إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام [111-121]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً...)

    قال تعالى: فقد انتهينا في تفسير سورة الأنعام إلى قوله تبارك وتعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:109] * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] بعدما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم اجتهادهم في الأيمان بقوله: (( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا )) بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وأكده فقال عز وجل: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111]. قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) يعني: فرأوهم عياناً، أي أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة، ولن نجيبهم فقط إلى آية واحدة يطلبونها، لكن سنأتيهم بجملة كبيرة من الآيات، ومنها أن ننزل إليهم ملائكة، كما قال تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان:21]. وحكى عنهم أن من اقتراحاتهم الطويلة أنهم قالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:92]. فيقول تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) يعني: بإحيائنا إياهم. أي: نحيي الموتى فيكلمونهم. كما قالوا: فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الدخان:36]. وقوله: (وحشرنا عليهم) أي: جمعنا (كل شيء) سواء من الحيوانات أو النباتات أو الجمادات، أو كل شيء من الآيات التي اقترحوها. وقوله: (قبلاً) أي: مقابلة وعياناً حتى يواجهوهم قبلاً كما يكون الشيء في قبل الشيء، أي: في مقابلته في مواجهة ورؤية عينية حتى تحصل المواجهة، أو أن (قبلاً) جمع قبيل، وهو الكفيل والضمين. فقوله: (وحشرنا عليهم كل شيء) يعني: كل شيء اقترحوه أو سألوه من الآيات، أو كل شيء من الحيوانات والنباتات والجمادات. (قبلاً) أي: كفلاء، جمع كفيل، أي: بصحة ما بشروا به وأنذروا، بحيث تأتي هذه الأشياء كلها من النباتات والحيوانات والجمادات وينطقها الله سبحانه وتعالى، وتضمن لهم وتشهد بصحة ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البشارة والنذارة، فتضمن لهم صدق هذه الأخبار، وتنطق لهم بذلك (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) أي: ما كانوا ليؤمنوا لغلوهم في التمرد والطغيان. وقوله: (إلا أن يشاء الله) يعني: إلا أن يشاء الله إيمانهم فيؤمنوا. وقوله: (ولكن أكثرهم يجهلون) يعني أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون، أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات. قال القاشاني : وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري ، والإيمان لا يكون إلا بالقلب، كما قال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] وهنا تنبيهان: الأول: يقرأ قوله تعالى: (وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً) بضم القاف والباء، وعلى هذه القراءة يكون لقوله: (قُبُلاً) وجهان: أحدهما: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل وضمين. والقول الآخر أنه مفرد، كقبل الإنسان ودبره، وعلى كلا الوجهين هو حال من (كل). ويقرأ -أيضاً- بالضم وسكون الباء، فبدلاً من أن نقول: (قُبُلاً) بضم الباء نقول: (قُبْلاً) بتسكين الباء. ويقرأ -أيضاً- بكسر القاف وفتح الباء (قِبلاً) منصوباً على أنه ظرف، كقولهم: لي قَبِلَ فلان حق. أي: عند فلان حق، أو أنه نصب على الحالية، وهو مصدر، أي: عياناً ومشاهدة. فمعنى (قبلاً): أي: مقابلة وعياناً. وهناك شاهد من القرآن الكريم على أن كلمة (قبل) تأتي بمعنى المشاهدة أو المعاينة، وهو قوله تعالى: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف:26] يعني: من أمام. وقوله: (إلا أن يشاء الله) هذا الجزء من الآية حجة واضحة على المعتزلة، بدلالة أن جميع الأشياء بمشيئة الله تبارك وتعالى، حتى الإيمان والكفر، وقد اتفق سلف هذه الأمة على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية على مشيئة القصر والاضطرار، وإنما يتم لهم ذلك لو كان القرآن يتبع الآراء، فلو كان القرآن تابعاً لآرائهم وبدعهم لتم لهم هذا الاستدلال، بمعنى أنهم يحاولون تحريف آيات الله سبحانه وتعالى وتأويلها بما يوافق بدعتهم، فيجعلون بدعتهم وزبالة آرائهم هي الأصل، ثم بعد ذلك يحرفون معاني القرآن حتى توافق بدعتهم، فيجعلون معاني القرآن والسنة فرعاً على الأصول التي ابتدعوها، وإذا كان القرآن هو القدوة وهو المتبوع فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فإلى النار، وما بعد الحق إلا الضلال. ولذلك قال تعالى هنا: (إلا أن يشاء الله) فهذه الآية مما يدحض حجج المعتزلة، فإن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكل شيء يجري في الكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن...)

    ثم يقول تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112]، فهنا تسلية ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من هؤلاء الكافرين. قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) شياطين بدل من (عدواً) منصوب، ويمكن فيه إعراب آخر، وهو: أنه مفعول به أول لـ(جعلنا)، وهنا حصل تقديم وتأخير بالنسبة للمفعول الأول والثاني في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) فالمعنى: وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس والجن عدواً، فـ(عدواً) مفعول ثانٍ، و(شياطين) مفعول أول، يعني: جعلنا شياطين الإنس والجن عدواً. والعدو هنا بمعنى: أعداء، فظاهرها مفرد، لكن معناها أعداء، كما قال الشاعر: إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لم يضرهم بغضي فانظر كيف استعمل كلمة (عدو) في معنى الجمع! والعدو ضد الصديق والحبيب. وكلمة عدو تطلق على المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى، كما قال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] فهو يتكلم هنا عن جمع، ومع ذلك قال: (عدو لي إلا رب العالمين). وكذلك هنا في نفس هذه الآية (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً) فـ (عدواً) هنا بمعنى الجمع، بدليل أنه أبدل منها (شياطين الإنس والجن) أي: مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك قد جعلناه لكل نبي. يعني: هذه سنة الله سبحانه وتعالى فيمن سبقك من إخوانك من الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى يجعل لكل نبي عدواً من هؤلاء الشياطين. فكلمة (كذلك) إشارة إلى أن مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك من وجود هؤلاء الأعداء الذين يكيدونك جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سبقوك أيضاً عدواً شياطين الإنس والجن، فحيث جعلنا لك عدواً يضادونك ولا يؤمنون قد جعلنا لكل نبي تقدمك عدواً من مردة الإنس والجن فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك، كما قال تبارك وتعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43]. وقال تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31]، فهذه الآية بينت صفة أخرى لهؤلاء الأعداء شياطين الإنس والجن هي أنهم مجرمون. وقد قال: ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزل إليه جبريل ثم جاءت به خديجة إليه: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك. قال: أومخرجي هم؟! قال: نعم؛ لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً). فالشاهد هنا من قول ورقة رحمه الله تعالى (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي) فمن كان صاحب حق فإنه يعادى، وانظر إلى كلمة (بمثل) الدالة على دعوة التوحيد، فمن كان داعية إلى التوحيد فلابد من أن يعادى. وقد تزول العداوة إذا حصل تنازل عن الحق، وهذا لا يسلكه صاحب العقيدة الحقة؛ لأنه لا يقبل المساومة أبداً، ولا يحصل منه الالتقاء مع أعداء الدين في منتصف الطريق كما أراد المشركون، فالذين يتنازلون دائماً هم أصحاب الباطل، وهم الذين يتواضع بعضهم لبعض ويتنازل بعضهم لبعض ويتعايشون في سلام. أما صاحب الحق فلأنه لا يملك أن يحور هذا الحق أو يغيره فلا يملك أن يتنازل عنه، أو أن يلتقي مع أعداء هذا الحق في منتصف الطريق، وحينما ساوم الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا إلهه شهراً ويعبد إلههم شهراً فإن كان الحق أحدهما اتبعوه نزل قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون:1-6] يعني الباطل وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] يعني الحق. فلذلك لا يحصل مثل هذا الالتقاء أبداً، فالذي يعرض دائماً التنازل هم أصحاب الباطل، ولذلك نجد أهل المذاهب الباطلة كالمذاهب الديمقراطية ونحوها يقبلون التعايش فيما بينهم؛ لأن كل واحد يمكن أن يلتقي مع الآخر على أساس أن الكل يكون له فرصة متساوية وكذا وكذا من الكلام المعروف؛ لأنه باطل وصنع بشر، فلذلك يتنازل بعضهم لبعض، ويعطي بعضهم أصحاب المذهب الباطل أو الضال الحق في الحياة والحق في الوجود، وهذا إذا كانت المذاهب كلها متساوية في أنها أديان أرضية. أما إذا كان دين الإسلام فلا يمكن أبداً أن يُسوى الإسلام بغيره من الأديان أو المذاهب. وصاحب الحق إذا تنازل عن شيء من الحق فإنه يفقد بذلك عناصر قوته، ويستوي مع أهل الباطل في هذه الحال. ولذلك انظر إلى قول ورقة بن نوفل : (لم يأت رجل قط بمثل) وما زلنا نتأمل كلمة (بمثل ما جئت به إلا عودي). وقوله تعالى: ( شياطين الإنس والجن) يعني: كما أن هناك شياطين من الجن فكذلك هناك شياطين من الإنس، وكلهم يطلق عليهم لفظ الشياطين، فمن الإنس -أيضاً- شياطين، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، أي: شياطينهم من الإنس. والعرب تسمي كل متمرد شيطاناً، سواء أكان من الجن أم من الإنس أم من غيرهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، فكل متمرد يسمى شيطاناً، سواء أكان من الجن أم الإنس أم من غيرهما. وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض) أي: يلقي ويوسوس، وأصل الوحي هو الإشارة السريعة في خفاء، فمعنى (يوحي) يلقي ويوسوس. وقوله (زخرف القول) القول المزخرف هو المزوق من الكلام الباطل. فقوله: (زخرف القول) يعني: المزوق من الكلام الباطل من القول، وأصل الزخرفة الزينة المزوقة، ولذلك قيل للذهب: زخرف. كما في قوله تعالى: وَزُخْرُفًا [الزخرف:35]. وبعض علماء اللغة يرون أن أصل الزخرفة هو الزينة، ولأجل ذلك فرع عليه تسمية الذهب زخرفاً. والبعض يقول: بل المعنى الأصلي هو أن الزخرف يعني الذهب، ولما كان الذهب حسناً في الأعين قيل لكل زينة: مزخرفة. وقد يخص بالباطل، كما في هذه الآية (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) فزخرف القول هو القول المموه المزيف الباطل. وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) يعني: ليغروهم بهذا الوحي، أو غارين إياهم بهذا الوحي. ويكون هذا الغرور للضعفاء؛ لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب، وكذلك الغارين ليقهرهم بمقتضى استعدادهم، وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه؛ لأن هذا الجعل من الله، والجعل نوعان: جعل شرعي، وجعل كوني قدري. وهنا الجعل كوني قدري، وقد جاء في القرآن الكريم استعمال كلمة جعل بمعنى (شرع)، كما في قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] يعني: ما شرع لكم في الدين من حرج: وقوله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ [المائدة:103] يعني: ما شرع. فهنا الجعل كوني قدري، أي أنه من قدر الله سبحانه وتعالى وكلماته الكونية. قال المهايمي : حكمة أن جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن كي تظهر الحجج لمجادلتهم وترتفع شبهاتهم، ولئلا يقال: إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس، أو يتواصوا عليهم، لكن انقسم الناس عليه كما بين تبارك وتعالى. وقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) يعني: ما فعلوا ذلك، والإشارة إلى معاداة الأنبياء وإيحاء الزخارف، وهذا -أيضاً- دليل على المعتزلة، فالله تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير؛ لقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) فهذا المحكي في الآية شر، والذي شاء أن يقع هذا الشر هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد سبحانه وتعالى. وقوله تبارك وتعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) تعرض هنا لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، فقوله: (ولو شاء ربك) يعني: يا محمد. عليه الصلاة والسلام، فهذا يعرب عن كمال اللطف في التسلية. وقوله: (فذرهم وما يفترون) يعني: وما يفترون من الكفر. وقوله: (فسوف يعلمون) أي: عاقبة هذا الافتراء. ولاشك في أن قوله تعالى: (ولو شاء ربك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ما فعلوه) صريح في أن المراد بالكثرة هنا المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن الخطاب هنا للرسول نفسه عليه الصلاة والسلام، والسياق نفسه يتحدث عن سنة الله في الأنبياء. فقوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) هو كالصريح في أن المراد الكفرة المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون)

    ثم عطف سبحانه وتعالى علة ثانية لذلك الإيحاء فقال: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113]. قوله: (ولتصغى إليه) الهاء تعود إلى: (زخرف القول)، وقيل: الهاء تعود إلى الوحي في قوله: (يوحي بعضهم) أو إلى الغرور أو إلى العداوة؛ لأنها بمعنى التعادي. وأصل الصغو هو الميل، يقال: صغت النجوم صغواً: أي: مالت، وصغت الشمس: أي: مالت للغروب، وصغت الإناء: أملته، وأصغيت الإناء: أملته ليجتمع ما فيه، وتقول: أصغيت إلى فلان، بمعنى: ملت بسمعي نحوه كي يحسُن الإنصات. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى هنا: (ولتصغى إليه) أي: إلى الزخرف أو الباطل أو الوحي أو الغرور أو العداوة، يعني: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغرهم به، ولتميل إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لمساعدته لهم على أهوائهم، أي أنهم لا يؤمنون بالآخرة على الوجه الواجب من الإيمان به. قوله: (وليرضوه) يعني: يرضوه لأنفسهم بعدما مالت إليه قلوبهم. وقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له ما هم مقترفون، يعني: من الآثام ومن القبائح التي لا يليق ذكرها، فكأن القرآن أشار إلى أن هذا الذي يقترفونه من أمور قبيحة لا يليق ذكرها، حتى إنه أعرض عن ذكرها، وكنى بها بقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: الذي يقترفون بسبب العقيدة الفاسدة التي دخلت واستوطنت في قلوبهم واستقرت في أفئدتهم، فإنها تثمر أعمالاً قبيحة تصل إلى حد من القبح لا يليق أن نذكرها الآن في هذا السياق، ولذلك قال: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني أشاء من القبائح لا يليق ذكرها. والاقتراف بمعنى الاكتساب، يقال: خرج يقترف أهله، أي: خرج يكتسب لهم، ومن العبارات المشهورة: الاعتراف يزيل الاقتراف. فإذا اقترق إنسان ذنباً واعترف كما في الحديث: (أبوء لك بنعتك علي)، أي: أقر وأعترف فإن اعترافه يزيل الاقتراف، أي: يزيل ما اكتسبه الإنسان من الإثم. قال الخشني : وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113] فتقوى غوايتهم ويتظاهرون بها، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغياناً وتعدياً على النبي صلى الله عليه وسلم، فتزداد قوة كماله، وأيضاً تهيج بسببه دواعي المؤمنين؛ لأن الاستفزاز حين يحصل من أعداء الدين يهيج قلوب المؤمنين، وتحمى قلوبهم بالغيرة على حرمات الدين، فهذه من الحكم المترتبة على أن سلط الله الشياطين على محاربة الدين، ففيها تهييج بدواعي الغيرة على الدين في قلوب المؤمنين، وكذلك الذين في قلوبهم حب للنبي صلى الله عليه وسلم، فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرهم إياه، فتظهر عليه كمالاتهم، فهذا فيما يتعلق بمعنى هذه الآية: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113]. وقد ذكرنا أن الإصغاء هو الميل، يقول الشاعر: ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء أي: ميل وانحراف. فالسفيه يزيغ عن المحكمات؛ لأنه يميل إلى الأمور المشتبهة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة -حيث قال تعالى: (( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ))- مع أن قبائحهم كثيرة إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم، فإن لذَّات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل. وهذا فيه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى في سورة المعارج: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:23-28]. والشاهد قوله: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] فالتصديق بيوم الدين والإيمان بالآخرة يترتب عليه هذه الثمرة، فهو إيمان يثمر أنهم من عذاب ربهم مشفقون؛ لأنهم يؤمنون به، فكل ما يؤدي إلى العذاب حتى لو كان محبباً إلى أهوائهم في الدنيا فهم يحترزون منه؛ لأنهم ينظرون إلى العاقبة السيئة، كما قال الشاعر: أماني كانت لأهلها في الشباب عذاباً فصارت في المشيب عذاباً فالمؤمن لا ينظر إلى بادي الأمور، إنما ينظر إلى العاقبة. فهذا التنبيه في الحقيقة في غاية الأهمية، وهو بيان الحكمة في عدم وصفهم بالإيمان بالآخرة خاصة دون ما عداه من الأمور التي يجب الإيمان بها؛ لأن الإنسان ما دام يؤمن بالآخرة فهو يزن أفعاله قبل أن يفعلها، حتى لو كان فيها آلام وفيها معاناة لكنها مما أمر به شرعاً فإنه يتحمل ذلك في سبيل اللذة الأخرى في الآخرة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا يصلح طريق الجنة إلا بالمكافحة وبالمجاهدة وبالمحاسبة، أما النار فطريقه سهل جداً، فمن أراد أن يدخل النار فما عليه إلا أن يتبع الشهوات ويطلق لنفسه العنان ويتبع الهوى، وفي هذه الحالة سهل جداً عليه أن يدخل النار، فالنار حفت بالشهوات، والشهوات حجاب يحجب النار، والشهوات كالفراش التي تحجب الضوء، فإذا اقترب أحد من الضوء تحرقه هذه النار، فلذلك جاءت الإشارة هنا في قوله: ( الذين لا يؤمنون بالآخرة ) إلى الذين يجترئون على اقتحام الشهوات؛ لأنهم بعدم إيمانهم بالآخرة يحجبون عن الخوف من سوء العاقبة في الآخرة، فهم لا يؤمنون بالنار ولا بالعذاب، فما الذي يردعهم؟! أما الذين يؤمنون بالآخرة فهم يتحملون المكاره؛ لأنه لا سبيل إلى الجنة إلا بتحمل هذه المكاره. يقول: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم. يعني: ما السر في أنهم يصغون ويميلون إلى ما توحيه إليهم شياطين الإنس والجن من زخرف القول؟ يقول: فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة -يعني: في الدنيا- بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فكانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات؛ لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها، أفاده أبو السعود العنبي . والواقع هو أقوى ما يؤيد هذا الكلام، فأنت إذا تأملت أحوال الكافرين وتعظيمهم للدنيا واهتمامهم العظيم بها علمت أن الدنيا صارت إلهاً يعبدونه ويتبتلون وينقطعون لعبادته بأقصى ما يستطيعون؛ لأنهم لا يرون لهم حياة إلا في الدنيا فقط، ويرون أنه ما الحياة إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وبعد ذلك ليس هناك أي حساب، فمن يعتقد هذا فما الذي يجعله ينزجر عن شرب الخمر، أو فعل الفواحش، أو السرقة، أو الكفر، أو غير ذلك من الأفاعيل؟! وما الذي يردعه؟! فهو لا يؤمن من الأصل، وحينئذ ينعكس هذا في سلوكه. فلذلك يتعجب الإنسان جداً إذا رأى المسلم الذي يؤمن بالآخرة يستوي مع الكافر الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة في تصرفاته! فهؤلاء القوم إذا وقعوا في الشهوات بهذه الطريقة وفي الفساد فالسبب في وقوعهم هو الذي ذكرناه؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15-16]؛ لأنه ما دام لم يؤمن بالآخرة فلابد من أن يتبع هواه؛ لأن النفس فيها ميل إلى هذه الأشياء المحرمة وإلى هذه الشهوات التي عاقبتها النار، وهو قد لا يدرك أن عاقبتها النار، وقد لا يصدق بذلك، فما الذي يمنعه من أن يرتع كالحيوانات والبهائم في هذه الحياة البهيمية الحيوانية؟! فكيف بالمسلم الذي يؤمن بالآخرة ومع هذا يحرص على أن يتعاطى ما يسمى بالدش وبالفيديو ونحو ذلك من مظاهر الفساد؟! فهل الذي عنده إيمان بالآخرة لا يستحضر أنه إذا أنصت لهذه الأشياء تبعده عن الله؟! والذي يجعل الإنسان يجلس أمام الأفلام والمسرحيات وسائر أنواع الفساد هل هو دافع العقل والإيمان أم دافع الهوى؟! وكذب من يقول: إن دافعه هو العقل أو الإيمان أو التقوى. بدليل أنك إذا سألته أن يصدقك في الإجابة ويبحث عن معدل إيمانه، وهل كان قبل أن يجلس أمام هذه الأفلام أو هذه الأشياء أعلى إيماناً أم بعدها، وسألته أن يقيس إيمانه قبل أن يجلس أمام الأغاني أو المسرحيات أو الأفلام ويقيس إيمانه بعدما ينصرف، وكيف كان حاله، وهل سيزيد إيمانه وخشيته وتقواه ويبكي من خشية الله أم أنه ربما يوصله ذلك إلى الكفر إذا كان في هذه الأشياء استهزاء أو هجوم على المتدينين وطعن في شريعة الله سبحانه وتعالى، أو كان فيها -على الأقل- ما يخدش إيمانه في الوقوع في المعاصي كزنا النظر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو غير ذلك من البلاء، كل ذلك لو سألته عنه لأجابك بأنه ينقص إيمانه بعد مشاهدة تلك الأمور، ويقسو قلبه، وتقل خشيته وتقواه. فما الدافع الذي يدفعه إلى هذه الأشياء؟ والجواب: أنه الهوى، وبذلك ي

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب...)

    ثم يقول تبارك وتعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]. قوله: (أفغير الله) يعني: قل لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-: أأميل إلى زخارف الشياطين، وأعدل عن الطريق المستقيم؛ فأطلب حكماً غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق من المبطل؟! وقوله: (أفغير الله أبتغي حكماً) الحكم: هو الذي يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، وهنا يوجد تقدير للقول، أي: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل؟! والمعنى: أأطلب معبوداً غير الله؟! وقوله: (أبتغي حكماً) يعني: أطلب معبوداً. لأنهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم. يقول القاسمي : هذا عندي أظهر. يعني أن المقصود بقوله تعالى: (( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )) أي: أبتغي معبوداً؛ لأن من خصائص الإله أن يتحاكم إليه، فهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم، وأنا لا يمكن أن أتحاكم إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأني إذا تحاكمت إلى غيره فكأني اتخذته معبوداً من دون الله تبارك وتعالى. ولذلك جاء في (تنوير المقباس) في قوله تعالى: (( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )) قال في تفسيرها: أعبد رباً. أما كون الآيات واردة على قولهم: اجعل بيننا وبينك حكماً فلا يصح؛ لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك، ولأنهم لا يمكن أن ينصاعوا لشرع الله كحكم. ثم قال تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )) (الكتاب) يعني القرآن المعجز (مفصلاً) يعني: فيه كل ما يصح الحكم به، أنزله مبيناً به الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون. وكثير من أهل البدع والضلال يحاولون أن ينحرفوا بتفسير القرآن والسنة؛ لأنهم يجعلون البدع التي اخترعوها هي الأصل، ثم يجعلون القرآن والسنة فرعاً، ويستدلون بالأدلة بعد تحريف معانيها أو تفسيراتها للتمويه على الناس وإسناد باطلهم. وآيات القرآن يمكن أن تكون طيعة، بمعنى أنه إذا لم يتكلم الإنسان عن علم فلا نملك أن نحجزه عن أن ينطلق بهواه بتفسير آيات القرآن بأي صورة فيها انحراف، ولذلك يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل ولذلك فإن المنهج السلفي يتميز بالأخذ بالقرآن والسنة على فهم السلف الصالح، ويضاف هذا الضابط حتى يتميز أهل السنة عن أهل البدعة؛ لأن كل الفرق تستدل على ضلالتها غالباً بالقرآن والسنة، لكن بفهم مخالف لفهم السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان. قال الإمام السيوطي في (الإكليل): استدل الخوارج بهذه الآية (( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )) على إنكارهم التحكيم، وبذلك كفروا أمير المؤمنين علياًً رضي الله تعالى عنه لأنه قبل التحكيم. قال -أي: السيوطي-: وهو مردود؛ فإن التحكيم المنكر هو أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى به. ومن راجع كتاب: (تلبيس إبليس) في مناظرة ابن عباس مع الخوارج فسيجد التفاصيل في ذلك، فهم قالوا: لا حكم إلا لله. وفهموا بعقولهم الضعيفة أن قوله تعالى: (( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )) يعني إبطال التحكيم مطلقاً، وإنما المقصود إبطال التحكيم الذي يصادم شرع الله، أو الذي فيه حكم بغير ما أنزل الله، أما أن تلجأ إلى حكم يحكم بينك وبين غيرك بما أنزل الله فما هذا إلا مظهر من مظاهر التوحيد والانقياد لشرع الله، وليس هذا مضاداً لشرع الله، ولذلك أفحمهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالآية التي في سورة المائدة، والتي فيها كفارة قتل المحرم الصيد، وهي قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، فإذا كان هذا في دم أرنب أمر الله سبحانه وتعالى فيه بالتحكيم فكيف بما هو أعظم من ذلك من القتال الذي كاد أن يقع بين المسلمين؟! ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى (تلبيس إبليس) ففيه حكاية المناظرة بالتفصيل. إذاً: فمعنى الآية (( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا )) يرد به على الخوارج؛ لأن المراد بالتحكيم المذكور هو أن تريد حكماً يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهذا -للأسف الشديد- ينطبق على بعض الناس في كثير من المناطق التي يخير فيها بين الحكم بالشرع، وبين الحكم بالأعراف والقوانين الوضعية، أو بقول القبائل ونحو هذه الأشياء، فأي مسلم يعرض عليه مثل هذا لا يجوز له إلا أن يقول للشرع: سمعنا وأطعنا. ولا يتصور أبداً أن المؤمن يقبل الخيار أصلاً كمبدأ. والحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، فوصف الحكم أقوى من وصف الحاكم؛ لأنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم، بخلاف الحاكم. وفي هذه الآية الكريمة تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين، ومغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيله، وهذه الآية مثل قوله تبارك وتعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وقوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وتقدم أن قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم، وكذلك هنا. وقوله تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )) يعني: يتضمن كل شيء وهل معنى ذلك أن تستدل بالآية -كما فعل الضالون ممن يسمون زوراً بالقرآنيين- على عدم الاحتجاج بالسنة؟! الجواب: كلا، بل نقول: إن مما دل على حجية السنة القرآن الكريم نفسه، فهو الذي دلنا على أن السنة حجة كالقرآن الكريم. ثم يقول تبارك وتعالى: (( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ))، قوله: (والذين آتيناهم الكتاب) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبلك. والله لم يعطهم كتباً في أيديهم، وإنما أعطاهم علم الكتب المنزلة من قبل، كعلماء اليهود والنصارى، ولنتأمل كلمة (علماء) ولا نقول: مقلدة؛ لأن الكلام هنا في حق العلماء، أما غيرهم فقال الله فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] وأي أنهم مقلدون. أما الذين نتحدث عنهم هنا والذين يصفهم الله بذلك فهم الذين يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم علماء أهل الكتاب. فقوله: (( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ )) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله صلى الله عليه وسلم، كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم، فهؤلاء العلماء يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق. ولماذا خص بالذكر علماء أهل الكتاب؟ وكذلك في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10] والمقصود بالشاهد عبد الله بن سلام كبير أحبار اليهود، فلماذا خصهم بالذكر؟ والجواب أن بيان هذا الأمر من وجهين: الوجه الأول: أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، ونحن نتكلم عن علماء أهل الكتاب الذين يعلمون، وليس عن المقلدين؛ لأن العالم بالشيء هو الذي يستطيع أن يميز بين ما كان منتمياً إلى العلم الذي علموه وبين ما كان أجنبياً عنه، فمثلاً: لو ألف رجل كتاباً في الطب فسيكون الأطباء هم أعلم الناس بكونه طبيباً؛ لأنهم هم الذين يستطيعون أن يحكموا عليه. ومن ألف كتاباً في النحو سيكون أعلم الناس بكونه نحوياً هم علماء النحو، لا عموم الناس ولا المقلدون. وكذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله تبارك وتعالى على أنبيائه من هذا الوحي يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي، ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب في الحبشة على النجاشي سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فمن جاء بسورة من القرآن الكريم حتى لو كانت ثلاث آيات وهو من العلماء يُعرف أن هذا ليس من كلامه، فكيف برجل أمي لم يقرأ من قبل ولم يكتب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:197]. الوجه الثاني في سبب الإشارة إلى علماء أهل الكتاب: أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] ويقول تبارك وتعالى: (( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ )) أي: لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم، وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله، كما قال سبحانه: (( يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ))، أي: أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بأحقيته ونزوله من عنده تعالى. وقوله تعالى: (( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )) أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فهذا من باب التهييج والإلهاب، وليس معنى ذلك أنه يحتمل أن يطرأ الريب أو الشك على النبي صلى الله عليه وسلم، حاش

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)

    ثم قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]. قوله: (وتمت كلمة ربك) يقرأ أيضاً: (وتمت كلمات ربك) بالجمع، يعني: بلغت أخباره وأحكامه ومواعيده الغاية (صدقاً) في الأخبار وفي المواعيد (وعدلاً) في الأقضية والأحكام، أي: تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم وكفر من كفر، ومحبة من أحب وعداوة من عادى، قضاءً مبرماً وحكماً صادقاً مطابقاً لما يقع، عادلاً بمناسبة كل قول وكل كمال وحال لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له. وقوله: (( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )) أي: لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو (( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )) لا يستطيع أحد أن يبدلها بما هو أفضل منها، أو بما هو أصدق أو أعدل منها، أو بتفسير آخر: (( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )) لا أحد يقدر على أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة. وهذا على أن (كلماته) هنا المراد بها القرآن؛ لأنه لا يقوى أحد أن يحرف كلمات القرآن؛ لأن الله تكفل بحفظه، فقوله: (لا مبدل لكلماته) يعني: بذلك القرآن، لا كما حصل من التبديل في التوراة، فتكون هذه الآية ضماناً -أيضاً- لحفظ القرآن الكريم، وحينئذ تكون موافقة لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] أي: من التغيير والتحريف والتبديل. وقيل: (لا مبدل لكلماته) أي: لأحكامه الأزلية التي سبق القلم القضائي والقدري بها. وقال السيوطي في (الإكليل): يستدل به من قال: إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل، وإنما بدلوا المعنى؛ لأن كلمات الله لا تبدل. وهذا إذا قلنا بالعموم في قوله: (لا مبدل لكلماته) كما أشرنا، فيكون معنى (لا مبدل لكلماته) أي: لأحكامه التي سبق بها قلم القضاء، أو (لا مبدل لكلماته) أي: القرآن خاصة، فتكون موافقة لقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وإذا قلنا: (لا مبدل لكلماته) أي: كل كتب الله -سواء القرآن أو التوراة أو الإنجيل- فسيكون هذا التفسير دليلاً لمذهب من يرى: أن التوراة والإنجيل لم يحرفا تحريفاً لفظياً، وإنما التحريف الذي وقع فيهما هو تحريف معنوي، وبهذا قال ابن عباس ، كما رواه عنه البخاري في صحيحه. وقوله: (وهو السميع) أي: لما يظهرون من الأقوال (العليم) أي: بما يخفون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله...)

    بعدما بين الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء الكافرين المعرضين عن الحق حذر وبين أن مثل هؤلاء لا يستحقون أن يطاعوا، ومثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين يصدون عن سبيل الله بهذه الصورة لا يستحقون أن ينقاد لهم المسلم، ولا أن يكون تابعاً لهم، فقال تبارك وتعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116]. قوله: (وإن تطع أكثر من في الأرض) يعني: أكثر من في الأرض من الناس، وهم الكفار؛ لأن أكثر من في الأرض هم من الكافرين، وهذا نستطيع أن نعرفه بمراجعة حديث: (إن الله سبحانه وتعالى يقول لآدم يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار) فحينما يستوضح آدم: ما بعث النار؟ يأتيه الجواب: (من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) أي: يذهبون إلى النار، وواحد فقط هو الذي ينجو، فهذا دليل واضح جداً بجانب الأدلة القرآنية على أن أكثر أهل الأرض من الكفار، ولذلك يقول تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17]، ويقول أيضاً: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات:71]، وقال أيضاً: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8]. وقوله: (( يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )) يعني: عن الطريق الموصل إلى الله سبحانه وتعالى بتزيين زخارفهم عليك ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى، كما قال عز وجل: (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ )) و(إن) هنا بمعنى (ما). والمراد ظنهم أن آباءهم كانوا على حق، فهم يقلدونهم. وقوله: (( وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )) يعني: يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان صلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر .. إلخ. (( وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )) من الخرص، والخرص هو الحزر والتخمين، ولا يستعمل إلا فيما يشك الإنسان فيه ولا يكون على يقين منه، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء. وأحياناً تكون كلمة الخرص بمعنى الكذب، وأصل الخرص القول بالظن، وقول ما لا يستيقن ويتحقق منه، ومنه: خرص النخل خرصاً، وخرص النخل هو حزره ليأخذ منه الخراج أو الزكاة. والمقصود من الآيات أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلا الظن، وهم كاذبون في ادعاء القطع؛ لأنهم في الحقيقة يزعمون أنهم يقطعون بأن ما هم عليه هو الحق، وأن هذا الدين الذي هم عليه حق وصدق، فنقول: إنهم في الحقيقة لا يتبعون إلا الظن، وهم كاذبون في ادعائهم القطع بصحة ما هم عليه من الباطل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)

    ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:117]. في هذه الآية تقرير لمضمون الشرطية وما بعدها، وتأكيد لما يفيده من التحرير، يعني: هو أعلم بالفريقين، فاحذر أن تكون من الأولين الذين يضلون عن سبيل الله، كما قال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116] فإذا كان الله أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فاحذر أن تكون من هؤلاء المذكورين، فإن الله سيعلم ذلك. وهاتان الآيتان تمسك بهما نفاة القياس، وفي ذلك نقاش مفصل يمكن الرجوع إليه عند القاسمي .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)

    ثم قال تبارك وتعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118]. قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ذكر الله هذا بعدما نهى في الآيتين السابقتين عن اتباع وطاعة الكثرة إذا كانت ضالة، وذلك في قوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:116-117]، وكثيراً جداً ما يقترن في القرآن الأمر بالتوحيد مع النهي عن مظاهر الشرك في موضوع النسك والذبائح؛ لأن موضوع الذبائح من أجل مظاهر الشرك في العبادة التي مارسها المشركون مع أصنامهم، فلذلك نجد أنه بعد أن ذكر القضايا في الكلام على القضية الكبرى -وقضية صد هؤلاء عن سبيل الله وعن التوحيد والعقيدة- عقب مباشرة بربطها بالنهي عن هذه المظاهر. وهذا معروف، فإننا نجد كل من يقع في الشرك يقع في الذبح لغير الله، ونجد الذين يعبدون البدوي ونحوه دائماً يمارسون مظاهر شركية فيها صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، بل يقع عندهم الحلق تشبيهاً بمناسك الحج والعياذ بالله! ويحسبون أنهم على شيء، فكما أنه يحلق الحاج أو المعتمر ويقصر في الحرم كذلك يفعل هؤلاء الضالون الضائعون، وعندهم مناسك، وترى الحلاقين موجودين في طنطا وفي نحوها من الأماكن، وفي الموالد يحلقون للناس رءوسهم في مناسك حجهم إلى البدوي -والعياذ بالله!- وكذلك الذبح معروف عندهم، وما زال موجوداً إلى الآن، والله المستعان. وتجدهم يصحبون معهم الهدي من أطراف الأرض، ويأتون به لأجل البدوي ، فلا يُركب ولا يُحلب ولا يُستعمل؛ لأن هذا من أجل البدوي في زعمهم، وهذا كالسوائب والبحائر التي ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة. يقول تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118] وهذا أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين؛ لأن هؤلاء يضلونك عن سبيل الله. ومن مظاهر الإضلال تحليل الحرام وتحريم الحلال، وذلك أنهم خاصموا وجادلوا المسلمين، فقالوا: ما ذبحتم أنتم تأكلونه. وهذا من وحي الشياطين إليهم، وهذا أخرجه النسائي عن ابن عباس ، وفيه: فنزلت هذه الآية: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118]. والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه؛ لرفعه تنجيس الموت إياه؛ لأنه هو المانع من الأكل، ولأنه لو مات حتف أنفه فإن الموت ينجسه، في حين أن الذبح بالسكين يزيل التنجيس بالموت عنه؛ لأن هذا التنجيس هو المانع من أكله. أي: كلوا مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا مما مات حتف أنفه. فإذاً النهي هنا هو عن أكل الذي لم يذكر اسم الله عليه، يعني: كلوا مما ذكر اسم الله عليه مما ذكيتموه، أي: بجانب الشروط التي في عملية التذكية نفسها؛ لأن هناك شروطاً في الذابح وشروطاً في المذبوح، فلابد -مثلاً- من أن يكون المذبوح حلالاً، فلا يكون خنزيراً، ولا يكون ذا ناب من السباع ونحو ذلك مما حرم الله تبارك وتعالى، والذابح لابد من أن يكون إما مسلماً وإما كتابياً، وعملية الذبح فيها شروط معينة. فالمقصود: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه وكان الذابح مسلماً والمذبوح حلالاً، فلا يجوز أن تأتي بخنزير -مثلاً- وتسمي عليه وتذبحه، ولا يصح أن يأتي ملحد ويذبح، حتى ولو قال: بسم الله. فإن ذبيحة المشرك والوثني لا تحل. ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا تأكلوا أيضاً مما مات حتف أنفه. وقوله: (( إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ )) أي أن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله واجتناب ما حرمه الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يكفر بآيات الله، فإنه يحرم الحلال ويحلل الحرام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم...)

    ثم قال تبارك وتعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام:119]. قوله: (( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )) هذا إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب وأمثال هذه الأشياء لم يحرمها الله تعالى، فكلوها وهي حلال لكم ما دمتم قد ذكرتم اسم الله عليها، قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ [المائدة:103] فما يمنعكم من ذلك (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) أي: أي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله؟! وما هو الذي يمنعكم عنه؟! وقوله: (( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ )) يعني: بين ووضح في الشريعة وفي القرآن الكريم ما حرمه عليكم، وهذا ليس مما حرمه عليكم. وبعض المفسرين قالوا: إن المقصود بهذه الآية: الإشارة إلى ما نزل في سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ .. [المائدة:3] إلى آخر الآية، ولكن هذا القول قد رد. فبعض المفسرين قالوا قولاً ضعيفاً، قالوا: إن قوله: (وقد فصل لكم) فيه إشارة إلى ما في سورة المائدة. وهذا القول ضعيف؛ لأن سورة الأنعام سورة مكية، وسورة المائدة سورة مدنية، بل من آخر ما نزل في المدينة من القرآن الكريم سورة المائدة، وفيها قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] كما هو معروف، فإذا كانت سورة المائدة من آخر ما نزل فكيف يحيل القرآن في سورة مكية على ما سينزل بعد في سورة مدنية؟! فقوله: (( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ )) ظاهرها أن هذا التفصيل قد حصل في الماضي، فالصواب أن التفصيل يأتي فيما بعد في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145]، فتكون هنا الإشارة إلى التفصيل فيما يأتي من الآيات، فإنه ذكر بعد بيسير، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد، وتكون الآية التي أتت بالتفصيل في نفس السورة بعد شيء يسير؛ إذ لا مانع أن يكون المراد بقوله: ( فصل لكم ) يعني: فيما هو يأتي قريباً في نفس هذه السورة. وقوله: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) يعني: فصل لكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم أنزل بعد ذلك في القرآن في سورة المائدة تفصيل ما حرم. وفي قراءة: (وقد فَصل لكم ما حرم عليكم) والقراءة الأخرى: (وقد فُصل لكم ما حُرم عليكم)، ومعنى الآية: لا مانع من أكل ما ذكر، وقد بينا لكم المحرم أكله، وهذا ليس منه. وقوله: (إلا ما اضطررتم إليه) يعني أن ما حرم عليكم يباح لكم عند الاضطرار، فإذا دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة فيباح لكم. وقوله: (( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ )) (ليَضلون) قُرئ بفتح الياء وضمها، وقوله: (بغير علم) يعني: من غير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ إن هؤلاء المجادلين من المشركين قالوا: ما ذبحتم أنتم حلال، وما ذبحه الله حرام! أي: الذي يموت حتف أنفه، فجادلوا المسلمين في هذا، فلذلك جاء الجواب هنا. وقوله: (( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ )) أي: في شأن الذبائح (( بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ )) فالعلم دائماً ضد الهوى، كما هو معلوم، فالهوى مقابل الوحي، والوحي هو العلم، كما قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] يعني: وحياً. فقوله تعالى: (( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ )) يعني: من غير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ الحكمة في الذبح إخراج ما حرمه الله تعالى علينا من الدني، بخلاف الذي مات حتف أنفه؛ لأن الذي يموت حتف أنفه من هذه الأشياء ينحبس الدم فيه في داخل الجثة، فالحكمة من الذبح إراقة الدم وإخراجه، والله سبحانه وتعالى سخر لنا هذه المخلوقات، كما قال سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] فأباح لنا أكلها، وأباح لنا ذبحها لمصلحتنا، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا. فالحكمة في الذبح إخراج الدم من جسد الذبيحة، بخلاف ما مات حتف أنفه فإن الدم يبقى فيه، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى الذكاة في محل مخصوص، وهو في الرقبة، ليكون الذبح فيه سبباً لجذب كل دم في الحيوان، بخلاف غيره من الأعضاء، والذبح لم يكن في الورك أو الفخذ أو في الجسد أو في الرأس، وإنما كان الذبح في العنق؛ لأن الوريدين والأوعية الدموية التي هي موجودة في الرقبة إذا قطعت في الذبح الشرعي يؤدي قطعها إلى استنزاف الدم من جسد الذبيحة، والحركات العضلية التي يحدثها المذبوح تدفع الذي يبقى من الدم إلى خارج الجسد، فهذه الحركات التي تحصل من الذبيحة الهدف منها أن تطرد الدم حتى يخرج وحتى يتطهر بدنها من وجود هذا الدم. إنه إذا أراد أحد أن يعمل مزرعة فلابد من أن يحدد نوع البكتيريا التي قد تصيب هذه المزرعة؛ لأن البيئة صالحة جداً لنمو البكتيريا، فالخبراء يأخذون عينة ويضعونها على طبق فيه دم، وتترك حتى تتكاثر بسرعة، ولما يكثر عددها يستطيعون أن يعدوها وأن يعرفوا كثافتها، وفي نفس الوقت يعرفون نوع هذا الميكروب أو البكتيرياء، وحينئذ يستطيعون أن يأتوا بمضاد حيوي خاص بهذا النوع حتى يقتله. فالشاهد أنه في المعامل الطبية أو معامل التحريك إذا أردنا أن تنمو البكتيريا الميكروبات وضعناها في الدم، وإذا قارنت عينة من بقايا الدم الموجودة في الذبيحة بعينة أخرى من بهيمة مثلها تموت حتف أنفها دون أن يخرج منها الدم فستجد نسبة هائلة جداً من البكتيريا الضارة في هذه التي بقي الدم فيها؛ لأن وجود الدم في داخلها سيؤدي إلى تكاثر البكتيريا والميكروبات بشكل سريع جداً، وهذا مما يسبب ضرراً على صحة الإنسان، فأين هؤلاء الذين أرادوا أن يقولوا: إنكم ترون أن ما أماته الله حرام، وما ذبحتموه أنتم حلال؟! فهؤلاء يجادلون ويضلون بأهوائهم من غير علم بالحكمة التي من أجلها شُرع الذبح، والحكمة هي إخراج ما حرمه الله علينا من الدم؛ لأن هذا الدم حرام علينا أن نأكله، بخلاف ما مات حتف أنفه، فإن الدم ينحبس فيه، ولهم اعتبارات تجارية، منها أن الدم إذا انحبس في الجثة يكون وزنها أكثر، وهذه نظرة تجارية، وحينئذ يضلون بترك إخراج ذلك الدم، وهؤلاء الجهلة من المشركين في الغرب يعتبرون الذبح جريمة ووحشية، ويتكلمون بجهلهم أحياناً على الذبح بأنه نوع من الوحشية والقسوة وغير ذلك، والذي نعلمه أن في أمريكا الآن منع في القانون أكل ما لا يذبح، ولكنه ليس تعبداً وطاعة لله، وإنما هو انقياد للقواعد الصحية؛ لأنهم اضطروا إلى هذا الأمر بسبب الضرر الذي ينتج من وجود الدم داخل الذبيحة. قال الرازي : دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام؛ لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام. وقال بعض الزيدية: في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة، ولكن باتباع الهوى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون)

    ولما بين تعالى تفصيل المحرمات أتبعه بما يوجب ترك هذه المحرمات بالكلية فقال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120]. قوله: ( وذروا ظاهر الإثم ) أي: سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح، فهناك آثام يرتكبها الإنسان بالجوارح وتكون واضحة يراها الناس، وهناك آثام وكبائر باطنة يرتكبها بقلبه، فظاهر الإثم هو الذي يكون بالجوارح، (وباطنه) أي: ما يُسر منه بالقلب. وباطن الإثم لا شك في أنه أشد وأخطر من ظاهره، وكبائر القلوب أشد من كبائر الجوارح، ويكفيك أن من ذنوب القلب العقائد الفاسدة، فلو أن رجلاً يشرب خمراً ويعتقد بقلبه أنها حرام فإنه مسلم عاصٍ، وإن كان ظاهره أنه يشرب الخمر ويعصي الله سبحانه وتعالى، ولو أن رجلاً آخر لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أن الخمر حلال فهذا أسوأ حالاً، بل هو كافر مرتد خارج من الملة؛ لأن الكفر هنا بالقلب، فهذا باطن الإثم، فباطن الإثم هو الذي يرتكب بالقلوب كالعقائد الفاسدة والعزائم والنيات الباطلة؛ لأن النية محلها في القلب، وعلى هذا فإن النيات والعزائم الفاسدة من بواطن الإثم. أو أن معنى (( ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )) أي: ما يعلن من الذنوب وما يسر منها ويستتر فيه، أي: الذنوب عموماً، لكن بعضها يعلنها الإنسان أمام الناس وبعضها يرتكبها في خفاء. قال السدي : (وظاهره): الزنا مع البغايا ذوات الرايات (وباطنه): مع الخليلة والصدائق والأخدان. يعني: في السر. ولا يخفى أن اللفظ عام في كل محرم، ولذا قال قتادة : (ظاهر الإثم وباطنه) يعني: سره وعلانيته، قليله وكثيره، صغيره وكبيره، كقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] فما ظهر وما بطن هو كقوله تعالى: (ظاهر الإثم وباطنه). وقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ )) (يقترفون) يعني: يكتسبون. قال الشهاب : الاقتراف في اللغة: الاكتساب، وأكثر ما يقال في الشر والذم، ولذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف. وقد يرد في الخير. وأحياناً تستعمل كلمة (الاقتراف) في الخير، كما قال تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [الشورى:23] يعني: يكتسب. لكن الغالب أنها تستعمل في الشر. وقد روى مسلم وغيره عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) فجعل إتيان المعاصي في السر وحشة في الصدر، والحد الفاصل بين الإثم وبين البر أن البر هو حسن الخلق، والإثم ما حكاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب كما يؤاخذ بأفعال الجوارح. وهذا على التفسير الأول في هذه الآية، وهو أن قوله: (( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )) يعني سيئات الأعمال الظاهرة والعقائد والنيات الفاسدة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...)

    ثم قال تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. قوله: (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ))، يعني: عند ذبحه. فقوله: (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )) أي: إن ذكر عليه اسم غير الله فلا تأكلوه، مثل أن يهل به لغير الله، وعلى هذا لا يكون في الآية تعرض لذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها؛ لأن ما ذكر عليه غير اسم الله لا يدخل فيما ذكر عليه اسم الله. والآية تحتمل أن يكون المراد ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحتمل أن يكون المراد ما يذكر عليه اسم غير الله، وتحتمل أيضاً: أن مسلماً يذبح ذبيحة ولا يذكر اسم الله عليها، فإذا عممناها وجعلناها تشمل هذه الحالات ففي هذه الحالة لا يجوز الأكل من ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية، وفي المسألة تفصيل فيما إذا كان عامداً أو ناسياً. وقوله: (وإنه لفسق) الفسق هو ما أهل لغير الله به، كما في الآية الآتية في آخر السورة، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنه في الآية التي في أواخر هذه السورة قال تبارك وتعالى فيها: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] فهنا -أيضاً- وصف هذا الفعل بأنه فسق، فمن ثمّ قال بعض المفسرين: (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )) أي: مما أهل به لغير الله. يعني: لأن هذا هو نفس الفسق، فلا تتناول الآية -على هذا القول- ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية. وقوله: (وإنه لفسق) الفسق هو الخروج عن الحسن إلى القبح بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره. وقوله: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ))، المقصود: إبليس وجنوده، (ليَوحون) يعني: يوسوسون (إلى أوليائهم) يعني الذين اتبعوهم من الكفار (ليجادلوكم) يعني: بالوساوس الشيطانية، أو بما نقل من أباطيل المجوس، والمراد: ليجادلوكم في تحليل الميتة، يريدون أن تستحلوا الميتة وتأكلوها فيجادلوكم بهذه المناقشة التي سبق أن ذكرناها. والمجادلة هي دفع القول عن طريق الحجة بالقوة، وكلمة (المجادلة) مشتقة من الأجدل، والأجدل طائر قوي، فالمجادلة هي دفع القول عن طريق الحجة، أي أنك تبطل قول خصمك عن طريق الحجة القوية بهذه القوة العلمية. وقيل: مأخوذة من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة ويقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: مأخوذة من الجدل، والجدل هو شدة الفتل، كالذي يفتل الحبال، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقاً في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل، فالمجادلة الصحيحة كقوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] والمجادلة المذمومة هي المجادلة في دفع الحق ونصرة الباطل، كقوله تعالى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ )) أي: في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله. وقوله: (( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )) أي: مشركون لهم مع الله فيما يختص به من التحليل والتحريم. وقوله: (( لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ )) روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: إن المختار الذي ادعى النبوة يقول: (يوحى إلي)! أي: يزعم أنه يوحى إليه. فقال عبد الله بن عمر : (صدق (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )) ) أي أنه يوجد نوع من الوحي الباطل عن طريق الوساوس كما ذكرنا. وكان مما يحكى في أوائل الثمانينات أنه كان هناك بدعة ضالة مشهورة عن الحرماوي ، وقد ضل ضلالاً عجيباً، والقضية فيها كلام كثير لا نريد أن نفصل الكلام فيها، يقول الذين كانوا معه في الزنزانة: إنه كان يستيقظ بعض الإخوة في الليل -والزنزانة فيها سور يفصل بين دورة المياه وبين العنبر- فكانوا يجدونه بالليل وهو متسلق فوق هذا السور يقول: هات هات. أي: كأنه يستقبل وحياً، ويمكن أن يكون يوحى إليه فعلاً، والذي يوحي إليه هم الشياطين، كما قال تعالى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )) ولا مانع من أن يسمى هذا وحياً؛ لأنه بمعنى الوسوسة بهذه الأوهام وهذه الأباطيل. وهناك من يدعي أنه يحكم على الأحاديث بقلبه، فيحكم على الحديث هل يقبل أم لا يقبل بقلبه. وهناك من يحرمون الاكتساب، ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يسعى في طلب الرزق أبداً، بل يعيش هكذا. ولا يجوزون قتل أي نوع من الحشرات، لا الفئران ولا الصراصير ولا البراغيث ولا القمل ولا غيرها؛ لأنها تسبح الله، والجنون فنون! فهذا أيضاً من الوحي، ولكنه وحي من الشياطين، وهذا كالوحي الذي كان يأتي غلام أحمد القادياني ، فإنه كان يقول: أتاني وحي في سورة رجل إنجليزي حسن الصورة وقال لي كذا وكذا. ونحن نقول: نعم، إنه شيطان كان يوحي إليه.

    سبب نزول قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم...) الآية

    هنا تنبيهات تتعلق بهذه الآية: الأول: روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتله الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى: (( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ )) إلى قوله: (( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ))) أخرجه أصحاب السنن. وفي رواية لـأبي داود في قوله تعالى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )) أنهم قالوا: (ما ذبح الله فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا! فأنزل الله تعالى: (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ))) وفي آية أخرى: (( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5]. وعند النسائي قال: (خاصمه المشركون فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه!).

    مشروع التسمية عند الذبح

    التنبيه الثاني: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح، وهذا من دقة القاسمي ، حيث استعمل كلمة (مشروعية) فأتى بلفظ عام؛ لأنه ليس في مقام تحقيق حكم التسمية، فلذلك تخلص من الانحياز لأحد القولين بأن أتى بالمشروعية، فالمشروعية تشمل الواجب وتشمل المستحب أيضاً، فلذلك قال هنا: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح، فقيل: (باسم الله) بهذا اللفظ الكريم، وقيل: بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن وسائر أسمائه الحسنى، لقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110]، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180].

    حكم الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها

    التنبيه الثالث: ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، أي أن الآية (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )) تساوي ما ذكر اسم غيره عليه، فـالقاسمي يميل إلى هذا، ويقول: هذا هو الأظهر في تأويل هذه الآية (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ))، وهو المشار إليه بقوله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] يعني: لا تشمل ذبيحة المسلم الذي لم يسم، لقوله تعالى بعد: (( أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )) وهذا من باب مراعاة النظائر في القرآن، فالنظائر القرآنية أولى ما يلتمس المراد بها. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، وذبائح المجوس. وقد حاول بعضهم أن يقويه. وقوله: (( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )) لأن من أكل الميتة أو ما ذبح على النصب يفسق، وإذا استحلها يكفر، فلو أن رجلاً أكل الميتة وهو معتقد أنها حرام في غير حالة الضرورة فإنه يكون فاسقاً، لكن لو اعتقد أنها حلال حتى لو لم يأكلها فهذه ردة وكفر. فقوله: (وإن أطعتموهم) يعني: في استحلال الحرام، أو تحريم الحلال (إنكم لمشركون). يقول القاسمي : وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً. واحتج البيهقي بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: -يعني: عائشة - وكانوا حديثي عهد بكفر)، رواه البخاري . قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها؛ لأنهم لا يعرفون هل سموا أم لم يسموا، فلما قال لهم: (سموا عليه أنتم وكلوه)، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن التسمية شرط لذبيحة المسلم، ولذا لم يرخص لهم إلا مع التحقق من وجود التسمية. يقول الخطابي : فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة؛ لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يُعلم هل وقع في الذكاة المعتبرة أم لا. وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه (سموا أنتم) ومعنى (سموا أنتم) يعني أن هناك شكاً في نحوهم سموا أم لا، وكأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم، ومما يدل عليه -أيضاً- قوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:5]، فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم هل سموا أم لا. هذا وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، وأخذوا بظاهر هذه الآية. يعني أنهم فسروا قوله تعالى: (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )) إما بأن يكون قد أهل لغير الله به، أو بأن تترك التسمية عليه حتى لو كان الذابح مسلماً؛ لأنه يصدق عليه ظاهر الآية، وهو أنه مما لم يذكر اسم الله تبارك وتعالى عليه. يقول: وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً عمداً ترك التسمية أو نسياناً، فالظاهر يدل على هذا، واحتجوا -أيضاً- بقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4] وهنا أمر بذكر (بسم الله). واحتجوا -أيضاً- بالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي علي وأبي ثعلبة : (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل) يعني صيد الكلب المعلم يباح، لكن صيد الكلب الجاهل لا يباح عند أهل العلم، وفي هذا بيان شرف الكلب المتعلم على الكلب الجاهل، فتباً لمن يحذرون الناس من طلب العلم ويزهدونهم فيه ويفيضون في ذكر فضائل الجهل، وأن الصحابة كان منهم من لا يعرف كذا ولا كذا ولا كذا، والعياذ بالله! فإذا كان بالعلم فُضل الكلب على أخيه الكلب، فكيف لا يُفضل الإنسان المؤمن المتعلم على الذي لا يتعلم؟! ولكن هنا شرطان: أن يكون الكلب معلماً، وأن تذكر اسم الله، فدل على أنه إذا لم يذكر اسم الله فلا يأكل، وفي حديث رافع بن خديج : (ما أنهر الدم -يعني: أراق الدم- وذكر اسم الله عليه فكلوه)، وهو في الصحيحين أيضاً، وفي حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه) وفي حديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، فمن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله)، أخرجاه. ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصل ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصل، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012042