إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [82]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاء نبينا صلى الله عليه وسلم بإبطال كل أمر من أمور الجاهلية لا يكون موافقاً للحق، والاستسقاء بالأنواء من عادة أهل الجاهلية ومن دينهم، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم كفراً؛ لأنهم أضافوا ما نزل بهم من رحمة ورزق من الله إلى طلوع كوكب ما أو غروبه، ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن هذا الفعل باق في هذه الأمة ومستمر فيها.

    1.   

    تعريف الاستسقاء بالأنواء وحكمه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء] .

    الاستسقاء: طلب السقيا، استسقى إذا طلب أن يُسقى، والاستسقاء بالأنواء: أن يضاف نزول المطر إليها، والأنواء هي: منازل القمر، والعرب كانوا يعتنون بها ويعرفونها، وذلك أنه كان غالب مساكنهم الصحراء، وكانوا يعتمدون على المطر لمواشيهم، وهذا هو مصدر رزقهم، ليس عندهم زراعات ولا تجارات ولا صناعات، فلأجل ذلك كانوا يعتنون بالنظر في الأفق في السماء كثيراً؛ يتطلبون نزول المطر الذي فيه رزقهم، ويرون أنه مصدر رزقهم، وإذا تأخر عليهم المطر ساءت أحوالهم؛ فلهذا صاروا ينظرون إلى الكواكب كثيراً، وينظرون متى يطلع الكوكب الفلاني ومتى يغرب، ويسبرون مجيء السحاب ونزول الأمطار، فإذا وافق نزول المطر طلوع هذا الكوكب أو أفوله يضيفون المطر إليه، ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد يتكرر هذا أحياناً، وأحياناً يجعلون هذا الكوكب كوكب سعد، وأحياناً يجعلونه كوكب نحس؛ لأنهم ما رأوا فيه أمطاراً، ولهذا سموا بعضها سعد السعود، وبعضها سعد بلاء.. وسعد الأخبياء... وهكذا، فكل واحد كانوا يسمونه حسب عقيدتهم وحسب نظرهم، وهي عقيدة قاصرة جداً؛ ومبنية على أمور ظاهرة، وليست مهتدية بهداية الله أو بوحيه.

    والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال كل أمر من أمور الجاهلية لا يكون موافقاً للحق، فالاستسقاء بالأنواء من عادة أهل الجاهلية الكفار، ومن دينهم وشأنهم؛ ولهذا جعله الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً، وأخبر أنه يستمر في هذه الأمة ويدوم فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم) فذكر أن الاستسقاء بالأنواء مستمر فيهم.

    والمقصود: أن الاستسقاء بالأنواء معناه: أنهم أضافوا ما نزل من رحمة ومن رزق من الله لهم إلى طلوع الكوكب أو غروبه.

    وأما أنهم كانوا يعتقدون أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا لا يوجد في اعتقادهم؛ كما ذكر الله جل وعلا ذلك عنهم فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63]؛ فلا يقولون: الكواكب، وإنما يقولون: الله، فهم يقرون بهذا، ولكن يضيفون نزوله إلى الكوكب، ويقولون: هذا الكوكب محمود؛ لأنه في وقته تأتي الأمطار، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر. كما سيأتي.

    تعريف الأنواء

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [أي: من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء، والأنواء: جمع نوء، وهي منازل القمر].

    وسمي النوء لأنه ينوء إذا طلع، يعني: يظهر ويبين، أو ينوء إذا غرب، يعني: يختفي ويذهب، والنوء من الأضداد، مثل: عسعس إذا اختفى، وعسعس إذا بان، وكذلك ناء إذا ظهر وبان، وناء إذا غرب واختفى، فيجوز أن يضاف النوء إلى الغروب، ويجوز أن يضاف إلى الطلوع، وكلها لغة عربية معروفة؛ لأن كلام العرب له أنواع شتى، منها: الأضداد، فنوء هنا تطلق على الضدين: على الطلوع، وعلى الأفول، فالنوء معناه: الفعل الذي يضيفونه إلى الكوكب، سواء كان غروباً أو طلوعاً، والكوكب لا يفعل بنفسه، وإنما هو مدبَّر مسيَّر بأمر الله جل وعلا، جعله الله آية من آياته.

    قال الشارح رحمه الله: [ قال أبو السعادات : وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها، ومنه قول الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39]، يسقط في الغرب كل ثلاثة عشر ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون المطر، وينسبونه إليها ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإنما سمي نوءاً؛ لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي: نهض وطلع].

    1.   

    معنى قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82]].

    هذه الآية جاء تفسيرها مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرزق هو المطر، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبكم، يعني: والتكذيب أنكم تضيفون نزوله إلى غير منزله ومسقيه وموليه الذي هو الله، وتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، والواجب أن يقول العبد: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فالله هو الذي أمطر، أما الكوكب فإنه لا دخل له في ذلك، فتجعلون نزول الرزق -الذي هو المطر- تكذيباً، وكان الأحرى بكم أن تشكروه، وتكذيبهم هو: نسبتهم المطر إلى النوء هذا قول.

    القول الثاني في الآية: أي: تجعلون نصيبكم وحظكم من الإيمان بهذا الكتاب أنكم تكذبون به وتردونه، وكلا المعنيين صحيح وحق، ويدخل في الآية الأول والثاني.

    قال الشارح رحمه الله: [روى الإمام أحمد والترمذي -وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في (المختارة) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يقول: شكركم، (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا)، وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخرساني وغيرهم].

    إذا كان كذلك فيكون هذا من الشرك الأصغر، وهو شرك الألفاظ؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون أن الكواكب هي التي تنزل المطر؛ ولكن يضيفون نزوله إلى طلوع الكوكب، يعني: أنه وقت طلوعه حصل لنا المطر الذي أنزله الله، وهذا لا يجوز، ويكون من الشرك الأصغر: شرك الألفاظ، فيجب على العبد أن يجتنبه، وأن يقول: نزل المطر بفضل الله وبرحمته، لا بطلوع الكوكب ولا بغيره، ولهذا اختلف العلماء في مجرد اللفظ، وفي كون الإنسان يقول: إن هذا من السبب أو جزء من السبب أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز أو لا يجوز؟ الصواب: أنه لا يجوز؛ لأن كله داخل في ذلك، أما لو قال مثلاً: مطرنا في نوء كذا، فهذا مثل أن يقول: مطرنا في الشهر الفلاني، أو في اليوم الفلاني، يعني: أنه حصل المطر في ذاك الوقت، فهذا ليس داخلاً في ذلك؛ لمجيء كلمة (في) الظرفية أما إذا جاء بالباء السببية، فلا يجوز؛ لأن فيه إضافة إلى غير المسبب الموجد.

    أما ما سيذكره عن القرطبي رحمه الله: أن من العرب من يعتقد أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا غير صحيح، ولا يوجد أحد من خلق الله من يعتقد ذلك، وإنما يجعلون ذلك سبباً أو جزءاً من السبب فقط، ومع ذلك إذا جعله سبباً يكون كفراً أكبراً، بخلاف ما إذا أضافه إضافة لفظية فقط، وعلى ما جرى في الألسن والعادة، فهذا يكون من الشرك الأصغر، وشرك الألفاظ التي يجب أن تجتنب، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من كل لفظ يكون فيه انتهاك لحق الله أو لقدره وعظمته، وحمى الأمة من الوقوع في المحذور، وهذه الحماية هي التي يسميها العلماء حماية جناب التوحيد وسد الذرائع، فسد كل ذريعة توصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، وهذا من تمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه للأمة.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بهذه الآية].

    أي: القول الأول: وهو كونهم يجعلون رزقهم أنهم يكذبون بأنهم يضيفون نزول المطر إلى الكواكب، يقول الشارح: هذا هو قول جمهور المفسرين، ولكن القول الثاني صحيح تدل عليه الآية أيضاً، وكلام الله له معانٍ واسعة كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يبين ذلك، إنما يكون بحسب حاجة المتكلم أو السامع، وهذا التفسير هو مثل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] أي مسجد هذا يا رسول الله؟! فقال: (هو مسجدي هذا)، مع أن المعروف أن الآية نزلت في مسجد قباء؛ حينما ساق الله قصة مسجد الضرار، ومسجد الضرار بناه المنافقون قرب مسجد قباء؛ يريدون أن يكون محلاً لاجتماعهم ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، فجعلوه بصفة المسجد، وزعموا أنه يكون لليلة الشاتية، وللإنسان الضعيف، والشيخ الكبير، أو المريض الذي لا يستطيع أن يصل إلى مسجد قباء، هكذا زعموا، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذا المسجد نزلت الآية في شأنه وفي شأن أهله، وأمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقوم فيه أبداً، وقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وقد جاء في الصحيح أنه قال لأهل قباء: (إن الله أحسن الثناء عليكم فما هذه الطهارة؟) فأخبروه أنهم إذا قضوا الحاجة غسلوا أدبارهم، أي: استجمروا أتبعوا ذلك بالماء، فقال: (هو ذاكم فعليكموه)، ومع ذلك جاء في صحيح مسلم أنه سئل فقيل له: (أي مسجد هذا الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدي هذا)، أي: إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم من باب أولى أن يكون مؤسساً على التقوى، والقصد من إيراد هذا المثل: أنه إذا ذكر معنى من المعاني للآية، فإنه لا يدل على أن المعنى الثاني باطل أو أنه مردود، والذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية السابقة واضح وأولى أن تفسر الآية به، إلا أنه لا ينفي أن يكون لها معنىً آخر، وهو أن الكفار جعلوا حظهم من القرآن تكذيبه، وجعلوا حظهم من الإيمان والانتفاع به أنهم ردوه وكذبوا به، وبئس الحظ هذا.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني: القرآن. قال الحسن : تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب].

    1.   

    شرح حديث: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب) رواه مسلم ].

    قوله: (أمر الجاهلية) ذكر الجاهلية هنا ليدلنا على أن هذه الأفعال معيبة، وأنه لا يجوز أن يتحلى الإنسان بشيء منها.

    والجاهلية: نسبة إلى الجهل، وليست إلى أشخاص معينين أو زمن معين، فكل ما كان مخالفاً للحق مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية، سواء كان زمنه قديماً أو جديداً.

    وقوله: (في أمتي) يعني: في مجموعها، وليس في كل واحد منها، بل يوجد في مجموع الأمة.

    1.   

    الدلائل على أن القرآن كلام الله

    قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن القيم رحمه الله: ونظيره وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13]، وقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102].

    هو إثبات علو الله تعالى على خلقه، فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو: وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]، لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته فأنزلها لنا بأمره ].

    والدليل على أن القرآن نازل من الله جل وعلا من وجهين:

    أحدهما: كلمة تنزيل، في قوله تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:80].

    الثاني: قوله: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:61]، فكلمة (من) تدل على أنه منه جل وعلا، وقولاً قاله، وقد جاءت النصوص الكثيرة تدل على هذا، وهذا واضح وجلي، والمسلمون -والحمد لله- كلهم يؤمنون بهذا، ولا يردونه، ولا يكذبون به، وإنما يكذب به من انتكست فطرته، وتغيرت عقيدته بكلام اليونان وبغيره، وبالأمور المستوردة الغريبة عن الإسلام، الذين أنكروا صفات الله جل وعلا، وأنكروا أنه يتكلم ويقول، وهذا أمر واضح البطلان.

    وقد أراح الله جل وعلا المسلمين -والحمد لله- من شر هؤلاء، ومن سيطرتهم على الإسلام، لأنهم كانوا في وقت من الأوقات مسيطرين على المسلمين، وكان بيدهم القضاء والحكم وغير ذلك، فأراح الله جل وعلا المسلمين منهم، وكاد هذا المذهب الباطل أن ينسى، لولا أن كثيراً ممن يعتنق مذهب الأشاعرة يتبنى هذا القول، ويقول: إن الكلام الذي يضاف إلى الله كلام نفسي، أما كلام ينطق به ويسمع منه فهذا ينكرونه، ومع ذلك فإن هذا القول الذي يقولونه لا تقبله العقول والفطر، بل هو من أبطل الباطل، والأمر في هذا واضح -والحمد لله- ليس فيه خفاء.

    أما قوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]، والمقصود بهذا: الامتنان على العباد، وأن الله منّ عليهم ما أعطاهم من هذه الأنعام التي ينتفعون بها: بركوبها، وبالحرث عليها، وبأكل لحومها، وبغير ذلك من المنافع الكثيرة التي منّ الله جل وعلا بها عليهم، فهو منزل لها عليهم كما ينزل المطر، وليس معنى ذلك أنها نزلت من السماء، بل يجوز أن نقول: إنه النزول من ظهور الفحول في أرحام الإناث، فتنتج وتتناسل وتتكاثر، فتكون نعمة.

    كما أنه أنزل الحديد وإنزال الحديد قد يكون من الجبال، وقد يكون من أشياء مرتفعة من الأرض أو غير ذلك، وهو منّة من الله جل وعلا، منّ بها علينا، فلا يرد تنزيل القرآن بمثل هذه التي قد يكون فيها شيء من المتشابه، ومعلوم أن أهل الباطل والزيغ يتعلقون بالمتشابه، ويتركون الواضح الجلي البين، وهذه علامة اتباع الهوى.

    قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن القيم رحمه الله: وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين، المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق، كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثاً، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين، أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء ].

    يقصد رحمه الله: أن الاستدلال بأسمائه وصفاته أقوى وأظهر من الاستدلال بالمعجزات التي جاءت بها الرسل، وإن كان الاستدلال بالمعجزات أقرب إلى أذهان عامة الناس، ولكن هذه إلى قلوب الخاصة أظهر وأبين، لأنه أمر مرتبط بعضه ببعض.

    وعلى كلٍّ: فالدلائل على كون الله جل وعلا هو رب العباد وخالقهم، وهو المنعم عليهم، وهو الذي يجب أن يعبدوه، وهو الذي يكون مآلهم إليه، فيجازيهم بأعمالهم: لا حصر لها، فهي كثيرة جداً: في الأنفس، وفي الآفاق، وفي الأمور الخارجة عن العادة، وفي كل شأن من شئون الحياة، إذا فكر الإنسان في ذلك، فالأمر ليس مقصوراً على نوع من الأنواع.

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة:81]، قال مجاهد : أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم؟ ].

    المقصود بالحديث في هذه الآية: القرآن، أي: أفبهذا القرآن الذي نزل عليكم تداهنون الكفار؟! تمالئونهم وتجارونهم على ما يريدون، وتتركون معاداتهم ومبادأتهم بالعداوة، وإظهار البغضاء والكراهة لهم، فإن هذا هو الذي يجب.

    قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثني عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ويسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق؟! والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟

    وقوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82]، تقدم الكلام عليها أول الباب والله تعالى أعلم].

    1.   

    مسائل باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

    [فيه مسائل:

    الأولى: تفسير آية الواقعة.

    الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية].

    وهي: الطعن في الأنساب، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء، هذه الأربع من أمور الجاهلية، وإضافتها للجاهلية كان على سبيل الذم والتحذير منها، فينبغي للإنسان أن يحذر من الوقوع فيها، وإذا وقع فيها فإنه واقع في أمر من أمور الجاهلية التي يعاقب الإنسان على فعلها.

    كفر دون كفر

    [ المسألة الثالثة: ذكر الكفر في بعضها ].

    أي: هو كفر النعمة، وكفر دون كفر، وليس الكفر المخرج من الدين الإسلامي؛ لقوله: (ثلاث في أمتي هم بهن كفر: الطعن في الأنساب، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت).

    وقوله: (هم بهن كفر) جاءت كلمة الكفر هنا نكرة فيكون المراد به حنيئذ الغير مخرج من الدين الإسلامي، وإنما هو خصلة من خصال الكفر.

    [ المسألة الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة، المسألة الخامسة: قوله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بسبب نزول النعمة ].

    فيكون كافراً كفر النعمة، وليس كافراً الكفر الذي يخرجه من الدين الإسلامي.

    إضافة النعمة للمنعم الحقيقي إيمان، وإنكارها كفر

    [ المسألة السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع ].

    يعني في قوله: (مؤمن) حيث جعل إضافة النعمة والإقرار بها إلى الله إيماناً.

    [ المسألة السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع ].

    يعني: كونه أضاف النعمة إلى غير المنعم بها، فصار ذلك كفراً.

    ماذا يعنون بقولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا

    [ المسألة الثامنة: التفطن لقوله: لقد صدق نوء كذا وكذا ].

    يقصد: قولهم الذي يقولون: صدق نوء كذا وكذا، فإنهم لا يريدون في ذلك أن النوء يخلق المطر ويوجده من العدم، وينعم به على العباد، هذا لا يقوله أحد، وإنما أضافوا نزول المطر إلى طلوعه أو إلى غروبه، فصار هذا كفراً للنعمة التي يجب أن تضاف إلى المنعم، ويشكر عليها.

    [ المسألة التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: أتدرون ماذا قال ربكم؟

    المسألة العاشرة: وعيد النائحة].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756326188