إسلام ويب

تفسير سورة التوبة [73-80]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)

    قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]. (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)، قيل: مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف، يعني: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، مع أن ظاهر الآية يقتضي مقاتلتهم جميعاً بالسيف، مع أن المنافقين غير مظهرين للكفر، ونحن مأمورون بالظاهر، فبما أنهم لا يظهرون الكفر وإن كانوا كفاراً في الحقيقة، بل شر من الكفار؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولكن مع أنهم يظهرون الإسلام فقد فسر الآية السلف بغير ظاهر الآية؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام، وأحكام الدنيا تجري على من يظهر الإسلام من الناس، فمن ثم فرق السلف في تفسير هذه الآية بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين، وقالوا: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بالحجة واللسان، كما قال تبارك وتعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52] يعني: بالقرآن الكريم وبحججه؛ وذلك بناءً على أن معنى الجهاد هو: بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء كان هذا الدفع بالقتال أو بغيره، وهو إن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز، فجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج، وإزالة الشبه ونحوه، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجبها، كما روي عن الحسن في هذه الآية. إذاً: المنافقون يكون جهادهم بإقامة الحجج عليهم، ويتنوع هذا الجهاد إما بإقامة الحجة، وبإظهارها عليهم، أو بترك الرفق بهم، أو بالانتهار، أو بزجرهم ونهرهم، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجب هذه الحدود، وهذا روي عن الحسن في تفسير الآية. ورد على هذا التفسير، وهو: أن جاهد الكفار والمنافقين بإقامة الحدود: لا يلزم أن الإنسان إذا كان يفعل شيئاً يستوجب الحد أن يكون منافقاً، يعني لا تختص إقامة الحدود بالمنافقين لكن من عصاة المسلمين أيضاً من يأتي بموجبات إقامة الحد. فأجاب الفريق الذي قال بأن تفسير الآية هو إقامة الحدود عليهم بأن الحدود في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت على المنافقين. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كاملاً لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، فالنفاق الأكبر يتعلق بكتمان الكفر في القلب، ولا يتعلق بالأفعال أو المعاصي التي يظهرها الإنسان، وأخبار المحدودين -الذين أقيم عليهم الحد- في زمن البعثة يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين. فإن قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين ظهر أصحابه فلم يقتلهم مع أنهم شر من الكفار؟ فالجواب: أنه إنما أمر بقتال من أظهر بلسانه كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا اطلع على كفره أنكر وحلف، وقال: إني مسلم؛ فإنه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره. فالقتال هو قتال الكافر الذي يظهر كلمة الكفر، لكن إذا وجد شخص اطلع على أنه قد قال كلمة الكفر، ثم عند المواجهة ينكل عن ذلك، ويقول: ما فعلت، وما قلت، ويحلف الأيمان المغلظة كما هو شأن المنافقين، وأنكر أن يقع منه كفر، وقال: إني مسلم؛ فيعمل حينها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقبل ظاهر أمره ولا يبحث عن سره، كما في الحديث: ( إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق عن بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كثير : روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين، ودليله قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] .. إلى آخره. وسيف للكفار أهل كتاب: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29]، إلى آخره. وسيف للمنافقين وهو في هذه الآية: (( جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ )). وسيف للبغاة: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]). وهذا الكلام إذا صح نسبته إلى علي رضي الله تعالى عنه فهو يقتضي أن يجاهد المنافقون بالسيوف إذا جاهروا بالنفاق، وهذا هو اختيار الإمام شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى. وفي الإكليل: استدل بالآيات من قال: بقتل المنافقين إذا أظهروا النفاق. قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) يعني: شدد على كلا الفريقين بالقول والفعل. (ومأواهم جهنم) في الآخرة (وبئس المصير). قال بعض المفسرين في قوله: (واغلظ عليهم): إن الضمير (هم) يعود إلى الفريقين: الكفار والمنافقين. وقال مقاتل : بل يعود فقط إلى المنافقين. وقال ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: (واغلظ عليهم): يريد شدة الانتهار والزجر لهم، والنظر بالبغض والمقت. وقال ابن مسعود : لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر. قال عطاء : نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح. إذاً: هذه الآية فيها: الزجر، والشدة، والغلظة على هؤلاء المنافقين بعد جهادهم بالحجة وبالبيان، بخلاف ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في حق المؤمنين، فقال في حقهم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقال أيضاً: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. وقال الزمخشري : (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف، (والمنافقين) باللسان، (واغلظ عليهم) في الجهادين جميعاً على الكفار إذا كنت تجاهدهم بالسيف، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] .. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فهذا في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم. ثم قال الزمخشري : وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه؛ يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن. يعني: كل من وقف منه على فساد في العقيدة فله من الغلظة والشدة والزجر ما يليق بفساده، إن كان كافراً فبما يليق بكفره، أو مبتدعاً فبما يليق ببدعته، ولا شك أن الزمخشري نفسه ممن نال حظاً من هذا الزجر والشدة للفساد المعروف في عقيدته، فهو معتزلي، وكم تطاول على أهل السنة والجماعة، فانتصف منه الناصر في الكشاف في الرد عليه كما هو معلوم. وعن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهجهم بالشعر -المؤمن يجاهد بنفسه وماله- والذي نفس محمد بيده! كأنما تنضحهم بالنبل)، وهذا نوع من الجهاد؛ بالقول أو بالكلام أو باللسان، إما بإقامة الحجة، وإما بالغلظة على المنافقين بالشعر أو غير ذلك من أساليب البيان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـحسان بن ثابت في حق المشركين: (اهجهم وروح القدس معك) يعني: يؤيدك ويثبتك، فهذا أيضاً بيان بأن من أنواع الجهاد الغلظة على المشركين، سواءً بالهجاء، أو بإقامة الحجة، أو بالإعراض عنهم، أو بالاكفهرار في وجوههم؛ فكل من ظهر منه نفاق ينبغي أن يعامل بهذه الطريقة. ونلاحظ أحياناً حينما يقوم بعض أهل العلم بالرد على ملاحدة هذا الزمان وزنادقته ومنافقيه من الصحفيين أو بعض الشيوخ الضالين، كهذا الضال المضل الذي يطعن في الصحابة ويكفرهم وهو أحد الشيوخ الضالين؛ فتحت له (روز اليوسف) أبوابها، ونشرت له حواراً في هذه الأفكار الضالة المضلة في التطاول على أبي بكر وعمر ، وهي نفس أفكار الشيعة من إباحة نكاح المتعة وغير ذلك من الضلال المبين، ومع ذلك نجد بعض الناس كما فعلوا من قبل أيضاً مع نجيب محفوظ وغيره؛ نجده يقول: أستاذي الكبير نجيب محفوظ قال: كذا وكذا! وهذا لا ينبغي، ويتكلمون بطريقة فيها لين في غير موضع اللين، وتعظيم لإنسان كافر أو فاسق أو مبتدع أو منافق أو قل ما شئت، فمثل هذا يتنافى مع هذا الأدب الذي علمناه القرآن مع المنافقين: (( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))، فلا يقال في حق أمثال هؤلاء الصحفيين، أو الذين يسمونهم مفكرين: الأستاذ الكبير، ولا يذكر بنوع من الاحترام والتوقير، ونحو ذلك من الكلام المهذب الذي لا يليق بهؤلاء المعتدين المتطاولين على دين الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا نقع في هذا الفخ، وألا نظهر أي نوع من الاحترام أو التقدير لمن شاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا...)

    قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:74]. (يحلفون بالله ما قالوا) يعني: يحلفون بالله ما قالوا فيك شيئاً يسوءك، وينكرون الكلام الذي قالوه. (ولقد قالوا كلمة الكفر) اختلف العلماء في المقصود بكلمة الكفر: قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله سبحانه وتعالى من الفتح. وقيل: هي قول الجلاس بن سويد -كما سيأتي- : إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير. وقيل: هي قول عبد الله بن أبي : يا بني الأوس والخزرج! ألا تنصرون أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. وقال أيضاً: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فهذه هي كلمة الكفر. وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. (وكفروا) يعني: أظهروا الكفر. (بعد إسلامهم) يعني: بعد أن أظهروا الإسلام، وهم لم يكونوا مسلمين، فهم كفار في الحقيقة، لكن أظهروا الكفر بعد أن كانوا يظهرون الإسلام. وقوله تعالى: (وكفروا بعد إسلامهم) متعلق بالظاهر في الحالين فقط، فهم قد أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3]، وفي هذا دليل قاطع على أن المنافق كافر.

    سبب نزول قول: (يحلفون بالله ما قالوا...)

    قال قتادة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ، وذلك لما اقتتل رجلان جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري -تشاجرا والجهني غلب الأنصاري وعلا عليه- فقال عبد الله بن أبي رأس المنافقين للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، وقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فسعى بها رجل من المسلمين -هو زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله فيه هذه الآية. إذاً: هذا دليل من قال: إن هذا هو المراد بكلمة الكفر في قوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر). وروى الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت وكان ممن تخلف من المنافقين، لما سمع ما ينزل فيهم قال: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد وكان في حجره -لأنه كان ابن امرأته- فقال: والله يا جلاس ! إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاءً، وأعزهم علي أن يصله شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولأحداهما أهون علي من الأخرى -يعني: هذا مما لا يسكت عليه- فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال هذا، فأنزل الله عز وجل فيه: (( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ))، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وتلا عليه هذه الآية وسمع الجلاس قوله تعالى: (( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )) إلى آخره، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع. إذاً هناك قول: بأنها نزلت في حق عبد الله بن أبي ، وقول: بأنها نزلت في حق الجلاس بن سويد بن الصامت ، وهناك قول ثالث ولعله أرجح وأصح، وهو: أن هذا هو قول جميع المنافقين. إذاً: هذه الآية ليست في شخص بعينه وإنما تشمل هذين الرجلين، وتشمل غيرهما من المنافقين، وهذا هو قول الحسن البصري . وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وهو الصحيح؛ لعموم القول، ووجود المعنى فيه وفيهم. لو تأملتم الآية: (يحلفون بالله ما قالوا) جمع، (ولقد قالوا) جمع (كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا)، وهكذا تلاحظون صيغ الجمع كثيرة في هذه الآية، قال ابن العربي: لعموم القول ووجود المعنى في هؤلاء وفي غيرهم ممن فعل مثل فعلهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي عليه الصلاة والسلام. (ولقد قالوا كلمة الكفر)، كل هذه الأفعال إنما يجمعها شيء واحد، وهو: أنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال القاضي : يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع -يعني: أن يكون فقط المقصود بالآية وقائع معينة سواء واقعة عبد الله بن أبي أو غيره- وذلك لأن قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) .. إلى آخره، كلها صيغ الجموع، وحمل صيغ الجمع على الواحد خلاف الأصل، فإن قيل: قد يكون نزلت في واحد، لكن سمع هذا الكلام جملة من المنافقين فأقروه، فمن ثم نزلت، فيقال: إن هذا أيضاً خلاف الأصل، فهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مفسرة لهم مما هو من هذا القبيل، وإن لم يمكن تعيين شيء منها في هذه الآية الكريمة.

    سبب نزول قوله: (وهموا بما لم ينالوا)

    قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) هموا أن يفعلوا شيئاً لم يمكنهم الله منه، قال ابن كثير : قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد ؛ وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ففيهم نزلت هذه الآية. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد قال: أخبرني الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد). والعقبة هي ارتفاع كبير في الجبل، ويكون على حافة الهاوية، فنادى المنادي أن الرسول عليه السلام مشى الآن في العقبة فلا يقرب أحد منها؛ لأنها ستكون ضيقة، وقد يؤدي الازدحام إلى خطر السقوط. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود دابته من الأمام حذيفة ويسوق به من الخلف عمار ؛ إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله تعالى عنه يضرب وجوه الرواحل، ليطردهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: أن حذيفة قال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لـحذيفة : قد قد، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار فقال: يا عمار ! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: أرادوا أن ينفروا -يعني الناقة- برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه!) فساب عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، قال: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. هذا ما قيل في قوله تعالى: (( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )) أي: بما لم يمكنهم تحقيقه من الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم. (ما نقموا) يعني: ما أنكروا وما عابوا، (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) يعني: أعطاهم الله ورسوله من فضله، فعملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم وتفضله عليهم النقمة، ولا ذنب له إلا تفضله صلى الله عليه وسلم عليهم! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا في مثل قوله تبارك وتعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82] أي: تجعلون شكر النعم والرزق الذي ساقه الله إليكم أنكم تكذبون رسل الله، وتكفرون بالله، فهل هذا الكفر والجحود يصلح في مقابلة إحسان الله إليكم؟! هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، فهذا على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك! فهذا ليس في الحقيقة ذنباً، ومنه قولهم في المثل المشهور: (اتق شر من أحسنت إليه)، وقد قيل للبجلي : أتجد في كتاب الله تعالى: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم. (( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )). ومن هذا الباب أيضاً قول ابن قيس الرقيات : ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا تصلح إلا عليهم العرب فالشاهد هنا في قوله: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم، أي: قبيلة أمية يحلمون ويصطبرون إن غضبوا، فهل هذا ينقم؟ هذا لا ينقم وهذا لا ينكر. ومنه أيضاً قول النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يمدح قومه ويقول: لا شك أن فلول السيف كناية عن الشجاعة؛ لأن السيف يكون فيه خدش من شدة القتال والبأس، فهذا في الحقيقة ليس ذماً، وهذه مبالغة وتوكيد للمدح بما يشبه الذم، ظاهره الذم لكن يراد به المدح. ويقال: نقم من فلان الإحسان كعلم، إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة.

    دعوة الله المنافقين إلى التوبة

    دعا الله تعالى المنافقين إلى التوبة فقال عز وجل: (( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )). (فإن يتوبوا) أي: من الكفر والنفاق، وبعض المفسرين ذهب إلى أن المعنى: إن يأتوا طوعاً تائبين، والمقصود بهم أن هذا في حق الزنادقة، فالزنديق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر. (فإن يتوبوا) إن أتوا بعدما فعلوه تائبين بأنفسهم فتقبل توبتهم، أما إن ادعوا -الزنادقة- التوبة بعد القدرة عليهم فلا تقبل، وللعلماء خلاف في هذه المسألة، فمن ثم فسروا قوله تعالى: (فإن يتوبوا) يعني: إن يأتوا تائبين طوعاً لأنفسهم، بخلاف ما إذا تابوا بعدما قدر عليهم. (فإن يتوبوا) من الكفر النفاق، (يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) يعني: بالقتل والهم والغم، وقيل: بالعذاب الذي يلقونه عند معاينة الملائكة والاحتضار، وقيل: عذاب القبر، (والآخرة) أي: بالنار وغيرها. (وما لهم في الأرض من ولي) يشفع لهم في دفع العذاب، (ولا نصير) أي: معين فيدفعه عنهم بقوته، فلا يستطيع أن يشفع لهم، ولا هو نفسه يستطيع أن يدفع عنهم العذاب الذي يستحقونه. وقيل: المراد بقوله تعالى: (فإن يتوبوا يكن خيراً لهم) استعطاف قلوبهم بعدما صدرت عنهم الجناية العظيمة، وليس الأمر على ظاهره، ولا يؤخذ من ظاهر هذه الآية أنهم تابوا بالفعل، وليس في ظاهرها إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، لكن لا يستدل بالآية على أنهم تابوا بالفعل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ...)

    ثم بين تبارك وتعالى بعض من نقم بإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله، وذكر أنموذجاً من هؤلاء المنافقين ممن أغناهم الله تبارك وتعالى بما آتاهم من فضله، ثم نكث في يمينه وتولى عن التوبة، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [التوبة:75]. (ومنهم من عاهد الله) أي: حلف به، (لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) يعني: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في وجوه الخير. (ولنكونن من الصالحين) يعني: نعطي كل ذي حق حقه. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:76]. (فلما آتاهم من فضله) ما طلبوا من المال (بخلوا به) ولم يفوا بما عاهدوا، (وتولوا) من العهد وهم معرضون عن عهدهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم ...)

    قال الله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:77]. (فأعقبهم نفاقاً) إعرابها: مفعول ثاني، (فأعقبهم) أي: فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً، وهناك تفسير آخر وإن كان مرجوحاً، فبعض المفسرين قالوا: فأعقبهم البخل نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، (إلى يوم يلقونه) قالوا: يلقون بخلهم، على أن الهاء تعود إلى البخل، يعني: يلقون جزاء البخل. والراجح أن الهاء تعود إلى الله سبحانه وتعالى أي: فأعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم إلى يوم لقاء الله سبحانه وتعالى في الآخرة. (بما أخلفوا الله ما وعدوه) من التصدق والصلاح، (وبما كانوا يكذبون) في العاقبة. لماذا قلنا: إن هذا تفسير غريب مرجوح؟ لأن البخل قد يحصل من كثير من الفساق، ولا يستلزم البخل وقوع النفاق في القلب، إذ قد يبخل الإنسان ولا يستلزم ذلك أن يعاقب بالنفاق في قلبه، ولا يحصل معه نفاق. كذلك قوله تبارك وتعالى: (إلى يوم يلقونه) الظاهر أنها في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي أعقبهم نفاقاً. قوله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) هذا توبيخ، ومعنى (وأن الله علام الغيوب) يعني: أنه سوف يجزيهم على ما فعلوا. (سرهم) أي: ما أسروه من النفاق والعزم على عدم إحداث ما وعدوه، (ونجواهم) أي: ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، (وأن الله علام الغيوب) أي: ما غاب عن العباد.

    عدم صحة قصة ثعلبة بن حاطب

    هنا قصة مشهورة ينسبونها إلى ثعلبة بن حاطب ، وهي من القصص التي يعجب بها القصاص ويكثرون تردادها، وهي ما ينسب إلى ثعلبة بن حاطب أنه قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، قال: (ويحك يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه)، قال: والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً؛ فنمت حتى ضاقت أزقة المدينة من كثرتها فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها -يعني: في البداية كان يشهد صلاة الجماعة، ثم بعدما يصلي يخرج إلى الغنم- ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها فكان يشهد الجمعة فقط، ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات، ثم أنزل الله على رسوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، فاستعمل على الصدقات رجلين وكتب لهما كتاباً، فأتيا ثعلبة فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم فمرا بي، ففعلا فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! فانطلقا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77]. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، وفيه: أنه جاء فيما بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، فقال له: (إن الله منعني أن أقبل منك)، فجعل التراب على رأسه، فقال: (هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني)، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم إلى عمر وعثمان ، ثم هلك في أيام عثمان . وهذه القصة ليست صحيحة بأي حال من الأحوال، بل سندها ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. قال الشهاب : مجيء ثعلبة وحثوه التراب ليس للتوبة من نفاقه، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين. وهذا التعليل مبني على صحة هذه القصة، لكن هناك نقاش تفصيلي في عدم صحة هذه القصة، وهناك رسالة مستقلة صنفها بعض طلبة العلم في إبطال هذا الحديث، فينصح بمراجعتها، ومما يبطل به هذه القصة: أنها -تزعم- أنها نزلت في رجل بدري، والرسول عليه السلام قال في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ومعنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى علم من أهل بدر أنهم كلما أحدث الواحد منهم ذنباً أحدث توبة، حتى يختم له بالتوبة ويغفر الله سبحانه وتعالى له. وقيل: إن هذا الصحابي قد استشهد في غزوة أحد، فهذه القصة لا تصح بحال، وإن كان ذلك سيحزن كثير من القصاصين الذين يولعون بذكرها!

    ضابط النفاق المراد في الآيات

    يؤخذ من هذه الآية: أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان. وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، لقوله: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه). واستدل بها آخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه، كما فعل بمن نزلت الآية فيه، وهذا يحتاج إلى دليل صحيح، والدليل ليس بصحيح كما ذكرنا. وقال الرازي : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد؛ يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. ومذهب الحسن البصري في هذه الآية: أن هذا يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية الكريمة، فكان الحسن البصري يرى أن من نقض العهد وأخلف الوعد يصير بذلك منافقاً نفاقاً أكبر، وتمسك بهذه الآية، وتمسك أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). لكن رد عليه بعض العلماء مثل الرازي في تفسيره. وقوله تعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) هذا دليل على أن الناس الذين نزلت فيهم هذه الآية يموتون على النفاق، والهاء تعود للفظ الجلالة، والمراد باليوم: يوم القيامة، وله نظائر كثيرة في التنزيل.

    رؤية الله يوم القيامة

    اللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان مناسباً لحالهم، ولا يفسر هنا أنهم يرون الله سبحانه وتعالى، بل اللقاء هنا بحسب من ينسب إليه، فإذا كان اللقاء في حق المؤمنين فله تفسير يليق بالمؤمنين، وإن كان في حق الكفار فهو بما يليق بحالهم. فاللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاءً مناسباً لحالهم من وقوفهم للحساب عنده تبارك وتعالى؛ لأنهم ليسوا أهلاً لرؤية الله تقدس اسمه، وإذا أضيف إلى المؤمنين كما في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، فهذه لقيا مناسبة لمقامهم، وفيها رؤيته تبارك وتعالى، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين، مما يتنزل مثل ذلك عليها. فمن وقف في بعض الآيات على لفظة واحدة، وأخذ يستنبط منها، ولم يراع ما استعملت فيه وأطلقت عليه، كان ذلك جموداً وتعصباً لا أخذاً بيد الحق، والمقصود بهذا الرد على الجبائي المعتزلي، وهو من رءوس المعتزلة، فـالجبائي أفاض وأطال في تفسير قوله تبارك وتعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) وقال: إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تبارك وتعالى، وللإجماع على أن الكفار لا يرونه تبارك وتعالى، فكلمة اللقاء في حد ذاتها لا تفيد الرؤية، وهذا صحيح في حق الكفار، لكنه أراد تعميمها ليستدل بها على نفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة! فقال: كما أن لفظ اللقاء لا يفيد رؤية الله في حق الكفار، فهو لا يفيد أيضاً في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، فـالرازي ناقشه بأن قال: صحيح هذه الآية لا تفيد رؤية الله في الآخرة، لكن رؤية الله في الآخرة بالنسبة للمؤمنين ثابتة من أدلة أخرى في القرآن والسنة. أما الجواب الذي ذكره القاسمي فهو أقوى وأمتن، فإنه قال: إن اللقاء يفسر في حق كل فريق بما يناسب حاله؛ ففي حق الكافر: يلقى الله لكنه يحجب عن الله؛ لأنه لا يستحق أن يرى الله، وليس أهلاً لذلك في الآخرة، أما في حق المؤمنين فلقاء الله يفسر في ضوء النصوص الأخرى التي أثبتت رؤية المؤمنين لربهم عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات...)

    ثم بين تبارك وتعالى نوعاً آخر من مطاعن المنافقين ومساوئهم، وهو لمزهم المتصدقين، فقال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]. (الذي يلمزون) يعني: يعيبون، (المطوعين) أي: المتبرعين، (من المؤمنين في الصدقات) فيزعمون أنهم تصدقوا رياءً، (والذين لا يجدون) يعني: ويلمزون الذين لا يجدون (إلا جهدهم). ويفهم من هذا: أن المطوعين هم الذين أنفقوا نفقة كبيرة، وذلك للمغايرة بين المطوعين وبين الذين لا يجدون إلا جهدهم -كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى-، فهم يلمزون المتبرعين، وهؤلاء المتبرعون يأتون بمال كثير لأنهم أغنياء، فيقولون: هؤلاء ما تصدقوا إلا رياءً، فإذا أتى الذين لا يجدون إلا جهدهم وهم مؤمنون، وما يملكون شيئاً فتصدقوا بجهد المقل؛ يقولون: إن هذا أحوج لصدقته التي يتصدق بها. (والذين لا يجدون) يعني: ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلاً، فيقولون عنهم: ماذا يفعل هذا الصاع من التمر أو نحو هذا؟! أو يقولون: إن الله غني عن مثل هذه الصدقة القليلة! (سخر الله منهم) أي: جازاهم على سخرهم بأن: (سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).

    سبب نزول قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين..)

    روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل أي: نحمل الحمل على ظهورنا والأشياء الثقال مقابل أجرة، ثم نأخذ هذه الأجرة حتى نتصدق بها في سبيل الله، لماذا؟ لأنه ربط هذا الفعل بنزول آية الصدقة، فحرصاً منهم على الصدقة رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون ذلك! يقول أبو مسعود البدري : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء! وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا! فنزلت: (( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ )). وروى الإمام أحمد عن أبي السليل عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة؟)، فجاء رجل لم أر رجلاً أشد منه سواداً ولا أصغر منه، ولا أذم -يعني: من أشد الناس ذمامة- بناقة لم أر أحسن منها، فقال: يا رسول الله! دونك هذه الناقة، قال: فلمزه رجل فقال -والعياذ بالله-: هذا يتصدق بهذه! فوالله لهي خير منه! المنافق يقول: إن الناقة أفضل من هذا الرجل، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كذبت! بل هو خير منك ومنها -ثلاث مرات- ثم قال: ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله) ، يعني: إلا من وزع المال وأعطاه في سبيل الله تبارك وتعالى. وقال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي أخا بني عجلان؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل أخا بني أنيس أتى بصاع من تمر فأفرغها في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل . هؤلاء المنافقين قالوا: إن هذا -بسبب فقره- أحوج إلى الصدقة، فكيف يتصدق بها؟! والجواب عن ذلك أن هذه من أخلاق المؤمنين، وهذه من موجبات الفضيلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى امتدح المؤمنين بقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فهو أحوج إلى هذه الصدقة من هذا الذي ينفقها فيه، لكنهم مؤمنون صادقون يتصفون بقوله تبارك وتعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، وقوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: حاجته إليه. وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما لربي وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله! أصبت صاعين من تمر: صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟! فأنزل الله الآية). وقوله صلى الله عليه وسلم: (أريد أن أبعث بعثاً) أي: لغزو الروم، وذلك في غزوة تبوك؛ لأن هذه السورة في شأن غزوة تبوك.

    تنبيهات في إخراج الصدقات

    هاهنا بعض التنبيهات المهمة: أولاً: الصدقة أو إنفاق المال ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، إما أن يكون واجباً مفروضاً كالزكاة، وإما أن يكون نافلة، وهو المراد هنا، لقوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين)، وأصلها: المتطوعين، فهذا يدل على أن المقصود هنا صدقة النافلة أو التطوع. ثانياً: أن الآتي بالصدقة إما أن يكون غنياً وإما أن يكون فقيراً، فالغني لغناه يأتي بالصدقة الوفيرة الكثيرة كـعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، والفقير يأتي بالصدقة القليلة ويأتي بجهد المقل، ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب، فمن حيث الثواب لا ينظر إلى قدر الصدقة؛ لأن المقصود من الأعمال الظاهرة النية، واعتبار حال الدواعي والفوارق، فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله سبحانه وتعالى من الكثير الذي يأتي به الغني. ثالثاً: أن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور؛ لأن نظرهم قاصر فهم نظروا للكمية وللقدر، فالذي أتى بالكثير قالوا: هذا رياء، والذي أتى بالقليل قالوا: هذا أحوج إلى صدقته، فما كان يتجاوز نظرهم ظواهر الأمور، فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة على أساس أن هذه لا يرجى من ورائها ثواب لأنها قليلة، وهذا قد أبطله قول النبي عليه الصلاة والسلام: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم سبق وحاز على أجر أفضل من أجر رجل تصدق بمائة ألف درهم! قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟! قال: (رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف). فإذاً كما يقال: نية المؤمن أبلغ من عمله، فالإنسان يجازى على قدر همته، فهذا الرجل كل الثروة التي يملكها درهمان اثنان فقط، فماذا فعل؟ لا نقول تصدق: بدرهم، لا بل نقول: تصدق بنصف ما يملك، أما الرجل الآخر فله مال كثير، فأخذ من عرض هذه الأموال، فهو عمد إلى جانب من جوانب هذا المال فأخذه، فكان مائة ألف درهم، فبالنسبة للمال الذي يملكه هو دون النصف بكثير، لكن هذا همته أنه تصدق بنصف ماله، أما هذا فجزء يسير من عرض ماله. وهذا رجل لفقهه تصدق بنصف ماله، درهم له وأمسك درهماً لنفقته أو نفقة عياله، فإذاً الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى، وعلى قدر الهمة، وحال المتصدقين، فصاحب الدرهم أعطى نصف ماله وهو في حالة لا يعطي فيها إلا أصحاب اليقين الأقوياء في الإيمان، حيث يضحي بنصف ماله، فيكون أجره على قدر همته، بخلاف الغني فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا كان في حال لا يعطى فيها عادة؛ لأنه هنا غير محتاج، وإذا أعطى فإن هذا لا يؤثر في حاله بشيء. وهناك تفسير آخر لكنه مرجوح، وهو: تفسير الحديث بأن الفقير بدأ بالصدقة أولاً؛ فالغني اقتدى به في الصدقة، فبالتالي ينطبق عليه حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، فيصبح للفقير مثل أجر الغني وزيادة عليه بدرهم، له أجر صدقة مائة ألف درهم ويزيد عليه درهم واحد، ولكن هذا بعيد؛ لأن ظاهر الحديث أن هذا حصل في وقت واحد من رجلين، لأنه قال: (سبق درهم مائة ألف)، والحديث رواه النسائي وابن خزيمة وصححاه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الصدقات أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وقال: (أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى) ، أي: في حالة احتياج وخصاصة ومع ذلك تتصدق، لكن شرط صحة هذه الصدقة أن يبدأ بمن يعول، ولذلك قال: (جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وجاء في تفسير قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] يعني: ما زاد عن النفقة الواجبة.

    نموذج من اللمز المعاصر لمنافقي اليوم

    يقول السيوطي في الإكليل: في هذه الآيات تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين. هكذا جزاء من يلمز ويسخر من المؤمنين، وما أوفر حظ منافقي وزنادقة وملاحدة زماننا من هذا الوعيد في هذه الآيات الكريمة؛ لأنهم لا وظيفة لهم غير السخرية من المؤمنين، بل صار هذا من المقررات التي نحفظها وتتوارد على أسماعنا صباح مساء في جميع أجهزة الإعلام بلا استثناء من وصف الإسلام بالتطرف والإرهاب والرجعية والجمود والهوس، وغير ذلك من هذه الأوصاف التي تنضح بها آنيتهم. فلا شك أن هؤلاء لهم حظ من قول الله: (( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ))، يأتون بامرأة منقبة ويقولون: إن المنقبات دميمات الخلقة، فهن يسترن قبح خلقتهن، أو يقولون: إن هذه تتحجب؛ لأن أسعار حلاق السيدات ارتفعت، أو أنهن لا يستطعن أن يواكبن زميلاتهن اللائي يلبسن الثياب الثمينة، هذا هو اللمز، ونفس صورته الحية، وكما هو شأن المنافقين دوماً، فنقول: هذا الشبل من هذا الأسد، فهي سنة لا تتغير ولا تتبدل كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29]، الآن يضحكون علينا بالكاريكاتير وبالتمثيليات والمسرحيات والأغاني والمقالات وكل شيء، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا [المطففين:30-31]أي: رجعوا إلى البيوت انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:31-34]. فالمؤمنون يضحكون عليهم أخيراً ضحكاً يدوم ولا ينقطع، أما هم فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا [التوبة:82]؛ لأن الضحك مهما طال في الدنيا فالدنيا قليلة، وسوف تفنى، وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة:82] بكاءً لن ينقطع حينما يخلدون في نار جهنم. فيحرم أن يلمز الإنسان أو يسخر من المؤمن، خاصة إذا كانت السخرية بسبب الدين، فتراه لا يحقد عليه ولا ينقم عليه إلا بسبب تدينه؛ لأنه ملتح، أو لأنها محجبة، أو لأنه يقرأ القرآن، أو لأنه يحافظ على الصلوات، فكل هذا ينبع من النفاق. وقوله: (الذين يلمزون المطوعين) أصلها المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم...)

    قال الله تبارك وتعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:80]. (استغفر لهم) أي: استغفر لهؤلاء المنافقين (أو لا تستغفر لهم) أي: فإنه في حقهم سواء، ثم بين استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار، فقال عز وجل: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك) يعني: عدم الغفران لهم، بسبب: (أنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) يعني: الخارجين عن حدوده، فجملة قوله تعالى: (استغفر لهم) هي جملة إنشائية لفظاً لكنها خبرية معنىً مثل قوله: قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة:53]، والمقصود: سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً فلن يتقبل منكم. والمراد بقوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) التسوية بين الاستغفار لهم وتركه في استحالة المغفرة، وتصويره بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما، كأنه صلى الله عليه وسلم أمر بامتحان الحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى يأمره بأن يمتحن، ويرى هل ثم نتيجة من الاستغفار أم لا؟ فيقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) يعني: استغفر لهم أحياناً واترك الاستغفار تارة، سوف يظهر لك جلية الأمر من أن هذا لا تأثير له في مغفرة ذنوبهم، كما مر في قوله تعالى: قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة:53]، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقين في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:5-6]. قال الزمخشري : السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، يعني: ليس المقصود حقيقة العدد لكن المقصود التكثير، وهذا جار في مجرى كلام العرب للتكثير، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لأصبحن العاصي وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم، وهذا من أساليب العرب في المبالغة لا للتحديد، وليس المقصود أن ما زاد على السبعين سوف يغير الحكم، لكن المقصود مهما أكثرت وبالغت في الإكثار، فلن يكون له تأثير في مغفرة ذنوبهم. وقال أبو السعود : شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير؛ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنها العدد بأسره، وقيل: هي أكمل الأعداد لجمعها معانيها؛ ولأن الستة أول عدد تام لتعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وثلثاها واحد، وجملتها ستة، وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال، ثم السبعون غاية الكمال؛ إذ الآحاد غايتها العشرات، والسبعمائة غاية الغاية. روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يصده عن الصلاة على عبد الله بن أبي : (إنما خيرني الله فقال: (استغفر لهم...)، وسأزيده على السبعين)، فظاهر هذا أن (أو) للتخيير، وأن السبعين له حد يخالفه حكم ما وراءه، وفي الحقيقة أن هذا من الإشكال بمكان؛ لأن الرسول عليه السلام أفصح العرب على الإطلاق، ولذا قال الزمخشري : كيف يكون هذا وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، ويفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار؟ كيف وقد تلاه بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا [التوبة:80] إلى آخره، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: (قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين)؟! ثم أجاب الزمخشري بقوله: لم يخف عليه ذلك صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال ذلك إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليهم، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يبين أنه في غاية الرحمة لهذه الأمة التي بعث إليها، حتى لو كان الميت بمثل هذه الحال، كقول إبراهيم عليه السلام: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم أن يرحم بعضهم بعضاً، يعني: إذا فعل هذا في حق هذا المنافق، فالأولى أن يفعل المؤمنون ذلك في حق بعضهم بعضاً من أهل الإسلام والإيمان. وقال القرطبي : وأما استغفاره للمنافق الذي خير فيه؛ فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب الأحياء من قرابات المستغفر له، والله تعالى أعلم. قال شراح كلام الزمخشري : يعني أنه وقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير، فجوز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة؛ أي: أن الرسول عليه السلام كان يعلم أن السبعين ليست حداً، لكن المراد بها المبالغة في التكثير، لكنه جوز أن يكون هناك احتمال للإجابة إذا زاد على السبعين، فلذلك بين لهم التخيير قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة كما قال إبراهيم عليه السلام في ذكر جزاء من عصاه ولم يمتثل أمره بترك عبادة الأصنام: (فإنك غفور رحيم)، دون أن يقول: شديد العقاب، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم، وحثاً على الاتباع. وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي فصاحته ومعرفته باللسان، فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم، وذلك كقوله تبارك وتعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [البقرة:6]، ومع ذلك هو مأمور أن ينذرهم، هذا في الإثبات. أما في النفي فكما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون:6]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه رخص لي)، ويحتمل أنه رخص له في ابن أبي بالذات لحكمة، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول، وكما ذكرنا من قبل ربما أنه لتطييب خاطر ابنه وكان من الصالحين، وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ، أو لتأليف قلوب المنافقين من أتباعه إلى الإسلام كما سيأتي. وقال الحافظ ابن حجر : روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما نزلت: (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأزيدن على السبعين)، فأنزل الله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم)، ثم قال: ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا في ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755978368