إسلام ويب

تفسير سورة محمد [29-32]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)

    قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد:29]. يعني: المنافقين المذكورين سابقاً، و(أم) هنا منقطعة فقدره ببل والهمزة، أي: بل أحسب المنافقون الذين في قلوبهم مرض. (( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )): وهو مرض نفاق والشك. (( أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ )) أي: إن لن يظهر، و(الأضغان) هي: ما يضمر من المكروه، وهي جمع ضغن، واختلف في معنى أضغانهم: فقال السدي : رجسهم. وقال ابن عباس : حسدهم. وقال قطرب : عداوتهم، وأنشد: قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصدَيق وشيّد الأضغانا وقيل: أضغانهم: أحقادهم، وقال عمرو بن كلثوم : وإن الضغن بعد الضغن يفشو عليك ويخرج الداء الدفينا وقال الجوهري : الضغن والضغينة الحقد، وقد ضغن عليه ضغناً، وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا على الأحقاد، واضطغنت الصبي: إذا أخذته تحت حجرك. وأنشد الأحمر : كأنه مضطغن صبياً. أي: حامله في حجره. وفرس ضاغن: لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب، والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام، أي أن ذلك مما لا يكاد أن يدخل تحت الاحتمال، بل لابد أن يكشفهم الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم...)

    قال الله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]. قوله: (( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ ))، أي: ولو نشاء يا محمد! لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين؛ ستراً منه على خلقه، وحملاً للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، وهو رأي ابن كثير فلو نشاء لأريناكهم جميعاً، فالتعامل في الدنيا بين الناس إنما يكون على ما يظهرون، ولا سبيل إلى الوصول إلى ما يبطنونه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس، ولا أن أشق صدورهم)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فأحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعاملهم على بواطنهم، فينبغي الاكتفاء بستر الله سبحانه وتعالى على خلقه، وعدم التنقيب والتفتيش خاصة فيما يتعلق بالكفر والإيمان، فهؤلاء المنافقون حالهم ما ذكر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك عوملوا في دولة الإسلام بما يظهرون، بمعنى: أنه لو أظهر الزندقة حكم عليه بالزندقة، ولو أظهر الردة حكم عليه بالردة، ولو أظهر الإسلام حكم عليه بما يظهر من الإسلام، وهذا بغض النظر عما يبطنه، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أن ترك الأمور في الدنيا تسير بهذه الطريقة. وكذلك في التعامل بين الناس ينبغي أن يؤخذ على يد النمام؛ لأن النمام -كما وصفه الله تعالى- يحمل الحطب ليحرق الناس، ويثير الفتن، وقد جرى في أمور الدنيا على أن الناس يأخذون من بعض، ويقبلون بعض الظاهر، وأما النمام فإنه يحاول أن ينقل الكلام من طرف إلى طرف؛ ليفسد بين الناس، فيكشف ما خفي من أمرهم وما ستُر. وهذا الكلام الذي نقله النمام يترتب عليه فتن وأحقاد وضغائن، فالنمام يحوِّل ما يبطنه الشخص إلى شيء مشاهد، فهو يكشف ويهتك هذا الستر فيصيره مكشوفاً معايناً، فتشتغل القلوب، وتشتعل الأحقاد في الصدور، فالناس لم يتعايشوا في الدنيا إلا بالستر، وأما لو ظهرت مواقفهم وأمورهم لكانت الحياة عذاباً وجحيماً. فينبغي أن يكتفي الإنسان بما أمره الله به؛ وهو الظاهر، وألا يحرص على التنقيب عما في بواطن الناس، فلو تعامل الناس بما في البواطن لصارت الحياة هماً دائماً وكرباً، ولما سعد الناس، ولا أطاق بعضهم بعضاً. فالله سبحانه وتعالى -رحمة منه بنا في هذه الدنيا- أمرنا بالاكتفاء بالظاهر، فالإنسان لا يولع ولا يغرم بالتفتيش عما في قلوب الناس، ولا أن يصغي إذنه للنمام الفاسق الذي يسعى للإفساد بين الناس عن طريق نقل الكلام، ويظن أنه يخبر بالذي وقع، لكن الشرع -حتى لو كان قد حصل بالفعل- سماه نماماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام، ولا يدخل الجنة قتات). قال القرطبي : (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) أي: لعرفناكهم. وقال ابن عباس : وقد عرفه إياهم في سورة براءة، تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي: سأعلمك؛ لأن الرؤية: رؤية علمية، ورؤية بصرية، فهذه رؤية علمية، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، أي: ألم تعلم؟ بدليل أنه ولد في عام الفيل، فحصل حادث الفيل قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام. وقوله: (( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ )) أي: بما أعلمك الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، وقوله: (( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا )) نهي عن مساعدة أهل التهم، ونهي عن الدفاع عن الإنسان المريب الظالم بما يقوله خصمهم من الحجة. وفي هذا -كما يقول القرطبي - دليل على أن النيابة عن المبطل والمستحق للخصومة لا تجوز، فمثلاً يأتي المحامي ليدافع عن قاتل، أو تاجر مخدرات أو نحو هؤلاء، وهو ظالم ومجرم وفاسق ومخرب، ومع ذلك تجد المحامي مستعداً ليدافع عنه، فمثل هذا -شرعاً- لا يجوز أبداً الدفاع عنه وأنت تعرف أنه ظالم ومعتدٍ؛ لتخلصه من هذا، وأظن أن هذا من أقبح ما يتدنس به بعض المحامين الذين لا يبالون بضياع حقوق الناس، فالمهم أن يحظى هو بحظه من الدنيا في النهاية. فالنيابة عن المخطئ والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عما قريب. قول ابن عباس رضي الله عنهما: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، فسورة براءة تسمى: سورة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في سورة التوبة: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم.. ومنهم.. حتى خفنا ألا تدع أحداً. وتسمى: سورة البحوث؛ لأنها تبحث عن أفراد المنافقين، وتسمى: المبعثرة، قال الله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التوبة:64]، أي: إن الله مظهر ما تحذرون ظهوراً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلاً، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين، والناس يعيِّر بعضهم بعضاً، فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهار ذلك، إذ قال: (( إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ))، فكشف أسمائهم، ثم ستر ذلك مراعاة لأبنائهم المسلمين كي لا يعيَّروا بهم. وقيل: إن قوله: (( إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ )) أنه عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوالهم وأسماءهم، لا أنها نزلت أسماؤهم في القرآن، ولقد قال الله تعالى: (( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )). قال شيخ المفسرين ابن جرير : عن ابن عباس في هذه الآية: (( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ))، قال: هم أهل النفاق، وقد عرفه إياهم في براءة، فشيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى يرى أن الله عرفه بالفعل هؤلاء المنافقين في سورة براءة، فقال عز وجل : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، وقال: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا [التوبة:83]. قوله: (( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ))، أي: بعلامتهم الخاصة التي يتميزون بها. قال الزجاج : المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما، فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، (( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ )) أي: ولو أريناكهم لعرفتهم بسيماهم. وقال أنس : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم، وتكرير اللام للمبالغة أو للتأكيد. ثم قال تعالى: (( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )) أي: في فحواه ومعناه، ومنه قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحياناً وخير الكلام ما كان لحناً أي: أحسنه ما كان تعريضاً يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره؛ لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض، وهو مأخوذ من اللحن في الإعراض، وهو الذهاب عن الصواب. وعن مالك بن دينار قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله. وعن بعض الزهاد قال: لم نؤت من جهل ولكننا نستر وجه العلم بالجهلِ نكره أن نلحن في قولنا ولا نبالي اللحن في الفعلِ وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، قال هذا لرجلين أتيا يختصمان في شيء معين، فقال النبي عليه السلام: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر) يعني: لا أعلم الغيب ولا أعلم ما في قلوبكم، ولكوني بشراً لن أحكم إلا بما يظهر لي، (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي: أنه يستطيع أن يحور الكلام بالفصاحة وغير ذلك، فيظهر حجته أقوى من حجة الآخر، في حين أنه ظالم والآخر هو المظلوم والحق له، لكن من علم صناعة الكلام وقدرته على اللحن في الكلام فإنه يستطيع أن يدلي بحجة، والآخر لأنه عيي لا يفصح ولا يستطيع أن يعبر، فيضيع حقه بسبب ذلك، فيحذِّر النبي عليه الصلاة والسلام من مثل هذا فيقول: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم) أي: أني أنا آخذ بالظاهر، وهي الحجة التي يدلي بها هذا الشخص، ومع ذلك وإن كان الذي حكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحكم في الحقيقة باطلاً، أي: أنه حكم للظالم على المظلوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام ليس مسئولاً عن ذلك؛ لأنه يحكم بالظاهر الذي ظهر له، فهذا تحذير للشخص الظالم، وإذا كان هذا في حكم الرسول الله عليه الصلاة والسلام فما بالك بشخص ينال شيئاً ليس من حقه بحكم قانون وضعي! إذا كان حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغير الواقع في نفس الأمر شيئاً مع أنه حكم وهو يحكم بما يظهر له، فكيف بحال هؤلاء!! فإذا كنت تعرف أنك ظالم، وأنه ليس من حقك فلا يصح أن تقول: قد حكم لي؛ لأن هذا ليس من حقك، وهذا ليس من شرعنا ولا موافقاً له، قال صلى الله عليه وسلم: (من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فيرد هذا الحكم. فحكم الحاكم أو القاضي لا يغير من الحقيقة شيئاً،و ستصبح مسئولاً أمام الله عن أن تؤدي الحق إلى صاحبه: (فمن قضيت له من حق أخيه

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين...)

    قال الله تبارك وتعالى مخاطباً المؤمنين: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون: ( ولنبلونكم حتى نعلم.. ونبلو أخباركم ). وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها، أي هكذا: (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلو أخباركم). قال الشوكاني : (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ )) أي: لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد، وصبر على دينه، وعلى مشاق ما كلف به. وقال القرطبي : أي: نتعبدكم بالشرائع وإن علمنا عواقب الأمور، وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. قوله: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ )) أي: عليه. قال ابن عباس : (( حَتَّى نَعْلَمَ )) أي: حتى نميز. وقال علي رضي الله عنه: (( حَتَّى نَعْلَمَ )) أي: حتى نرى. قوله: (( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) أي: نظهرها ونكشفها امتحاناً لكم؛ ليظهر للناس من أطاع الله فيما أمره، ومن عصى ولم يمتثل، وهذا التفسير في غاية الدقة، وقد تتصورا أنه كلام عادي، لكن هذا الكلام مبني على الأدلة والاستنباط منها. إذاً: فيلون على هذا التفسير (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ))، أي: وحتى يعلم أوليائي وأهل طاعتي من هو من حزب الله، ومن هو من حزب المنافقين. وروى رويس عن يعقوب : إسكان الواو من نبلو، أي: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوْ أَخْبَارَكُمْ على القطع مما قبله، ونصب الباقون رداً على قوله: (( حَتَّى نَعْلَمَ )). قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. فالإنسان لا يتمنى البلاء، وإنما يسأل الله سبحانه وتعالى العافية التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم لعمه حين سأله، فعلمه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالعافية، فهذه أعظم نعم الله عز وجل: العافية واليقين. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاثبتوا)، فالإنسان لا يتمنى الشر، وإذا قدر عليه ذلك فليثبت. وقد حكي عن بعض العبّاد: أنه كان يسأل الله سبحانه وتعالى أن يبتليه، فابتلاه فلم يصبر، وكان البلاء شديداً جداً، فكان يمر على الصبية ويقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب. يعني: أنا زعمت أنني إذا ابتليت فسأصبر، فيقول: ادعوا لعمكم الكذاب، لأنه لم يستطع أن يفي بما كان يتمناه. ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل كأنه جلد على عظم من شدة الضعف والوهن، فقال له: (هل كنت تدعوه أو تسأله شيئاً؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! إن كنت معاقبي في الآخرة فعجله لي في الدنيا -وهذا عدم فقه لآداب الدعاء- فقال: سبحان الله! لا تطيق)، فدعا له النبي عليه السلام فعافاه الله سبحانه وتعالى، فالشاهد: أن الإنسان ينبغي أن يكون فقيهاً في دعائه، فنفس اللسان الذي تخرج منه كلمة: اللهم! إن كنت ستعاقبني في الآخرة فعجله لي في الدنيا هو نفسه يمكن أن يقول: اللهم! عافني في الدنيا والآخرة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، ونفس الرب سبحانه وتعالى الذي ستسأله هذه ويجيبك، سوف يجيبك أيضاً إن سألته العافية، فالله سبحانه وتعالى ودود غفور رحيم، فاسأل الله العفو والمغفرة، وسله العافية، فإن رحمته واسعة، بل قد حرضنا على أن نطمع في رحمته، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، ووسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمن عدم الفقه أن يدعو الإنسان بمثل هذه الدعوات، ونحن نعرف وجاء في حديث حذيفة حينما قال له رجل من التابعين: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم وتركتموه يمشي على الأرض؟ لو أدركناه لحملناه فوق رءوسنا؛ فقال له حذيفة مشيراً إلى نفس هذا المعنى، وذكر ما لاقوه من الشدة والبلاء في غزوة الخندق، ثم قال: قد أدركه قوم ودخلوا النار كـأبي جهل وأبي لهب ، فهؤلاء أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام ولكنهم كفروا به وعادوه، فهم أشد الناس عذاباً لعداوتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكفرهم به. وحكى ما حصل لهم يوم الخندق، وأن البرد كان شديداً جداً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة أن يخرج رجلاً منهم فيأتيه بخبر الأعداء، فقال: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة). فالشاهد أنه كل مرة لا يجيبه أحد، في المرة الأولى، والمرة الثانية، والمرة الثالثة، فبعد ذلك أمر حذيفة أن يخرج ويذهب هو، فلم يجد بداً، وقد عينه النبي عليه السلام بالاسم إلا أن يمتثل لأمره صلى الله عليه وآله وسلم، فامتثل وخرج، يقول: فكان خروجي ورجوعي وكأني كنت في الحمام، وهو عند العرب المكان الدافئ جداً من شدة البخار الساخن. فالشاهد من هذا الكلام: أن الإنسان لا يعرف صبره وثباته، ما يدريك لو أنك كنت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من أي قسم ستكون: من المؤمنين، أم من المنافقين، أم من الكافرين المشركين؟ فالمهم أن ترضى بما قسم الله لك، ولا تتمنى شيئاً ربما لو أدركته لكنت من الهالكين؛ لأن الله هو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهذا غيب وأنت لا تدري كيف يكون، فالله وحده هو الذي يعلم كيف يكون هذا الغيب.

    أقسام علم الله سبحانه وتعالى

    قوله تعالى: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ))، علم الله سبحانه وتعالى بعباده وخلقه علمان: علم غيب. وعلم شهادة. فعلم الغيب: هو علم الفطرة الأزلية، أي فطرة الله سبحانه وتعالى القديمة الأزلية التي لا بداية لها، فهذه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهذا هو علم الغيب، وهو موجود قبل التكليف. وعلم الشهادة: وهو الذي يكون بعد التكليف، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والجزاء، فإذا راعينا هذا التقسيم، وعلمنا الجواب على الشبهة التي يقولها بعض الناس: إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم مسبقاً، وقدر مسبقاً ما يصدر ويجري مني، ومن أي الفريقين أنا، فلماذا يحاسبني بعد ذلك؟ فالجواب: لو كان الله سبحانه وتعالى يحاسبك على علمه فيك فقط لكان لسؤالك وجه، لكنه لا يحاسبك على علمه فيك حتى تعمل به، فعملك هذا هو الذي تحاسب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار..) إلى آخر الحديث كما تعلمون. إذاً: فالعلم في قوله تعالى هنا في هذه الآية: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ))، وقوله أيضاً في قوله تعالى، مثلاً: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، هو شهادة؛ لأنه بعد التكليف، فيريد أن يعلم أولياءه الذين سيطيعونه. وقد يتوهم الجاهل من ظاهر قوله هنا: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ))، أن الله سبحانه وتعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل الله عز وجل عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، فلا يحدث له علم؛ لأن الله لو حدث له علم فهذا العلم كمال، فالله سبحانه وتعالى لا يتصور أبداً خلوه عن هذا الكمال، فإذا كان العلم الذي هو الكمال حصل له -والعياذ بالله- فيما بعد وطرأ عليه، فمعنى ذلك أنه من قبل ناقصاً؛ لأنه كان خالياً من هذا العلم، فهذا لا يجوز في الله سبحانه وتعالى، والله فنزه عن ذلك! إذاً: فالله سبحانه وتعالى يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم:32]، وقال تعالى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [المؤمنون:63] أي: أنهم إلى الآن لم يعملوها لكن الله يعلمها، وقال تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]. وقد بيَّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه، فقال عز وجل: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154]، وتأملوا نهاية الآية: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، فقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] فيه صفة مستمرة بعد قوله: (( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ))، وهذا دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار، قال تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [سبأ:3]. فقوله: (( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ )) حتى لا يذهب ذاهب ويتخيل أن الابتلاء يفيد الله سبحانه وتعالى علماً جديداً، فختم الآية بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، فيبتلي ما في صدوركم ليصير علم شهادة، وأما الله فإنه يعلم مسبقاً. وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله سبحانه وتعالى فيها اختباره لخلقه كما سنبينها إن شاء الله تعالى، ومعنى قوله تعالى: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ )) أي: نعلم علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، ولا يباهي أنه كان عالماً به قبل ذلك؛ لأن العلم الذي كان عالماً به قبل ذلك علم غيب، وهذا العلم -علم الشهادة- يكون موافقاً لما سبق به قلم القضاء. وفائدة الاختبار ظهور القضاء والقدر، أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى. ولذلك قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء؛ لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، وإن كان الله تعالى يعلمهم علم غيب؛ لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ أي: نختبرها ونظهرها. انتهى كلام القرطبي . وقال الإمام شيخ المفسرين جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ولنبلونكم أيها المؤمنون! بالقتل وجهاد أعداء الله؛ (( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ )) أي: حتى نعلم علم شهادة إذا امتثلتم أو عصيتم، فيعلم أوليائي وحزبي أهل الجهاد في سبيل الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه؛ فيظهر ذلك لهم، ويعرف ذوي البصائر من أهل الشك والحيرة، وأهل الإيمان من أهل النفاق. قوله: (( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) أي: فنعرف الصادق منكم من الكاذب. انتهى كلام شيخ المفسرين. وما ذكره شيخ المفسرين من أن المراد بقوله: (( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ))، حتى يعلم حزبنا وأولياؤنا المجاهدون، فهذا له وجه، وقد يشهد له قوله تعالى: (( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) أي: نظهرها ونبرزها للناس. ومما يوضح هذا المعنى أن علماء التفسير عندما يضعون هذه العبارات الدقيقة فإنها لا تأتي خالية من الدليل، لكن الاستنباط دقيق من معاني الآيات، وفهم آيات القرآن بعضها مع بعض، ومما يوضح هذا قول الله سبحانه وتعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فالشاهد هنا في هذه الآية قول الله تعالى: (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ))، فيتميز الخبيث من الطيب يكون بظهور ذلك للناس. إذاً: فمعرفة المؤمنين للخبيث من الطيب، والتميز بين الفريقين يمكن أن نعرفه بأكثر من طريقة: إما أن نعرفه بأن يأمر الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً بالجهاد مثلاً، فمن استجاب فهو من المؤمنين، ومن نكث فهو من المنافقين مثلاً، فيظهر ذلك للناس. وهناك وسيلة أخرى وهي الاطلاع على الغيب، قال تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ))، بمعنى: أنهما طريقان لا ثالث لهما لكي تعرفوا الناس وتميزوا بينهم، والاطلاع على الغيب ليس إلينا، (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ))، فالله تعالى هو عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، فلا سبيل إلى اطلاعكم على الغيب، إذاً فيتعين الطريق الآخر وهو: أن يقع الاختلاف بين الناس، فيمتاز أهل الإيمان من أهل النفاق؛ لذلك قال تعالى: (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )) أي: من اختلاط الأمور، واختفاء المنافقين في وسطكم، (( حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )). قوله: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ )) أي: فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب، ولكن الله عرفكم ذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خُبْث وطِيْب، قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] وقال تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] وأكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان الأمر كما قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]. وقيل: نزلت تسليةً للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق. ومن الآيات في معنى هذه الآية قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]، فكل هذه الآيات في معنى قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ . وهذه الآية: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]، يقول فيها

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله...)

    قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد:32]. قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )): المقصود بهم هنا المنافقون، وقيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المشركون يوم بدر، ونظيرها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]. وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير، (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )) الراجح في تفسير الصد هنا أنه منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: (( وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ))، أي: عادوه وخالفوه مخالفة شديدة. قوله: (( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ))، أي: علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله سبحانه وتعالى بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة. قوله: (( لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ ))، أي: ورسوله صلى الله عليه وسلم، (شَيْئًا) أي: بصرفهم عن الإيمان، وإصرارهم على الكفر، ولن يضروا إلا أنفسهم كما في الحديث: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً). قوله: (( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ )) أي: ثواب ما عملوه، والمقصود أنه يفسدها، والمراد بذلك أعمال الخير: كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن الكفر مانع من قبولها ومن الانتفاع بها في الآخرة. وقيل: المراد بالأعمال في قوله: (( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ )) أي: مكائدهم. إذاً: تحمل الأعمال على أحد معنيين: إما الأعمال التي ظاهرها الخير، مع أنها لا تنفعهم في الآخرة؛ لأنها خلت عن شرط الإيمان. وإما أن المراد بالأعمال: مكرهم وكيدهم ومؤامراتهم. قوله: (( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ )) أي: المكائد التي نصبوها لإطفاء دين الله، والغوائل التي كانوا يبغونها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ذكرنا من قبل: أن الراجح في كلمة (صد) هنا أنها متعدية، فهم كفروا في أنفسهم، ومنعوا غيرهم أيضاً من الإيمان والإسلام، وهذا الأمر ما زال مستمراً إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وآية ذلك ما يحصل الآن ومنذ زمن بعيد من الحرب على الدين التنفير منه، وتحريض الناس على الصد عن سبيل الله، وهذا له أنواع وأساليب كثيرة جداً في زماننا، فقد حاولوا تخليص كثير من الناس من التدين، ومعاقبتهم على التدين، وامتحانهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووصف المتدينين بأنهم متطرفون وعنصريون وإرهابيون وغير ذلك مما يرجف به أعداء الله سبحانه وتعالى. وقلنا من قبل مراراً: إن أعظم حق من حقوق الإنسان هو حق الدين فنحن في عصر يتشبث فيه هؤلاء الكفار بحقوق الإنسان على طريقتهم، فإما أنهم يعتبرون المسلمين ليس لهم حقوق وبالتالي لا يستحقون هذه الحقوق، وإما أنهم يكيلون لا أقول بمكيالين، بل هو كيل واحد للمسلمين لم يتغير، وهو كيل الظلم والجور، ونقض العهود والمواثيق. وأكبر جريمة ترتكب في حق الإنسان أن يحال بينه وبين سعادة الدنيا والآخرة، فتخيل شخصاً يتسبب في حرمان الناس من الخلود في الجنة وما فيها من النعيم، ويوردهم موارد الهلكة، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها). إن أكبر جرم يرتكب في حق الإنسانية هو منع الناس من الدخول في الإسلام، فأعظم حق في الإسلام للإنسان، هو أن يصله نور التوحيد، ومن أجل ذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفتحون البلاد بالسيف، وبعض الناس يقول: هذا إكراه، ولا إكراه في الدين، فتقول: إن غاية ما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يريدونه هو أن يزيحوا الجيوش التي تقف على حدود هذه البلاد بعد دعوتهم للإسلام، فيصرون على مقاتلة المسلمين، ويريدون أن يبلغوا هذه الدعوة ويوصلوها إلى الناس مباشرة، فتقف هذه الجيوش على حدود هذه البلاد ليمنعوا نور الله سبحانه وتعالى من أن ينتشر في الآفاق، ويمنعوا أن تعلوا كلمة الله، وبالتالي يكون ذلك سبباً في حرمان الناس من دخول الجنة، فهم هجروا أوطانهم وديارهم وأبناءهم، وضحوا بالنفس والنفيس في سبيل أن يحملوا هذا النور إلى العالمين كما كلفهم الله مالك هذا الكون كله بذلك. فكل ما كان يفعله الصحابة هو مجاهدة الجيوش التي تحول بينهم وبين ما أمرهم الله به فقط، فكانوا يقاتلون من امتنع، أما من لم يمتنع فيتركونه يدخل في دين الإسلام، ويمضون إلى شأنهم في فتح البلاد، فيزيحون القوى التي تقف أمامهم فقط، وأما عند معاملتهم مع الشعوب فإنهم لم يقهروا أحداً على الدخول في الإسلام، قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] .. إلى آخر الآية، فكان الصحابة رضي الله عنهم لا يُكرهون أحداً على الدخول في هذا الدين، وإنما كان همهم أن يوصلوا هذا النور إلى العالمين، فكل من يقف ليمنع هذا النور سواءً بالتخويف والإرهاب والبطش أو بالفتك والقتل، فإن الإسلام له بالمرصاد، وقد سلط الغرب الكافر سلمان رشدي وأمثاله من الكفرة الملاحدة ليطعنوا في الرسول عليه السلام وفي الإسلام كما هو شأنهم، وكما حذرنا الله سبحانه وتعالى من ذلك من قبل، فوقف لهم أهل الحق بالمرصاد. فأكبر حقوق الإنسان -إذا كانوا فعلاً صادقين- أن يتركوا نور الله يصل إلى هؤلاء الناس، لكننا نرى هؤلاء الناس غارقين في الوحل من الشرك والوثنية في كل أنحاء المعمورة، وسبب حرمانهم من هذا النور هو هذا الصد عن سبيل الله، (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، فالصد عن سبيل الله صار وظيفة، فيوجد أناس متفرغون للصد عن سبيل الله. وأنواع الصد كثيرة جداً، والصادون عن سبيل الله كثيرون، وقد حذرنا منهم الله سبحانه وتعالى، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك يقول بعض السلف: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، إن أقامك في خدمة دينه والدعوة إليه فهذا أشرف المقامات؛ لأنها وظيفة الرسل، وإن أقامك في الصد عن سبيل الله، والتنفير من دين الله، ومعاقبة الناس على التدين، وتنفير الناس من دينهم بالأوصاف المنفرة فأنت في مقام سيء، وهذا أسلوب قديم أن يوصف أهل الدين وأهل الطاعة بالأوصاف المنفرة، فيأتي أهل الباطل إلى الحق ويغلفوه بأغلفة منفرة كما يقول الشاعر مشيراً إلى هذا التلاعب بالألفاظ، وما يكون له من أثر نفسي في تنفير الناس من الحق، يقول: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت: ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فمن الممكن أن تأتي إلى عسل النحل وتقول فيه إن أردت أن تمدحه: هذا جنى النحل، هذا محصول النحل، ومن الممكن أن تقول عنه تنفيراً منه: هذا قيء الزنابير، أي: ما تتقيؤه هذه الزنابير التي تلسع مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنور الله ودين الله يوصف بالتطرف والإرهاب والأصولية، إلى غير ذلك من هذه المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان. فويل لمن يجمع بين الكفر في نفسه والصد عن سبيل الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ، سواء قلنا: أعمالهم التي أتوا بها وهي على صورة القيء، فإنها تحبط ولا تنفعهم الآخرة، أو (( َسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ))، يعني: كيدهم قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]. ولو أن أي دعوة واجهت من الحروب والتكفير والتشنيع والإبادة ما واجهه الإسلام والمسلمون لما بقي لها ذكر في التاريخ على الإطلاق، فليس من سبب في حماية وصيانة هذا الدين إلا أنه دين الله وحجته على خلقه. وما من دعوة أو مذهب أو فرقة في خلال مئات قليلة من السنوات إلا وقد حرفت تماماً عن أصلها ما عدا الإسلام، فالأمم كلها من العقلاء والباحثين والعلماء الغربيين وغيرهم فضلاً عن جميع المسلمين تجمع على أن القرآن لم يحرف منه حرف واحد، ولم ينقص منه ولم يزد فيه حرف واحد، فمن الذي حفظه؟ إنه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، حتى تبقى المعجزة، والحجة قائمة على كل من ينتمي إلى أمة الدعوة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كل من على ظهر الأرض، فكل البشرية هي أمة محمد بعد بعثته، فـ كلينتون من أمة محمد، ونتنياهو وكل الكفار منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم من أمته، أي: من أمة الدعوة التي بعث إليها محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان صلى الله عليه وسلم قد لحق بالرفيق الأعلى لكن أمته نائبة عنه في تبليغ شرعه، وإقامة حجته، ومعجزته باقية خالدة على مر الزمان. قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: الظاهر أن (صَدُّوا) في الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي: لو كان المفعول ظاهراً لم يبق خلاف في أن الفعل متعدٍ، فلو كانت الآية: (إن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله)، أو: (وصدوا الناس)، لكانت متعدية، لكن لما لم يذكر المفعول اختلفوا، فقال بعضهم: هي للتوكيد. فلكلمة: (صدوا) تأتي لازمة وتأتي متعدية، فاللازمة لا تحتاج إلى مفعول به، مثل كلمة: خرج، ونزل، كأن تقول: فصد عني، وتعني: أعرض عني، أو أشاح بوجهه عني، وكقوله تعالى: رَأ

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756215263