إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [38]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد يستحسن الإنسان فعلاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو في الحقيقة يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى.

    1.   

    حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]) شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل؛ بجامع أن كلاً طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة.

    ففيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء، وهو الذنب الذي لا يغفره الله].

    في هذه الجملة في قوله صلوات الله وسلامه عليه: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138])الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذه المقالة هي كمقالة الذين طلبوا الشرك صراحة؛ لأنهم قالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ، أما هؤلاء فقالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)وسبق أن بينا أن معنى ذات أنواط: شجرة تعلق بها الأسلحة لتحصل منها البركة، وكانوا يجلسون عندها تعظيماً لها، وهذا يعد من العبادة، ففي هذا دليل واضح على أن طلب التبرك بالشجر ومثله الأبنية أو الأضرحة أو الحجارة أو البقاع أو الأماكن يكون شركاً، ويكون من الشرك الأكبر، وهذا واضح جداً من هذا النص الجلي.

    السبب في عذر الصحابة وعدم تكفيرهم بقولهم :(اجعل لنا ذات أنواط..)

    وقد يأتي سؤال هنا ويقال : ما دام أن الطلب الذي قاله هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم -وهو طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة يعلقون بها أسلحتهم- كقول بني إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ فلماذا لم يترتب -على ذلك- الحكم عليهم بالشرك؟

    الجواب: لم يترتب عليهم الحكم بالشرك لسببين:

    الأول: ما أشار إليه من أنهم يجهلون هذا؛ لأنه قال: (ونحن حدثاء عهد بشرك) وهذا دليل أن غيرهم لا يجهله وأنه واضح، والجاهل إذا جهل الشيء وفعله على سبيل الاجتهاد يعذر بجهله ولو كان من الأمور الكبيرة العظيمة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم نصاً وبياناً وإيضاحاً، فعبادة الله جل وعلا وكون الدين لا يكون إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم كان متقرراً عندهم؛ ولهذا قالوا له: اجْعَل لَنَا وهذا أمر واضح لا يخفى، فإذا كان خافياً مثل هذا فإنهم يعذرون بذلك.

    الأمر الثاني: أنهم لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوه لكانوا -بلا إشكال- قد وقعوا في الشرك، ولكنهم استأذنوا وطلبوا أن يجعل لهم شيئاً يفعلونه، فبين لهم أن هذا الطلب لا يجوز، فامتنعوا، ولا يمكن أن يقال: إنهم طلبوا شيئاً يريدونه استحساناً؛ لأنهم أعظم من أن يخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخالفوا الله جل وعلا، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمه قال: (قلتم والذي نفسي بيده) ومعنى قوله: (والذي نفسي بيده) قسم بالله؛ لأن النفوس بيد الله جل وعلا، يتصرف فيها كيف يشاء، إن شاء أن يقبضها قبضها وإن شاء أن يرسلها أرسلها، كما قال الله جل وعلا: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42] أي: إلى أجل مسمىً فقط، وإلا فسوف يقبضها، فالنفوس بيد الله، ولهذا قد يكون الإنسان صحيحاً معافاً ثم يسقط في لحظة ويموت، فالأمر بيد الله، هذا شيء.

    الشيء الثاني: أنه جل وعلا هو الذي يصرف القلوب كيف يشاء، فالأمر إليه جل وعلا من شاء أن يهديه هداه، ومن شاء أن يضله أضله، ولكن الله جل وعلا -وله المنة والفضل- جعل للإنسان عقلاً واختياراً، وجعل له قدرة، ثم كلفه على حسب مقدرته بالأوامر والنواهي، ووكل الأمر إليه، وقال له: إن فعلت ما أمرت به، جوزيت الجنة والسعادة العاجلة والآجلة، أما إن خالفت ما أمرت به وعاندت، وفعلت خلاف الأمر، فإنك لن تفوت الله، وسوف يجزيك العذاب، والعاقل يعرف الذي ينفعه من الذي يضره.

    وهذا هو مقتضى الجزاء، وإلا لو أن الإنسان ليس له اختيار فلا يكون حينئذٍ فائدة للجزاء والعقاب! ومع ذلك الله يعلم قبل وجود الخلق أن هذا المخلوق سوف يوجد ويعمل هذه الأعمال التي يعملها باختياره ومقدرته، وهذا شيء يجده الإنسان من نفسه، وكل واحد يشعر من نفسه أنه يأتي ويذهب إلى أيّ مكان باختياره، وقد كتب هذا وقدر وعلمه الله سابقاً.

    كذلك يجد من نفسه أنه يذهب إلى أغراضه التي يطلبها لنفسه مختاراً، مع أنها مكتوبة ومقدرة، ولا يمكن أن يقع حدث إلا وقد كتب وسجل.

    فالمقصود إذاً: أن الله يعلم أن هذا المخلوق سيوجد ويفعل كذا وكذا باختياره ومقدرته، والله هو الذي خلق له الاختيار والمقدرة، فيكون فعله مخلوقاً لله جل وعلا كما أنه هو مخلوق، فليس في هذا متعلق لأهل البدع الذين يزعمون أن العباد شركاء مع الله؛ لأنهم يخلقون أفعالهم، كما تقوله القدرية.

    وكذلك ليس فيه متعلق للجبرية الذين زعموا أن العبد بمنزلة الآلة التي تدار ليس له أيّ تصرف.

    هل الإنسان مسير أم مخير؟

    وكثيراً ما يسأل الناس ويقولون: هل العبد مسير أم مخير؟

    فالجواب عن هذا: أن هذا كلام مجمل، وبجملته باطل، فلا يجوز أن نقول: لا مسير ولا مخير، فإذا قلت: مسير فهو خطأ، وإن قلت: مخير على الإطلاق فهو خطأ، بل العبد عبد لله جل وعلا، جعل الله جل وعلا له قدرة وله اختيار، وكلفه بما يستطيعه، فقال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ومع هذا ليس العبد حراً يفعل ما يشاء، وليس الأمر باختياره، بل يقول الله جل وعلا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]يعني: لا يقع فعل من العبد إلا بإرادة الله ومشيئته، وإن كان بقدرته واختياره، وهذا من تمام قدرة الله جل وعلا أنه جعل هذا العبد يفعل ما كتبه الله جل وعلا عليه باختياره، وبهذا يتبين لدى العاقل أنه يجب عليه أن يفتقر إلى ربه، ويخضع له، ويذل له، ويسأله الهداية دائماً، ويظهر فقره إلى الله وذله وخضوعه؛ لأنه يعلم أنه لا غنى له عن ربه جل وعلا، وأنه إذا لم يهده ربه جل وعلا فليس له من غيره هادياً، ولهذا من فضله وكرمه وجوده فرض علينا أن نعبده بهذا السؤال في كل ركعة من ركعات الصلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وإذا لم يهدنا ربنا فلا هداية لنا من أنفسنا، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، وكذلك أوجب علينا أن نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] يعني: أنه إذا لم تحصل لنا الإعانة منه جل وعلا على عبادته فإنها لا تقع، وهذه لابد منها، فأنت تعبد ربك وتستعين على عبادته به جل وعلا.

    والخلاصة: أن الملك كله لله، والخلق كلهم لله يتصرف فيهم كيف يشاء، فيجب على العبد أن يعلم هذه الأمور ويعترف لله جل وعلا بها، ويعبده على ضوئها ذالاً خاضعاً مفتقرًا يُظهِر فقره، ويعلم أنه إذا لم يهده الله جل وعلا فإنه ضال، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أعطكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته..) إلى آخره.

    من هو إسرائيل ؟ ومن هم بنوه ؟

    قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل) بنو إسرائيل: يقصد بهم هنا أتباع موسى، وإلا فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل: عبد الله، وهكذا كل اسم آخره جاء في (يل) فإنه معبد لله مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فكلهم معبدون لله، وإسرائيل هذا هو أبو الأسباط الذين جعلهم الله جل وعلا أنبياء، ثم إن ذريته هم الذين صاروا أتباعاً لموسى، وموسى أرسل إليهم والى القبط أيضاً، وكان القبط أتباع فرعون وقومه، وكانوا مستعبدين بني إسرائيل بمصر، والذي أدخلهم إلى مصر في ذلك الوقت هو يوسف، كما ذكر الله جل وعلا لنا في القرآن أن إخوة يوسف هددوه على كون أبيه يحبه حباً كثيراً أكثر منهم، فتآمروا على أنهم يبعدونه عنه، فحصل ما ذكره الله جل وعلا، ثم ذهب إلى مصر، فلما منَّ الله جل وعلا عليه بالملك طلب من إخوته أن يأتوا بأهلهم، كما ذكره الله جل وعلا في قصة يوسف، فسكنوا في مصر وتكاثروا.

    قصة موسى مع فرعون

    ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة.

    ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل.

    ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه ...إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة.

    ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء.

    ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم.

    وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92].

    ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره.

    ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر.

    فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين.

    أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟

    قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل) بنو إسرائيل: يقصد بهم هنا أتباع موسى، وإلا فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل: عبد الله، وهكذا كل اسم آخره جاء في (يل) فإنه معبد لله مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فكلهم معبدون لله، وإسرائيل هذا هو أبو الأسباط الذين جعلهم الله جل وعلا أنبياء، ثم إن ذريته هم الذين صاروا أتباعاً لموسى، وموسى أرسل إليهم والى القبط أيضاً، وكان القبط أتباع فرعون وقومه، وكانوا مستعبدين بني إسرائيل بمصر، والذي أدخلهم إلى مصر في ذلك الوقت هو يوسف، كما ذكر الله جل وعلا لنا في القرآن أن إخوة يوسف هددوه على كون أبيه يحبه حباً كثيراً أكثر منهم، فتآمروا على أنهم يبعدونه عنه، فحصل ما ذكره الله جل وعلا، ثم ذهب إلى مصر، فلما منَّ الله جل وعلا عليه بالملك طلب من إخوته أن يأتوا بأهلهم، كما ذكره الله جل وعلا في قصة يوسف، فسكنوا في مصر وتكاثروا.

    قصة موسى مع فرعون

    ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة.

    ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل.

    ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه ...إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة.

    ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء.

    ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم.

    وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92].

    ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره.

    ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر.

    فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين.

    أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    تخليق الحيطان والعمد

    قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بـأبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد].

    قصده بتخليق الحيطان والعمد: وضع الخيوط عليها، فالخيوط والخرق كانت توضع -مثلاً- على الشجر أو غيرها لأجل البركة، وكانوا يميزونها فيقولون: هذا الخيط الفلاني وهذا الخيط لفلان، وكذلك كانوا يضعون عليها خرق وما أشبه ذلك، خرقة فلان وخرقة فلان، فتبقى في هذه الشجرة وقتاً، ثم يأتي صاحبها ويأخذها، فتكون قد اكتسبت البركة في زعمهم.

    وهذا في الواقع وثنية جاهلية، وللأسف أنه يوجد في بلاد المسلمين وممن يصلي ويصوم ويتصدق ويزعم أنه موحد يوجد ذلك منه، وهذا مخالف للتوحيد، وما زال العلماء ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها مثل ذات أنواط تماماً، وأن الإنسان يجب أن يطهر قلبه وعمله من كونه يلتف في ذلك إلى غير الله، بل يجب أن يكون عبداً خالصاً لله، وما زال العلماء يعلمون هذا، وينكرون من خالفه بأشد ما يملكون من الإنكار، إن استطاعوا باليد -كقطع الشجر وهدم البناء- فعلوا، وإن لم يستطيعوا بينوا بالقول والكتابة.

    1.   

    دعاء القبور شرك، والإسراج عليها وسيلة إليه

    [ وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم؛ فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى].

    أبو شامة كان في القرن السابع أو السادس ومع هذا يقول: كانت هذه الأشياء موجودة، وحتى قبل ذلك الوقت وجد هذا الشيء، وقصده بالعيون: المياه التي تنبع، وتسمى الآن (مياه طبيعية)، ولا يزال الناس يستشفون بها، وقد يتعلق بها بعض الجهال، ويقصدها من أماكن متعددة، ويرى أن فيها الشفاء، والواقع أنه لا شفاء فيها، وإنما الشيطان يزين ذلك حتى يتعلق الإنسان بغير الله جل وعلا.

    وقد يشفى الإنسان من باب القدر وليس من باب أن هذا يؤثر، وإنما هو من باب تقدير الله جل وعلا، كما أنه قد ينال مطلبه عندما يتوجه إلى صاحب قبر يدعوه ويستغيث به من باب القدر، أي: أن الله قدر هذا، فيكون في هذا ابتلاء له، فيتسلط عليه الشيطان، ثم يرسخ هذا الشيء في قلبه ويصبح ثابتاً ومتعلقًا به أكثر، وكثير من الناس إذا حصل له ضر أو مرض أو اعتداء من أحد أو مصيبة أو ما أشبه ذلك ذهب يستنجد بهذا المقبور الميت، فإن حصل له مقصوده نسب ذلك إلى الميت السيد الفلاني، وإن لم يحصل له مقصوده يعود على نفسه باللوم، ويقول: أنا اعتقادي بالسيد ليس جيداً، ولو كان اعتقادي بالسيد جيداً وتاماً لوجد مقصودي، فوصل بهم هذا الأمر إلى هذا الحد، وقد حدثني بعض طلبة العلم في بعض البلاد التي زارها: أنه لقي بعض الناس من هذا النوع، فصار يجادلهم ويقول لهم: القبور لا تفيد أحداً، ولا يصلح للإنسان أن يستغيث إلا بالله جل وعلا الذي يملك كل شيء، يقول: في النهاية قالوا لي: لا تجادلنا؛ فعندنا الاقتناع التام بما نحن فيه، ونحن لا نصدقك ولا نقبل كلامك؛ لأننا جربنا هذه الأمور فرأيناها واقعة، فقلت لأحدهم: كيف؟ قال: إنه كان في وقت ما وذهبنا إلى بلد ما فلم نجد من يستقبلنا ولا من يأوينا، وكان الوقت بارداً، فاستغثنا بالشيخ عبد القادر الجيلاني وطلبنا منه الغوث، فجاء إلينا بنفسه يحمل معه بطانيات، فوزع علينا لكل واحد بطانية، يقول: فقلت لهم: ليس هذا عبد القادر الجيلاني ، هذا شيطان ذهب وسرق من بعض الحوانيت هذه البطانيات وجاءكم بها ليفتنكم، وهذا هو الواقع، وإلا فـعبد القادر ميت، لا يخرج من قبره، ولا يستطيع أن يغيث أحداً، وكل ميت هذه صفته، وكل ميت مرتهن في قبره وروحه كذلك لا تأتي ولا تتجدد، ولكن الشيطان هو الذي أضلكم، وتصور لكم بهذه الصورة؛ حتى يثبت الشرك بقلوبكم، وهذا هو الواقع.

    فالمقصود: أن الإنسان يفتن في هذه الأشياء، وإذا لم يكن عنده يقين بالله وإيمان به وصدق مع الله فقد يضل، وينبغي للإنسان أن يسأل ربه السلامة والهداية دائماً ، وإذا كان الإنسان في بيئة من هذا القبيل تربى فيها وعاش فيها فقد يقتنع بهذا، ويصبح غير قابل لما يقال له.

    1.   

    من المشاهد الشركية في مدينة دمشق

    [ وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق].

    يقول: الشجرة الملعونة؛ لأنها تعبد من دون الله، وهو يقول: إنها ملعونة، وإلا فالناس لا يسمونها ملعونة، بل يسمونها شجرة مباركة، ومع ذلك هي شجرة يابسة هامدة، وهذه مواضع قد زالت، ولكن يعقبها غيرها كثير من هذا النوع، وأكثر القبور التي تعبد من هذا القبيل، فيأتي إنسان ويقول: أتاني آتٍ في النوم فأخبرني أن في هذا المكان ولي من الأولياء، وقد يعين له كـالحسين رضي الله عنه، أو فلان وفلان، فيبنى عليها البناء، ويعظم، ويتوارث، إلى أن يصبح كأنه أمر واقعي، والآن نعرف أن الحسين رضي الله عنه له أماكن متعددة في العراق وفي سوريا وفي مصر، والإنسان لا يكون له قبور متعددة! والغريب أن هذا أيضاً يقال في غيره.

    على كل حال هذه طرق الشيطان يضل الناس بها، والعجيب أن هذا يقع ممن عندهم كتاب الله وعندهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنهم عبيد الله، وأنه يجب أن تكون عبادتهم لله، ومع ذلك يتعلقون بهذه الخرافات وهذه الترهات، ويتركون الأمر الواضح الجلي، مما يدل على ميل النفوس إلى الباطل وحبها التعلق بغير الله جل وعلا، فإذا لم تترب على دين الله وعلى الوحي فإنها قد تضل، وهذا كثير في بعض البلاد.

    1.   

    تسارع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان

    قال الشارح رحمه الله:[وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة ، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله].

    أبو شامة في القرن السادس وابن القيم في القرن الذي بعده وتوفي في القرن الثامن، وما زال العلماء قبلهم وبعدهم يذكرون من هذه الأشياء أشياء كثيرة، والإنسان إذا نظر الآن في بلاد المسلمين -وللأسف- يجد أشياء كثيرة موجودة من هذا النوع، إما قبراً أو ما أشبه ذلك، والقبر يتعلق به وقد يطاف به ويسأل صاحبه، وقد يسمون هذا توسلاً أو يسمونه تشفعاً أو يسمونه تبركاً، أو يسمونه حباً للصالحين وتعلقاً بهم، أو يسمونه بأسماء مختلفة، أما أن يسمى شركاً فهم لا يقبلونه، ويقولون: هذا ليس بشرك؛ لأنهم يقولون: الشرك هو أن تدعو من تعتقد أنه يحيي ويميت، أو أنه يتصرف مع الله، وأما نحن فنقر بأن هؤلاء عبيد لله، ولكن الله جل وعلا أكرمهم بأن أعطاهم الشفاعة، فنحن ندعوهم لأجل ذلك.

    والجواب: أن هذا هو قول المشركين بحروفه ومعناه، فهم كانوا يقولون: الشجر والحجارة مملوكة لله، ولا تتصرف مع الله، ولكن نحن قوم لنا ذنوب فندعو الله بواسطة هذه؛ لأنها لا ذنوب لها حتى تشفع لنا، وتقربنا إلى الله زلفاً، فهذا هو الشرك بعينه، وما وجدت الدنيا من بني آدم من يقول: إن حجرًا أو شجراً أو ميتاً يحيي ويميت، وينزل المطر من السماء، ويتصرف مع الله جل وعلا، فهذا لا وجود له، ولا يقوله عاقل، فالشرك هو الشرك، سواء سمي شركاً أو سمي تشفعاً أو سمي توسلاً أو تعلقاً بالصالحين أو حباً لهم أو غير ذلك.

    1.   

    النذر عبادة لا تكون إلا لله، والنذر للقبور شرك

    قال الشارح رحمه الله: [ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له].

    معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: إذا نذر لها حصل بالمنذور الذي طلبه الناذر، هذا معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: أننا إذا سألناها وقدمنا إليها بما يقدم لها من ذبح أو مال أنه يحصل لنا مطلوبنا، فمعنى ذلك: أنها تستجيب، وأنها تسعدنا بمطلبنا، وهذا هو الشرك الأكبر بعينه، فالعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره مهما كانت كبيرة أو صغيرة، بل يجب أن تكون لله وحده، وإلا وقع الإنسان في الشرك والمخالفات.

    قال الشارح رحمه الله: [ وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)].

    المقصود بهذا أنه صلوات الله وسلامه عليه سأل ربه أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فمفهوم هذا أنه لو قدر -ولا يكون إن شاء الله- يعبد قبره فسيكون وثناً.

    فإذاً: قبور غيره بنبغي من باب أولى أن تسمى أوثاناً، والواقع أن العبادة ما تقع عليه، وإنما تقع على من زين هذا وأمر به، وإلا فالعابد والمعبود إذا كان قد رضي بهذا فكلاهما سواء، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: (الطاغوت كل من عبد من دون الله) وإن كان بعض الناس استدرك عليه، وقال: ينبغي أن يقيد هذا، وأن يقال: كل من عبد من دون الله وهو راضٍ؛ لأن كثيراً من الرسل كعيسى عليه السلام وعزير، وكذلك كثير من الأولياء يُعَبدون من دون الله وليسوا طواغيت، ولكن مقصود القائل بهذا أن من تقع عليه العبادة بالصورة أنه طاغوت؛ لأنه معبود، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذكر الشفاعة الكبرى؛ عندما يقف الناس الوقوف الطويل العظيم ثم يلهمهم الله جل وعلا -إذا أراد أن يرحمهم- بأن يطلبوا الشفاعة، فيطلبون الشفاعة من الرسل، وكل واحد يدفعها إلى من بعده من أولي العزم حتى تصل إلى سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيشفع، وذكر صفة الشفاعة أنه يذهب إلى مكان معين تحت العرش فيخر ساجداً ، ويفتح الله عليه من المحامد والثناء الشيء الذي يرضى الله جل وعلا به.

    ثم بعد ذلك يقول له: اشفع، وقبل أن يقول له: اشفع لا يشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، فيسأل ربه أن يأتي ليفصل بين خلقه ويحاسبهم، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي شاملة لجميع الأمم ليست خاصة بالأمة هذه، ولهذا سمي هذا المقام بالمقام المحمود التي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهذا مثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حقيقة الشفاعة: إن في الشفاعة إرادة رحمة الله بالمشفوع وإظهار كرامة الشافع، هذه حقيقتها، وإلا فهي لله كما قال جل وعلا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:43-44].

    والمقصود: أنه إذا جاء ربنا جل وعلا ليحاسب عباده فهو الذي يتولى المحاسبة جل وعلا، كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول: يا عبدي! ألم تفعل كذا وكذا في وقت كذا وكذا..) إلى آخره.

    ولكن هذا للمؤمنين الذين يحاسبون هذه المحاسبة، ويسألون هذه المساءلة، أما الخلق وعموم الكفار والمشركين فإنه إذا جاء جل وعلا ليفصل بينهم، يكلمهم جميعاً، ويقول تعالى وتقدس: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) فكلهم يقولون: بلى يا رب! هذا عدلك، عند ذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (فيؤتى بكل معبود في الدنيا إلى عابده، ومن كان يعبد المسيح وعزير والملائكة، يؤتى بشياطين على صور تلك المعبودات، ثم يقال لهم: اتبعوهم إلى جهنم، فيتبعونهم)وهذا كما قال الله جل وعلا في كتابه: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] أي: العابد والمعبود، أما إذا كان المعبود نبياً أو صالحاً فإن الله جل وعلا يقول: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، لأنهم في الواقع ما عبدوهم، وإنما عبدوا شيطاناً زين لهم هذا الشيء، ولهذا يؤتى بذلك الشيطان على صورة ما يتخيله العابد، فيقال له: هذا معبودك فاتبعه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755900279