إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف [47-54]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ...)

    قال تعالى: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47]. (وإذا صرفت أبصارهم) يعني: إذا صرفت أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة. (تلقاء أصحاب النار) لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم، فأما أهل الجنة فوجوههم متوجهة إليهم سروراً بهم، فلا يحتاجون إلى تكلف؛ لأن الأصل أنهم مقبلون على أهل الجنة ومقبلون على النظر إلى الجنة- فهذا هو الوضع الأصلي لهم، لكن إذا نظروا إلى أهل النار فإنهم يحتاجون إلى أن تصرف وجوههم إلى أهل النار، ففيها نوع من التكلف، لأن هذا نظر عداوة. وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار. وهذه الآية تدل على وجوب اجتناب الظلمة في الدنيا كي لا يكون المرء معهم في الآخرة، وذلك لقوله: ((وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) ففيها إرشاد إلى تجنب كلّ ما يجعل الإنسان محشوراً أو مرتبطاً أو متواجداً مع القوم الظالمين. قوله عز وجل: (تلقاء أصحاب النار) يعني: إلى جهة أصحاب النار، (قالوا) من شدة خوفهم تعوذاً بالله: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) في النار. وقال أبو السعود: في وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء، إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم. أي: لم يقولوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم المعذبين) إشارة إلى السبب الذي أداهم إلى سوء العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم... (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون)

    قال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف:48]. (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) يعني: من عظماء أهل الضلالة (يعرفونهم بسيماهم) بعلاماتهم التي تدل على أعيانهم وعلى أشخاصهم، حتى وإن تغيرت صورهم. (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي: كثرتكم، والمقصود بها إما الجمع العددي، وهي الكثرة الكاثرة، أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات، فالإنسان إذا كان معه مال يدفع الآفات عن نفسه بالعلاج وبغيرها من الأسباب. (وما كنتم تستكبرون) عن الحق أو على الخلق، والمعنى: ولم ينفعكم استكباركم على الحق أو على خلق الله عز وجل، وقرئ: (وما كنتم تستكثرون) من الكثرة، يعني تستكثرون من الأتباع الذين يستعان بهم أيضاً في دفع الملمات. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، أي: ماذا نفعكم جمعكم؟ ثم نظروا إلى الجنة فرأوا فيها من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم ويحتقرونهم ويزدرونهم في الدنيا لفقرهم وضعفهم، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)). أي: أهؤلاء الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم وأنتم في الدنيا لا ينالهم الله برحمة، وهذا لأنكم قلتم: كما قد أعطانا الله المال والبنين في هذه الدنيا، فلابد أنه سيفضلنا في الآخرة؛ لأنه ما أعطانا ذلك إلا لكرامتنا عليه عز وجل، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، هكذا كان الكافر يمني نفسه ويغرها فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:15-17] يعني: ليس الأمر كما تزعمون، فإن الدنيا يعطيها الله سبحانه وتعالى من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا من أحب. ويكفي من هوان الدنيا على الله سبحانه وتعالى أنه ترك أحب الخلق إليه وأفضلهم وأكرمهم عليه وهم الأنبياء والرسل يبتلون فيها ويؤذون ويقتلون ويجرحون ويضطهدون من قومهم، فدل على أن الدنيا ليست دار جزاء، لكن العبرة بالآخرة؛ فلذلك يقول أصحاب الأعراف: (( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ )) أي: بأن لا يرفع درجاتهم في الآخرة، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون. (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ )) (لا خوف عليكم) أي: من العذاب الذي ينزل بالكفار، (ولا أنتم تحزنون) كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف بعضهم لبعض بعدما يبكتون أهل النار ويوبخونهم: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [الأعراف:47-48]. والاحتمال الثاني: هو أنه من كلام أهل الأعراف للمؤمنين الضعفاء، حيث إنهم قالوا للكفار: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ثم يلتفت أصحاب الأعراف إلى المؤمنين فيقولون لهم: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). والاحتمال الثالث: أنه من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، أي: كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة، كيف نالوا هذه الرحمة؛ حيث قيل لهم من قبل الله تعالى: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). وعلى كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً للعلم به، والعلم به من السياق: فإما أن أصحاب الأعراف يتآمرون بينهم، ويدعون بعضهم بعضاً لدخول الجنة. أو إما أن أهل الأعراف يقولون ذلك للمؤمنين. وإما أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول ذلك للمؤمنين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ... )

    قال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]. ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم -بعد التكبر عليهم، وبعدما أقسموا لا ينالهم الله برحمة- وأنهم لا يجابون إلى ذلك. (أن أفيضوا علينا من الماء) أي: الذي رحمكم الله سبحانه وتعالى به ليسكن حرارة النار والعطش. وإنما قالوا (أفيضوا) لأن الإفاضة تكون من أعلى إلى أسفل، وأهل الجنة أعلى مكاناً، والمعنى: أنزلوا علينا، (من الماء أو مما رزقكم الله) من الأطعمة والفواكه؛ لأن أهل النار يعذبون بكل أنواع العذاب، وبما لا يعلمه على حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، سواء كان الجوع أو العطش أو الضيق والزحام أو الظلمة أو النار أو العقارب والحيات.. وغير ذلك من أنواع العذاب. والحقيقية أن الإنسان إذا تخيل هذا العذاب الذي يكون في جهنم والتي نارها ضعف نار الدنيا سبعين مرة، فإنه لا يهنأ عيشاً ولا يطيب له طيب ولا يقر له قرار!. وهذه الآية مما يدل على أنهم يعانون العطش والجوع، وإذا قدر للإنسان أن يدخل عنبر الحرائق في أي مستشفى عمومي؛ لوجد العناء الذي يعني يلاقيه من يحرق حرقاً، وكيف يصرخ هؤلاء المرضى طلباً لرشفة ماء واحدة فقط من شدة تعطشهم إلى هذا الماء. فكيف يكون الحال إذا كان الحريق أضعافاً مضاعفة؟! فهؤلاء يعانون الجوع ويعانون العطش: (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) هاهم الآن يتذللون لهم، ويؤملون أن يفيضوا عليهم مما أتاهم الله سبحانه وتعالى من الأطعمة والفواكه. (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) يعني منعهما عنهم؛ لأنه أنعم عليهم في الدنيا فلم يشكروه، فمنعهم نعمه في الآخرة وحرمها عليهم، فالتحريم هنا هو تحريم منع وليس تحريماً شرعياً؛ لأن الآخرة ليس دار تكليف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا ... )

    ثم وصف الكافرين بقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51]. (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً) يعني: مما زينه لهم الشيطان، واللهو: كل ما صد عن الحق، واللعب: كل أمر باطل، أي: ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك، فبدل الدين الذي هو عبادة الله عز وجل وتوحيده، إذا بهم يتخذون اللهو واللعب ديناً، إذ هو دأبهم وديدنهم. (وغرتهم الحياة الدنيا) أي: بزخارفها العاجلة، فلم يعملوا للآخرة. (فاليوم ننساهم) أي: نتركهم ترك المنسي، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة. (كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي: كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به. قوله تعالى: (( وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ )) أي: وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تبارك وتعالى. روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: (قالوا يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟)، يعني: إذا نظر الناس وقت الظهيرة إلى السماء وليس هناك سحاب فهل يضار بعضهم بعضاً إذا أرادوا أن يروا الشمس؟! ومعلوم أن الشيء إذا كانت رؤيته غير واضحة فمن الممكن أن يزدحم الناس عليه، فهذا يدفع هذا وهذا يدفع ذاك لعدم وضوح الشيء المرئي، فيؤذي بعضهم بعضاً من شدة المدافعة أو الزحام أو عدم وضوح الرؤية؛ لكن هل يتصور أن يحتاج الناس إلى المضارة بينهم حتى يتحققوا من وجود الشمس في السماء وقت الظهر؟! لا شك أنهم لا يضارون في ذلك، ولا ينضم بعضهم إلى بعض، كما في بعض الروايات: (لا تضامون)، من شدة وضوح الرؤية. (هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، قال: فيلقى العبد فيقول: أي فل -اختصار لفلان- ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي ربي، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، أمتني بخير ما استطعت، فيقول: هاهنا إذاً، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله؛ وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه). فالشاهد هنا في الحديث قوله: (فاليوم أنساك كما نسيتني).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدىً ورحمة لقوم يؤمنون)

    قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52] ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأن الحجة قامت عليهم، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، فذكر أن سبب هذا الشقاء هو من عند أنفسهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، يقول تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ )) أي: بينا فيه الاعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلاً مبيناً. (على علم) أي: عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء محكماً قيماً غير ذي عوج، هذا كقوله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء:166]. (هدى) أي: دلالة ترشدهم إلى الحق وتنجيهم من الضلالة. (ورحمة) أي: ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه. (لقوم يؤمنون): لأن المؤمنين هم المغتنمون لفوائده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله ... )

    قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:53]: (هل ينظرون إلا تأويله) يعني: ما ينتظرون إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب الذي جئناهم به من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، ومعنى التأويل هنا: عاقبة الأمر، وما يئول إليه هذا الأمر، وذلك حين يتبين صدقه بأن يظهر ما نطق به القرآن من الوعد والوعيد، لهؤلاء الذين يسمعون القرآن في الدنيا. والمعنى: ما الذي يمنعهم من الإيمان بالقرآن الكريم؟ هل ينتظرون إلا وقوع أخبار هذا القرآن من الوعد والوعيد يوم تقوم الساعة وتأتي القيامة؟ فالنظر هنا بمعنى الانتظار، وليس من الرؤية. والتأويل بمعنى: العاقبة وما يقع في الخارج، وهذا هو أصل معنى كلمة التأويل، ويطلق على التفسير أيضاً، كما كان يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: كذا وكذا، وذكر القاسمي في تفسيره أن التأويل هو: التفسير، لكن أصل معنى التأويل هو العاقبة وما يئول إليه الشيء. والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق كانوا منتظرين له؛ لأن كل آت قريب، فهم على وشك ملاقاة ما وعدوا به، فلا يقال: كيف ينتظرونه مع جحدهم، فإنهم وإن جحدوه إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة، فسواء آمنوا أم جحدوا، فإنهم في الحقيقة ينتظرون هذا الأمر القريب منهم جداً. (يوم يأتي تأويله) يعني: يوم القيامة لأنه يوم الجزاء، فهو اليوم الذي تئول إليه أمورهم، وعاقبة ما فعلوه في الدنيا، (يقول الذين نسوه من قبل) يقول الذين تركوه ترك المنسي حين كان ينفعهم الذكر، فتركهم كان كترك الشخص الناسي للشيء تماماً؛ لأنهم بالغوا في عدم الاستعداد للآخرة، وعدم الانتفاع بالذكر الذي أنزل عليهم وكأنهم نسوه، وكأنهم ما كانوا على ذكر منه على الإطلاق، فهم تركوه في الوقت الذي كان ينفعهم الإيمان به وينفعهم فيه التذكر، وينفعهم فيه اليقين، وهو دار الابتلاء، فلم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب. (( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ))، فمعنى ذلك: أنهم لم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب، فالكفار يؤمنون إيماناً صادقاً عند معاينة العذاب، ومثل هذا الإيمان لا ينفع ولا يجدي، فحينئذ يقولون كما أخبر الله عنهم: (( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ))، وهذا كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] أي نحن مصدقون الآن، لكن هذا لا ينفع في دار ظهور النتيجة، إنما العبرة بذلك في دار الابتلاء ودار الامتحان وهي الدنيا. (قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي: أننا الآن نشهد بذلك، فهم لما عاينوا العذاب، ولما رأوا أهوال يوم القيامة قالوا: (( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ))، يعني: بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد، فهم أنفسهم سيعترفون ويقولون: إن الرسل قد أتوا وأخبرونا بالحق، وهذا الذي نراه مطابق تماماً لما قالوه ونحن مؤمنون بهم ومصدقون (( فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا )) يعني: في إزالة العذاب (( أَوْ نُرَدُّ )) إلى الدنيا من جديد، (( فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ))، من الجحود واللهو واللعب وأعمال الدنيا، قال عز وجل: (( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ )) يعني: أنهم صرفوا أعمالهم في الكفر، (( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )) أي: ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله سبحانه وتعالى، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين. فانظر إلى رحمه الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث أقام عليهم الحجة من كل جانب، وتفاصيل الحوار والمناظرة والشبهات وما يقولونه يوم القيامة كله موجود الآن في القرآن الكريم، وهذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى رحمة وتلطفاً بعباده؛ لأنها ستقع. لو فرض أن الإنسان اعوج عن صراط الله المستقيم، وأصر على ذلك إلى أن مات والعياذ بالله، ثم جاء يوم القيامة وبعث ونشر فإنه سيقول: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، فهو يطلب العودة إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فليفترض أنه قد وقع ذلك، وأنه الآن قد رجع إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فعليه أن يعمل الصالحات ولا يفرط في أوامر الله، ولا يفرط الإنسان حتى يموت، فيكون ممن قال الله تعالى فيهم: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]. وهذا أمر واقع نشاهده في أحوال الناس، فالذي تنزل به الملمة والمصيبة يستيقظ رصيد الفطرة في قلبه، ويضل عنه كلَّ ما كان يدعو من دون الله، ويفرد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد وبالدعاء وبالإخلاص، ويعاهد الله سبحانه وتعالى أن سيتوب إذا فرجت عنه هذه الكربة، وبعدما تفرج يعود إلى ما كان عليه من قبل، وينسى ذلك العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى!! (( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )).

    كلام الشنقيطي على مساءلة الكفار وندمهم

    يقول العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ذكر تعالى في هذه الآيات الكريمة أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار يعرفونهم بسيماهم: لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا، وبين في مواضع أخر وجه ذلك، وهو أن الإنسان يوم القيامة يحشر فرداً لا مال معه ولا ناصر ولا خادم ولا خول، وأن استكباره في الدنيا يجزى به عذاب الهون في الآخرة، كقوله عز وجل: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وقوله عز وجل: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:80]، فلا حشم ولا حرس ولا أي شيء من هذا، وقوله عز وجل: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، وقال عز وجل: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف:20]. أما قوله تعالى: (( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )). فيقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة، يقرون بأن الرسل جاءت بالحق ويتمنون أحد الأمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ فهي ثلاثة أسئلة لم يبينها القرآن الكريم في هذا الموضع، لكن بينتها مواضع أخر من القرآن الكريم. فبين أنهم لا يشفع لهم أحد لقوله عز وجل: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101]، كقوله: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وهذا مع قوله: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، فهذا نص على أن الكافر ليس ممن ارتضاه الله سبحانه وتعالى فلا شفاعة له وقوله عز وجل: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]. وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة كقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:12-13]، فقوله عز وجل: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم) هذا دليل على أن النار وجبت لهم فلا يردون ولا يعذرون، ومنها قوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، وذلك يوضحه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أخره حتى بلغ ستين سنة )، فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدة يتذكرون فيها، وإنزال الرسل هو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: جواباً لقولهم لما قالوا: (( أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل )) فجاءهم الجواب: بأنه قد فاتت الفرصة، (( أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال )) فمعنى ذلك أن الله لن يقبل عذرهم. وقال عز وجل: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر:12]، وهذا جاء بعد قوله تبارك وتعالى حاكياً عنهم: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11]. وقال عز وجل أيضاً: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:45] وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44]. وقوله هنا: (قد خسروا أنفسهم) بعدما قال عز وجل: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) إلى آخره، يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه. وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان، وهو قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]. وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد، كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى، وهذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]. وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: (قد جاءت رسل ربنا بالحق) لا ينفعهم، كقوله تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11]، وقوله: بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، ونحو ذلك من الآيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ... )

    قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] لم يفصل هنا في ذلك، ولكنه فصله في سورة فصلت، فقال عز وجل: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:9-12]. فقوله هنا عز وجل: (إن ربكم الله) أي: إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس هو الله الذي أنشأ أعيان السماوات والأرض في مقدار ستة أيام، وكلمة (اليوم) في اللغة هي: مطلق الوقت، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أيام يعني: في ستة أوقات كقوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:16] يعني: وقتئذ، فعبر عن الوقت باليوم، وإن أريد اليوم المتعارف وهو الزمن الذي بين طلوع الشمس وغروبها، فالمعنى في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسماوات، كما في سورة فصلت: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]، ثم قال عز وجل: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت:11]، إلى آخر الآيات. وفي شرح القاموس: أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والثاني هو تعريف شرعي عند الأكثر. ويستعمل (اليوم) أيضاً بمعنى: مطلق الزمان كما قال سيبويه ومثل لها بقوله: أنا اليوم أفعل كذا، فهم لا يريدون يوماً بعينه، إنما يريدون الوقت الحاضر فقط، وبه فسروا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] يعني: في هذا الوقت أكملت لكم دينكم، وكما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة أيام الهرج يزول فيها العلم ويظهر فيها الجهل)، وأيام الهرج تعني: وقت وأزمنة الهرج، وبالتأكيد أن اليوم في هذه الحالة لا يختص بالليل ولا بالنهار، إنما يقصد به الوقت، وأيام الهرج يعني: زمان الهرج. وقال ابن كثير : يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام: الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كلهم، وفيه خلق آدم عليه السلام، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ، يعني: هل هي من أيام الله: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، أم أنها كأيام الدنيا المعروفة، فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت ومعناه: القطع. أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل). فهذا الحديث رواه مسلم والنسائي من غير وجه، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: (( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ))؛ ولذلك تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك أن في خلق الأشياء بهذا التدرج حثاً على التأني في الأمور، مع أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلقها كلها بقوله: كن فتكون، لكن في ذلك حث على التأني في الأمور.

    الكلام على الاستواء

    (( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))، اعلم أن الاستواء ورد على معانٍ اشترك لفظه فيها، فجاء الاستواء بمعنى: الاستقرار، ومنه قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44] يعني: استقرت على جبل الجودي، ويأتي بمعنى: القصد، ومنه قوله عز وجل: (( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ))[فصلت:11]، وذلك إذا تعدى بحرف إلى. وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له واستوى إليه، قال الفراء : تقول العرب: استوى إلي يخاطبني يعني: أقبل إلي يخاطبني، ويأتي الاستواء بمعنى: الاستيلاء كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العـراق من غير سيف أو دم مهراق لكن يقطع بعض العلماء المحققين بأن هذا البيت مصنوع وليس صحيحاً، لكن نحن نتعرض له لأنه يكثر استدلال بعض الناس به. فإذا كان البيت مصنوعاً فلا يبقى هناك شاهد لهذه اللغة، وهو استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقال آخر أيضاً: فلما علونا واستوينا عليهـم تركناهم صرعى لنسر وكاسر وإن كان هذا الشعر لم يعرف قائله. ويأتي الاستواء بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون:28]، ومنه هذه الآية فهي من الاستواء بمعنى: العلو، أي: قوله تعالى: (ثم استوى على العرش). قال البخاري في آخر صحيحه، في كتاب الرد على الجهمية في باب قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] قال مجاهد : استوى: علا على العرش. وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرحمن على العرش استوى أي: ارتفع. ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى: علا وارتفع. وأقول: لا حاجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولاً، فالكيف يقال للشيء الذي سبق أن تعرفت عليه من قبل أو رأيته، فترسم صورة في ذهنك لهذا الشيء، بحيث إنك إذا غبت عنه فقيل لك مثلاً: كيف شكل السيارة؟ فإنك تتذكر هذه الصورة، ولو فرض أن إنساناً من يوم أن خلقه الله لم ير شيئاً اسمه سيارة، فلن يعرف أية سيارة؛ لأنه ما رآها، لكن إذا كان قد رآها من قبل وارتسمت لها صورة في ذهنه، فإنه إذا قيل له: سيارة يقفز إلى ذهنه السيارة، إذا قيل: طائرة يعرف ما هي الطائرة .. وهكذا، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيف لنا الاستواء على العرش؟! هذا مما لا أمل فيه على الإطلاق، قد آيسنا الله سبحانه وتعالى أن نطلع على هذه الكيفية؛ فلذلك لا يقال لله عز وجل: كيف؟ فلا يعرف كيفه إلا هو سبحانه وتعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]. وكما ضربنا المثال مراراً على أننا نعجز عن معرفة كثير من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وذكرنا لكم قصة ذلك الرجل أو ذلك الشاب الذي كان يقع في التشبيه والتجسيم والعياذ بالله، فأتاه أحد العلماء الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية وله ستمائة جناح، فقال هذا العالم لذلك الشاب: أخبرني عن خلق من خلق الله له ستمائة جناح؟ فحار وما استطاع أن يقول كلمة، فقال له: فأنا أضع عنك سبعة وتسعين وخمسمائة جناح، ويبقى الثلاثة الأجنحة، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ كيف تركب هذه الأجنحة فحار، فقال له: نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، والجنة مخلوق من مخلوقات الله، فكيف بالخالق عز وجل؟! ونحن قد أكثرنا من الكلام من قبل في هذا الأمر، وأننا لا نطمح في أن نعرف كيف استوى؟ كيف يد الله؟ كيف عين الله؟ فهذه الأشياء كلها قد توقع الإنسان في التعطيل، حيث إنه أولاً يشبه إذا سمع يد الله يعني: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فإذا وقع من البداية في التشبيه فإنه يفر من التشبيه إلى التعطيل والنفي -والعياذ بالله-. لكن المؤمن الموحد الذي يسلك مسلك السلف الصالح لا يشبه أصلاً، بل يقول: (أمروها كما جاءت)، يعني: لا نكيف ولا نشبه الله سبحانه وتعالى بخلقه، مع القطع والجزم الأكيد واليقين بأن الله ليس كمثله شيء أبداً، ولا يشبه الله سبحانه وتعالى شيء: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] يعني: أنت تثبت لله صفة السمع، فهل سمع الله كأسماعنا؟ وهل بصر الله كأبصارنا؟! فأنت تثبت هذه الصفة مع نفي الكيفية ومع نفي المشابهة، فكذلك سائر صفات الله عز وجل. وقد فصلنا في هذا عند دراسة كتاب العقيدة في الأسماء والصفات للدكتور الأشقر ، وتكلمنا في هذا أيضاً في درسنا من قبل كتاب مختصر كتاب العلو.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001001