشاهد، أنه أكل معه -، ثم بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال له: يا أبا الدرداء ! إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وأْتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان في وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت، قال: فقاما فتوضأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أمره سلمان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء ! إن لجسدك عليك حقاً، مثلما قال سلمان ، وفي رواية: قال له النبي صلى الله عيله وسلم: صدق سلمان), فأقر ما قاله سلمان لـأبي الدرداء . إذاً: فهذا هو الراجح في هذه المسألة، وهو: أن من دخل في قربة فإنه يجوز له بعد الشروع فيها الخروج منها قبل إتمامها، ولا يجب عليه القضاء إلا في نافلة الحج والعمرة؛ للنص على ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم)

    العبرة بالخواتيم والأدلة على ذلك

    قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد:34]. هذه الآية الكريمة سبق أن تعرضنا لصدرها (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، وذكرنا أن الراجح في الصدّ أنه متعدٍّ، (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: في أنفسهم، (( وَصَدُّوا )) أي: غيرهم (( عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، وهذا يرجح على قول من قال: إن (( وَصَدُّوا )) بمعنى: أعرضوا اللازمة؛ لأنا إذا قلنا: إن صدوا هنا بمعنى: أعرضوا عن سبيل الله، فسيكون هذا توكيداً، وأما إذا قلنا: إن المعنى: أنهم صدوا غيرهم (( عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، فسيكون تأسيساً، ولا شك أن التأسيس مقدَّم على التوكيد؛ لأنه يبني معنىً جديداً. قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ )) فيه بيان لافتراض الخاتمة، وأن الأعمال بالخواتيم، فالعبرة بالحال التي يموت عليها الإنسان، كما قال صلى الله عيه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام رجل يوماً طويلاً شديداً حره، ثم أفطر قبيل غروب الشمس بثوانٍ معدودات فقد حبط صيام هذا اليوم كله، وإذا صلى صلاة طويلة ثم أحدث قبل السلام، فصلاته باطلة كلها. وكذلك العمر، فإذا وفِّق الإنسان إلى خاتمة حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعفو عن كل ما مضى، والعكس أيضاً. إذاً: فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، فمجرد أن يكون الإنسان كافراً لا يكفي للحكم عليه بعينه أنه من أهل النار، وإنما لا بد من أن يثبت أنه قد مات على الكفر، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، وهذا يشير إلى قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فانظر إلى رحمه الله تعالى، فحتى هؤلاء الذين كفروا في أنفسهم، وفتنوا وعذبوا المؤمنين بالنيران في قصة الأخدود الشهيرة، اشترط الله في استحقاقهم هذا الوعيد أن يثبتوا على ذلك حتى الممات، فقال: (( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ))، فمفهومها أنهم إن تابوا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم، فهذا من رحمة الله الواسعة. وقد قيل: إن المراد بالآية أصحاب قليب بدر، وظاهر الآية العموم في كل من مات على الكفر وإن كان سببها خاصاً. وقد وضح هذه الآية آيات أخرى من كتاب الله تعالى، ومنها: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91]، فانظر إلى قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ )) ففيها إشارة إلى الخاتمة. وروى الشيخان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)، كلفتك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً وهذا لفظ البخاري. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161-162]. قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ))، الواو في قوله: (( وَهُمْ كُفَّارٌ ))، هي واو الحال، أي: ماتوا على حال الكفر. وقال الله تعالى: وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]. وقال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217].

    حكم لعن الكافر المعين

    يقول القاضي ابن العربي رحمه الله تعالى: قال لي كثير من أشياخي: إن الكافر المعين لا يجوز لعنه؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الوفاة على الكفر. فاستنبط بعض العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز لعن الكافر المعين؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، فهو لا يستحق اللعنة حقاً إلا إذا مات على الكفر، كما في الآيات السابقة كلها: (( وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ )). فخاتمة الإنسان لا تعلم إلا بنص من الوحي، فلا نقطع بالجنة لأحد إلا لمن قطع له الوحي بذلك، وكذلك لا نقطع بالنار لأحد إلا لمن حكم له الوحي بذلك، كـأبي جهل وفرعون وأبي لهب وغيرهم من الكافرين الذين قطع الوحي سواء في القرآن أو السنة بكفرهم ولعنهم، لأنهم ماتوا على كفرهم، فهؤلاء يقطع لهم بالنار. وأما من عدا ذلك فيجوز لعن النوع لا العين، كما تقول: لعنة الله على الظالمين! ولعنة الله على الكافرين! أما أن تلقن فلان بن فلان باسمه، فينبغي ألا تتهور في ذلك؛ لأنك لا تعلم خاتمة هذا الإنسان كيف تكون، أو كيف كانت.

    حكم لعن الكفار جملة من غير تعيين

    لا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين؛ لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. وهذا أمر ثابت، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا انتصف رمضان يلعنون الكفرة، وكانت الصيغة التي يدعون بها: اللهم! العن كفرة أهل الكتاب.. إلى آخر الدعاء المعروف، ثم أقر العلماء بعد ذلك أن الصحابة كان عامة من يقاتلونهم أهل الكتاب، وأما بعد ذلك فقد تنوع الأعداء الذين يقاتلونهم ولم يقتصروا على أهل الكتاب، فلذلك استحسن بعض العلماء أن يدعى بـ: اللهم! العن الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون أنبياءك، ويقاتلون أولياءك.. إلى آخر الدعاء. قال القرطبي : قال علماؤنا: فالدعاء باللعن على الكافرين عموماً، سواء كان لهم ذمة أم ليس لهم ذمة، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله. وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كَشُرَّاب الخمر، وأكَلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال، ومن الرجال بالنساء.. إلى غير ذلك مما ورد لعنه في الأحاديث، فتلعن النوع فتقول: لعن الله المتبرجة، لعن الله المغيرات خلق الله!، لعن الله النامصة! لعن الله شارب الخمر! فهذا حكمه الجواز لا الاستحباب؛ فضلاً عن الوجوب، وهذا بخلاف بعض الفرق الضالة الذين يتعبدون باللعن، ويا ليتهم يلعنون من يستحق اللعن! ولكنهم يلعنون خيرة خلق الله بعد الأنبياء وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنرى الرافضة -قبحهم الله- يعدون لعن أبي بكر وعمر -والعياذ بالله- أفضل وأرجى ثواباً من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وفضائحهم في ذلك فظيعة ومستبشعة. فلا ينبغي أبداً أن تلين قلوبنا، أو أن يرى الله سبحانه وتعالى في قلوبنا هوادة في بغض هؤلاء المجرمين أعداء الله وأعداء رسوله، وأعداء أصحابه. وقد أظهر بعضهم أشياء قد تفتن بعض القاصرين، فنجد بعض الناس يقولون: كان الخميني يفعل كذا وكذا.. من المواقف الفذة في نظرهم، ويتعامون ويتناسون جرائمه الكبرى في مجال التوحيد، وفي تكفير الصحابة ولعنهم وغير ذلك من عدوانه وتطاوله، فهذا لا تغفره هذه المواقف، والشيطان لابد أن يلبس على الإنسان الباطل بشيء من الحق؛ حتى يروّج عليه هذا الضلال، فيشعر أنه هو الذي يعز الإسلام، وأنه هو الذي يدافع عنه، وهو متلبس بطامات كبرى. آخر تلك المواقف موقف يذكرنا بقول عمر رضي الله تعالى عنه: أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة . وقد كان الرجل الرافضي الخبيث المدعو محمد خاتمي سيذهب زيارة أول أمس إلى فرنسا، ثم إنه أُعلن عن إلغاء هذه الزيارة، واتضح أن السبب أنه أثناء ترتيبات الزيارة طلب ألا تقدم خمور على المائدة التي يجلس عليها، فالصليبيون الحاقدون في فرنسا رفضوا ذلك، وقالوا: لا، على الضيف أن يحترم أعراف أصحاب الدعوة، ولا يعترض على شيء مما هو من تقاليدهم أو عادتهم، فكان هذا سبب إلغاء الزيارة. ولا شك أن هذا موقف كنا نود أن يصدر من غيره، ولكن نقل ما حجم هذا الموقف -وإن كان موقفاً حسناً- بجانب الطامات الكبرى، والمصائب التي لا يجبرها شيء، حتى لو فعل أضعاف أضعاف ذلك من المواقف الجيدة؟! فلا بد أن نعطي الأشياء موازينها، فهؤلاء قوم يتعبدون بلعن الصحابة وتكفيرهم، إلا خمسة منهم أو ثلاثة، فضلالهم بيَّن، فينبغي ألا نبهر بمثل هذه المواقف الجزئية، وهي لا تكفي لتغفر لهم جرائمهم في حق الصحابة، فقبحهم الله سبحانه وتعالى، ونكّس راياتهم. فخلاصة الكلام في اللعن: أن اللعن ليس عبادة، وإنما هو جائز ومباح بهذه الشروط التي ذكرناها، فهو ليس بواجب، وإنما مباح لمن فعله، فيجوز أن يُلعن جنس الكفار عموماً؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كما ذكرنا. وذكر القاضي ابن العربي : أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقاً، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (أتي بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضره: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)، فأبقى له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة، والحديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم .

    حكم لعن العاصي المعين

    وقد ذكر بعض العلماء خلافاً في لعن العاصي المعين، أي أن يلعن باسمه فيقال: لعن الله فلاناً مثلاً، إن كان عاصياً كشارب الخمر أو غير ذلك. ذكرنا قول القاضي ابن العربي :أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقاً، واستدل على هذا بحديث: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)، وهذا قاله في حق نعيمان الذي كان يجلد مراراً في شرب الخمر. وأجيب: بأنه قال هذا بعد أن أقيم عليه الحد، ومن أقيم عليه حد الله سبحانه وتعالى فلا ينبغي لعنه؛ لأن الحد يطهره، فلا يجوز أن يعيَّر بالذنب، أو أن يؤاخذ به. وأما من لم يقم عليه الحد فلعنه جائز سواء سمي أو عيِّن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا تتوجه إليه اللعنة، وبيَّن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب). قال بعض العلماء: ما دام أنه قد أقام عليها الحد فلا ينبغي أن يوبخها، ولا يلومها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب؛ لأن الأمر قد انتهى، فما دامت أنها قد أقيم عليها الحد فهو تطهير، وفي نفس الوقت لا يجوز بعد ذلك تقريعها وتوبيخها بسبب هذه الفاحشة. وبعض العلماء فسروا الحديث: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب) أنه: لا يقنع ولا يكتفي في عقوبتها بالتثريب - وهو التوبيخ - بل لا بد أن يضربها الحد. وعلى كل الأحوال: فهذا الحديث يدل على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل إقامة الحد وقبل التوبة، والله تعالى أعلم. قال ابن العربي : وأما لعن العاصي مطلقاً فيجوز إجماعاً، وذلك مثل أن يقول: لعن الله شارب الخمر، ولعن الله السارق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده). ولعن النامصة والمتنمصة وغير ذلك من أنواع الكبائر والمعاصي من غير تعيين شخص بعينه، وهذا لعن مطلق لا يقصد به شخص معين.

    تعريف اللعن والتحذير من التخلق به

    واللعن: هو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها). وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بإسناد حسن. فالإنسان إذا لعن أحداً فإن اللعنة تصعد إلى السماء، ثم تغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن كان الشخص الذي لعن يستحق هذه اللعنة أصابته، وإن لم يكن يستحقها فإنها ترجع إلى نفس الشخص الذي دعا باللعنة. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المسلم كقتله)، رواه البخاري ؛ لأنه إذا لعن أخاه المسلم فكأنه دعا عليه بالهلاك. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبّاباً ولا فاحشاً ولا لعّاناً، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ماله ترب جبينه!) رواه البخاري . وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة أي: فضجرت -ضجرت من الناقة- فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة، قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس لا يعرض لها أحد)، رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعّاناً). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، رواه مسلم . قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجليلة؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله عز وجل، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى- فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يوده المسلم للكافر ويدعو عليه، يعني: أن الدعاء باللعن أمر في غاية الخطورة، وهو عنوان نهاية وأقصى التدابر والنفور والمقاطعة، فلهذا جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)؛ لأن القاتل إذا قتله فإنه يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، أي: أن اللعن لو استجيب فإنه يكون سبباً للقطع عن نعيم الآخرة، ويبعد عن رحمة الله سبحانه وتعالى. وقيل: إن معنى: (لعن المؤمن كقتله) أي: في الإثم، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فمعناه: أنهم لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم اللذين استوجبوا النار. وأما قوله: (ولا شهداء) ففيه ثلاثة أقوال، أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات. الثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا، أي: لا تقبل شهادتهم؛ لفسقهم. الثالث: لا يرزقون الشهادة، وهي القتل في سبيل الله تعالى. وحتى لا يتوهم بعضكم التعارض بين أجزاء الكلام الذي ذكرناه في هذا الموضوع، فنلاحظ أن النبي عليه السلام استعمل صيغة المبالغة فقال: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعّاناً)، وهذه صيغة مبالغة، وقال أيضاً: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، وهذه صيغة تكثير، فلم يقل: لا ينبغي لصديق أن يكون لاعناً، ولم يقل: إن اللاعنين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة؛ لأن هذا الذم في الحديث إنما هو لمن كثر منه اللعن، وكان اللعن عادته، وأما من سُمع منه ذلك مرة أو نحوها فإنه ليس داخلاً في هذه النصوص. وكذلك يخرج من هذه الأحاديث اللعنُ المباح، وهو الذي ورد الشرع به كقول الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وقول النبي عليه السلام: (لعن الله اليهود والنصارى)، أو كلعن النبي عليه الصلاة والسلام للواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعنه للمصورين، ومن انتمى إلى غير أبيه، أو تولى غيّر مواليه، ومن غير منار الأرض، وغير هؤلاء ممن هو مذكور في الأحاديث الصحيحة.

    الأسباب المكفرة للذنوب

    من المعلوم أن باب التوبة مفتوح، والتوبة لها أجلان، أجل في حق عمر كل إنسان، وأجل في حق عمر الدنيا كلها، ففيما يتعلق بحق كل عبد تقبل توبته ما لم يغرغر؛ لقول النبي عليه الصلاة السلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، يعني: مالم يحضره الموت. وأما بالنسبة لعمر الدنيا فباب التوبة مفتوح مالم تطلع الشمس من مغربها. فهذا الإنسان الذي ارتكب الكفر، أو المعاصي التي تستوجب اللعن هو يستحق بنص هذه الآيات والأحاديث الوعيد المذكور فيها، لكن لا يعيَّن هذا الشخص كما قلنا، فالشخص المعين -وكلامنا الآن في حق المسلم العاصي الذي فعل شيئاً من الكبائر التي تستوجب اللعنة- لا يلعن باسمه، فلا تقل للمرأة التي تنمصت: لعن الله فلانة بنت فلانة باسمها، أو هذه ملعونة؛ لأنها متنمصة مثلاً، لكننا في مقام الزجر وفي مقام الدعوة والخطابة نستعمل النصوص بعمومها فنقول: لعن الله تارك الصلاة، ولعن الله النامصة، ولعن الله المتبرجة، وأما نفس الشخص فلا يحكم عليه باللعن؛ لأنه لا بد له من توفر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع، فالشخص المعين الذي ارتكب شيئاً مما توعد عليه باللعن يمكن أن يكون مجتهداً في هذا، فهو قد فعل هذا لكنه غير متعمِّد، فقد اجتهد فأخطأ مثلاً، فيغفر له اجتهاده، وقد يكون ممن لم تبلغه الأدلة أو النصوص التي تحرم هذا الفعل، فيعذر بجهله، وقد يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله سبحانه وتعالى مع قبح الفعل الذي فعل، كما غفر الله سبحانه وتعالى للرجل الذي قال: (إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، فغفر الله له)؛ لخشيته منه، فقد كان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، ومع ذلك غفر الله له مع شناعة هذا الاعتقاد الكفري. إذاً: فالنسبة لما يتعلق بالآخرة ينبغي أن نتوقف في حق المعين، فأمر الآخرة موكول إلى الله سبحانه وتعالى، لكن هل يمنعنا ذلك من إجراء الأحكام الظاهرة عليه في الدنيا؟ لا، فحتى الكافر إذا قلنا: إننا لا نقطع له بجنة ولا بنار مثلاً فهل معنى ذلك أننا لا نجري عليه أحكام الدنيا؟ لا، فهذا فقط في الآخرة، وأما في الدنيا فيعامل الناس بما يظهرونه، فيعامل معاملة الكافر. وكذلك الرجل المبتدع، فإننا لا ندري حاله مع الله سبحانه وتعالى: هل له حسنات ستكفر عنه إثم هذه البدعة؟ وهل هو جاهل؟ وهل هو مجتهد مخطئ مثلاً؟ فالتوقف في أمر الآخرة لا ينبغي أن يمنعنا من أن نعاقبه في الدنيا؛ لنمنع بدعته وأن نستتيبه، وقد يكون القول في نفسه كفراً، لكن الشخص الذي قاله لا يقطع بتكفيره كما قلنا مراراً، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً. وقد صنف الله سبحانه وتعالى الخلق في كتابه ثلاثة أصناف: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادة، وصنف هم المؤمنون باطناً وظاهراً، وصنف أقروا ظاهراً لا باطناً، وهم المنافقون والزنادقة. فهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين، فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق. فقد يظهر الشخص الشهادتين ومع ذلك يكون كافراً؛ لأنه يظهر الإسلام في الظاهر وهو يبطن الكفر، فهذا صنف من أصناف الكفار. وقد يقترف الشخص كبيرة تستوجب اللعن، لكن قد يقترن بهذه الكبيرة من الحياء من الله سبحانه وتعالى والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، فهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، فالفعل واحد لكن هناك أحوال قلبية تقترن به هي التي إما أن تصعد به إلى مقام الكبيرة، وإما أن تنزل بالكبيرة إلى مقام الصغيرة، وهذا أيضاً مما لا سبيل إلى الإطلاع إليه. وكذلك قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فالشخص الذي عمل أعمالاً حسنة كثيرة جداً قد يعفى عنه إذا أخطأ أو ارتكب إثماً ما لا يعفى لغيره، ففاعل السيئات قد تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة؛ لذلك نقول: لا تقل: أنتِ ملعونة لأنك متبرجة، لكن يجوز أن يقال لها: لعن الله المتبرجة، بصيغة عامة هكذا؛ لأنك لا تعلم عاقبتها وخاتمتها، ولا تدري حالها مع الله سبحانه وتعالى، ولا تدري ما في قلبها مما يقترن بهذه المعصية من الأحوال القلبية التي أشرنا إليها. فإن الإنسان حتى لو ارتكب السيئة فإنه ظاهراً يستحق عذاب جهنم، لكن لا يشترط في ثبوت الوعيد لمن فعل كذا أن يتحقق هذا الوعيد لذلك الشخص، بل قد توجد أسباب تسقط عنه عقوبة جهنم منها مثلاً: التوبة، فالتوبة قد تكون بينه وبين الله ولا يحس بها الخلق، وكذلك الاستغفار، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]. فربما كان يستغفر من هذا الذنب. وكذلك من هذه الأسباب الماحية: الحسنات، أي: أن يعمل أعمالاً صالحة بعد ارتكابه للمعصية، فمجرد الاستقامة تمحو السيئات الماضية، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). وكذلك المصائب الدنيوية، كأن يبتلى هذا الشخص بمصائب تكفر عنه وتحط عنه وزر المعصية التي ارتكبها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه). إذاً: فالمصائب الدنيوية من كفارات الخطايا، إذا صبر عليها. ومن هذه الأسباب أيضاً: أن يعذب الإنسان في القبر بقدر يستوفي ما عليه من هذه المعصية، فلا يعاقب عليها في نار جهنم في الآخرة. ومن هذه الأسباب التي تسقط العقوبة عن العبد حتى وإن استحق جهنم بسبب الذنب: دعاء المؤمنين واستغفارهم له في الحياة وبعد الممات، فقد يستغفر له إخوانه في الله، أو أولاده، أو أقرباؤه، أو الناس الصالحون ويدعون له فيستجاب دعاؤهم، يسقط عنه استحقاق العقوبة، مع أنه داخل تحت هذا الوعيد، لكن عفا الله عنه بسبب استغفار المؤمنين له. وكذلك من هذه الأسباب: ما يُهدى إليه بعد الموت من أعمال صالحة، كأن يتصدق عنه، أو يحج عنه ويعتمر، فهذا يصله ثوابه في القبر، وربما كان سبباً في تكفير ما استحق من العذاب في جهنم. ومن المكفرات أيضاً: معاناة أهوال يوم القيامة وشدائده، فالأهوال التي تكون يوم القيامة هي في حد ذاتها مكفِّرة، فربما أيضاً تسقط عنه العقوبة في جهنم بسبب معاناة مشاق يوم القيامة وشدائده. ومن أسباب سقوط عقوبة جهنم أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم يبنهم في الدنيا لم تستوف، ففي هذه الحالة بعدما يجوزون على الصراط لا يمكن أن يدخل الجنة أبداً مؤمنان وبينهما ضغينة، فالجنة لا يدخلها أحد أبداً وفي قلبه ضغينة كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]، وليس هناك غلّ على الإطلاق، ولذلك جاء في الحديث في وصف أهل الجنة: (قلوبهم على قلب رجل واحد)، فهم إخوة متحابون فلا هناك ضغائن ولا تحاسد ولا أحقاد على الإطلاق، وما كان بينهم من مظالم في الدنيا فإنهم يحبسون بسببها بعد المرور على الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، (فإذا هذبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة)، وذلك مصداق قول الله تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] فـ(طبتم) من التطييب والتطهير، فيقتص منهم أولاً قبل الدخول إلى الجنة؛ حتى يدخلوا مهذبين منقين من كل ما لا يُرتضى. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)، فهذا الوقوف على هذه القنطرة سبب من أسباب سقوط العقوبة. ومن أسباب سقوط عقوبة جهنم عن العاصي: شفاعة الشافعين من الأنبياء وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو شفاعة الصالحين من المؤمنين، أو شفاعة الملائكة. وكذلك من أعظم أسباب سقوط عذاب جهنم عن العاصي: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، فرحمة الله سبحانه وتعالى هي أعظم أمل للعصاة والمذنبين، فيرحم الله سبحانه وتعالى العبد بمشيئته وفضله تكرماً منه بغير شفاعة ولا سبب من هذه الأسباب التي ذكرنا. إذاً: فهذه جملة من الأشياء تدل على أنه قد يسقط عن فاعل السيئات عقوبة جهنم، وقد عُرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون...)

    قال الله تبارك وتعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قال الله لعباده المؤمنين: (( فَلا تَهِنُوا )) أي: لا تضعفوا عن الأعداء، (( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ )) أي: المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم، وكثرة عددكم وعددكم. إذاًً: فـابن كثير رحمه الله تعالى يذهب إلى أن موضع هذه الآية هو حال القوة، ومفهوم هذا أنه يجوز ذلك إذا كنتم في حال تسوغ لكم ذلك، والواو في قوله: ((وأنتم)) حالية، أي: في حال علوكم على عدوكم. يقول ابن كثير : فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك. انتهى كلام الحافظ ابن كثير . وقال الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم : (إلى السَلم) بفتح السين، وأما حمزة وشعبة فقد قرأها: (إلى السِّلم) بكسر السين. وقوله تعالى: (( فَلا تَهِنُوا )) أي: لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، وقوله تعالى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال:18] أي: مضعف كيدهم. وقول زهير بن أبي سلمى : وأخلفْتك ابنة البكري ما وعدتْ فأصبح الحبل منها واهناً خَلِقا أي: ضعيفاً. وقوله تعالى: (( وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) جملة حالية، أي: فلا تضعفوا عن قتال الكفار حال كونكم عالين عليهم. قوله: (( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ )) أي: لا تبدءوا بطلب السلم، وهو الصلح والمهادنة، (( وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) أي: والحال أنكم أنتم الأعلون، أي: الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، فإنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون. وهذا التفسير في قوله: (( وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) هو الصواب، وتدل عليه آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى بعده: (( وَاللَّهُ مَعَكُمْ ))، فمن كان الله معه وهو الأعلى الغالب والقاهر والمنصور والموعود بالثواب، فهو جدير بألا يضعف عن مقاومة الكفار، ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة. وكقوله تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وقوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقوله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14] * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]. ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى: (( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ))، فقد فسر: الشنقيطي رحمه الله تعالى قوله تعالى: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) بقوله: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]. وقوله عز وجل: (( وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ )) أي: من النصر الذي وعدكم الله به، والغلبة، وجزيل الثواب؛ لأنكم مؤمنون. وذلك كقوله هنا: (( وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) ، وقوله: (( وَاللَّهُ مَعَكُمْ )) أي: بالنصر والإعانة والثواب. ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى. أي: أن بعض العلماء ذهب إلى أن هناك تعارضاً بين هذه الآية: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ))، وقوله في سورة الأنفال: (( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )). فيقول الشنقيطي : ليس هناك تعارض بينهما، حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان. فكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليها الأخرى، فالنهي في آية القتال -أي: هنا في سورة محمد صلى الله عليه وسلم- في قوله: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ )) هو نهي عن الابتداء بطلب السلم. وأما الأمر بالجنوح إلى السلم في قوله: (( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )) فمحله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها كما هو صريح في قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]. يقول: وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن المعنى: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون، أي: في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد. أي: وأما إذا كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم -أي: الصلح والمهادنة-، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي : السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرَعُ قوله تعالى: (( وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ))، (( وَلَنْ يَتِرَكُمْ )) أي: فلن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من ثوابها شيئاً، وقال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. وقوله هنا: (( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ))، أصله من الوتر: وهو الفرد، فأصل قوله: (( وَلَنْ يَتِرَكُمْ )) أي: لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم، بل يوفيكم ثوابها كاملاً.

    بعض الآيات التي ذكرت فيها كلمة: (السلم)

    وهنا سنلقي الضوء على بعض الآيات المناسبة التي ذكرت فيها كلمة: (السلم) كقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208-209]. قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ))، السلم هنا معناه: الإسلام، فالله سبحانه وتعالى لما بيَّن وميَّز الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق قال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام، واثبتوا عليه. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، كما قاله مجاهد ورواه أبو مالك عن ابن عباس ، ومنه قول الشاعر الكندي : دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهمُ تولوا مدبرينَ أي: دعوت عشيرتي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسعد بن قيس الكندي . فلم يؤمر المؤمنون قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدئ بها فلا، وهذا كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى. وقيل: المقصود بالآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) بأفواههم (( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) أي: ادخلوا في الإسلام بقلوبكم. وقال طاوس ومجاهد : (( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) أي: في أمر الدين. وقال سفيان الثوري : في أنواع البر كلها. وقال ابن كثير : يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا إلى ذلك. فيكون معنى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) أي: في جميع أحكام الإسلام الظاهرة والباطنة. وأما الآية الأخرى فهي قوله في سورة الأنفال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]، وقد سبق أن بيّنّا أن الجمع بينها وبين الآية في سورة القتال: بأن آية الأنفال تحمل في حالة ما إذا بدأ الكافرون بالجنوح إلى السلم، لكن لا شك أن المسلمين إذا كان لهم مصلحة في الرجوع إلى السلم لنفع يجتنبونه، أو ضر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ به المسلمون إذا احتاجوا إليه، وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وصالح الضمريَّ وأكيدر دومة الجندل وأهل نجران، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زال الخلفاء والصحابة على هذا السبيل سالكون، وبهذا الهدي عاملون. قال القشيري : إذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة، وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا سبيل لمهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك : تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة. وقال المهلب : ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، وهذا مأخوذ من موادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشاً، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه مراوغة ومخادعة ولم تكن عقداً، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلا ذلك قبل أن يعقد عقداً استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فقالا: (يا رسول الله! هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أم شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: بل أمر أصنعه لكم؛ فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله! والله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قِرىً، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله! لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم وذاك، وقال لـعيينة والحارث : انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف، وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها).

    معنى المعية المذكورة في قوله تعالى: (والله معكم...)

    قوله: تبارك وتعالى: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ )). والمعية هنا معية خاصة؛ لأن الخطاب هنا للمؤمنين. وقد جاءت النصوص في القرآن الكريم تثبت أن معية الله سبحانه وتعالى لعباده نوعان: النوع الأول: معية الله الخاصة بالمتقين المحسنين، قال عز وجل هنا في هذه الآية: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35]. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]. وقال تعالى: ((لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )). وقال تعالى: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. وقال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ)[الأنفال:12]. وقوله عز وجل: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]. النوع الثاني: المعية العامة لجميع الخلق، كقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]. وقال عز وجل: (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ))، وقال: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7]، أي: بل نحن معهم. وقال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]. إذاً: فهناك آيات فيها إثبات المعية الخاصة، وهناك آيات فيها إثبات المعية العامة، ووجه الجمع بينهما: أن المعية الخاصة تكون بالنصر والتأييد والإعانة، وهذه خاصة بالمتقين المحسنين، كما قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وما سبق من الآيات المذكورة. وأما المعية العامة فهي لجميع الخلق بالإحاطة والعلم، فهو تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ولله المثل الأعلى، وهذه المعية عامة لكل الخلائق، كما دلت عليه الآيات المتقدمة. وقال الله تبارك وتعالى: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))، وهذا يدل على أنه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على جميع خلقه. وقال أيضاً: (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ))، وليس بين هاتين الآيتين اختلاف ولا تضاد، فالله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً لائقاً بكماله وجلاله بلا تكييف ولا تشبيه، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو محيط بجميع الخلائق بالعلم التام، ونفوذ القدرة. إذاً: لا منافاة بين علوه على عرشه، ومعيته لجميع الخلائق، ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل -وهي أصغر الحبوب على الإطلاق- فإنه لا يكون داخلاً في شيء من أجزاء هذه الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها، فالسماوات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى، سبحانه وتعالى علواً كبيراً. فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستوٍ على عرشه، ولا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.

    شبه المنحرفين في تأويل آيات إثبات المعية والرد عليهم

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى راداً على من يئولون هذا: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، يعني: نحن متبعون لا مبتدعون، فلا تسموا هذا تأويلاً، إنما نحن تَبَع للسلف، فما قال السلف قلنا به. فورد عن علماء الصحابة والتابعين أنهم قالوا في مثل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، أما ما يقوله بعض الناس: إن الله موجود في كل الوجود! فهذا حلول، وبعضهم يقول: إن الله موجود في كل مكان، فهو في كل مكان بعلمه، فلا يغيب عنه شيء من خلقه. وأما اعتقاد أهل السنة فهو أن الله سبحانه وتعالى مباين لخلقه، منفصل عنهم لا يمتزج بهم، ولا يحل في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن الآيات التي استدل بها المنحرفون عن عقيدة السلف في هذا: قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. فقالوا: هذه تدل على ذلك. فالجواب: أن هذه الآية فيها قولان للناس: أحدهما: أنه قربه بعلمه، ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان، والدليل على هذا التفسير قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] إذاً: فهو أقرب إليه بالعلم والمراقبة والمشاهدة. وحبل الوريد هو حبل العنق، وهو: عرق بين الحلقوم والودجين -اللذين متى قطعا مات صاحبه- وأجزاء القلب، وهذا الحبل يحجب بعضه بعضاً، وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء. والقول الثاني: (( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )) أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، أي: قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه، فيكون بذلك أقرب إليه من ذلك العرق. وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، يقول ابن القيم : وسمعته يقول: هذا مثل قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] مع أن الذي كان يقص على النبي عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام. وقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18]، فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله، فنسب تعليمه إليه؛ لأنه بأمر الله، والناس الآن يقولون مثلاً: محافظ الإسكندرية بنى (الكورنيش) مع أنه لم ينبه بنفسه، ولكنه هو الذي أمر. ويقال: فعل الأمير كذا، أو أسس كذا، وليس معناه أنه هو الذي يقوم بذلك لكن هناك أسباباً تلي ذلك، وإنما ينسب ذلك إليه لأنه تم بأمره، ولله المثل الأعلى، فكذلك هنا: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18]، أي: إذا قرأه رسولنا جبريل عليه السلام فأنصت إلى قراءته، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولنا فأنصت إلى قراءته حتى يقضيها. وإن كان أول الآية كما يقول ابن القيم يأبى ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ )). قال: وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة، كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة، يقول: (فيقول الملك الذي يخلقه: يا رب! ذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك) . إذاً: فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، ولا ينافي ذلك استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق، فإن أفعالهم وتخليقهم هو خلق لله سبحانه وتعالى، فما ثَم خالق على الحقيقة غيره سبحانه وتعالى. كما نلاحظ أن عامة الآيات التي فيها إثبات الاستواء على العرش يقترن بها إثبات صفة العلم، وهذا يدل على إحاطة الله سبحانه وتعالى؛ لعلمه بكل شيء، وهذه إشارة إلى أنه مع الخلق بعلمه وإن كان مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، فيقول الله تبارك وتعالى: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ )) يعني: بعلمه، لأن التي قبلها: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، ثم قال: (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))، يعني: بعلمه تبارك وتعالى.

    كلام ابن تيمية رحمه الله في المعية الواردة في الآيات

    يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه. وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره: أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه. وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية). ولفظ المعية جاء في كتاب الله عاماً كما في هاتين الآيتين -يعني: آية الحديد وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، وآية المجادلة التي قوله: (( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ))، إلى آخر الآية-، وجاء خاصاً كما في قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقوله: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وقوله: (( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )). فلو كان المراد: بذاته مع كل شيء إذاً لم يبق له مزية، يعني: إذا كانت المعية بالذات مع كل المخلوقات فلا تكون فيه مواساة كما في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فسيرد عليه أبو بكر بقوله: وهو أيضاً مع غيرنا كما هو معنا!! فلا يستقيم معنى ذلك إلا بحمل الآية على المعية الخاصة، أي: بالنصر والتأييد. يقول ابن تيمية : فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: (( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. وكذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، فخصهم بذلك دون الظالمين والفجار، وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب، ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. وكلمة (المعية) في لغة العرب وفي القرآن الكريم لا تقتضي الامتزاج، فإنك تقول: سرت مع القمر، مع أنك لم تمتزج بالقمر، وإنما تمشي مسايراً، وترسل لابنك في أطراف الأرض رسالة وتقول له: أنا معك، مع أن ذلك لا يدل على الامتزاج. فلا يراد بالمعية اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قول الله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، فلا يفهم من ذلك أنهم امتزجوا معه. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال: وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال:75]، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ )) يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم. إذاً: فلفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فالمعية العامة تعني إن الله مع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، والمعية الخاصة خُصَّ بعض الخلق بها، ففي هذه الحالة نفهم المعية على أنها معية بالإعانة والنصر والتأييد والتثبيت. وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل): فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً. أي: أن الأشاعرة وغيرهم يهاجمون أهل السنة والسلفيين ويقولون لهم: أنتم تحرمون علينا التأويل وتبيحونه لأنفسكم، فها أنتم الآن تئولون هذه الآيات (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ )) وتقولون يعني: معكم بعلمه. فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: (( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ )) أي: بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما يلزمنا. قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه الأخبار على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأذهان منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه. فالمتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني: بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وقال لموسى: (( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ))، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له، فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه ولم يكن تأويلاً، وإنما هو المعنى الراجح من ظاهر الألفاظ، فيحمل في كل موطن على ما يليق به. ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت ثوابهم، ووجب اتباعهم هم الذين تأولوا، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: (( وَهُوَ مَعَكُمْ )): أي: علمه، ثم قد ثبت في كتاب الله والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه. وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، ثم قال في آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فبدأها بالعلم وختمها به، وسياقها هو لتخويفهم بعلم الله سبحانه وتعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليها، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفقت فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟! وحكى ابن عبد البر كما ذكرنا الاتفاق عليه، ودلت الأخبار أيضاً والقرائن في الآيات على هذا المعنى، فكيف تلحقون بما هذا شأنه ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يحرَّج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756375412