إسلام ويب

تفسير سورة هود [50-83]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله..)

    قال الله تبارك وتعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ [هود:50]. (( وإلى عاد أخاهم هوداً )) عطف على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا [هود:25] أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. وأخاهم يعني: واحداً منهم، كما يقولون: يا أخا العرب! يريدون بذلك واحداً من العرب. وعاد هذه التي يذكرها الله سبحانه وتعالى هنا هي عاد الأولى، التي قال تعالى فيها: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى [النجم:50]، وقال فيها أيضاً: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:8]؛ لأن عاداً عبارة عن شعبين، أو قبيلتين، أو أمتين: عاد الأولى، وعاد الآخرة أو عاد الثانية. أما الأولى: فهي التي أرسل إليها هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح ، وقد سكنوا في جنوب الجزيرة العربية تقريباً في منطقة عمان وجنوب اليمن حتى صحراء الربع الخالي، وهي التي تسمى الأحقاف. أما عاد الثانية: فهم من نسل هود والمؤمنون الذين خرجوا معه من الأحقاف قبل هلاك قومهم، وسكنوا اليمن حتى غزاهم القحطانيون من العراق، وسيطروا على اليمن بعد أن أبادوا عاداً الثانية. فعاد الثانية أهلكت عن طريق القحطانيين لما غلبوهم وأبادوهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى [النجم:50] ولم يقل: (فما أبقى) لأنه أبقى من نسلهم من كان منهم عاداً الثانية، لكن في ثمود قال: وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى [النجم:51] أي: وأهلك ثمود فما أبقى منهم أحداً بل استأصلهم. وعاد عند العرب رمز للقدم والأبدية، كما يقال: هذا الشيء قديم قدم عاد، فهي من العرب البائدة، هي أقدم قبائل العرب على الإطلاق. ويقال: هذا الشيء عادي، وليس ذلك نسبة إلى العادة ولكن نسبة إلى قوم عاد، والمعنى: أنه موغل في القدم. ويقال: العاديات ويعبر بها عن الآثار والأطلال، ولذلك تسمى المحلات التي تباع فيها التحف القديمة والنادرة العاديات. ومما يلاحظ أن لهجة أهل الصعيد تتميز عن لهجة أهل الوجه البحري بكلمة عاد، فأهل الصعيد حتى الآن يستعملون كلمة عاد بمعنى: أبداً، فلعل هذه الكلمة تميز بها أهل الصعيد؛ وذلك لأنه قدمت مع عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قبائل عربية من اليمن، وهذه القبائل استقرت في الصعيد لتشابه المناخ بين الصعيد وبين اليمن، وموطن عاد كان في حضرموت وفي جنوب اليمن، وهؤلاء تواترت عندهم كلمة عاد حتى جاءت إلى صعيد مصر، فلعل هذا هو سبب بقاء كلمة عاد في لغة أهل الصعيد، والله أعلم. (( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ )) أي وحده (( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )). (( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ )) أي: باعتقاد الأوثان شركاء وجعلهم شفعاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً ...)

    قال تعالى: يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود:51]. لماذا خاطب كل رسول قومه بقوله: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً))؟ إزاحة للتهمة، وتمحيضاً للنصيحة، فإنها لا تنجع النصيحة ما دامت مشوبة بالمطامع والطموحات المادية، لذلك ينزه هود عليه السلام نفسه عن هذه التهمة، فيقول: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)) أي أفلا تفهمون وتعون إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً. أو (أفلا تعقلون): أي: أفلا تتدبرون الصواب من الخطأ.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ...)

    قال تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]. (( ويا قوم استغفروا ربكم )) أي: من الوقوف مع الهوى بالشرك (( ثم توبوا إليه )) أي: من عبادة غيره بالتوجه إلى التوحيد. (( يرسل السماء عليكم مدراراً )) أي: كثير الدر، وقلنا: كثير الدر ولم نقل: كثيرة الدر مع أن السماء كلمة مؤنثة؛ لأن المقصود بالسماء المطر، فنظر إلى المعنى. و(( مدراراً )) منصوب على الحال من السماء، أو أن المراد بالسماء السحاب فذكر على المعنى، أو أنه مفعال للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو أن الهاء حذفت من مفعال، أو مفعال على طريق النسق. (( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ )) أي: قوة مضمومة إلى قوتكم، أو قوة مع قوتكم، وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، كانوا شديدي الحرص على كثرة النسل وكثرة الأموال وكثرة الأولاد، حتى يتقووا بذلك على إثراء أموالهم وترهيب أعدائهم، فقد كانوا مثلاً في القوة، كما قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، واغتروا بقوتهم. قوله: (( ولا تتولوا )) أي: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه (( مجرمين )) أي: مصرين على إجرامكم وآثامكم. قد حصل في بعض الاكتشافات الحديثة عن طريق التصوير من الفضاء أن اكتشفوا آثار مدينة إرم ذات العماد، كما نشر في بعض الجرائد الأجنبية، ونشر أيضاً هنا في جريدة الأهرام يوم عشرة شهر أربعة عام اثنين وتسعين تسعمائة وألف. قالوا: أعلن العلماء مؤخراً اكتشاف آثار عاصمة ملك عاد المعروفة باسم إرم، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر:7]، جاء ذلك عقب دراسات وأبحاث علمية قام بها علماء الفضاء والجيولوجيا والآثار والتاريخ، وأشارت إليها بعض الصحف العالمية ومن بينها مجلة التايم في فبراير الماضي ومجلة لوس أنجلوس تايم، وفي أحدث تقرير علمي عن هذا الاكتشاف تلقاه الدكتور زغلول راغب النجار أستاذ علوم الأرض يبين معالم هذا الاكتشاف يقولون فيه: إنه في عام أربعة وثمانين وتسعمائة وألف زود مكوك الفضاء (تشيلنجر) بأجهزة استشعار عن بعد، تستخدم موجات من الأشعة غير المرئية أمكنها تصوير العديد من مجاري الأنهار القديمة والطرق المدفونة بالرمال بدقة بالغة في مساحات شاسعة .. إلى آخره. والتفصيل حول هذا التقرير قد نشر فيه بعض الصور، لكنها ليست واضحة لدرجة كافية، لكن على أي الأحوال نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد العباد يقيناً؛ لأن هذه المدينة مدفونة تماماً تحت الرمال، حيث عاقبها الله سبحانه وتعالى بعاصفة رملية غطت بلادهم تماماً رغم أنهم كانوا يقولون: (( من أشد منا قوة )). أما بالنسبة لمكان سفينة نوح فالتوراة تقول: إنها استقرت على جبل أرراك، أما القرآن فقد كان أكثر دقة حيث نص على أنها استقرت على جبل الجودي، وهو المكان الذي اكتشفت فيه بقاياها، والذي يبعد عشرين ميلاً عن جبل أرراك، الذي ذكر في التوراة، فهم يعترفون أن القرآن أكثر دقة من كتبهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ...)

    قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود:53]. قوله تعالى: ((قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)) أي: ما جئتنا بحجة تدل على صحة دعواك. وذلك لقصور فهمهم وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان، وللغشاوات والأقفال التي على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يفهموا هذه البينة، فأحياناً يكون العيب في عقل المستمع وليس في حجة المتكلم، وهذا حال منكري رسالات الأنبياء. (( وما نحن بتاركي آلهتنا )) أي: بتاركي عبادة آلهتنا. (( عن قولك )) هذا حال من ضمير تاركي أي: وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك. أو (( عن )) للتعليل كما في قوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة:114] أي: لأجلها. والقول بأنها حال أبلغ؛ لدلالته على كونه علة الفاعلية، وهذا كقولهم في الأعراف: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [الأعراف:70] انظر إلى الخبل الذي في عقولهم! ((وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: مصدقين، والمقصود إقناط الرسل من إجابتهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ...)

    قال عز وجل: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]. (( إن نقول إلا اعتراك )) أي: مسّك، (( بعض آلهتنا بسوء )) أي: بجنون؛ لسبك إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين. انظر وقارن بين خطاب هود عليه السلام وبين كلامهم هم، من الذي يفتقر إلى البينة؟ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود:53] أي: ايئس منا، ولا يكن عندك أي أمل في أن نستجيب لك. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]. يقول الزمخشري : دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. زعموا واعتقدوا أن الحجارة تنتصر وتنتقم وتقوى على أن تصيب هوداً عليه السلام بالجنون كما زعموا. قال الزمخشري : من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوس واحدة. وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: (( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71]. هو يتحداهم أن يجمعوا كل من يستطيعون وشركاءهم، سواء الذين يعبدونهم من دون الله أو الذين يعبدونهم معه. ((ثم اقضوا إلي ولا تنظرون)) أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثق هذه البراءة بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد أي: حيث قال: (( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا )): أنتم أيضاً: (( أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )) *(( مِنْ دُونِهِ )). قال الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله. ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، دون إمهال فقال: (( فَكِيدُونِي جَمِيعًا )) أي: أنتم وآلهتكم. ((ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) أي: إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم لها تأثير في الضر فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال. قال أبو السعود : فالفاء في قوله: (( فكيدوني جميعاً )) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم: يعني إن كانوا قادرين فكيدوني جميعاً، وعلى البراءة من كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلاً فرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد، وكانوا معروفين بأن أجسامهم كانت ضخمة جداً، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقَّرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربي وربكم ..)

    إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]. (( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ )) أي: فلا تستطيعون أن تصلوا إلي بسوء؛ لتوكلي على الله. (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )) أي: مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء. قال القاشاني : بيّن وجوب التوكل على الله وكونه حصناً حصيناً، أولاً: لأن ربوبيته شاملة لكل أحد: (( فإني توكلت على الله ربي وربكم ))، أي: من يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، ويقوم بأفعال الربوبية من التربية والتنمية والرعاية هو الله. إذا قلنا: الأم تربي ولدها، فيلزم من ذلك أنها تحفظه وترعاه وتحميه من كل سوء، فكذلك شأن الرب بل هو أولى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، فمن يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه، فهو يقول: إذا كان هو ربي فهو الذي يحفظني وحده، ولذلك أتوكل عليه وحده. (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))، فكل ذي نفس تحت قهر الله عز وجل وسلطانه، أسير تحت تصرفه ومملكته وقدرته، عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه كالميت، فلا حاجة إلى الاحتراز منه. والناصية هي منبت الشعر من مقدم الرأس، وقد تطلق على الشعر نفسه. تسمية للحال باسم المحل، يقال: نصوت الرجل يعني: أخذت بناصيته، ويقال: ناصيته بيده أي: هو منقاد لها، والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط. (( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )): تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره، أي: هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم علي إذ لا يضيع عنده معتصم به ولا يفوته ظالم؛ لأنه تعالى مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهذا كقوه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه في قوله: (( إن ربي على صراط مستقيم )) ولم يقل في هذه المرة: إن ربي وربكم كما قال أولاً: (( إني توكلت على الله ربي وربكم )) هذا الاقتصار إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد؛ لأنه واضح من السياق أنه يقصد ربي وربكم، أو للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دون هؤلاء القوم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ..)

    قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود:57]. (( فإن تولوا )) أي: إن تتولوا، بحذف إحدى التاءين. (( فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم )) أي: قد قامت الحجة عليكم. ((وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ)): هذا استئناف بالوعيد لهم، بأن يهلكهم الله سبحانه وتعالى ويأتي بقوم آخرين يخلفونهم في ديارهم وأموالهم. ((وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا)) أي: لن تضروا الله سبحانه وتعالى بهذا التولي والإعراض عن دعوته شيئاً؛ لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم، أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء. ((إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)) أي: رقيب مهيمن عليه، فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها. أو (( إن ربي على كل شيء حفيظ )) أي: حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا ..)

    قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود:58]. (( ولما جاء أمرنا )) أي: عذابنا أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم (( نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ )). وقد بين الله صفة إهلاكهم في غير ما آية منها قوله تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8]. فإن قلت: ما معنى تكرار لفظ النجاة هنا في قوله تعالى: (( ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ))؟ فالجواب: أن الأول هذا إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان لما نجوا منه وأنه أمر شديد عظيم غير سهل. إذاً فلا تكرار، فهو للامتنان عليهم وتحريض لهم على الإيمان. (( ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا )) أي: من عذاب الدنيا. (( ونجيناهم من عذاب غليظ )) أي: من عذاب الآخرة، تعريضاً بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ، ويرجح الأول لملائمته لمقتضى المقام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله) ..

    قال تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود:59]: تأنيث اسم الإشارة باعتبار القبيلة (( تلك عاد )) أي: تلك قبيلة عاد، وصيغة البعد للتحقير، أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم. أما إذا كانت الإشارة لمصارعهم، أي: تلك مصارع عاد فهي للبعيد المحسوس، لبعد الأماكن التي أهلكوا فيها، وديارهم باقية إلى الآن. قوله: (( جحدوا بآيات ربهم )) فالجحود هنا تعدى بالباء حملاً له على الكفر؛ لأنه المراد، أو بتضمينه معناه، فضمن (جحد) معنى (كفر) فلذلك عديت بالباء. كما أن (كفر) تجري مجرى (دحض) فتتعدى بنفسها، كما في الآية الآتية: (( ألا إن عاداً كفروا ربهم )). قال تعالى: (( جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ )) أي: كفروا بالله وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته. وجمع الرسل في قوله: (( وعصوا رسله )) مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لشدة كفرهم وعنادهم، ولبيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد، كما قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]؛ ولأن الكفر برسول واحد يعني الكفر بجميع المرسلين قال عز وجل: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123] وفي آية أخرى، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]، مع أن المرسل إليهم رسول واحد؛ والإيمان بجميع الرسل شرط في صحة الإيمان، وقد ذكرنا مراراً أن حقائق الإيمان مرتبطة ومتلازمة بحيث لا ينفك بعضها عن بعض، فإذا اختل واحد منها اختل الإيمان كله، فمثلاً لو أن واحداً آمن بجميع الأنبياء ثم استثنى نبياً واحداً وكفر به، فهذا يهدم إيمانه بجميع الأنبياء، فيصدق عليه أنه كفر بجميع الرسل وجميع الأنبياء، فكذلك هنا قوله تعالى: (( جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله )). (( واتبعوا )) أي: أطاعوا في الشرك (( أمر كل جبار عنيد )) لا يستدل بدليل ولا يقبله من غيره، يريد بذلك رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ...)

    قال تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود:60]. (( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة )) أي: جعلت اللعنة تابعة لهم ولازمة لهم في الدارين. قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، ولم يقل: وجعلت عليهم اللعنة وإنما قال: (( وأتبعوا )) يعني: أنها لازمة لهم لصيقة بهم، أينما ذهبوا، فهي لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم حيثما داروا، وذلك بسبب اتباعهم رؤساءهم جزاءً وفاقاً. وهذه إشارة إلى قاعدة: الجزاء من جنس العمل، لأنهم كما في الآية السابقة: (( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ))، فلما اتبعوا رؤساءهم في الكفر كان جزاؤهم: (( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، أي: هذا جزاء متابعتهم رؤساءهم في الكفر والعناد والتجبر، فعوقبوا من نفس الجنس بأن أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة. (( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ )) أي: إذ عبدوا غيره، وسبق أن أشرنا إلى أن كفروا هنا تعدت بنفسها بدون حرف الباء. (( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ )) دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت ما لا يخفى فظاعته. وتكرار حرف التنبيه (ألا) للمبالغة في تهويل حالهم والحث على الاعتبار بنبئهم. وقوله: ((ألا بعداً لعاد قوم هود)) هذا عطف بيان لعاد (( ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود )) الفائدة المزيدة هنا هي النسبة بذكر هود عليه السلام، وفيها إشارة إلى أنهم ما استحقوا هذه الهلكة إلا بإعراضهم عن دعوة نبيهم هود عليه السلام، ولذلك قال: (( ألا بعداً لعاد قوم هود )) كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه عليه السلام. وهنا تناسب أيضاً بين أواخر الآيات؛ لأنه قال قبلها: (( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ))، وقبل ذلك: (( حَفِيظٌ ))، و(( غَلِيظٍ ))، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القواسم، وهنا ختمت الآية بقوله: (( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً ...)

    قال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]. (( وإلى ثمود )) عطف على ما سبق بيانه من قوله: (( وإلى عاد )) أي: وأرسلنا إلى ثمود وهي قبيلة من العرب (( أخاهم صالحاً )) أي: واحداً منهم. ((قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ)) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقكم وكونكم من الأرض ولم يشركه غيره في خلقكم، فإنه خلق آدم من التراب. (( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )) أي: عمركم فيها، أو جعلكم قادرين على عمارتها، كقوله تعالى في سورة الأعراف: وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [الأعراف:74]. (( فَاسْتَغْفِرُوهُ )) أي: من الشرك. (( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ )) بالتوحيد. (( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ )) أي: قريب الرحمة لمن استغفره، مجيب الدعاء بالقبول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا ....)

    قال تعالى: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62]. (( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا )) أي: قد كنت قبل أن تقول هذا الكلام الذي تقوله الآن رجلاً عاقلاً رشيداً، وكنا نؤمل أن ننتفع بعقلك وذكائك وحكمتك، وأن تكون مسترشداً في التدابير، نستبصر برأيك في الأمور، فلما نطقت بهذا الكلام انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. انظر إلى عفن عقولهم، هو يقول لهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61] وهم يسفهونه، فلا يعجب المرء إذاً حينما يسمع من ملاحدة هذا الزمان نفس الأسلوب، فهم يتكلمون عن أهل الدين وأهل التوحيد ويصفونهم بأنهم متخلفون عقلياً، ويظهرون المتدين بصورة الإنسان المخبول أو المهووس أو المجنون أو الذي يخرف، أو الجاهل الذي لا يعي ولا يعقل ولا يفلسف الأمور، كما سبق من قول قوم نوح له: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27] ويقولون: نحن المفكرون، نحن المثقفون، نحن المتنورون، أما أنتم فجماعات ظلامية. ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالشاهد أننا لا نعجب؛ فهذه سنة الله سبحانه وتعالى تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، نفس الأسلوب يتكلمون كأنهم على الحق الذي لا حق بعده، وكأن أهل التوحيد وأهل الطاعة وأهل الإسلام الذين يدعونهم إلى توحيد الله عز وجل متطرفون مخبولون مهووسون، إلى آخر ما يهذون به ويفترون. فانظر هذه كانت ردود الكافرين على الأنبياء الذين هم أشرف الخلق عند الله سبحانه وتعالى، فقد قالوا لنوح عليه السلام: وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9]، وقال قوم هود عليه السلام لهود: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، ويقول قوم صالح لنبيهم: (( يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا )) أي: ما الذي حصل في عقلك؟ قد كنا نؤمل أن ننتفع بهذا العقل، أما الآن فلا رجاء فيك! (( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا )) أي: من الأوثان. (( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه )) أي: من التوحيد. (( مريب )): موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ...)

    قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود:63]. ((قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ)) أي: أخبروني ((إن كنت على بينة من ربي)) أي: حجة ظاهرة وبصيرة ليست من عند نفسي بل هي من ربي. ((وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً)) أي: هداية ونبوة. ((فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ)) أي: من ينجيني من عذاب الله إن عصيته بأن أجاريكم في أهوائكم، وإن أنا وافقتكم؟! ((فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)) أي: ما تزيدونني باستتباعكم إياي وبطلبكم أن أتابعكم على ما أنتم عليه غير أن تجعلوني خاسراً بتعرضي لسخط الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية)

    قال تعالى: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [هود:64]. ((وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ)) هذه الإضافة إضافة تشريف كما تقول: بيت الله، كلمة الله، روح الله، في عيسى عليه السلام، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخلق. أي: أن هذه الناقة مغايرة لما تألفونه وتعرفونه من النوق. ((لَكُمْ آيَةً)) أي: معجزة دالة على صدق نبوتي، هم رأوا الناقة وقد خرجت من صخرة من الجبل، آية من آيات الله. ((فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)) من فرط غضب الله عليكم لاجترائكم على الآية المنسوبة إليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ...)

    فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]. لقد أخبر عز وجل بأنهم لم يسمعوا قوله ولم يطيعوه بعد رؤية هذه الآية، فقال سبحانه: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]. (( فعقروها )) أي: قتلوها. (( فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب )) غير مردود. قال في الإكليل: استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثاً، وفيه دليل على أن للثلاثة نظراً في الشرع، ولهذا شرعت في الخيار ونحوه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود:67]. (( فلما جاء أمرنا )) أي: عذابنا وهو الصيحة. (( نجينا صالحاً والذين معه برحمة )) أي: بسبب رحمة عظيمة، فالباء سببية. (( ومن خزي يومئذ )) وهو هلاكهم بالصيحة. (( إن ربك هو القوي العزيز )) أي: القادر على كل شيء والغالب عليه. ((وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)) أي: من جهة السماء، فرجفوا رجفة الهلاك. ((فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)) أي: هامدين موتى لا يتحركون، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود ...)

    قال تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود:68]. ((كأن لم يغنوا فيها)) أي كأن لم يقيموا في مساكنهم. (( ألا إن ثمود كفروا ربهم )) أي: فأهلكهم. ((ألا بعداً لثمود)) أي: هلاكاً ولعنة لبعدهم. وآثار ثمود قوم صالح ما زالت حتى الآن باقية، وهي عبارة عن مجموعة كتل من سلاسل جبلية من الصخر منحوتة كالمعابد، ولكني ما رأيت فيها تماثيل، وهي منحوتة كالقصور في منتهى الفخامة والضخامة، وكانوا يجوفون الجبل من الداخل وتنحت فيه البيوت والسلالم والأبواب والدواليب، ويسافر براً على طريق تبوك يجدها، لأن هذه الطريق تؤدي إلى ديار ثمود، والعلماء في السعودية -جزاهم الله خيراً- يحرصون على عدم التركيز وإلقاء الضوء والاهتمام على مثل هذه الآثار. أما إذا كان الشخص عابر سبيل ومر بها فله ذلك، لكن يكون باكياً، ويسرع في السير حتى لا يحل به من العذاب ما حل بهؤلاء القوم، وهذه هي السنة عند المرور على مصارع الظالمين. فالمكان الذي نزلت فيه اللعنة لا ينبغي الذهاب إليه على سبيل الاسترواح والترفيه، لكن إذا مر عليها الإنسان فيمر معتبراً باكياً، ويسرع كي لا يصيبه ما أصابهم، وهذا الحكم عام لكل مكان نزلت فيه اللعنة، كأماكن الفراعنة، والأماكن التي نزل فيها العذاب، كبحيرة قارون وغيرها من الأماكن. أما ما جاء في الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على مقابر المشركين فليس في محل بحثنا، بل كلامنا يختص بالمكان الذي نزل فيه العذاب كديار ثمود مثلاً.

    الكلام على التنقيب عن الآثار القديمة وأهدافه

    فالحمد لله أن السعوديين لا يهتمون بموضوع الآثار، بل بالعكس يحاولون عدم الاهتمام بها؛ لذلك لما جاءت بعض البعثات الأمريكية تلح على الحكومة السعودية أن تجري عملية حفر في منطقة الأحقاف بحثاً عن الأماكن الأثرية وهي مواطن عاد بعدما اكتشفوا مدينة إرم تباطئوا في ذلك؛ لأن كثيراً من محاولات الاستكشاف والبحث عن الآثار تهدف إلى إحياء التاريخ القديم وإلهاء الناس كما حصل مع علم المصريات القديمة، وذلك حتى يحاربوا به دعوة التوحيد، وقد وصل الأمر إلى حد أن تدرس في كتب التاريخ تفاصيل الشرك للأطفال: الإله كذا عمل كذا، والإله كذا تزوج الإلهة الفلانية، وإله القبط عمل كذا، وآمون وأخناتون .. إلخ، ويدرس هذا الشرك دون أن ينتقد فالضحايا هم الصغار. فلذلك يتفطن العلماء في بلاد الحرمين لذلك، فلا يحاولون أبداً تركيز الأضواء حتى على أتفه الأشياء، فمثلاً القلعة التي توجد خلف الحرم، (قلعة أجياد) لا يوجد أحد التفت إليها، ولو كانت في مكان آخر لسلطت عليها الأضواء واحتفلوا بها احتفالاً عظيماً. أمر آخر: أن البعثات الأمريكية واليهودية تأتي تحت أسماء مستترة بحجة التنقيب والكشف عن الآثار، وهم يبحثون عن المعادن المشعة لليورانيوم ونحوه كما فعلوا مع السودان، فهم بعد أن يحصلوا على هذه الأشياء يهربون بها. ولعل هذا هو السبب في عدم استجابة السعودية لطلب هذه البعثات للتحري عن آثار قوم هود أو إرم ذات العماد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى)

    وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]. لقد أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة، بقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)). (( ولقد جاءت رسلنا )) أي: الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط. (( إبراهيم بالبشرى )) أي: بولد يولد له، وولد ولد بعده. (( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ))، وهذا دليل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق؛ لأنه لو كان الذبيح هو إسحاق، فكيف تأتي البشرى تبشره بإسحاق وأنه سوف يكبر ويولد له، وفي نفس الوقت يؤمر بذبحه؟! فهذا مما يدل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق. ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سروراً؛ ليكون التبشير سروراً فوق سرور، حيث: (( قَالُوا سَلامًا ))، أي: سلمنا عليك سلاماً. (( قَالَ سَلامٌ )) أي: عليكم سلام، أو سلام عليكم؛ إجابة لهم. وقوله: (سلامٌ) أحسن من قول: (سلاماً)؛ أي أنه حياهم بأحسن من تحيتهم التي ابتدءوه بها؛ وذلك لأن الرفع أدل على الثبوت والدوام من النصب. ثم أشار إلى إحسانه وضيافتهم بقوله: (( فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ )) أي: مشوي سمين يقطر منه الودك، لأنه قال هنا: (( حنيذ )) أي: مشوي، وقال في موضع آخر: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26]. وأظهر الأقوال في (ما) أنها نافية، (( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]. ((فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ)) أي: لا يمدون إليه أيديهم، لا يتناولون هذا الطعام. نَكِرَهُمْ أي: أنكرهم. ((وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أحس منهم خيفة لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروهاً، الضيف في عادة القوم إذا أتى ليفتك بالإنسان أو بصاحب الدار فإنه لا يأكل من الطعام. ولما علموا منه الخوف بإخباره لهم كما في آية أخرى: قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:52] حينها قَالُوا لا تَوْجَلْ [الحجر:53]. وهنا: (( قَالُوا لا تَخَفْ )) أي: أن عدم أكلنا ليس لأننا نهم بأن نفتك بك أو نريدك بسوء؛ ولكن لأننا ملائكة لا نأكل، ولم ننزل بالعذاب عليكم: ((إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)) يعني: لإهلاكهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ...)

    قال تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. (( وامرأته قائمة فضحكت )) أي: ضحكت سروراً بزوال الخيفة، وذلك أنها سرت لما طمأنتهم الملائكة: وقَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70]. أو ضحكت سروراً بهلاك أهل الخبائث قوم لوط. (( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )) أي يولد لها. والاثنان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنها حكاية عما بعد أن ولدا وسميا بذلك. وفي توجيه البشارة إليها هنا مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى كقوله: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101]، وقوله: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28]، أن هذا إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورود البشرى، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن ذكر الآخر، وحيثما قال تعالى: (( فبشرناه بغلام حليم )) نقول في تفسيرها: فبشرناه وبشرناها بغلام حليم، لكن في الآيات التي ذكر فيها إبراهيم يكون المقام أمس بإبراهيم، أما في هذه الآية فالمقام أمس بامرأته. أو أنها خوطبت للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك وخرق العادة فيه، وهنا كما ذكرنا أن السياق أمس بامرأته؛ لأنه افتتح الحوار بذكرها هنا: (( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )) تمهيداً لقولها: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:72-73] إلى آخره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً ...)

    قال تعالى: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72]. (( قالت يا ويلتى!)) أي: يا عجبي! أصل يا ويلتى! الدعاء بالويل ونحوه عند الجزع والتفجع وشدة المكروه الذي يدهم النفس؛ لكن استعمل نفس التعبير بعد ذلك في التعجب، يا ويلتى بمعنى: يا عجبي. والألف في (يا ويلتى) بدل من ياء المتكلم (يا ويلتي) ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن : (( يا ويلتي )) وقيل: هي ألف الندبة ويوقف عليها بهاء السكت: يا ويلتاه. قوله: (( أألد وأنا عجوز )) أي: وأنا امرأة مسنة؟ والأفصح ترك الهاء في كلمة عجوز، فلا يقال: عجوزة، وقد سمع من بعض العرب (عجوزة)، لكن الأصل أنها لا تؤنث. (( وهذا بعلي )) أي: وهذا زوجي إبراهيم عليه السلام ((شيخاً)). (( إن هذا لشيء عجيب )) أي: إن هذا التوالد من هرمين لشيء غريب لم تجر به العادة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله ...)

    قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73] قوله: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)) أي: أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟ يعني: أن أي امرأة في مثل سن امرأة إبراهيم ورجل في سن إبراهيم عليه السلام قد طعنا في السن وبشرا بولد، ألا يحصل تعجب من هذا؟! نعم يحصل تعجب، لكن الملائكة أنكرت على امرأة إبراهيم أن تتعجب. يقول الزمخشري : إنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فقالوا: ((أتعجبين من أمر الله)) لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: (( رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ )) أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة! فليست بمكان عجب. وقوله: (( رحمة الله وبركاته عليكم )) كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب! إياك والتعجب فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. أي: فالجملة خبرية، وجوز كونها دعاءً بأن يجعل الله عليهم الرحمة والبركة. ثم يقول: وأهل البيت نصب على النداء أو على الاختصاص؛ لأن أهل البيت مدح لهم، إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن. (( إِنَّهُ حَمِيدٌ )) أي: مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم. (( مجيد )) أي: كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر. وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد وتمجده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود:74]. (( فلما ذهب عن إبراهيم الروع )) أي: خيفة إرادة المكروه منهم، والمعنى أنه لما اطمأن قلبه ذهب عنه الروع. (( وجاءته البشرى )) أي: جاءته البشرى بدل الروع. (( يجادلنا في قوم لوط )) أي: في هلاكهم استعطافاً لدفعه. روي أنه قال: أيهلك البار مع الأثيم؟ أتهلكونها وفيهم خمسون باراً؟ فقالوا: لا نهلكها وفيها خمسون، فقال: أو أربعون؟ فقالوا: ولا أربعون.. وهكذا إلى أن قال: أو عشرة؟ فيقولون له: لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة من الأبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة، ثم قال: إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ [العنكبوت:32]. ما موقع (يجادلنا) من الإعراب في قوله: ((فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ))؟ الجواب: هو في الحقيقة جواب (لما)، لكن جيء به في صيغة المضارع على حكاية الحال، وأن (لما) كـ (لو) تقلب المضارع ماضياً، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلاً، أو الجواب محذوف والمذكور دليله أو متعلق به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب)

    قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]. (( إن إبراهيم لحليم )) أي: غير عجول على الانتقام من المسيء، وهذا مناسب لما سبق في الآية: ((يجادلنا في قوم لوط)) أي: يجادل ويناقش كي يدفع العذاب عن قوم لوط، لأن فيهم لوطاً. (( أواه )) أي: كثير التأسف. (( منيب )) أي: راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضى، والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا ...)

    قال تعالى: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود:76]. (( يا إبراهيم! )) أي: قيل له: يا إبراهيم! (( أعرض عن هذا )) الجدال. (( إنه قد جاء أمر ربك )) أي: حكم الله بهلاكهم. (( وإنهم آتيهم عذاب غير مردود )) أي: لا يرده الجدال ولا الدعاء ولا غيرهما.

    1.   

    ما يستفاد من قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ... عذاب غير مردود)

    في الآيات ثمرات: منها أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة على الأب كما هي نعمة على هذا الولد. ومنها أن هلاك العاصي نعمة يبشر بها. وذلك لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق كما في آخر الآية: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. وفسرت البشرى أيضاً بأنها تشمل هلاك قوم لوط، فبشر بإهلاك هؤلاء المجرمين. فإذاً هلاك العاصي نعمة، ولذلك جاء في الحديث أن الشخص إذا مات فإنه يقال: (مستريح أو مستراح منه)، فالمستراح منه هو: الظالم الفاسق الفاجر الذي يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا مات وإذا أهلك يستريح منه الآدميون حتى العجماوات والشجر والحجر. ومنها: استحباب نزول المبشر على من يريد أن يبشره؛ لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك. ومنها: أنه يستحب للمبشر تلقي ذلك بالطاعة شكراً لله تعالى على ما بشر به؛ لأنهم قالوا لها: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73] أي: كان أولى أن تجعلي مكان قولك: يا ويلتى! سبحان الله، أو تشتغلي بتحميد الله عز وجل وتمجيده. وحكى الأصم : أنهم جاءوه في أرض يعمل فيها، فلما بشروه غرز مسحاته وصلى ركعتين. ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل؛ لقول إبراهيم: (سلام) بالرفع كما تقدم تفسيره. ومنها: مشروعية الضيافة والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها. ومنها: استحباب خدمة الضيف ولو للمرأة؛ لقول مجاهد : (( وامرأته قائمة )) أي: في خدمة أضياف إبراهيم، قال في الوجيز: وكن لا يحتجبن كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزاً، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق. ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول وأن صوتها ليس بعورة. كذا في الإكليل. ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته، وسيأتي ذلك أيضاً في آية: (( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ))، لا كما يزعم الشيعة تخصيص أهل البيت بـفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم ...)

    قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]. (( ولما جاءت رسلنا لوطاً )) أي: بعد منصرفهم من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان مقيماً بحبرون، وحبرون هي مدينة الخليل، وفي الإنجليزية تسمى باسم قريب من ذلك. (( سيء بهم )) أي: ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه على صورة مرد حسان الوجوه؛ فخاف أن يقصدهم قومه لظنه أنهم بشر. (( وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا )) ضاق بالأمر ذرعه وذراعه أي: ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصاً. قال الجوهري : أصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله. وقيل: وجه التمثيل أن قصير الذراع لا ينال ما يناله طويل الذراع ولا يطيق طاقته، فضرب مثلاً للذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه. وقال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعاً من ذلك وضعف، ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة. و(( ذرعاً )) تمييز محول عن فاعل، والأصل: ضاق ذرعي به. وشاهد الذراع قوله: وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع (( وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ )) أي: شديد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ..)

    وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78]. كيف لا يشتد عليه والشيء الذي كان يخافه قد حصل؟! وذلك كما في قوله تعالى: (( وجاءه قومه يُهرعون إليه )) أي: يسرعون كأنما يدفعون دفعاً، وقرئ مبنياً للفاعل: (يَهرعون إليه) (( ومن قبل )) أي: من قبل مجيئهم. (( كانوا يعملون السيئات )) أي: الفواحش، ويكثرون منها، فهم قد مرنوا عليها، وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين لا يكفهم حياء، فالجملة (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره، أي: لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك. ثم قال لهم لوط: (( هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ )): أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم. أي: فتزوجوا هؤلاء البنات. أو (( هؤلاء بناتي )) باعتبار أن النبي يكون أباً لأتباعه فيقصد النساء عموماً. أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا ضيوفه. والظاهر أنه عليه السلام كان واثقاً بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما، يعني: مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب، فكان إظهاره وقاية ضيفانه وفداءهم بهن، مع وثوقه المذكور وجزمه مبالغة في الاعتناء بحمايتهم، فهو بذل كل ما يستطيع من أجل حماية ضيفانه، مع أنه كان آيساً من أن يستجيبوا لنصيحته، لكنه قال ذلك قياماً بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح الذي يدوم عاره وشناره، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن، لكي لا ينسب إلى قصور، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة، فهو ما ترك سبيلاً يحمي به ضيفانه إلا سلكه، ومنها: أنه حرضهم على الزواج ببناته وقاية لضيفانه. وقوله: (( هن أطهر لكم )) هذا من التشويق على مرأىً من ضيفانه ومسمع، وفيه ما فيه من زيادة الكرم والإكرام ورعاية الذمام. وبالجملة فهو ترغيب بمحال الوقوع باطناً، وإعذار لنزلائه ظاهراً، والله تعالى أعلم. أي: إذا نطق بهذا الكلام أمام نزلائه وضيفانه يكون قد أعذر نفسه أمامهم، وأنه لم يقصر في حمايتهم. وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة وهي النكاح، وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي. (( فاتقوا الله )) أي: أن تعصوه بما هو أشد من الزنا خبثاً؛ لأن هناك داعية فطرية وطبيعية تدفع إلى الزنا، أما فعل فاحشة قوم لوط فهو أمر تنفر منه الفطرة، فهو أشد خبثاً من الزنا. (( ولا تخزون في ضيفي )) أي: ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم؛ فإنه إذا أهين ضيف الرجل أو جاره، فإن الخزي يصيب الرجل نفسه لأنه لم يحم ضيفانه، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة. (تخزون) مجزوم بحذف النون، وياء المتكلم محذوفة واكتفى عنها بالكسرة، وقرئ بإثباتها: (( ولا تخزوني في ضيفي )). (( أليس منكم رجل رشيد )) أي: فيرعوي عن القبيح ويهتدي إلى الصواب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ...)

    قال تعالى: قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79]. (( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق )) أي: من حاجة، وقد صدروا كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، كأنهم بالرد عليه قالوا: والله لقد علمت ما لنا في بناتك من حاجة! وفي هذا إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقاً وعالماً بعدم رغبتهم فيهن، ويؤيد ذلك قولهم: (( وإنك لتعلم ما نريد )) استشهدوا بعلمه هو، وذلك لعلمه باطناً أنهم لن يستجيبوا لتمكن هذا الأمر القبيح في نفوسهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركن شديد ...)

    قال تعالى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]. (( قال لو أن لي بكم قوة )) أي: لو كنت أستطيع أن أدفعكم وأقاتلكم جميعاً ببدني، أو عندي أولاد كثيرون أستطيع أن أدفعكم بهم، ما كنت قصرت في دفعكم. (( أو آوي إلى ركن شديد )) أي: عشيرة كثيرة؛ لأنه كان غريباً عن قومه عليه السلام، فشبه القبيلة والعشيرة بركن الجبل في الشدة والمنعة. وتقدير الجواب: لو أن لي بكم قوة بنفسي أو بولدي أو كان لي قبيلة عزيزة منيعة لفعلت بكم ما فعلت وصنعت ما صنعت، ولكففتكم عما تريدون. قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الملل: ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح الذي في البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، إنكار على لوط عليه السلام بقوله: (( أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ))، ولا تخالف بين القولين بل كلاهما حق؛ لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين، وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى آكد قوة وأشد ركن، ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]. فهذا هو الذي طلبه لوط عليه السلام، فكونه يستغيث أو يستنجد ببشر فيما يقوى عليه البشر، لا حرج فيه شرعاً؛ لأن هذا من دفع الله الناس بعضهم ببعض. وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه وحمايته حتى يبلغ كلام ربه تعالى: (من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)، فكيف ينكر على لوط أمراً فعله هو صلى الله عليه وسلم؟ إذاً ليس المقصود من الحديث الإنكار على لوط عليه السلام، وإنما أخبر أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط علم بذلك، أي: لم يكن قد شعر أن الملائكة في هذه اللحظة ما جاءت إلا لتنصره، وما جاءت إلا لتنتقم منهم بأمر الله. ثم يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر، وهذا أيضاً ظن سخيف، إذ من الممتنع أن يظن بربه -الذي أراه المعجزات وهو دائماً يدعو إليه- هذا الظن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك)

    قال تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]. ((قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)) يعني: لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا. ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)) أي: بطائفة من آخره، وببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض لك ولا لأهلك. قرئ: (فأسر) بالقطع و(فاسر) بالوصل. ((وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)) أي: لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم، ((إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)) أي: من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت إلى الوراء فهلكت حينئذ، أما هو وسائر أهله فلم يلتفتوا؛ لأنهم نهوا عن الالتفات. قال في الإكليل: فيه أن المرأة والأولاد من الأهل؛ لأنه استثنى الزوجة من الأهل. فهذا دليل أيضاً أن امرأة الرجل من أهل بيته. ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)) أي: موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب. أي أن لوطاً استبطأ العذاب فقالوا: (( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ))؟ بلى. أو ذكرت ليعجل في السير، فإن قرب الصباح داع إلى الإسراع في الإسراء؛ للتباعد عن موقع العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها)

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82]. ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: عذابنا. ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) والجزاء من جنس العمل، فكما قلبوا الفطرة قلب الله عليهم دورهم (( جعلنا عاليها سافلها )) فقلبت تلك المدن بسكانها جميعاً. ((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)) أي: من طين متحجر كقوله: حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات:33]. ((مَنْضُودٍ)) أي: يرسل بعضه في إثر بعض متتابعاً مستمراً. قال المهايمي : اتصلت الحجارة بعضها ببعض؛ ليرجموا رجم الزناة، وذلك يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد)

    مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]. ((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ)) أي: هذه الحجارة معلمة عند ربك. ((وَمَا هِيَ)) أي: تلك الحجارة. ((مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)) أي: ليست من الظالمين بالشرك وغيره ببعيد؛ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها. وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وقيل: الضمير في قوله: (( وما هي من الظالمين ببعيد )) للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بَحْرَ ماءٍ أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، والبحر الميت لا تعيش فيه أسماك ولا كائنات حية على الإطلاق من يومها، بل هو شديد الملوحة والنتن، فمياهه لا تغذي شيئاً من جنس الحيوان، وسمي أيضاً ببحيرة لوط، والأرض التي تليها قاحلة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756252687