وبعد.. هذا الدرس الثاني والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين 28 من شهر ربيع الثاني. من سنة (1412هـ).
عنوان هذا الدرس: المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل؛ وأحد الإخوة يقترح أن يكون العنوان: المعركة الفاصلة مع يهود، أو مع اليهود ولا حرج في ذلك.
يتحدث العالم اليوم -أيها الإخوة- عن جهود السلام في أسبانيا... في مدريد، وهذا الحدث العالمي الكبير، هو حديث الصحافة والإعلام في مشارق الأرض ومغاربها، سواء الصحافة الغربية، أو الشرقية العربية، أو اليهودية، أو غيرها، وفيما العالم كله يتحدث عن هذا الأمر الجديد … يتساءل البعض ويقول: ما جدوى طرح هذه الموضوعات في مثل هذه المجالس، ومن قبل الدعاة إلى الله عز وجل؟!
وإنني ليطول بي العجب وأقول في نفسي هل كتب على هذه الأمة المسلمة -التي كان المفترض أن تكون هي الشهيد على الناس قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143].
وفي الحديث الصحيح، أنهم يشهدون على الأمم يوم القيامة -حتى الأمم التي سبقتهم- بشهادة الله عز وجل في كتابه- هذه الأمة هل كُتِبَ عليها في مثل هذا الوقت بالذات، أن تستمرئ ذلك الغياب المذهل عن الساحة، وأن تستحسن عزلتها وتقوقعها… -لا أقول: على الأحداث العالمية، فنحن لا نتكلم الآن عن مؤتمر السلام في يوغسلافيا، وإنما عن عزلة هذه الأمة عن أحداث تتعلق بها هي… لا تتعلق بغيرها، وقضايا تخصها، فالكلام إنما هو عن مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي.
وأقول: العربي؛ لأن الإسلام لم يدخل في حقيقة الأمر، لا في حرب، ولا في سلم، فالإسلام معزول عن هذه المعارك؛ وإنما المعركة العسكرية دخلناها باسم العروبة، وفصلنا وعزلنا مئات الملايين من المسلمين المتعاطفين مع قضية الإسلام في فلسطين؛ والسلام ندخله باسم العروبة أيضاً فالإسلام معزول في الحقيقة عن الحرب، كما هو معزول عن السلام، ولهذا لا تتعجب حينما استخدم في أثناء هذه الكلمة أو هذا الدرس لفظ العرب، ولا أستخدم لفظ الإسلام؛ لأننا نريد أن نسمي الأشياء بحقيقتها.
فالإسلام معزول عن المعركة، سواء كانت معركة في ميدان الصراع والقتال، أم كانت معركة من وراء الطاولات وفي مجال المناورات السياسية الدبلوماسية؟!!
إنني أستغرب هذه المصادرة الرخيصة لعقل الإنسان المسلم ولتفكيره؛ مما شل فعالية المسلم في هذه الأحداث، فأصبح مستكثراً عليك أيها المسلم أن تبدي رأيك فقط في قضية من القضايا، فضلاً أن يكون لك رأي في حصول هذا الأمر أو عدم حصوله، وأصبح الإنسان العادي من أمة الإسلام في مشرق الأرض ومغربها يستكثر على نفسه أن يتكلم في مثل هذه القضايا ويرى أنها قضايا لا تعنيه في قليل ولا في كثير، وأحسن الناس من يقول: إن حديثي في مثل هذه الأمور، لا يقدم ولا يؤخر، وإنه لا يأتي بجديد.
إن قضيه كقضية السلام تكلم فيها الجميع بدون استثناء، حتى المتطرفون من اليهود في إسرائيل المسمون بالأصوليين -مثل حركة… غوش أمونيم وغيرها من الأحزاب الأصولية المتطرفة- تكلموا بلهجة واضحة صريحة عن رأيهم في السلام، وأنهم يرفضون السلام مع الأمة العربية؛ بل مع العالم كله، لأن هذه أرض اليهود -في نظرهم وزعمهم- ويجب أن تظل أرضهم فهم يطالبون ببسط سلطة اليهود على مزيد من هذه الأراضي، ولم يقتصر تعبيرهم عن السلام على مجرد الكلام أو على مجرد الكتابة، بل تعدى ذلك إلى قيامهم بمظاهرات في شوارع اليهود -في شوارع فلسطين- يتكلمون فيها ويعربون فيها عن اعتراضهم على مشاركة إسرائيل في جهود السلام.
إننا ينبغي أن نضع الأمور في إطارها الصحيح، فالذين يتحدثون -مثلاً- عن السلام، أو عن مؤتمر أو مؤامرات مدريد للسلام العربي الإسرائيلي كما يسمونه، ليس بالضرورة أن هذا يعني: أنهم سيوقفون هذه المؤامرات، أو سوف يمنعون استمرارها أو سوف يعرقلون هذه الجهود التي تتبناها زعيمة العالم الحر -كما يسمونها- وزعيمة التنصير وأمريكا التي أصبحت تمسك بخناق العالم بقدر ما تستطيع، فليس بالضرورة أن من يتحدثون سوف يوقفون مثل هذا السيل الكاسح أو مثل هذا التيار الجارف، أنهم سوف يقفون في وجه الشرق والغرب وهم لا يملكون وسائل تمكنهم من ذلك فلا يعني الحديث عن هذا الموضوع الوقوف أمام تلك المؤامرات، وأمام أمريكا، وأمام حلفاء أمريكا من العرب، وأمام إسرائيل، لا! لكننا نعتقد أن من حق الأمة الإسلامية أن تعرف على أقل تقدير أن تعرف ما هو السلاح الذي سوف تقتل به، أن تعرف بأي سكين سوف تذبح؟
فهذا أقل حق لهذه الضحية التي بين أيديهم! فهذه المؤامرات لا بد من معرفتها ومعرفة أبعادها، ومعرفة من هم أطرافها؟
ومعرفة من يكون وراءها؟
وذلك حتى تعرف الأمة بأي سلاح يحاول عدوها قتلها، وحتى تعرف الأمة أيضاً من هو عدوها من صديقها.
فمنهم عدوٌ كاشرٌ عن عدائه ومنهم عدو في ثياب الأصادقِ |
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارقِ |
جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يملكون الأسلحة ولا يملكون القوة الضاربة، وإنما كانوا يملكون هذه الكلمة يقولونها للناس، ثم يعتصمون بالله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، والذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون، وبهذه الكلمة: انتصر الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن يمنع نبياً من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ألا يستجيب له أحد أن يقول هذه الكلمة، وأن يبعث بهذه الكلمة، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: {أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأمم، ورأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فالنبي حين يصدع بهذه الكلمة: لا تعبدوا إلا الله، اعبدوا الله ما لكم من إله غيره! هو يحقق هذا الانتصار -بغض النظر عن مدى تجاوب الآخرين معه أو رفضهم لما يدعو إليه- لأن مجرد إعلان كلمة التوحيد، هو انتصار لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ومع ذلك فإننا نقول: إن كلمة الحق لن تضيع، ويكفي أن تكون شاهداً تاريخياً، على أن المسلمين والعلماء والدعاة إلى الله عز وجل رفضوا الخيانة على حين استمرأها غيرهم من الزعماء الكبار وأقروها وسعوا إليها وسافروا إليها، وأنهم رفضوا مؤامرات الاستسلام على حين تلطخ غيرهم من الزعماء والقادة والساسة بهذه المؤامرات، وأنهم بذلوا ما يملكون من الوسائل وهم لم يكونوا يملكون إلا الكلمة يطلقونها حرة واضحة صريحة -على حين كان غيرهم يملك أكثر من ذلك، فما بذل منه قليلاً ولا كثيراً إلا الخطب الرنانة، وقد أشبعوا المسلمين من هذه الخطب وحرروا بلاد الإسلام بهذه الخطب الرنانة!
سقوا فلسطين أحلاماً منومةً وأطعموها سخيف القول والخطبا |
عاشوا على هامش الأحداث ما انتفضوا للأرض منهوبةً والعرض مغتصبا |
وخلفوا القدس في الأوحال عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبا |
وعلى حساب توفير المعيشة للناس؛ وكان السلام -كما ذكرت قبل قليل- قائم على توازن الرعب بين القوة الشرقية والقوة الغربية، فإن ما يسمى بالردع النووي؛ جعل كلاً من الطرفين أمريكا وروسيا في السابق تدركان في حال حصول حرب نووية فلن يكون فيها رابح وخاسر، بل سوف يكون كلاهما خاسراً.
وهذا تقديرهم وظنهم على كل حال.
وقد أدى ذلك الصراع أو الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا في السابق إلى شل ما يسمى بهيئة الأمم المتحدة عن فعاليتها وتأثيرها؛ بسبب أنه نشأ في أثنائها تحالفات بين روسيا ودول عدم الانحياز من جهة وبين أمريكا وحلفائها من جهة أخرى، أما الآن فبعدما سقطت الشيوعية وتفككت الإمبراطورية الروسية فإننا أمام قوة عالمية الآن واحدة هي التي تهيمن على معظم العالم الموجود الآن وهو قطب عالمي واحد، وهذا بلا شك لفترة معينة، وإلا فنحن نعلم ونجزم بأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه}.
إذا تم شيءٌ بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم |
كما أننا نعلم أن الله عز وجل جعل قوام هذه الدنيا على أساس وجود المداولة قال سبحانه: وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
وعلى أساس مبدأ الصراع، أو كما سماه الله تعالى في القرآن الكريم الدفع:وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
فمبدأ الدفع أو مبدأ الصراع بين القوى المختلفة، فيه بقاء للحياة؛ حتى الحرب نفسها فيها بقاء للحياة:
والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم |
فالحروب الإسلامية التي شنها المسلمون أيام العز وأيام النصر وأيام التمكين، كانت ظلاً ينبت الخضرة وينبت النماء والخير والإيمان وينبت الطاعة لله عز وجل -في ظل تلك الحروب- فكانت حروباً لفتح القلوب قبل فتح البلاد.
فالمقصود أن الله تعالى وضع من سنن هذا الكون مبدأ الدفع، أي دفع الناس بعضهم ببعض ومبدأ مداولة الناس فيما بينهم وتلك الأيام نداولها بين الناس ينال هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء؛ فلا نتصور أبداً أن الغرب الرأسمالي أو أن أمريكا أو غيرها سوف تتفرد بالهيمنة على العالم إلا خلال سنوات يسيرة أو عقود قليلة، وهذا أمر لا يعتبر بالمقياس العام شيئاً، فإن الإنسان وإن كان ينظر إلى الأيام والساعات والشهور والسنوات، إلا أن الأمر أبعد من ذلك، فعشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في حياة الأمم والشعوب؛ لا تعد شيئاً وأنت الآن تنظر إلى روسيا وقد عاشت عشرات السنين وتجد أنها أصبحت حطاماً متفتتاً فلا تعد هذه السنين؛ الطويلة التي عاشتها في ظل قهرها للإيمان وقهرها للعقول، وللقلوب، وللفطرة لا تعد هذه الأيام وهذه السنوات بل عشرات السنين، لا تكاد تعدها شيئاً يذكر، وهذه من طبيعة الإنسان، فيرى الواقعة القائمة عليه سرمداً لا يزول.
يبرز تساؤل بعد هذا كله، وبعد غياب الاتحاد السوفيتي كقوة معطلة أو معادلة لدفاعات أمريكا… كيف سيكون الوضع الدولي في مثل هذا النظام الدولي الجديد، كما يسمونه؟
هناك تخوف جديد أن يتحول الصراع الذي كان قائماً بين أمريكا وروسيا إلى مجابهة بين الشمال والجنوب، بين الأغنياء والفقراء، أو قل بلهجة أخرى بين العالم الثالث الذي غالبه من المسلمين، وبين العالم الغني الغربي القوي، الذي غالبه أيضاً عالم نصراني أو عالم يهودي؛ وبذلك سينظم السوفيت إذا حصل هذا إلى -عالم الأغنياء- إلى عالم الغرب، وأذكر بالتقرير الذي سبق أن تلوته عليكم في درس بعنوان "
إن الإسلام -أيها الإخوة- على رغم أنه يبدوا لنا أنه ليس له قوه تدعمه وتحميه … إلا أنه في نظر الغربيين الآن قوة هائلة مذهلة، وكأنهم اكتشفوا الإسلام من جديد فأصبحت الدوائر الغربية تعقد الجلسات والمؤتمرات، والمناقشات الطويلة، لمعرفة مدى تأثير الإسلام في المسلمين وكيفية مواجهته، وذلك لأنهم أدركوا أن الإسلام قوة متمكنة.. ليس في العالم الإسلامي فقط، وليس عن طريق بعض الجماعات الإسلامية التي قد يرتضون منهجها أو لا يرتضونه، ويعتبرونها جماعات متطرفة في نظرهم؛ ليس هذا فقط- بل حتى من خلال الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، وقد يكون كثير منهم من العمال أو غير المثقفين؛ ومع ذلك تجدهم متمسكين بدينهم -إلى حد ما- فحرصهم على تربية أولادهم على هذا الدين، وحرصهم على نشر دينهم في أوساط الآخرين؛ يُعدُّ أمراً مذهلاً في نظر الغرب.
ولهذا كان من أكثر الأشياء عناية الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي ومنطقة فلسطين وأفغانستان، فهذه المنطقة تعتبر في أولويات الاهتمامات الغربية؛ فأما فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي: فهاهو مؤتمر مدريد قد انعقدت المرحلة الأولى من جلساته، وفي انتظار مراحل تالية، هاهو الآن قد تبلور من خلال جولات طويلة متكررة لوزير الخارجية الأمريكي.
وأما فيما يتعلق بقضية أفغانستان؛ فإني أود أن أشير إليها ولو إشارة عابرة، لأن أمريكا مصممة على حل قضية أفغانستان بحلٍ سلمي، وعلى نـزع البندقية من أيدي المجاهدين.. وبدون شك وبكل تأكيد فإنها سوف تحرص على منع كل صور الدعم للمجاهدين الأفغان، وسوف تحرص على وضع العراقيل والعقبات أمامهم وسوف تفوض بعض الدول الغربية والإسلامية والعربية أيضاً للقيام بهذا الدور ولا تستبعد أن يكون لـإيران -مثلاً- دور كبير في قضية أفغانستان، خاصة مع وجود بعض المنظمات الشيعية التي ليس لها تأثير في الجهاد فتحرص على إبراز هذه المنظمات وعلى وجود حلول سلمية.
وقد انعقد في إيران مؤتمرٌ للقضية الأفغانية وتكلموا عن أحد قادة المجاهدين الذي يتميز بالقوة ويعتبرون أنه يعتبر متشدداً أو أصولياً، ودعوا إلى محاولة اغتياله كما سيروا وفداً إلى موسكو للمفاوضة، وقد صرح مسئول كبير في دولة مجاورة لـأفغانستان بأن المجاهدين الأفغان عليهم أن يوقفوا القتال، وأن يفكروا جدياً في الجلوس على مائدة المفاوضات مع الحكومة الشيوعية العميلة في أفغانستان.
إذاً ضع في اعتبارك أن في قضية أفغانستان هناك مؤامرة دولية لحلها وإنهائها، وسرقة جهود أكثر من اثنتي عشرة سنة بذلها المسلمون، وإهداراً لهذه الدماء الغزيرة التي ضحى بها المسلمون على مدى هذا الزمن الطويل، وإهداراً لهذه الأموال الطائلة التي ذهبت إلى هناك، لماذا؟!
لأن الهدف الذي تريده أمريكا لـأفغانستان هو: أن تتحول إلى دولة علمانية، ولا تقبل -بحال من الأحوال- أن يستولي المجاهدون المسلمون عليها مهما كانت الأحوال، ومهما كان بينهم من التناقضات، ومهما كان فيهم من الضعف؛ بل ومهما كان عندهم من الخطأ لا يمكن أن تقبل بوجود حكومة إسلامية في أفغانستان.
فقضية أفغانستان من القضايا التي ينبغي أن نتوقع ونتتبع ونظن أنها ستكون في طريقها إلى الحل السلمي وسيكون هناك ضغوط كثيرة من دول مجاورة لـأفغانستان وغير مجاورة، وغربية أيضاً لإنهاء هذا الوضع.
فالقضية الأولى في النظام الدولي الجديد -كما يسمونه- بقضية النظام الأمن الجماعي، وتهدئه المناطق الملتهبة والقضاء على مثل تلك الخلافات التي لا تطمئن لها أمريكا أو لا ترتاح إليها، ولا تعتقد أنها مثمرة بالنسبة لمصالحها.
ومن مظاهر الديمقراطيات بطبيعة الحال: السماح للأحزاب السياسية أن توجد وتمارس حرياتها، وتقدم برامجها في كل مكان -بغض النظر عن أديان هذه الأحزاب ومعتقداتها- وهذا أمرٌ تحمله أمريكا على عاتقها وتحاول أن تفرضه بكل ما تستطيع من قوة على بلاد المسلمين.
ومن ديمقراطيتها: السماح بالاتجاهات الفكرية المختلفة وألا يُضَايَق أحدٌ في فكره؛ فـأمريكا ومَنْ وراءها -حلفاءها في النظام الدولي الجديد- يسعون إلى إعطاء أصحاب الاتجاهات الفكرية المنحرفة كـالعلمانيين والملحدين، وأنواع الفلسفات المادية المنحرفة، إعطائها الحرية لأن تقول وتعبر عن نفسها من خلال الكتاب والمجلة والمقال والمحاضرة والدرس والمناقشة وغير ذلك في أي بلد -من غير تحفظ- وتعتبر هذا جزءاً من حقوق الإنسان في حرية التعبير؛ وينبغي أن يلاحظ أنهم حين يتكلمون عن قضية حرية التعبير وحرية التفكير أيضاً: أنهم قد يدخلون فيها أحياناً الدفاع عن بعض الحقوق الإسلامية؛ فأنت تجد بعض المؤسسات الغربية تدافع عن حقوق المسلمين فتدافع -مثلاً- عن العلماء، وتدافع عن الدعاة تدافع عما تسميهم رجال الدين، لكن هذا كله جزء قليل، بالقياس على العمل الكثير الذي تقوم به هي في الدفاع عن أصحاب الاتجاهات التي توافق الغرب وتلبي مطامحه ومطامعه.
فإننا نجد أن أمريكا والغرب يبارك ضرب التيارات الإسلامية في كل البلاد العربية والإسلامية، ويعتبر هذا عربوناً على قوة تلك الدول وصدقها في ولائها، وقد حصل هذا في مصر، وحصل في سوريا، والجزائر، وتونس، وحصل في العديد من البلاد، لا أقول بصمت من الغرب! بل بتأييد ودعم، وإن الغرب يعتبر هذا هو آية صدق تلك الحكومات في ولائها وإخلاصها وقوتها، كما أن الغرب يسعى من خلال فرض ما يسمى بـالديمقراطية: إلى حرية التدين -يعني: أن يتدين الإنسان بأي دين، الإسلام، أو اليهودية، أو النصرانية، أو اللادينية.
حرية التدين! وهم بطبيعة الحال لا يقبلون بالإسلام ديناً بالمعنى الصحيح! لكنهم قد يتظاهرون فيقبلون بعض العبادات وبعض الأشياء التي لا تضربهم ولا تؤثر على مصالحهم؛ لكنهم يريدون من وراء ذلك إتاحة الفرصة لأي إنسان أن يتنصر أو يلحد، دون أن يكون عليه ضغوط معينة؛ بل إن هناك محاولات لتغيير أنظمة بعض الدول؛ لتسمح لمواطنيها أن يتدينوا بأي دين شاءوا.
فإن سقوط الشيوعية في روسيا، وتفكك الإمبراطورية الروسية؛ أعطى فرصة ذهبية لهجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل. فصاروا يهاجرون بأعداد هائلة إليها، -طبعاً بمباركة من روسيا وبدعم من أمريكا اللتان توافقان على مساعدة إسرائيل مساعدات كبيرة جداً؛ لاستيعاب هؤلاء المهاجرين وفق شروط معينة، مع ذلك لا يزال الغموض والالتباس الذي يهيمن ويدخل في كثير من جوانب هذا النظام؛ لكنني أبرزت بعض ملامحه.
وهناك ملامح اقتصادية أيضاً، تتمثل في النظام الاقتصادي الحر الذي يقوم عليه الغرب (النظام الرأسمالي).
إن هذا الوضع يجب ألا نتعامل معه على أنه وضع قائم سرمد لا يزول، فنحن على يقين أن العقود القادمة حبلى بقوىً جديدة ستنافس أمريكا على سلطتها واستفرادها، فقد تبرز أوروبا الموحدة كقوة، أو تبرز اليابان، أو تبرز الصين، أو تبرز قوى عديدة تنافس أمريكا على هذا الموقع… وقد ينتفع المسلمون بذلك لو كانوا على مستوى الأحداث، ويستطيعون أن يستغلوا التناقضات الموجودة بين الدول الغربية، فهذا الجانب لا أحد يعترض عليه.
هناك أصوات كثيرة -الآن- تحاول أن تلغي -مثلاً- الجهاد، وتعتبر الجهاد هذا مرحلة تاريخية مضت وانتهت، وعلينا أن نتعامل مع الواقع القائم ولا نتكلم عن الماضي، فعقارب الساعة -كما يقولون- لا ترجع إلى الوراء… ونحن نقول: مسألة الجهاد عقيدة … مسألة الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام؛ وشريعةٌ من أنكرها أو كذبها فهو كافر بالله العظيم؛ لأنها من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة.
لكن مسألة: يقوم الجهاد أو لا يقوم؛ متى؟
وأين؟
فهذه قضية أخرى.
مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مثلاً- هذه شعيرة من شعائر الإسلام، ومن يجادل في أصلها أو يشك فيها يكفر؛ لأن هذه القضية معلومة من الدين بالضرورة، وأدلتها قطعية من الكتاب والسنة؛ لكنهم يقولون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا في الماضي، أما الآن فعندنا حرية الفرد، حرية التعبير، حرية الاعتقاد، حرية التصرف.
ما شأنك وشأن الآخرين ليس لك بهم علاقة، حتى ابنك أو ابنتك يريدون ألا يتدخل فيه الإنسان، تحت مظلة الحرية الشخصية، وهذا جزء من النظام الدولي الجديد الجانب الاجتماعي في ذلك النظام جانب الحرية الأخلاقية، بأن يفعل الإنسان ما يشاء دون رقيب أو حسيب عليه.
وأما قضية التميز العقدي فتعني: وجود عقيدة عند المسلم تميزه وتجعله يفهم الأمور كلها على ضوء كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دون أن يجد شيئاً مشكلاً عليه، فالإسلام للمسلم كل القضايا بدون استثناء: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وَنـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] وقال: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12].
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه إلا وبين لنا منه علماً فكل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وغيرها، في الإسلام حكم لها، أولئك يريدون أن يسحب المسلم هذا التميز في الاعتقاد، وهذا التميز العملي، وهذا التميز الاجتماعي، ويكون جزءاً من نظام غربي دولي جديد، ليس فيه نمط لحضارة أخرى حضارة إسلامية، لا،بل نمط للحضارة الغربية فقط.
ومن الأشياء الطريفة أنني قرأت في مجلة، اسمها مجلة الشراع، يقول أحد الوزراء اللبنانيين: إن حافظ الأسد لما التقى بوزير الخارجية الأمريكي بيكر قال له: إذا لم يتم السلام في المنطقة العربية؛ فمن الممكن جداً أن تقابلني في المرة القادمة فتجدني قد أطلقت لحيتي..! هذه إشارة إلى أن الجميع يدركون أن أعظم خطر يخيف الغرب ويهدده: هو الإسلام؛ ولذلك حتى حافظ الأسد يقول: إنه يمكنني أن أطلق لحيتي إذا لم تحققوا لنا السلام… يعني -طبعاً أن إطلاق اللحية هذا.. رمز معناه: أنه سوف يطلق حرية التدين -مثلاً- فسوف يسمح للناس أن يعبدوا ربهم، ويمارسوا دينهم ويدعو إلى ربهم.. والغرب يدري أن رجوع الأمة الإسلامية إلى دينها، رجوعها إلى أصالتها، رجوعها إلى ربها، هو أعظم خطر يمكن أن يواجهه الغرب؛ ولذلك يتحالف مع هؤلاء الزعماء من أجل الحيلولة بين الأمة وبين العودة إلى دينها، وبين التزامها بكتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام.
فهي أضر في العداوة وأقسى وأشد، ولكن اليهودية محدودة القوة، ومحدودة العدد، ولذلك فإنها لا تسلك مسلك المواجهة الصريحة المباشرة مع المسلمين، بل تلجأ إلى أساليب الحيلة والدهاء، والكيد من وراء الظهور.
فهم يستخدمون -مثلاً- عملاءهم في صنائعهم في العالم الإسلامي -لا أقول اليوم فقط، بل منذ فجر التاريخ- فكم خربوا في بلاد الإسلام ومجتمعات الإسلام من خلال يهود يتظاهرون بالإسلام، ثم ينشرون العقائد الباطلة، أو يخربون بين المسلمين، أو يحدثون بينهم الفتن.
ولعل عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أعلن أو تظاهر بالإسلام، نموذج للكيد والدس اليهودي الذي يبرز في كل زمان.
خرجوا يقطرون سماً زعافاً ومن ابن السوداء فيهم أمير |
ومع ابن السوداء يرميك رامٍ غادر من بنيك فظ كفورُ |
ابن السوداء ليس رجلاً انتهى ومضى ودفن...لا، فـابن السوداء يبرز عليك في كل زمان وفي كل مكان بأقنعة شتى وألوان شتى، فقد يكون ابن السوداء، وقد يكون ابن البيضاء في أحيانٍ كثيرة؛ وليس المهم لونه ولا جنسيته ولا وطنه، المهم أنه يخدم مخططات اليهود، ويعمل بتعاليمهم وينفذ ما يخدم مصالحهم... من خلال الكيد الخفي المدروس، لا من خلال الحرب المعلنة.
فـإسرائيل تفتخر أمام العرب، وأمام العالم بأنها نموذج -كما تزعم، وما تقوله فيه جزء كبير من الحقيقة- نموذج للديمقراطية الغربية أي: ديمقراطية على النمط وعلى النظام الغربي، فتتظاهر بحفظ حقوق الإنسان... خاصة -بطبيعة الحال- الإنسان اليهودي، أما الإنسان العربي: فالأمر يختلف؛ ولكنهم حتى مع الإنسان العربي يتحايلون بطرق ذكية.
على سبيل المثال: قبل وقت ليس بالبعيد قام مجموعة من المستوطنين وهجموا ليلاً على بعض البيوت والأحياء في القدس الشرقية، وأخرجوا أهلها منها واحتلوها، فصار نقاش في بعض الدوائر الإسرائيلية حول هذا العمل، فقام بعض الوزراء الإسرائيليين وقال بصراحة: أعترض على الطريقة التي تم بها إخراج العرب! لماذا يلجئون إلى ظلام الليل؟ ولماذا لم يخرجوهم في وضح النهار؟!
إذاً: هو لا يعترض على إخراج المسلمين من بيوتهم؛ لكنه يعترض لماذا تخرجونهم بالليل؟!
وما هو الداعي للتستر بالليل؟!
لماذا لم تخرجوهم في وضح النهار، ثم قال: لماذا؟
لأنكم تملكون مستندات ووثائق أن هذه أرضكم، نعم! المستندات عندهم والكلام فيها يطول... المقصود أنهم يحاولون أن يظهروا بمظهر... أنهم قاعدة للعالم الحر، وقاعدة لتطبيق النظام الدولي الجديد الذي تنادي به أمريكا.
ولذلك يقول: لا تعجل عليهم الآن، دعهم وما هم فيه؛ لأن نـزول المسيح كفيل بتحويلهم إلى نصارى، فعندهم عقيدة دينية خلفية، تجعل أمريكا تدعم إسرائيل بلا حدود ولا قيود.
فإذا كنا نعلم جميعاً أن منطقة العالم الإسلامي، منطقة في غاية الخطورة والأهمية بالنسبة للغرب، خاصةً حين نعلم أنها تحتوي على معظم الموارد والثروات، والمعادن التي يحتاجها الغرب في حضارته وصناعته، بل وفي حياته اليومية الفردية، فإن الغرب لا يمكن أن يثق بالعرب والمسلمين، مهما قدموا فروض الطاعة والولاء، ومهما ظهر منهم من الإخلاص، إلا أنه لا يأمل أن يظهروا يوماً من الأيام أو يتبدلوا، فهو يحس أن الوضع المستقر -أمنياً وسياسياً- وغير قلق، غير قابل للتذبذب؛ لأنه وضع يعتبره الغرب قائم على أسس ديمقراطية إنه وضع إسرائيل، ولذلك يعتبر الغرب إسرائيل هي الحليف التاريخي في تلك المنطقة، وهكذا صار الغرب حليفاً لـإسرائيل، وإسرائيل حليفة للغرب.
فالحقيقة حين تكون أمريكا قائمةً -مثلاً- بجهود السلام، فلا يمكن أن يتصور أنها وسيط معتدل أو وسيط منصف؛ لأنها وسيط غير محايد ولا نظيف ولا نـزيه، بل هي مسئولة عن كل التقدم الذي أحرزته إسرائيل في كافة المجالات السياسية والعسكرية، وفي مجال الحروب، واحتلال الأراضي وغيرها، وليس سراً أن يقال: إنه بعد أن احتلت إسرائيل هضبة الجولان لم توافق أمريكا على إدانتها في المحافل الدولية، بل أرسل الرئيس الأمريكي لـإسرائيل خطاباً فيه اعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل، وهذه من القضايا الشائكة أمام ما يسمى بمؤتمر مدريد.
الكونجرس كما تعرفون هو من أعلى السلطات في أمريكا، ليس غريبا أن تعلم أن سبعة وثلاثين من أعضائه هم من اليهود، وباقي أعضائه هم من المتعاطفين مع اليهود أو من الذين يدفع لهم اليهود آلاف الدولارات للعمل في مصلحتهم، وأي عضو في الكونجرس لا يخدم مصالح اليهود؛ تتم الإطاحة به عند الانتخابات؛ وذلك بشراء الأصوات المؤيدة له بملايين الدولارات، كما حصل ذلك مثلاً لعضو الكونجرس الأمريكي ول فندلي، الذي خدم اثنتين وعشرين سنة، وبعد ذلك تم عزله ثم ألف كتاباً عنوانه: من يجرؤ على الكلام، تكلم فيه عما يسمى باللوبي الصهيوني، أو جماعات الضغط في أمريكا، وهي ليست كلها يهودية، فهناك جماعات ضغط صهيونية، وهناك جماعات ضغط نصرانية مسيحية يسمونها أصولية وهي -أيضاً- متعاطفة مع اليهود، وتحمل العقيدة التي أسلفت الحديث عنها.
في أمريكا يوجد ستة ملايين يهودي يسيطرون فيها، على أشياء كثيرة، فكثير من الصحف يهودية، بعض الصحف اشتراها أغنياء اليهود.
الأمم المتحدة التي تدعي حفظ السلام العالمي، يمثل فيها اليهود (60%) من الموظفين والمستشارين، ولهذا تسعى إلى حفظ المصالح اليهودية في شتى أقطار العالم.
أما مجلس الأمن، فإن معظم مندوبي الدول الأعضاء فيه من اليهود، راجع في ذلك كتاب النفوذ اليهودي لـفؤاد الرفاعي.
هذه قضية تبدو من خلال بعض التصريحات، وبعض الأقوال لزعماء يهود قدماء ومعاصرين وكأن إسرائيل تدعو فعلاً إلى سلام؛ لكن هذا السلام الذي تدعو إليه إسرائيل، سلام يقوم على الاعتراف بالأمر الواقع، سلام يتمثل في وجود إسرائيل على الأرض العربية في فلسطين، ولا يمكن أن يدخل ذلك في منهج المفاوضات؛ إنها ترى أن على العرب أن يعترفوا بهذا الوجود، وأنه وجود شرعي قانونيٌ، وقد عبر زعماء إسرائيل كما ذكرت -عن ذلك في أكثر من مناسبة، منهم زعماء قدماء، ومنهم زعماء حاليون.
فـابن غوريون -مثلاً- عام (1957م) تكلم أو سُئل عن عودة قسم من الفلسطينيين العرب إلى أرضهم، فأجاب: إن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، إن إسرائيل لا يمكن أن تقبل أياً من اللاجئين، إن الحل العادل الوحيد الممكن هو في إسكانهم في المناطق الخالية من السكان، الغنية بثرواتها الطبيعية في سوريا، والعراق وغيرها يقول: لا يمكن أن يعودوا، أما مائير فقد أعلنت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (1960م) أن إسرائيل تعلن -بكل صراحة وبساطة- أنها لا يمكن أن تسمح بعودة أي لاجئ إلى أراضيها.
أما آشكول الذي خلف ابن غوريون على أساس أنه يرغب في السلام مع العرب، وأنه معتدل لا يحب الحرب فقد أعلن أن إسكان اللاجئين في البلاد العربية هو الحل الوحيد الذي يتفق مع مصالحهم الأساسية ومع الواقع وكذلك مع مصالحنا،يعني مع مصالح إسرائيل، مع مصالح اليهود، وقال: إنه لم تحل مشكلة لاجئين كبيرة في التاريخ الحديث بإعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، لم يحصل ولا مرة واحدة أن اللاجئين حلت مشكلتهم بأن عادوا إلى موطنهم الأصلي، بل يمكن أن يبحث لهم عن مكان آخر خالٍ وملائم ليقوموا هم بتعميره، ويكون بذلك يعيشون في راحة واطمئنان.
فإسرائيل ترفض أي تعديل في حدودها مع الدول العربية، ويقول أحد المراسلين -نقلاً عن أحد المسئولين اليهود-: إنه على استعداد لمقابلة أي مسئول عربي في أي مكان وفي أي وقت، ولكنه يؤكد -في الوقت ذاته- أنه لن يتنازل عن إصبع واحد من أرض إسرائيل، ولن يسمح للاجئ واحدٍ بالعودة إلى أرضه، نقلاً عن مجلة اللوموند الفرنسية.
ولذلك من البديهي أن إسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس، وتصر على أنها أرض إسرائيلية؛ بل إنها عاصمة إسرائيل إلى الأبد، وقد رفضت قرار هيئة الأمم المتحدة التي أصدرته عام (1967م) بل تطالب بحقوق كاملة في المرور عبر قناة السويس، كما تطالب بإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية، وتوسيع حدودها التي كانت لها عام (1967م).
إن إسرائيل تريد سلاماً وفق شروطها هي؛ فهي على استعداد دائم للسلام! ولكنها لم تقدم أي تنازلات مهما كان نوعها، وقد تأكدت هذه الاتجاهات مؤخراً في إسرائيل وصار الخلاف بين إسرائيل على التكتيك -كما سوف يأتي بعد قليل- فـإسرائيل تسعى إلى اكتشاف سبيل يمكن ألا يؤدي إلى توتر في المنطقة، يعني: من أجل السلام، فإن إسرائيل لا ترى أن تتخلى هي عن شبر من الأرض الإسلامية أو تستقبل أي لاجئٍ يعود إلى أرضه… كلا! لا هذا ولا ذاك، وترى أن ما يمكن أن يساهم في إحلال السلام، وإحلال السلام بالطريقة الإسرائيلية في امتلاك قوة رادعة عند اليهود.
إن السلام النسبي الذي يخيم على الشرق الأوسط في السنوات العشر الأخيرة، يقولون: نتيجة مباشرة لقوة إسرائيل العسكرية؛ وذلك لأن هدف المعارك التي تخوضها وقت السلم هو تثبيت السلام! وفي تسويغ إسرائيل للاعتداءات التي تشنها على العرب؛ تدعي إسرائيل أن هذه الحوادث تؤكد وجوب التقدم لإحلال السلام في المنطقة!
فاليهود لهم طريقة خاصة في السلام، وهذه الطريقة هي أن يمتلك اليهود قوة ضاربة تكون ردعاً للعرب وللمسلمين، بحيث لا يفكرون باستنقاذ شيء من حقوقهم التي أخذها اليهود، بل لا يفكرون في مقاومة إسرائيل حينما تلتهم دفعات جديدة من الأراضي الإسلامية؛ ولذلك لا تستغرب أن إسرائيل رغم أنها دولة محدودة الرقعة، محدودة العدد من حيث السكان، لا تستغرب أبداً أن مجتمع إسرائيل كله يعتبر جيشاً لها، فقد جندت كل مواطن إسرائيلي، ودربته من سنتين إلى ثلاث سنوات، وهي قادرة -بمقاييسها البشرية- خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، على حشد أربعمائة ألف جندي لمواجهة أي خطر يهددها!
صحيح أنها لا تحتفظ بجيش كبير، بل تعمل بنواة صغيرة من القوات؛ ولكنها تعزز الأكبر من قواتها في الاحتياط، الذي يساعده على ذلك، سهولة المواصلات وتوفر وسائل النقل، فهي تستطيع -بتقديراتها البشرية- أن تحشد هذا العدد الهائل من الجنود وإيصالهم إلى ميدان المعركة خلال ثمانٍ وأربعين ساعة؛ بل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع أن تجمع قواتها الاحتياطية في غضون أربعٍ وعشرين ساعة ثم تنقلها إلى الجبهة في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة، فهناك مبدأ، أو مبادئ يسمونها مبادئ ابن غوريون يقول: إن إعداد جيش قوي لـإسرائيل، ضروري، ليس فقط للانتصار على العرب، فهذا أمر مفروغ منه.
لكن للانتصار السريع وبأقل قدر ممكن من الضحايا اليهود، يقول: لا يوجد لدينا وقت، التاريخ يسبقنا، علينا أن نعمل بسرعة، ولذلك لا تستغرب أيضاً أنه في عام (1985م) -وأعتبر التواريخ بالميلادي؛ لأنه يصعب عليَّ تحويلها إلى الهجري، والمراجع تذكر هذا التاريخ الميلادي- في عام (1985م) كان السلاح الجوي الإسرائيلي يملك سبعمائة طائرة، أكثر من (50%) منها صنع إسرائيلي، وربما زادت النسبة الآن إلى أكثر من (85%) منها يعني: أن (85%) منها، من سلاح الجوي الإسرائيلي -تقريباً- صناعة يهودية، وأما عدد الطائرات فلا أعرف رقماً دقيقاً لذلك، ففي عام (1980م) وصلت مبيعات السلاح الإسرائيلي الخارجية، إلى أربعمائة مليون دولار -هذا خبر قبل أكثر من عشر سنوات- أربعمائة مليون دولار هذه مبيعات السلاح الإسرائيلي إلى الخارج!
إذاً فـإسرائيل أصبحت ترسانة أسلحة، وأصبحت تصدر الأسلحة إلى الخارج وتدعم الكثير من الدول في إفر يقيا وفي غير إفريقيا.
أولاً: من الأشياء الطريفة أن يأتي إلى ذلك المؤتمر، ثم يلقي كلمته، وبعد أن يلقي كلمته، ينصرف من المؤتمر... لأن غداً يوم العطلة المقدس عند اليهود، يوم السبت، فهو لا يستطيع البقاء ولابد أن يذهب هناك، فهناك طقوس دينية لا بد أن يمارسها؛ إنها ضربة على الوجوه لمن جاءوا يحملون أسماءً عربية، لأن بداية المؤتمر كان في يوم الجمعة، ولم يتحرك هؤلاء وأنى لهم أن يتحركوا، وكيف يفكرون أن يتحركوا ويؤدوا شعائر صلاة الجمعة، على حين أن ذلك الرجل اليهودي أعطاهم ضربة على وجوههم حينما غادر المؤتمر من أجل أن يذهب إلى دولته في إسرائيل ليؤدي شعائر يوم السبت.
المؤتمر عقد في أسبانيا البلد الذي شهد يوماً من الأيام الفتح الإسلامي، ثم شهد خروج المسلمين من تلك البلد الواسعة التي كانت تسمى بـالأندلس، ولا أدري! هل كان على سبيل المصادفة أن يعقد مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي في أسبانيا؛ أم إن الغرب اختار ذلك الموقع بعناية؛ ليؤكد على أن المسلمين سوف يسلمون فلسطين وما حولها بوثيقة الذل والهوان كما سلموا من قبل وثيقة الذل والهوان، ووقعوا عليها في الأندلس، فالأمران متشابهان؟!
خلت فلسطين من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهبِ |
طارت على الشاطئ الخالي حمائمه وأقلعت سفن الإسلام والعربِ |
يا أخت أندلس صبراً وتضحيةً وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ |
ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقبِ |
وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ بمثلها أمة الإسلام لم تصبِ |
أيضاً من الغريب، ولا أدري! هل كان -هذا أيضاً- مصادفة أن الشهر والعام الذي عقد فيه ذلك المؤتمر يوافق تماماً الشهر والعام الذي عقد فيه الاجتماع بين النصارى وبين أبي عبد الله الملك الخائن في الأندلس الذي وقع وثيقة الذل والهوان والاستسلام، لقاء الاحتفاظ بمميزاته وخصائصه الشخصية ومصالحه الذاتية...، ففي عام (1491م)، وفي شهر نوفمبر وقعت وثيقة تسليم الأندلس للنصارى، وفي عام (1991م) وفي نوفمبر أيضاً، بدأ مؤتمر مدريد للسلام بين العرب واليهود.
أولاً: جاء وسط ضمانات أمريكية تصل إلى سبعة عشر ضمانة لـإسرائيل -ولم تعد هذه الضمانات سراً، فقد أعلنت، وإليك هذه الضمانات التي قدمتها أمريكا لـإسرائيل، وقد كشفها وزير الخارجية الإسرائيلي نفسه، وأوضح أن رسالة الضمانات تتضمن سبع عشرة نقطة، وليست الصيغة النهائية أيضاً، فقد يطالب اليهود بالمزيد، وأعلن في ختام اجتماع اللجنة: علينا أيضاً العمل على تحسين بعض النقاط.
أما النقاط السبع عشرة فهي كما يلي:
1- الهدف الأساسي للمفاوضات: هو إرساء سلام حقيقي وتوقيع اتفاق سلام، وإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها، إذاً: انتظر وجود السفارات الإسرائيلية في العواصم العربية كلها!
2- لن يكون لمؤتمر السلام سلطة فرض وجهة نظره على الأطراف، أي: لن يفرض مؤتمر السلام على إسرائيل شيئاً لا تريده، إنما هو لمجرد المفاوضة والحديث، وإن شئت فقل يكفي من مؤتمر السلام أنه اعتراف من الأطراف العربية بـإسرائيل، ووجودها وحقها في الوجود، وغير ذلك.
3- المفاوضات بين الأطراف ستكون مباشرة بدون وسيط.
4- الولايات المتحدة لا تدعم فكرة الربط بين المفاوضات المختلفة -الإسرائيلية السورية، أو الإسرائيلية الأردنية، أو الإسرائيلية الفلسطينية.
5- إن أي طرف لن يجبر على التفاوض مع من لا يرغب في التفاوض معه، أي: أنه من الممكن أن تتفاوض إسرائيل مثلاً مع أي طرف عربي ترى مصلحتها في التفاوض معه لكنها ترفض التفاوض مع طرف آخر لأنه متعنت، أو لا ترغب التفاوض معه.
6- لا تعتزم الولايات المتحدة إجبار إسرائيل على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.
7- إن الفلسطينيين المشاركين في مؤتمر السلام سيكونون من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
8- الولايات المتحدة لا تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة.
9- لـإسرائيل الحق في تفسير قراري مجلس الأمن رقم (242-338) كما تريد.
10- لـإسرائيل الحق بحدود آمنة تضمن أمنها.
11- ستعمل الولايات المتحدة على بسط السلام في الشرق الأوسط.
12- ستستمر الولايات المتحدة في العمل لإلغاء المقاطعة العربية لـإسرائيل، أي مقاطعة العرب للاقتصاد الإسرائيلي مثلاً: المقاطعة الثقافية، المقاطعة السياحية… إلى آخره.
13- إلغاء قرار الأمم المتحدة الذي يعتبر الصهيونية، شكلاً من أشكال العنصرية.
14- خلال المؤتمر ستقوم الولايات المتحدة بإجراء مشاورات مع إسرائيل، أولاً بأول.
15- تجدد الولايات المتحدة اعترافها المعلن عام (1975م) والذي اعتبرت فيه أن للجولان دوراً استراتيجياً، وهذه الكلمة فيها غموض، إلا أنها تذكير بـالجولان أي: أنها لا تعترض على ضم إسرائيل للجولان إلى أراضيها.
أيضاً من الضمانات الأمريكية لإسرائيل:
16- أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لضمان الحدود المستقبلية بين إسرائيل وسوريا، ولـإسرائيل الحق بحدود شمالية آمنة في حالة الانسحاب من لبنان.
17- أخيراً الولايات المتحدة تضمن أمن إسرائيل.
هذه بعض الضمانات التي جاء بها اليهود إلى مؤتمر مدريد للسلام، فلا غرابة حينئذٍ بأن يأتوا.
لكن كيف تستقبل إسرائيل مثل هذه المؤتمرات؟
أولاً: إسرائيل تعلم أن المفاوض من مركز قوة غير المفاوض من مركز ضعف.
ثانياً: إن إسرائيل تعتبر السلام سلاماً هشاً لكسب الوقت فقط، وينبغي أن تعمل بشكل دائم ومستمر على تسليح نفسها لمواجهة عدوها، بل لبسط نفوذها وتحقيق حلمها فيما يسمى بـإسرائيل الكبرى.
ثالثاً: تستقبل مؤتمرات السلام بالتوسع في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي العربية وتهجير اليهود من أنحاء العالم إلى إسرائيل، بحيث تصبح المطالبة -في ظل تلك الظروف- بالأراضي المحتلة عام (1967م) -كما يطلبون الآن- أمراً مستحيلاً، لأنها تبني فيها المستوطنات بشكل غريب، وتسكن فيها اليهود الذين يهاجرون، وبالتالي سوف يزيد عدد اليهود بنسبة كبيرة وتصبح المطالبة بهذه الأرض فيما بعد أمراً مستحيلاً أو شبه مستحيل.
إسرائيل تتميز بنظرة عميقة في هذا الجانب، تدرك أن السلام أمر مؤقت، وأنه لكسب الوقت كما ذكرت، ولذلك يقول رئيس الأركان الإسرائيلي: " إن الأحداث في الاتحاد السوفيتي تثبت أن الاستقرار العالمي هش جداً، ويمكن أن يتبدل في أي وقت، وإذا كان خطر الحرب أصبح مستبعداً الآن في المدى المباشر؛ فإن حرب الخليج برهنت على أنه لا بد لدولة كـإسرائيل أن تستعد لما يقع على المدى المتوسط أو على المدى البعيد، وذلك لأن ظروفاً بالغة التعقيد يمكن أن تنشأ فجأة ".
هذه نظرتهم! توقع تغير الأحداث تغير الظروف المفاجئة بأحداث جديدة، واحتمال بروز قوى لم تكن واردة في الحساب، وظروف معقدة؛ ولذلك هم يرون أن الخيار الوحيد أمامهم: هو المزيد من التسليح؛ ولذلك يعكف اليهود على المطالبة والعمل على تحقيق أمرين:
الأمر الأول: توفير قمر صناعي يهودي خاص؛ للتجسس واستكشاف كل ما يجري حول إسرائيل في المنطقة العربية، وهم في مجال إيجاد هذا القمر.
الأمر الثاني: إنتاج صواريخ -كما ذكرت قبل قليل- يسمونها (صواريخ آرو) مضادة للصواريخ أيضاً، وذلك في وقت قصير وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال ذلك تقوم إسرائيل ببعض المناورات في موضوع السلام وتبتز من خلالها الغرب، والشرق، والعرب، بمزيد من التنازلات وهي تعلم أن الأمر مجرد كسب الوقت، ولعلكم سمعتم وتسمعون أن إسرائيل منذ فترة تطالب أمريكا بعشرة بلايين دولار؛ لاستيعاب المهاجرين السوفيت الذين قدموا إلى إسرائيل- كمساعدة إنسانية، ولما حجبها الرئيس الأمريكي بعض الشيء، لمصالح شخصية تتعلق بموقفه وبقضايا ليس العرب منها بقليل ولا كثير ولا قبيل ولا دبير...
قال أحد المسئولين اليهود: لا نقبل ولا نعتقد أبداً أن عدم بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي يدعم السلام، لا،بل يقول العكس، توطين اليهود وبناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي يساهم في عملية السلام ويدعمها.
وسوف تعرف كيف يكون هذا داعماً لقضية السلام، وبلا شك أن الموضوع طويل، وبقي فيه قضايا كبيرة ومهمة.
وأخيراً بقي الكلام: عن قضية أعتبر أن من المهم أن أشير إليها الآن ولو إشارة عابرة؛ لأنه جاءني سؤال يتعلق بها، ألا وهي قضية: أننا حين نتكلم مثل هذا الكلام؛ فإننا لا نعني أبداً أن نملأ قلوب الناس بالخوف من شيء اسمه اليهود؛ بل على النقيض من ذلك، فعلى رغم هذه القوة التي حصلوا عليها بحبل من الناس، كما قال الله عز وجل: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس ِ [آل عمران:112] وعلى رغم ذلك فإن ربنا عز وجل يقول في محكم تنـزيله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112].
فهم قوم جبناء فرارون مختلفون فيما بينهم، تحسبهم جميعاً كما قال الله عز وجل في كتابه: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].
ونحن أيضاً مع ثقتنا بهذه النفسية التي يعيشها اليهودي؛ فإننا ندري أن هذه الفترة التي يعيشونها فترة مؤقتة، وأن هذا الدعم الذي يمدهم من الغرب آيل إلى انقطاع.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها |
هذا لا يملكه لا يهودي ولا نصراني ولا غيره... إلا المسلم الذي يقاتل ورائحة الجنة في أنفه.. المسلم الذي يخوض المعركة وهو يتمنى أن يقتل في سبيل الله عز وجل وأن يراق دمه حتى يكون من الشهداء عند الله تعالى.
فالأمة الإسلامية تملك إمكانيات هائلة... لا أقول: تملك إمكانيات لمواجهة إسرائيل، ولا أقول: الأمة الإسلامية تملك إمكانيات هائلة.. لمواجهة الغرب النصراني ومواجهة إسرائيل ومواجهة كل القوى الكافرة؛ صحيح نحن لسنا نعيش أحلاماً ولا نعتقد أن الأمة بوضعها الحالي تملك ذلك، فهي تملكها من حيث القوة، لكنها بحاجة إلى أن تملك العقول المفكرة.. تملك القلوب المؤمنة التي عرفت ربها فعبدته، آلت على نفسها ألا تعبد إلا الله ولا تتوكل إلا على الله ولا تسأل وتدعو إلا الله عز وجل فعم القلوب والعقول والنفوس التي عرفت طريق العزة والكرامة، إذا توحدت -هذه الأمة- على كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نبذت الفرقة والخلاف فيما بينها على قضايا فرعية جزئية أو أحياناً على قضايا لا قيمة لها البتة، وإذا بدأت الأمة تعمل عملاً جاداً لتثبت وجودها لتبدأ من جديد لتسلك الطريق، فليس في عقول المسلمين عجز أو نقص!
صحيح أن اليهود شعب يملكون من وسائل التفكير والعبقرية ما لا يملكه غيرهم! فهم قد يملكون عبقرية الهدم والتدمير... أما المسلمون العرب، وغيرهم من المسلمين فإنهم يملكون عبقرية البناء ... عبقرية إمكانية الحصول على الأسرار الصناعية من الغرب والشرق، والابتكار في ذات الوقت، ويملكون الموارد الطبيعية كما أسلفت، ويملكون الثروة البشرية.
ويملكون قبل هذا كله وبعده هذا الدين الذي لو رجعوا إليه وصدقوا تعاملهم معه، وعرفوا الله تعالى من قلوبهم الصدق والإخلاص فلن يتخلى الله تعالى عنهم، ونحن مع هذا نملك شيئاً آخر لابد أن نشير إليه وإن كنت أتحدث عنه بشيء من التفصيل -نملك وعداً ممن لا يخلف الميعاد... من ربنا عز وجل، على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بأن لهذه الأمة جولة قادمة منتصرة تواجه فيها اليهود، وتكون أمة صادقة.
ولذلك يسخر الله تعالى لها حتى الجمادات فتنظم إلى موكب المقاتلين، فيتحدث الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، ونملك -أيضاً- وعداً: أن إسرائيل مهما تغطرست، ومهما عاشت أحلام ما يسمى بـإسرائيل الكبرى... إلا أن الحدود التي ستظل عليها إسرائيل -والله تعالى أعلم بما يقع- لن تكون بعيدة عما يكون عليها الآن؛ فقد جاء في حديث: {أنكم تقاتلون المشركين على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} على نهر الأردن.
إذاً أحلام إسرائيل التوسعية من البحر إلى النهر، ومطامحها ومطامعها، سوف تصطدم بعقبة القضاء والقدر، والله تعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ونحن نقول هذا ثقة بالله عز وجل وتوكلاً عليه وإيماناً به، ولا أعتقد أن مسلماً يعرف الله تعالى ويحبه ويثق به يمكن أن يخاف من إخوان القردة والخنازير أو يرهبهم، وهو يعلم أن الله تعالى ينصره متى كان ناصراً لله تعالى في ذات نفسه... متى ما كان مخلصاً لله عز وجل مؤمناً به متوكلاً عليه واثقاً به مقدماً لأمر الله تعالى على كل شيء، بل إن من المفسرين من فسر بعض الآيات القرآنية على ضوء هذا... في قوله عز وجل: وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيرا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء:4-7].
فقال أكثر المفسرين: إن كلا الوعدين قد مضى وسبق في التاريخ لكن الله تعالى قال: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء:8].
فقوله: وإن عدتم عدنا مشيراً أن وعد الله عز وجل على بني إسرائيل في الكتاب مرتين؛ يمكن أن يتكرر مرة ثالثة ورابعة متى عادوا إلى ما كانوا عليه.
جدد رجالك أيها الإسلام فالمسلمون بعصرنا أقزام |
تركوا الهدى واستبدلوه ضلالة حادوا وضلوا والقلوب ظلام |
ركضوا وراء زخارف براقة وتنازعوا الدنيا كما الأنعام |
أين الذين على الذرى رفعوا اللوا باسم الإله فأشرق الإظلام |
فتحوا البلاد شمالها وجنوبها شرقاً وغرباً والدنا أنغام |
فاستعبدوهم واستباحوا فكرهم فالغرب يخدع والشعوب نيام |
والمسلمون الراقدون كأنهم موتى بأجداث صداها الهام |
لكنهم نفضوا السبات تنبهوا يا ويح يقظتهم هي الأحلام |
قومي انظري يا أمتي درب الهدى جنباته ملء العيون رغام |
ضلت قوافلك التي سيرتها واثاقلت من خزيها الأقدام |
يا أمتي زاد البلاء عروبة قومية قد صاغها أقزام |
يا حسرة يا قدسنا ضاع الرجا ترثيك لبنان كذاك الشام |
لن ينصر الله الذين تخاذلوا لا ينصرون ولو عدت أيام |
فمن مكاسب إسرائيل اعتراف العرب الواضح المطلق بـإسرائيل، وحقها في الوجود، بل إنهم أصبحوا يعترفون بأن إسرائيل لها حقوق تاريخية في فلسطين، كما صرح بذلك الوفد المصري، بمعنى: أنهم لم يعودوا يقولون الآن، أن إسرائيل واقع لا مفر من الاعتراف به والتعامل معه، وقد فرضت نفسها بالقوة، كلا! بل أصبحوا يقولون: إن لليهود حقاً في أرض فلسطين، ويجب الاعتراف لهم بهذا الحق وإقرارهم عليه، والإذن ببقائهم وإعطائهم مطلق الاعتراف بالوجود في هذه البقعة والرقعة من الأرض، وسأتحدث عن هذه القضية إشارة بعد قليل.
ولذلك يقول أحد المؤلفين -تعليقاً على هذه القضية-: " إن إجبار العرب على الصلح مع إسرائيل، هو هدف حيوي من أهداف السياسة الإسرائيلية، لا بد لها من السعي إلى تحقيقه، إذا أرادت التخلص من الوضع الشاذ، الذي يستحوذ عليها منذ مولدها عام (1948م) إلى الآن " يقول: إن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلى الأبد مع جيران يعادونها ويرفضون الاعتراف بها، ويقاطعونها مقاطعة سياسية واقتصادية، مقاطعة لا هوادة فيها، ويهددون كيانها ويتربصون بها الدوائر، والنتيجة الوحيدة للوضع الشاذ لـإسرائيل هي حرب مستديمة لا تتوقف فترة معينة، إلا لتنشب من جديد في فترة أخرى، والحرب تكلف إسرائيل نفقات ضخمة، وخسائر جسيمة في الأموال والأرواح، وهذا الأمر لا تطيقه إسرائيل إلى الأبد بحال من الأحوال.
لذا حرص عقلاء اليهود حرصاً بالغاً على بقاء اليهود في الماضي مشتتين في أقطار الدنيا، وعلى عدم تجمعهم في فلسطين، لأن بقاءهم في بلاد كثيرة يقيهم من الفناء الذي يتعرضون له إذا تجمعوا في بلد واحد، ولأن العرب والمسلمين إذا ناموا ساعة، فلن يناموا إلى قيام الساعة! فإذا وجد العرب طريقهم وساروا عليه، فإنهم سيقضون على إسرائيل عاجلاً أو آجلاً.
لقد توقع زعماء الصهاينة أن العرب سيرضخون للأمر الواقع بعد قيام إسرائيل عام (1948م) وسيعترفون بها، ولكن الحوادث أثبتت عكس ذلك، فإن حقد العرب والمسلمين المقدس -كما يقول المؤلف-: ازداد مع الأيام على إسرائيل شدة وإضراماً، وإن المسئولين العرب أول من يعرف استحالة الاعتراف بـإسرائيل أو مصالحتها من قبل الشعوب، والذي يقدم على الاعتراف بها أو مصالحتها بين هؤلاء المسئولين، يخسر مكانته بين شعبه، وبين العرب والمسلمين، ثم يخسر سلطانه وحياته أيضاً لذلك لن يعترف المسلمون بإسرائيل مختارين أبداً، ولكي تجبر إسرائيل العرب على الصلح معها والاعتراف بكيانها لجأت إلى وسائل العنف، فاعتدت على الدول العربية العديد من المرات. إلى آخر ما في هذا المصدر.
المقصود -على كل حال- إن من أهم وأعظم مكاسب إسرائيل: هو اعتراف العرب بها، وإقرارهم بوجودها، وأن لها الحق في أن تقيم في أرض فلسطين، وأن تنادي اليهود من كل مكان في الدنيا حتى يهاجروا إلى هذه البقعة والرقعة من الأرض الإسلامية.
ومن المعلوم أنه لكي يُضمن نجاح اقتصادي، ولكي يُضمن تقدم اقتصادي؛ لا بد من وجود استقرار سياسي، أي أن رءوس الأموال لا يمكن أن تهاجر من العالم إلى إسرائيل، وهى بلد قلق مضطرب يمكن أن يتغير أو تشن عليه حرب في أي لحظة... فالناس لكي يستثمروا في إسرائيل، ولكي يحولوا رأس مالهم إلى إسرائيل، لا بد أن يضمنوا وجود قدر من الاستقرار السياسي والأمن الاقتصادي فيها؛ لتوظيف رءوس أموالهم التي يمكن أن تهاجر إلى إسرائيل، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً، ولهذا لا غرابة أن تتحدث بعض الأنباء -التي نتمنى ألا تكون صحيحة- عن أن هناك شركات ومؤسسات عربية أبدت استعدادها لمنح بعض القروض لشركات يهودية من أجل تيسير وتوفير نفقات هجرة اليهود السوفيت، واليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل.
إذاً حتى من العرب هناك من الأثرياء -الذين لا دين لهم ولا شهامة فيهم- من الممكن أن يفكروا تحويل رءوس أموالهم إلى الاستثمار في إسرائيل، ودعم مشاريع التهجير والتوطين في إسرائيل ذاتها، وهذه من أعظم المكاسب التي سوف تحصل عليها إسرائيل، خاصة ونحن نعلم -أيضاً- أن في ظل الهجرة اليهودية المكثفة إلى إسرائيل، لو وجد المهاجرون ظروفاً اقتصادية صعبة فمن الممكن أن يرجعوا، ويكون هناك ما يسمى بهجرة معاكسة أي خروج اليهود من إسرائيل إلى المكان الذي هاجروا منه.
فإذا استقر الوضع اقتصادياً؛ كان هذا هو البيئة المناسبة لاستقبالهم واستقرارهم فيها؛ ولهذا لا تستغربوا إذا نادى شمعون بيريز وهو زعيم حزب العمل، إذا نادى بإمكانية أن يتخلى اليهود عن غزة، وأن يتخلوا عن بعض أراضي الضفة الغربية المكتظة بالعرب، لكي تدرج في اتحاد فدرالي أردني فلسطيني، وهذه فكرته! لماذا؟ قال: نحن نتخلى عن بعض حقوقنا ولكننا نكون بذلك قد أدينا واجباً تاريخياً تجاه أنفسنا.
ستحافظ إسرائيل -كما يقول- على نقائها العرقي وهويتها الدينية من هؤلاء الدخلاء - ضع كلمة "الدخلاء" بين قوسين -فهو يعتبر العرب المسلمين دخلاء من الناحية العرقية ومن الناحية الدينية في مثل جو إسرائيل وبيئتها، ولذلك إذا تخلى عن هذه الأرض التي تكون فيها كثافة إسلامية وعربية؛ يكون قد تخلص من هؤلاء الدخلاء الذين يشكلون شيئاً غير مرضٍ، وغير مرغوب في النقاء العنصري الإسرائيلي -كما يزعم ويريد- وفى نفس الوقت فإنها تفتح أمام إسرائيل الأبواب المغلقة، وبذلك تستطيع إسرائيل كما يقول هو: أن تحكم العرب جميعاً وليس فلسطين وحدها.
فالفرق بين زعماء إسرائيل -طبعاً هناك نظرة أخرى لبعض زعماء إسرائيل الذين يطالبون بعدم التخلي عن شبر واحد أو إصبع واحد من أرض فلسطين- ولكن الفرق بين هؤلاء وأولئك كما عبر أحدهم بقوله: الفرق بين زعماء إسرائيل هو فرق بين زعامتين... زعامة عجولة متسرعة تريد أكل العرب والمسلمين بيدها وبسرعة، وزعامة أخرى متأنية بطيئة حكيمة، تريد أكل العرب والمسلمين بالشوكة والملعقة، وإلا هم متفقون على الأكل، لكن مختلفون على طريقة الأكل، فهناك من يطالب بأكلهم باليدين والتهامهم بسرعة وهناك من يقول: لا، نأكلهم بالتقسيط وبالشوكة والملعقة!!
فمثلاً إسحاق شامير مثل الذي يريد أن يلتهمهم بكلتا يديه؛ لذلك لما استقبل المهاجرين السوفيت قال في لحظة من لحظات التجلي العاطفي الانفعالي وهو يرى جموع اليهود تفد إلى إسرائيل، فأصابه بذلك فرح غامر وسرور لا حدود له، فانطلق يتحدث على سجيته بعيداً عن الأساليب الدبلوماسية الرسمية يقول -وهو يخاطب المهاجرين: إن إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي حلمي وعقيدتي شخصياً، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد، ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم.
إن منع التواصل بين العرب والمسلمين وبين اليهود في هذه الرقعة يضر بـإسرائيل كثيراً فهم حريصون أشد الحرص على فتح الحدود، ليذهب اليهود إلى البلاد العربية، والعرب والمسلمون يأتون إلى إسرائيل دون أي تحفظ.
ومن الأمور التي قد تكون يسيرة جداً وبسيطة لكنها ملفتة -أيضاً- أن هناك كتاباً عالمياً للطيران، هذا الكتاب يتحدث عن بطاقات الطيران وعن التذاكر وغيرها، وكيف يمكن استرجاعها... إلخ، لكنه في إحدى البطاقات -وهو موجود في كل بلاد العالم بما في ذلك البلاد العربية، ومتداول- يصور لك -مثلاً- تذكرة طيران… اسم الراكب ديفيد ليفي، وتحته: لا يمكن استرجاع قيمة هذه التذكرة إلا في إسرائيل.
قد يتصور أن هذا الأمر غير مقصود، ولكن هؤلاء القوم يخططون حتى للأشياء التي تظن أنها تافهة وبسيطة، وقد رأيت هذا الكتاب وهذه التذكرة بعيني.
إن إسرائيل تريد أن تكون حدودها مفتوحة للمسلمين، وحدود البلاد العربية والإسلامية مفتوحة لها، وهذا يفسر لك حرص إسرائيل على عقد المؤتمر أو بعض جلساته -كما يقولون- هم في الشرق الأوسط، عقد بعض المفاوضات في الشرق الأوسط، لماذا؟
لأن من أهم مقاصدهم: أنهم يريدون أن يأتي العرب إلى إسرائيل، أو حتى أن يذهب اليهود إلى أي بلد عربي آخر -إلى الأردن مثلاً، أو إلى لبنان أو إلى سوريا، أو إلى أي بلد عربي آخر- حتى يعقدوا المفاوضات هناك، لأن اليهود يعتبرون من أهم مكاسبهم أن العرب لا بد أن يتعاملوا مع إسرائيل معاملة طبيعية معترف بها، بعيداً عن تجنبها أو مقاطعها.
ولذلك حرصوا على عقد المفاوضات مع إحدى البلاد العربية -حتى لو في غير إسرائيل- لأنهم يعتبرون هذا تمهيداً لكسر هذه الحواجز الحدودية، وقد دعا بيريز في مقالته عن آفاق التعاون الإقليمي، دعا إلى تعاون بين دول المنطقة العربية وغير العربية، وقال: " إن هذا التعاون يمكن أن يقوم على المعرفة وعلى المهارة البشرية اليهودية، وعلى النفط والسوق العربيتين وعلى المياه التركية، فهذا هو التكامل " وأحياناً يقولون: بالنسبة للأعداد البشرية، فالعمالة تؤخذ من البلاد العربية والخبرة من اليهود ورءوس الأموال -أيضاً- من العرب، وهذه نظرة عنصرية قومية بلا شك تستهدف الاستحواذ على الثروة النفطية وعلى الطاقات الإسلامية، وكأن المسلمين ليسوا مؤهلين الآن ولا مستقبلاً للإفادة من هذه الطاقة، فيحتاجون أن يتولى اليهود بمعرفتهم ومهاراتهم -فيما يزعم- الانتفاع بها.
ومن أهم نتائج ذلك -كما هو ظاهر- غزو الأسواق بالمنتجات اليهودية، التي كانت تقاطع بالأمس، وفتح الطريق أمام علاقات دبلوماسية مع اليهود، وإقامة سفارات أو قنصليات -كما هو مطروح- في البلاد العربية وهو جزء مما يسمى بالتطبيع، وسوف أتحدث عن موضوع التطبيع لخطورته وسعته في درس مستقل بإذن الله تعالى، لأنه من أهم القضايا التي تبنى على عملية السلام.
كذلك فتح الباب أمام السواح اليهود ليأتوا إلى البلاد العربية، بل وأن من حقهم أن يزوروا حتى الأماكن الدينية والأثرية والتاريخية، على حد سواء مع العرب ومع المسلمين، وهذه من بنود الصلح الذي عقد في مؤتمر كامب ديفيد كما سوف أشير إلى ذلك بعد قليل.
أما التعامل الثقافي، فجانب مهم من جوانب التطبيع، وخلاصته إنهاء حالة العداء مع اليهود.
ولعل العناق الحار الذي رُئي وشوهد في أكثر من مكان، بين الوفد الإسرائيلي وبين مجموعات من الوفود العربية، والابتسامات العريضة التي كست وجوه بعض العرب، كانت عريضة بعرض المصيبة التي أصابت الأمة الإسلامية، لا بـاليهود، فليس غريباً أن يحارب اليهود أمة الإسلام، وليس غريباً أن يكيدوا لها ولكن بعرض المصيبة التي أصابت المسلمين من هؤلاء الذين ذهبوا إلى مدريد وصافحوا وعانقوا الوفد الإسرائيلي، واتفقوا معه على بيع أرض المسلمين، بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20].
وبيعت بلاد العرب بالثمن البخس لبعضهمُ درهم ولآخرٍ كرسي |
وإنما غزت إسرائيل لبنان إلا للسيطرة على منابع بعض الأنهار، كـنهر الليطاني والحصباني والوزاني وغيرها، حتى إن بعضهم يقول: إن إسرائيل من الممكن أن ترفع شعار الماء مقابل السلام؛ لأنها تعتبر أن الماء شريان حيوي هام… ومن المعروف أنه لا حياة إلا بالماء، كما قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] فالماء أمر ضروري، كضرورة الهواء لوجود الإنسان.
ولذلك تمكن الإسرائيليون من سرقة مليون وثلاثمائة ألف متر مكعب من مياه الأنهار العربية، بالإضافة إلى مائتي مليون متر مكعب من المياه الجوفية بطريقتهم الخاصة.
ومما يتوقعه -والعلم عند الله- بعض الباحثين أنه في القرن القادم سوف يتعرض 1200 مليون إنسان للعطش بسبب نقص المياه، وغالبية هؤلاء الناس هم في الشرق الأوسط -أي: في البلاد العربية وفى إسرائيل أيضاً- ولعله من المعروف أنه ينعقد في تركيا مؤتمر اسمه: مؤتمر مياه السلام؛ وهذا المؤتمر يهدف إلى استثمار مياه الأنهار الرئيسية في الشرق الأوسط، وكثير من هذه الأنهار تنبع من بلاد أخرى غالبها تحت قبضة الدول الغربية ويدور في فلكها.
فـتركيا -مثلاً- ينبع منها عدة أنهار هي التي تسقي البلاد العربية، وقد عقد هذا المؤتمر وجاء فيه: أن من الممكن أن تستثمر تركيا مياه الفرات، وتتحكم فيها وتبيعها إلى إسرائيل بكميات هائلة مقابل شيء آخر، وقد عرضت تركيا بيع هذه المياه على العرب مقابل النفط، وهى تعتبر المياه أهم من النفط، لأن النفط يمكن الاستغناء عنه بحال.. لكن الماء لا يمكن الاستغناء عنه.. وهذه الفرصة -فرصة بيع المياه التركية إلى إسرائيل- لو حصلت! لكانت مناسبة لدمج إسرائيل من الناحية الاقتصادية بالمنطقة العربية، عن طريق التعاون البريُ، كما يقال في قضية مصيرية كقضية استثمار المياه، كما تم التعاون من قبل في موضوع يعتبر بريئاً في نظرهم، وهو ما يسمى: موضوع "حماية البيئة".
فإذا عرفنا -أيها الأحبة- أن العرب يعانون نقصاً في المياه بمقدار (44%) وأنه يتحكم في منابع المياه دول أخرى، عرفنا أن إسرائيل تتحكم في جزء كبير من الموارد المائية العربية، وأنها تخطط للهيمنة على مواقع المياه في البلاد العربية.
ونحن نتكلم عنهم كما يتكلمون هم عن أنفسهم باعتبارهم عرباً، لأنه كما سبق وأسلفت: الإسلام لم يدخل المعركة لا هنا ولا هناك، لذلك ينبغي أن نعرف أن إسرائيل تحرص على تفتيت الدول العربية -أكثر مما هي عليه الآن- إلى دويلات صغيرة، وقد جاءت تقارير عديدة تؤكد ذلك، أقرأ عليكم مقالاً في غاية الغرابة للدكتور عبد الله بن فهد النفيسي، تعجبت وذهلت بعد أن قرأته! وإن كنت لا أستطيع أن أقرأ عليكم الموضوع كاملاً لحساسيته؛ لكني أقرأ ما يتعلق بهذا الموضوع منه يقول: " إسرائيل والخليج على صهوة الكلمة " هذا المقال أعتقد أنه سنة ألف وأربعمائة وستة يقول موسى شاريت -رئيس وزراء إسرائيل الأسبق- في مذكراته: " أنه لكي تبقى إسرائيل لابد من تحقيق هدفين هامين:
أولهما: أن تصبح إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة، تتمتع دائماً بالتفوق العسكري على العرب.
وثانيهما: أن تفرض إسرائيل تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة ".
لقد كتب شاريت هذا الكلام في الخمسينات، ومن يتفحص واقع الصراع العربي الإسرائيلي؛ لا يحتاج إلى كثير ذكاء لكي يعرف أن إسرائيل نجحت في تحقيق الهدف الأول نجاحاً واضحاً، وأنها مستمرة في تحقيق الهدف الثاني.. لقد صرح شاريت وكذلك بن غوريون وطرحوا عدة أفكار لتحقيق الخطوة الثانية -أي تقسيم المنطقة الإسلامية إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة- تارة تحت شعار طائفي أو عرقي أو غير ذلك، فلقد طرحوا آراء لتقسيم لبنان، وسوريا، والعراق والأردن ومصر … إلخ.
إذاً: هم يعتبرون من أهم مكاسبهم تمزيق العرب إلى دويلات صغيرة مفككة ومشتتة، بل ومتناحرة فيما بينها، وتمزيق المسلمين كذلك، وإيجاد التناقضات بينهم.
وهذا ما حصل في المؤتمر فقد دخلت كل دولة من الدول العربية على حدة، وكانت إسرائيل غير ملزمة أن تتفاوض مع الجميع، فتتفاوض مع من تريد وترفض مفاوضة من لا تريد، فمن الممكن جداً أن ترفض مفاوضة الفلسطينيين -مثلاً- أو السوريين أو أي طائفة أو دولة لا ترضى بالمفاوضة معها.
كما رفضت الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، كما رفضت أمريكا مطالبة إسرائيل بتجميد عمليات الاستيطان، التي مازالت قائمة على قدم وساق، حتى أنه أصدر أحد الوزراء الإسرائيليين بياناً يقول: هناك حملة اليوم لا مثيل لها -في الاستيطان منذ عام ثمانية وأربعين، لأول مرة هذه الحملة الضارية من الاستيطان اليهودي، لإثبات أقدام اليهود وترسيخها في البلاد التي احتلوها.
أما بالنسبة للعرب فهم على النقيض من ذلك، وهم يحاولون أن يلتقطوا أنفاسهم، حتى يضمنوا للمواطن شيئاً من لقمة العيش التي حرمها في أكثر من بلد، وأصبح يلهث ليله ونهاره بحثاً عنها.
فمن الناحية العسكرية مثلاً -خلال هذه المفاوضات- استطاعت إسرائيل أن تخترق المجال الجوي، لعدد من الدول العربية عدة مرات، وهذا الاختراق له دلالاته؛ فهو إشارة إلى الذراع الطويلة القوية لـإسرائيل، وتهديد العرب، وإشعارهم بأن إسرائيل تتفاوض معهم من موقع قوة، وهو -أيضاً- رسالة إلى أمريكا تقول لها: إن إسرائيل تستطيع أن تستغني عنكم، وليست بحاجة إليكم حتى تدافعوا عنها، فهي قادرة على أن تدافع عن نفسها.
وكذلك الحال بالنسبة للنواحي العسكرية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والأمنية في البلاد الإسلامية والعربية، فإن الوقت فيها يتراجع في حين تحكم إسرائيل قبضتها لضبط أمورها والقضاء على كل التحديات العسكرية والأمنية التي تواجهها داخل إسرائيل.
ربما يكون السلام هو أفضل حل الآن، وربما يكون غياب العرب والمسلمين عن هذا المؤتمر خسارة لا تعوض لها، فلماذا لا يذهبون إلى مؤتمر السلام -وهم على فرض أنهم لم يكسبوا شيئاً- فنقول: أما الخسارة فقد تبين أنهم قد خسروا أشياء كثيرة، وسوف أتحدث أيضاً -كما أسلفت في موضوع التطبيع- عن مزيد من الخسائر الهائلة العقلية والأخلاقية والعلمية والاجتماعية، التي خسروها ويخسرونها، لكننا سوف نعالج بعض الحجج التي يطرحونها:-
وهل تريدون من هذا الشعب أن يظل مشرداً بلا وطن ولا مأوى؟!
متى يعود هذا الشعب إلى أرضه وإلى بلاده، وإلى شجره وإلى المكان الذي ولد فيه؟!
والسؤال: هل سيحل المؤتمر هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني؟!
من قال: إن هذا المؤتمر سوف يحل هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، حتى على فرض وجود دولة فلسطينية، تحت المظلة الإسرائيلية؟!
فمن قال: إن هذا يعني أن الشعب الفلسطيني قد انتهت معاناته وآلامة؟!
لماذا لا نكون صرحاء؟!
ألا نعلم أن الشعوب الإسلامية، أكثرها تعاني من الاضطهاد والمضايقات، حتى دون أن تطرد من بلادها؟
فكم لقيت الشعوب التي زج بها في غياهب السجون؟!
وكم لقيت الشعوب التي يؤخذ أبناؤها ولا تدري إلى أين، ولا تعرف ما مصيرهم؟!
وكم حوربت الشعوب في أرزاقها؟!
وكم منعت عنها أقواتها؟!
وكم ضويقت؟!
وكم كتمت أنفاسها، حتى وهي شعوب تعيش في بلادها، وفي أرض ميلادها وبين أهلها وأولادها؟!
وتعيش تحت ظل شجرها، ونخيلها وتينها وزيتونها وغير ذلك!
ونحن نعرف أن عدداً من الدول العربية تصدر تقارير، تدل على أن الشعوب التي تعيش تحت ظل ذلك القهر تعيش ذلك الوضع!
نستطيع أن نقول: إن الفلسطينيين في إسرائيل ربما يكونون أخف وأهون حالاً منه، مع الأسف الشديد!!
إذاً: فليست القضية قضية الشعب الفلسطيني فقط، بل هي قضية الأمة الإسلامية في أكثر بقاعها، حيث تواجه من ألوان المضايقات والاضطهاد -في أقواتها وأرزاقها- وقبل ذلك في دينها أيضاً تواجه الشيء الكثير! فالمعاناة واحدة والهم واحد وكما قيل:
بكيت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق |
كلنا في الهم مسلمون.
ثم لنفترض أن الشعب الفلسطيني يعيش معاناةً لا يعيشها غيره من الشعوب العالمية والعربية والإسلامية.. أهذا هو الحل العاجل الذي ينتظرونه ويتربصونه، الذي يتمثل بوجود دولة مسخ لهم تحت مظلة إسرائيل، دولة منـزوعة السلاح.. دولة في أي صورة من الصور.. هذا الحل العاجل الضعيف هل هو الحل العاجل الصحيح؟!
أم أن صبر هؤلاء -على معاناتهم وتحملهم لما يقاسونه الآن، ولما تحملوه طيلة خمسةٍ وأربعين سنة، وتحملهم ذلك مزيداً من السنوات ربما يكون سبباً في حل بعيد، لكنه حل جذري وحل قوي، يضمن الحقوق الكاملة، ليس للشعب الفلسطيني فقط، بل للمسلمين في كل مكان.
إن هناك شعوباً كثيرةً تعاني من الاضطهاد، فشعب إسرائيل نفسه -قبل قيام دولة إسرائيل- كان شعباً مضطهداً في كل مكان، وكانوا أقليات مشردة ولعلكم تعرفون ما لقيه اليهود على سبيل المثال في ألمانيا الهتلرية، حيث لقوا من ألوان الاضطهاد ما يكون أشبه بالأساطير، وهناك وثائق تدل على أنه حصل شيءٌ من ذلك، صحيح قد يكون ضُخِّم لمصالح إسرائيلية، لكن حصل من ذلك الشيء الكثير، وحوربوا في بريطانيا نفسها وأمريكا وفي أكثر من مكان، وكانوا ينظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار.
ومن عمق المأساة والمعاناة التي واجهها شعب اليهود، انبثق الحل، وأدركوا أنه لابد من وجود دولة تحميهم وتدافع عن حقوقهم، فقد ظلوا في التيه زماناً طويلاً ثم تجمعوا في فلسطين.
فلا مانع أن نقول: إن عمق المأساة والمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، أو الشعب المسلم في أي بلد مسلم آخر كـالعراق -مثلاً- أو ليبيا أو غيرها من البلاد التي بالغوا في اضطهاد المسلمين ومضايقتهم، وأن هذا الاضطهاد قد يكون بداية الحل، لأنه أقرب ما يكون الفجر عندما يشتد الظلام:
sh= 9900252>اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، مقابل فتح السفارات في جميع البلاد العربية، -ومن المعروف أن تلك السفارات ستكون أوكار التجسس الإسرائيلي على الشعوب الإسلامية، وعلى العلماء وعلى الدعاة وعلى الحركات الإسلامية في كل بلد عربي وإسلامي؟!
هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، مقابل استقبال آلاف السائحين المخربين المصابين بأمراض الإيدز وغيرها، من الأمراض الجنسية ونقلهم هذه اللوثات إلى البلاد العربية والإسلامية؟!
هل ترانا نسمح بزوال ذلك مقابل انتشار عملية التزوير وترويج المخدرات، التي كانت في عام (1988م) (76%) منها في مصر، وتتم على أيدي يهود جاءوا تحت مظلة السياحة.
هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين مقابل ضياع شبابنا؟!
ففي عام (1990م) صدر قرار عالٍ رفيع المستوى، يؤكد أن الموساد -وهو المخابرات الإسرائيلية- وراء كل المخططات التي تهدف إلى تدمير الشباب المصري، وقال: إن السواح كثيراً ما يقيمون في فنادق متواضعة من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، أو فوق غرف أسطح المنازل أو في ضيافة الشباب العزاب، وخاصة حين يكون مع السواح الإسرائيليين نساء وفتيات، وارتفع عدد المدمنين في مصر إلى أكثر من مليوني مدمن، وأرجع التقرير ذلك إلى النشاط اليهودي؛ هذا فضلاً عن ترويج الأفلام والكتب التي تنشر اليأس والقنوط بين الناس، وتجعل إسرائيل واقعاً لا سبيل لإزالته، وتدعو إلى الرذيلة، وإلى التحلل من القيم الدينية والأخلاقية تحت ستار الحرية والترويح عن النفس.
هل ترانا سنسمح بزوال التشريد والتطريد عن الشعب الفلسطيني؛ مقابل أن تسعى إسرائيل لتدمير طاقات البلاد الإسلامية والقضاء على مواردها الاقتصادية والزراعية وغيرها، كما حصل في مصر مثلاً؛ فقد عثرت أجهزة الشرطة على مئات الأطنان من البذور والأسمدة والمخصبات الفاسدة والملوثة بالمكروبات، وعثروا على مئات الطرود من الطيور وخلايا النحل المصابة بالأمراض؛ كما أكدت التقارير التي أجرتها السلطات المصرية تسرب شحنات كثيرة من الأغذية الملوثة بالإشعاع النووي، والتي جاءت إلى مصر عن طريق بعض الشركات الإسرائيلية أو الشركات المتعاونة مع إسرائيل؟!
وهل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، في مقابل تحريم التعرض لليهود -في البلاد الإسلامية- في أي برامج إعلامية، أو فصل مدرسي أو مسجد أو منبر، بل حتى الآيات التي تتحدث عن اليهود تمنع قراءتها في الإذاعة والتلفاز، بحجة أنها تسيء إلى العلاقات مع اليهود -وربما يقال يوم من الأيام مع الأشقاء- فطالما تقدمت السفارة الإسرائيلية باحتجاجات لوزارة الخارجية المصرية على شيء من هذا القبيل، أنه قرئت آيات شديدة على بني إسرائيل؟!
هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، في مقابل إعطاء الفرصة لليهود وللإعلام اليهودي بمزيد من التحريض؛ تحريض المتنفذين في البلاد العربية الإسلامية وعلى الدعوة الإسلامية، وعلى رجالها وعلى العلماء، وعلى الدعاة والمصلحين، بمعنى آخر: يقول مسئول مصري كبير -عندما التقى بمسئول ونظير له من الاتحاد السوفيتي- " من أهم القضايا التي تم الاتفاق عليها، وضع خطة لمواجهة المد الأصولي " -هذا بين مصر وبين الاتحاد السوفيتي- وفي نفس الموضوع زار الاتحاد السوفيتي وزير حج وأوقاف ما، ونشر في مجلة تصدر عن وزارة الحج والأوقاف ذاتها تقول: " إن من القضايا التي تم دراستها، سبل القضاء على الأصوليين وعلى التطرف الديني ".
إذاً الدول العربية تتحادث مع روسيا الملحدة في كيفية مقاومة التيار الديني -سَمَّه التيار الأصولي، سمّه التطرف، سمّه العنف، سمّه ما شئت- فهل يتكرر هذا مع إسرائيل، وتصبح إسرائيل هي الذراع الأخرى لبعض البلاد التي تحارب الإسلام باسم محاربة العنف، ومقاومة المد الأصولي وغير ذلك؟!
هل تعلن إسرائيل تحالفها مع بعض تلك الأنظمة، بمقاومة التيار الديني؟
يقول بعض الصحفيين الإسرائيليين: " عشرات الشباب المصريين الذين كانوا يرتدون الجنـز، أصبحوا يرتدون الجلاليب الآن، ويقضون أوقاتهم في المساجد، فيما احتجبت فتيات مصر الجميلات، وأصبحن يرتدين الملابس المحتشمة ".
إذاً هم من خلال صحافتهم وإعلامهم يحرضون الحكومات -وهي لا تحتاج إلى تحريض- على أي حركة أو نشاط إسلامي في داخل بلادهم.
هل ترانا نسمح بزوال التشريد عن الفلسطينيين، في مقابل السماح للثقافة الإسرائيلية أن تنتشر في عقولنا وفي بلادنا وبيوتنا وإعلامنا -كتب وأفلام ودوريات وموسوعات وبرامج إذاعية وتلفازية- فذلك نتيجة طبيعية جداً للتعاون الثقافي بين إسرائيل وبين جاراتها، ومشاركة إسرائيل في معارض الكتب التي أقيمت في مصر، هي أبلغ شاهد على ذلك.
أم ترانا نسمح بذلك؟!
في مقابل تحقيق حرية التنقل لمواطني وسيارات الدول الأخرى والدخول من قبل كل من الطرفين إلى الطرف الآخر، حتى إلى الأماكن ذات القيمة والتاريخية، دون أي تميز كما ذكرت قبل قليل، أي أنهم لا يريدون أن يدخلوا إلى المساجد، من باب السياحة، بل يعتبرون هذه مناطق دينية من حق اليهودي أن يدخلها كما يدخلها المسلم.
وأن نسمح لسفن اليهود بالمرور من المياه الإقليمية طبقاً لما يسمى بالقانون أو قواعد القانون الدولي كما هو من ضمن مطالب إسرائيل، ومن ضمن اتفاقياتها مع مصر، كما يزعم البعض.
فهذه القضية الأولى يقولون ذلك من أجل إزالة معاناة الشعب الفلسطيني؛ ونحن نقول: المعاناة أكبر من ذلك وحلها لن يتم من خلال مؤتمر السلام، والقضية أننا سوف ندفع خسائر كبيرة حتى لو افترضنا إن معاناة الشعب الفلسطيني سوف تزول بالكلية، لا يتصور عاقل أننا سوف نقبل بذلك، مقابل أن تنتقل المعاناة إلى الشعوب الإسلامية بأسرها.
أما الآن فبعد أن زال التوازن الدولي وسقطت الإمبراطورية السوفيتية؛ صار الحصول على السلاح أصعب، وفي نفس الوقت لم يعد العرب يشعرون بأهمية كبيرة للحصول على السلاح؛ لأنهم قد عقدوا معاهدة سلام مع إسرائيل، فكيف يظن الآن أنهم سوف يتقوون بعد ما أبرموا تلك الاتفاقيات؟!
ثم إن السلام يعني أن يتحالف اليهود مع شركائهم في مقاومة أي توجهٍ إسلامي في البلاد العربية، والقضاء على ذلك، وهذا هدف مشترك للجميع!
فلا يتصور أبداً أن العرب سوف يحصلون على السلام أو إنهم سوف يعملون على أن يتفقوا في ظل مثل هذه الظروف، كما أننا نعلم أن بعض المتحدثين عن السلام والمطالبين به يقولون: إن السلام فرصة للإنفاق على ما يسمونه بالتنمية، يقولون: إننا نريد أن نقلل من نفقات الدفاع والتسليح، لماذا؟
قالوا: نريد أن ننفق على التنمية نريد للناس أن يأكلوا الخبز والعيش، فقد ماتوا؛ لذلك عقدنا السلام حتى نقلل من نفقات التسليح ونوجهها إلى التنمية!
فإذا كان الأمر كذلك فكيف نظن أن السلام -كما قالوا قبل قليل- فرصة للتقوي على العدو، إذا كانوا يعتبرونه فرصةً لتقليل التسليح؟!
ولعله ليس سراً أن تعلموا أن شروط بوش بعد حرب الخليج في نـزع السلاح من دول الشرق الأوسط، أن هذه الشروط لا تمس إسرائيل من قريب ولا من بعيد، لأنها لا تتحدث عن الأسلحة المتطورة التي يملكها اليهود، وإنما تتحدث عن الأسلحة التي يحاول العرب -أحياناً- أن يمتلكوها؛ فشروطه تزيد الضعيف ضعفاً ولكنها تسمح لإسرائيل أن تكسب مزيداً من الأسلحة النووية، وما يسمى بأسلحة الدمار الشامل.
إذاً: هناك تناقضات بين من يطالبون بالسلام من أجل التسليح، وفى نفس الوقت يطالبون به لمزيد من الإنفاق ما يسمونه بالتنمية، كما أن هناك من يقولون: إن لـإسرائيل حقاً تاريخياً في البقاء في هذه الأرض , إن لليهود حقاً تاريخياً للبقاء في أرض فلسطين.
وأقول: أولاً: الوجود في فلسطين هو لأتباع الأنبياء الصادقين، سواء كانوا أتباعاً لموسى أو لداود أو لسليمان أو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليست القضية هي قضية يهود؛ وإنما قضية أتباع الأنبياء والرسل؛ ولهذا قال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] إذاً: ليست العاقبة لليهود باعتبارهم جنساً معيناً أو عرقاً معيناً، أو في عروقهم دم، لا! فالعاقبة للمتقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، يورثها المتقين كما هو ظاهر هذه الآية ونصها وروحها.
إذاً: فلسطين وغيرها من البلاد هي لله يورثها من يشاء من عباده، وهى وراثة للمؤمنين المسلمين الصادقين كما قال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
أمر آخر إن بقاء مجموعات وحفنات من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى أو غيرهم، تحت ظل حكم إسلامي في أرض هم مقيمون فيها أصلاً، هذا أمر ممكن وقد جاء النبي إلى المدينة وفيها يهود فأقرهم بمقتضى معاهدة أبرمها معهم، كما هو معروف في السيرة وله دلائل تشهد على ثبوته وصحته.
فمن الممكن أن يقر المسلمون وجود حفنات من اليهود أو النصارى، تحت ظل حكم إسلامي وفق الشروط الشرعية، كالشروط العمرية وغيرها، -وهذا تكلم عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تفصيلاً في كتابه أحكام أهل الذمة أما أن يكون الحكم لليهود وأن يكونوا في حالة حرب مع المسلمين أيضاً؛ فإن هذا لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال.
نقطة ثالثة: إذا كان الأمر كذلك وكانت المسألة مطالبة بحقوق تاريخية؛ فمعنى ذلك أنه يجب على الشعب الأمريكي الذي يدعم إسرائيل الآن بلا حدود، ويتفانى في خدمتها؛ يجب على الشعب الأمريكي إن يخلي الولايات المتحدة الأمريكية، ويذهب إلى أماكن وجوده الأصلية في أسبانيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، ويترك أمريكا للهنود الحمر، وغيرهم ممن كانوا مقيمين فيها أصلاً؛ وعلى ذلك يجب إعادة خريطة العالم من جديد؛ إلى ما كان عليه قبل ألف سنة أو قبل عشرة آلاف سنة!!
وكما مورست الدعارة علناً في أكثر من بلد عربي وإسلامي، تارة باسم الفن وتارة باسم الرقص وتارة باسم الحرية الشخصية، وتارة باسم الاختلاط، وتارة باسم الترفيه، وتارة باسم السياحة؛ بل وأحياناً باسم التعليم!
نحن نريد من هذه الحكومات التي أذنت لألوان الفساد وصوره أن تنتشر، وحاربت وضيقت حتى على خطيب الجمعة.. فقد حدثني الشخص الذي ذكرت لكم قبل قليل يقول: جاء الخطيب في يوم الجمعة وكان يلبس لباس الجنـز، حليق اللحية والشارب، لا يعرف الآية من الحديث، وهو الذي يتكلم مع الناس ويعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تناقض مريع خطير! فنحن نريد بدلاً من عقد الصلح مع إسرائيل، أن تعقد هذه الدول والحكومات صلحاً مع شعوبها، تسمح بموجبه بممارسة شعائر الدين علانية دون ضغط أو إكراه, فيسمح لمن يريد أن يصلي أن يصلي، ويسمح لمن يريد أن يعفي لحيته أن يعفيها، ويسمح لمن يريد الحج بأن يحج، ويسمح لمن يريد أن يحفظ الناس القرآن ويعلمهم القرآن في المساجد أن يفعل دون أن يتعرض للمحاكمة، والإيقاف والاستجواب والمساءلة، بحجة أنه يخشى من انتمائه إلى بعض الجماعات الإرهابية، أو التيارات الأصولية المتطرفة.
إن الله عز وجل إنما شرع الجهاد أصلاً حتى لا يضغط على الناس أو يضايقوا في دينهم، يقول الله عز وجل: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] فالقتال شرع من أجل رفع الفتنة عن الناس في دينهم، حتى لا يضيق عليهم في دينهم، ولا يحاربون في دينهم ولا يجبروا أو يكرهوا على ترك الدين، أو اعتناق دين آخر , ونحن نجد أن هذه الفتنة الآن قائمة في عدد من البلاد الإسلامية بدرجة أو بأخرى؛ وأن الإنسان لا يستطيع أن يتدين تديناً كاملاً، وطالما جاءتنا أسئلة كثيرة تقول: أنا إنسان أريد أن أذهب إلى بلدي، هل يجوز لي أن أحلق لحيتي؟
أقول: لماذا؟
قال: لأنه منذ أن تدخل في المطار سوف تتعرض لسلسلة من المساءلات والاستجوابات، وربما الإيقاف وربما السجن أياماً للتأكد من هويتك ومن أنت.
وما انتماؤك!
وما سر إعفائك للحيتك!
إلى غير ذلك.
إذاً: نريد عقد صلح بين هذه الحكومات وبين شعوبها، تسمح بمقتضاه وتخلي بين شعوبها وبين أن تتدين بالإسلام، خاصة ونحن نعلم أن هذا هو أكثر ما يزعج الغرب، وقد قرأت عليكم في المجلس السابق، مقالاً يهدد فيه أحد الرؤساء -إذا لم يتحقق السلام- بأن يطلق العرب لحاهم.
نقطة أخرى: أن توجه الجهود، وما أكثرها من جهود؛ جهود ضخمة في أكثر من بلد عربي -كما أسلفت لكم قبل قليل، لملاحقة الناس ومحاربتهم في أرزاقهم وكتم أنفاسهم، والتصنت عليهم إلى غير ذلك- نريد أن توجه جهود تلك الاستخبارات المدججة القوية، وأجهزة الأمن المتزايدة المتعاظمة يوماً بعد يوم، والتي تشكل عبئاً على ميزانيات تلك الدول، وهي في الغالب دول فقيرة، ويجهد الإنسان فيها في تحقيق قوته اليومي وقوت أولاده، وربما ترى طوابير طويلة من الناس؛ نريد أن توجه تلك الأجهزة إلى الحصول على أسرار التسليح وخفاياه، والحصول على التكنولوجيا المتطورة، كما فعلت إسرائيل تماماً، فلم تكن مهمة الموساد -وهو جهاز الاستخبارات الإسرائيلي- لم تكن مهمته -مثلاً- مضايقة المواطن أو المستوطن الإسرائيلي، أو ملاحقته أو مصادرة رسائله، أو عد الكلمات عليه أبداً؛ بل كانت مهمته خدمة المصالح القريبة والبعيدة لليهود، وتنفيذ العمليات الداخلية والخارجية التي يعتقد اليهود أنها في صالحهم.
على سبيل المثال: قبل أيام قليلة وخلال أسبوع، ذكرت إذاعة صوت أمريكا أن هناك انتقادات في ألمانيا، لأن المخابرات هناك باعت أسلحة سرية متطورة لـإسرائيل، والجدل هناك لا يتعلق بالبيع لـإسرائيل، فهو يقول عملية عادية، وهو تعاون بين دولتين صديقتين.. فلا مانع أن يباع لـإسرائيل أسلحة متطورة؛ لكن الانتقاد جاء لأن هذه الصفقة تمت دون علم كبار المسئولين في تلك الدولة بهذه الصفقة؛ ومع أن قانون ألمانيا يحظر بيع السلاح على المناطق الملتهبة، مناطق الأزمات، ومنها منطقة الشرق الأوسط؛ لكنهم يقولون: لا مانع من بيع السلاح لـإسرائيل، لكن تحت سمع وبصر المسئولين في تلك الدولة... وعلى كل حال فإن إسرائيل لم تصل إلى هذا المستوى من التصنيع والتطور؛ إلا بجهود ضخمة سرية بواسطة أجهزة مخابراتها وأمنها، للحصول على التسليح وتجنيد أعداد هائلة من الناس؛ لتحقيق مصالح إسرائيل، سواء من اليهود أو من غير اليهود.
فلماذا لا توجه تلك القوى التي فيها تعتبر بعض الدول العربية، أنها قد تملك أقوى سلاح استخبارات في المنطقة، لماذا لا توجه القوى إلى الحصول على أسرار التسليح، وسرقتها وتجنيد أفراد من العرب أو المسلمين أو من غيرهم، للحصول على ذلك؛ حتى يتمكن العرب من الوصول إلى ما يريدون، ويتمكن المسلمون من مواجهة إسرائيل بنفس السلاح الذي تملكه.
أما أن تجوعه وتفقره ثم تطالبه بعد ذلك؛ فهذا لا يمكن أن يكون!
على كل حال ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكننا حين نحول الإنسان إلى باحث عن الوظيفة أو عن القرش أو عن لقمة الخبز نكون قد مسخنا إنسانيته وأهدرنا كرامته، وقضينا على كل معاني الرجولة والإباء والشهامة فيه، ومن قبل عرف المنافقون ذلك فكانوا يقولون، كما حكى الله تعالى عنهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [المنافقون:7] فيعرفون أو يظنون أن الشح في الإنفاق، سبب في الانفضاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما علموا أن خزائن السماوات والأرض لله، وأنهم إن أمسكوا هم، فإن الله تعالى يبسط يده على عباده المخلصين الصادقين، ويرزقهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه ابن عمر: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده ولا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِل الذل والصغار على من خالف أمري}.
كيف سينظر للأمور؟!
لقد أوجدت هذه الأجهزة عند الناس شعوراً عميقاً بالإحباط وخيبة الأمل واليأس القاتل المدمر.
إنه لابد من إعادة الثقة إلى الشعوب ومكاشفتها بالحقائق، وجعل الصورة واضحة أمامها , ونحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من السماء والذي يستحيل أن يحصل زعيم في الدنيا سابقاً أو لاحقاً على ما كان يمنحه المسلمون لرسول الله من الحب والإكبار والثقة وغير ذلك أو يدانيه أو يقاربه؛ ومع ذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبين الحقائق واضحة لأصحابه، ويشاورهم فيها كما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صلح الحديبية، وقال في معركة أحد {أشيروا عليَّ أيها الناس} وكما شاورهم حين استشار الأنصار السعدين وغيرهم، وفي قضية الأحزاب لما أراد أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة, ولم يكن أحد أكثر مشاورة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وبلا شك أن مشاورته عليه الصلاة والسلام، لم تكن مشاورة في جو تعتيم وتضليل وتغييب الحقائق، لا،بل كانت في جو كشف كامل للحقائق، كان يقول: لهم هذا هو الواقع وهذه هي الحقيقة، وماذا ترون؟
أرأيت إذا وجدت أُمَّةً عندها استعداد أن تموت حفاظاً على حياضها وذوداً عن دينها وحمايةً لأعراضها، وفرحاً بالموت في سبيل عقيدتها، لماذا تحول بينها وبين الموت؟!
إذا كنت تعتقد أن ميدان المعركة ليس هو الآن، وأنه غير مناسب؛ فهلم إلى ميدان الجهاد في مجال الصناعة في مجال العلم، في مجال السياسة، في الميدان الاجتماعي، في ميدان الإعداد العسكري.
هلم إلى تحريك هذه الشعوب لتشارك في الإعداد في هذه الميادين , هل نحن صادقون فيما ندعيه من أننا عاجزون؟!
هل حاولنا الخروج من هذا النفق؟!
هل بدأنا؟!
بل هل سمحنا لأصحاب الهمم العالية -أصحاب الطموح، أصحاب المواهب، أصحاب الإمكانيات- هل سمحنا لهم أن يقدموا خدماتهم وإمكانياتهم؟!
هل هو سر أيها الأحبة؟!
إنه ليس سراً فهو يكتب في الصحف؛ بل في عشرات الكتب!
إن من أعظم المآسي التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية اليوم… ما يسمى بهجرة العقول العربية إلى بلاد الغرب، التي تتحدث عنها المجامع العلمية، والنشرات، هجرة العقل الإسلامي، حيث لا يجد المناخ المناسب في تلك البلاد، فيهاجر إلى هناك ويصب في بحر يخدم المصالح الغربية.
فمتى نغري هذه العقول الفذة النادرة العبقرية... متى نغريها بالعودة إلى قواعدها سالمة؟ ومتى نؤويها؟ ومتى نوفر لها البيئة المناسبة والمناخ المناسب، سواء من الناحية المادية أو الإغراء المادي، أو من الناحية المعنوية والحفاظ على كرامتهم وحقوقهم الإسلامية والإنسانية؟!!
فمن المعروف ما هي مهمة تلك النوعيات من النساء التي تساهم في الجيوش! كما إننا نجد كثيراً من هذه الشعوب وهذه الجيوش تتعرض لغسيل مخ، بحيث يصبح كل ما في عقله: هو الدفاع عن منجزات الحزب، أو منجزات الزعيم أو ما أشبه ذلك، وربما لا يدري أصلاً لماذا يقاتل؟!
بل ربما تصير القضية عند كثير منهم قضية وظيفة وقضية أكل عيش فقط -وهذا هو الأغلب- فصار عندهم شعور بعدم المبالاة، شعور باليأس من جميع الشعارات، فكل الأقوال التي يسمعونها، وكل الكلمات التي تردد أمامهم صارت في أذهانهم لا قيمة لها، وصاروا يعتقدون أن الجميع مهرجون ومطبلون ومزمرون، وأنك يجب أن تكون واحداً من هؤلاء ولا غير، وأن الدنيا لا يمكن أن تتغير بك أنت بمفردك.
فلابد إذاً من العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية:-
أولاً: من الناحية الشرعية والأخلاقية ورفع الروح المعنوية وتحديد الهدف، الذي يقاتلون من أجله، وهو حماية الدين، وحماية الأرض الإسلامية.
الناحية الثانية: تكثيف عددهم بما يكفي لسد حاجة الأمة في الدفاع عن نفسها، والاستغناء عن عدوها والقدرة على مقاومة العدو، أو رده أو ردعه.
إن المسلمين كثير، ولو أن كل مسلم وجه نفخة لإسرائيل لطارت في الهواء! ولو أن كل مسلم بصق على إسرائيل لأغرقوها! ولكننا نجد أن المسلم لا يملك حتى نفخة يوجهها إلى إسرائيل، ولذلك تقول بعض الدراسات، وبعض القواعد العسكرية، تقول: إن (10%) من تعداد كل أمة قادرة على حمل السلاح، وإذا تصورنا أن العرب يتوقع في القرن القادم أن يكون عددهم أكثر من (250 مليوناً) -هؤلاء العرب فقط- أما المسلمون فإحصائياتهم تقول إنهم ألف ملبون -هذا حسب الإحصائيات الرسمية- ومعنى ذلك أنه باستطاعة العرب -الآن وعددهم مائتا مليون- حشد عشرين مليون مقاتل، وفى المستقبل باستطاعتهم حشد (45 مليون) مقاتل، أما المسلمون فباستطاعتهم حشد أكثر من (70 مليون) مقاتل للحرب، ونفوس اليهود اليوم لا تزيد عن مليونين ونصف أو ثلاثة ملايين، فأين تصبح إسرائيل لو صدق المسلمون ما عاهدوا الله عليه؟!
النقطة الثالثة: فيما يتعلق بإعداد الجيوش العربية والإسلامية: هو أن يعرف الجندي موقعه، ويعرف أين يوجه البندقية؛ وذلك أنه يجب أن يوجه بندقيتة إلى عدوه وليس إلى صدور مواطنيه؛ فإن الجيش لا يستخدم للتهديد في النـزول في الأسواق والشوارع -مثلا- لقمع المظاهرات وأعمال العنف؛ ولكنه يستخدم لحماية الحدود من المغيرين الكافرين، وحفظ المكتسبات الإسلامية، وحماية الحرمات والدفاع عن الأعراض.
فهناك مسئولية كبيرة على الشعب الفلسطيني، وخاصة على الواعين المسلمين اليقظين فيه، أن يعملوا عملاً جاداً على إعادة هذا الشعب إلى دينه، وتصحيح عقيدته، وجمع كلمتهم على الهدى، والحق والتوحيد، وأن يعرفوا أن كل الأبواب موصدة أمامهم، إلا باب الإيمان والرجوع إلى الله تعالى، والتجمع لا على أساس شعار طائفي، أو يساري أو علماني أو غير ذلك، وإنما على أساس إسلامي رباني، فإذا فعلوا ذلك فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، ونقول كما قال موسى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
10-5 ضرورة التوعية العامة:-
من الحلول أيضاً وهي مهمة: ضرورة التوعية العامة على كافة المستويات، وبكافة الوسائل على كافة المستويات: الطلاب العامة الخاصة الشباب الأطفال، وبكافة الوسائل الممكنة: بالكتاب بالشريط بالمقالة بالمحاضرة بالدرس بالخطبة بالندوة بالأمسية بالقصيدة بالقصة بالكلمة حتى بالحديث الشخصي، التوعية العامة في قضية السلام.. ومدلولات السلام.. ومخاطر السلام.. وما وراء السلام.. وحقيقة العداء مع اليهود.. وترسيخ عقيدة البراءة من المشتركين، التي جاء بها الإسلام، والبراءة من أهل الكتاب، في نفوس جميع المسلمين، من الناشئة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، فلابد من عقد لقاءات وندوات ومحاضرات ودروس وخطب، وبرامج مكثفة لهذا الغرض.
ولذلك يتساءل البعض يقول: ماذا نصنع؟! هل نذهب لنقيم حرباً؟! لا يا أخي! لماذا نحن نتكلم في وادٍ؟ وأنت في وادٍ آخر، أو بعض الناس يقول: ما الداعي أن تثير هذا الموضوع وتتكلم؛ ما لنا حل ولا بأيدينا حل؟ يا أخي: على أقل تقدير أن يكون بيدك أن تكون واعياً، أن تعرف أنت حقيقة الوضع، فمصيبتنا فيك الآن، وليست مصيبتنا في أولئك الذين ذهبوا إلى مدريد أو غيرهم فأولئك قد غسلنا أيدينا منهم منذ زمن، وعرفنا ما عندهم وماذا ورائهم، لكن بقيت أنت! أصبحت في بعض الحالات مؤيداً أو على الأقل أصبحت في غشش لا تدري حقيقة الأمر، وهذه مصيبة! هذه كارثة! فنحن نريد منك أن تكون ذا عقل واع بما يراد وما يدار، هذا من ناحية؛ الناحية الأخرى، أن تفرغ هذه العلوم وهذا الوعي وهذا الإدراك، أن تفرغه فيمن حولك بكافة الوسائل؛ حتى تكون الأمة واعية؛ لأنه يا أخي: إذا كانت الأمة تعتقد أن مؤتمر السلام هو نهاية المطاف، وأنه إبداع لا يمكن أن تتصوره.. معنى ذلك أن الأمة بلغت قمة المجد وقمة التقدم، وأنه عليها أن تتوقف عند مؤتمر السلام، لكن إذا شعرت الأمة أن مؤتمر السلام، هو حصيلة سنوات من الهزيمة والإحباط، والذل والتسلط والقهر الذي عاشه الشعب الفلسطيني، وعاشته معه شعوب عربية وإسلامية؛ أخرى أدركت أن هذا الخطأ، هو سلسلة من أخطاء كثيرة.. صحيح أنا وأنت لن نوقف مؤتمر السلام، وصحيح أننا لن نوقف مؤامرة قد لا نستطيع أن نوقفها؛ وإن كان المؤمن عنده ثقة بأنه يستطيع أن يعمل الكثير، لكن إلا يتهرب من المسئولية ويقول: المسئولية مسئولية غيري.. علي كل حال هذا نظرة سريعة، والوقت لا يتسع للإفاضة.
ولذلك يتساءل البعض يقول: ماذا نصنع؟!
هل نذهب لنقيم حرباً؟!
لا يا أخي! لماذا نحن نتكلم في وادٍ، وأنت في وادٍ آخر؟
أو بعض الناس يقول: ما الداعي أن تثير هذا الموضوع وتتكلم؛ ما لنا حل ولا بأيدينا حل؟
يا أخي: على أقل تقدير أن يكون بيدك أن تكون واعياً، أن تعرف أنت حقيقة الوضع، فمصيبتنا فيك الآن، وليست مصيبتنا في أولئك الذين ذهبوا إلى مدريد أو غيرهم فأولئك قد غسلنا أيدينا منهم منذ زمن، وعرفنا ما عندهم وماذا وراءهم، لكن بقيت أنت! أصبحت في بعض الحالات مؤيداً أو على الأقل أصبحت في غشش لا تدري حقيقة الأمر، وهذه مصيبة! هذه كارثة! فنحن نريد منك أن تكون ذا عقل واع بما يراد وما يدار، هذا من ناحية؛ الناحية الأخرى، أن تفرغ هذه العلوم وهذا الوعي وهذا الإدراك، أن تفرغه فيمن حولك بكافة الوسائل؛ حتى تكون الأمة واعية؛ لأنه إذا كانت الأمة تعتقد أن مؤتمر السلام هو نهاية المطاف، وأنه إبداع لا يمكن أن تتصوره.. معنى ذلك أن الأمة بلغت قمة المجد وقمة التقدم، وأنه عليها أن تتوقف عند مؤتمر السلام.
لكن إذا شعرت الأمة أن مؤتمر السلام، هو حصيلة سنوات من الهزيمة والإحباط، والذل والتسلط والقهر الذي عاشه الشعب الفلسطيني، وعاشته معه شعوب عربية وإسلامية أخرى، أدركت أن هذا خطأ، هو سلسلة من أخطاء كثيرة.. صحيح أنا وأنت لن نوقف مؤتمر السلام، وصحيح أننا لن نوقف مؤامرة قد لا نستطيع أن نوقفها؛ وإن كان المؤمن عنده ثقة بأنه يستطيع أن يعمل الكثير، ولا يتهرب من المسئولية ويقول: المسئولية مسئولية غيري.. علي كل حال هذا نظرة سريعة، والوقت لا يتسع للإفاضة.
يتساءل كثيرون عن حكم الشرع في هذا المؤتمر، أو في الصلح مع إسرائيل عموماً! لقد عقدت مؤتمرات إسلامية كثيرة في القاهرة ومكة وعمان، سنة 1968م، وعقد مؤتمر إسلامي في ماليزيا كوالالمبور، بعد سنة، وقد شهدت هذه المؤتمرات قسماً من علماء المسلمين، وأعلنت الجهاد بإجماع آراء العلماء الذين شهدوا هذه المؤتمرات، والذين لم يشهدوها -مثلاً- تقول بعض المؤتمرات: " إن أسباب وجود الجهاد التي حددها القرآن الكريم قد أصبحت كلها متوافرة في عدوان اليهود، بما كان من اعتداء على أرض العرب والمسلمين، وانتهاك لحرمات الدين في أقدس شعائره وأماكنه، وبما كان من إخراج المسلمين والعرب من ديارهم، وبما كان من قسوة ووحشية من تقتيل المستضعفين، من الشيوخ والأطفال، لذلك كله صار الجهاد بالمال والنفس فرضاً في عنق كل مسلم يقوم به على قدر وسعه وطاقته مهما بعدت الديار، ومعنى ذلك أن الجهاد أصبح أمانة في عنق كل مسلم ومسلمة، لا يتخلف عن تحمل أعبائه المادية والمعنوية أحد، إلا ويخشى عليه أن يكون منافقاً وأن يعاقب بأشد العقاب قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] ".
إذاً: هذا المؤتمر أو تلك المؤتمرات تطالب بالجهاد، الجهاد لا حمل السلاح فقط! لا! بل نريد جهاداً من منطلق الإعداد، الإعداد المعنوي، إعداد الأمة على الأقل من الناحية العقائدية، لقد نسيت الأمة عداوتها لليهود، كيف نتكلم نحن، وبأي عقلية نتحدث، وبأي منطق! فالآن الأمة نسيت حتى عداوتها لليهود، فنحن نقول:
لقد طوَّفتُ في الآفاق حتى رضيتُ من الغنيمة بالإياب |
يكفينا أن نحافظ على إشعار الأمة بأن اليهود أعداء لها،اليوم وأمس وغداً، وأنهم سوف يحاربونها؛ فيا ليت أجهزة الإعلام العربية تقوم بهذا الدور فقط! يكفينا هذا منها!
فتوى رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند في نفس السنة.
وفتوى علماء نجد عام (1937م)، وفتوى علماء العراق بنفس العام، ونداء علماء الأزهر بتحريم الصلح مع اليهود ووجوب الجهاد عام (1965م) فتوى شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية حسن مأمون، وفتوى علماء المؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان عام (1968م)، وفتوى لجنة الفتوى بالأزهر عام (1979م)، والفتوى التي صدرت عام (1989م) والتي أُورد شيئاً منها والتي جاءت في رد عن سؤال يخص التنازل عن أي جزء من فلسطين، وقد نشرت في جمعية الإصلاح بالكويت في كتاب صدر عنها في يناير عام (1990م)، وقد وقع على هذه الفتوى أكثر من (60) عالماً من علماء المسلمين، في الفترة الممتدة من (1988م) إلى (1989م).
والخلاصة يقول: " نحن الموقعين على هذه الوثيقة نعلن للمسلمين- في هذه الظروف الصعبة- أن اليهود أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، اغتصبوا فلسطين ودنسوا مقدساتها ولن يقر لهم قرار حتى يقضوا على دين المسلمين وينهوا وجودهم، ونحن نعلن بما أخذ الله علينا من عهد وميثاق في بيان الحق، أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وليس لشخص أو جهة أن يقر اليهود على أرض فلسطين، أو يتنازل لهم عن أي جزء منهما أو يعترف لهم بأي حق فيها.
إن هذا الاعتراف خيانة لله وللرسول، وللأمانة التي وكل للمسلمين المحافظة عليها، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] وأي خيانة أكبر من بيع مقدسات المسلمين، والتنازل عن بلاد المسلمين إلى أعداء الله ورسوله والمؤمنين… إلى آخر الفتوى ".
الشرط الأول: أن يكون الذي يعقد الهدنة هو الإمام أو نائبه -الإمام الذي اختاره المسلمون وعينوه لهم، أو نائبه وهو راضٍ، يحكم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو ممثل حقيقي للمسلمين؛ وهذا الذي يحق له أن يعقد الهدنة.
الشرط الثاني: أن تكون الهدنة لمصلحة المسلمين كالعجز عن القتال -مثلاً- أما إذا كان المقصود من الهدنة -مثلاً- مصلحة الكفار، كما هو الحال بالنسبة لهذه الهدنة؛ فهي في مصلحة الكفار -وليست هدنة في الحقيقة- وإنما تسميتها هدنة في الواقع أنه قلب للحقائق؛ لكن عموماً إذا كانت لمصلحه الكفار؛ فلا يجوز؛ كما أنها إذا كانت لمصلحة أطراف أخرى يخافون على أنفسهم، أو على أموالهم أو على كراسيهم ومناصبهم، فإنها لا تكون حينئذٍ هدنة صحيحة.
الشرط الثالث: أن تكون مدتها محددة بزمن، حتى قال كثير من الفقهاء، لا يجوز عقد الهدنة أكثر من عشر سنوات؛ لأنها أقصى مدة عقد النبي صلى الله عليه وسلم فيها صلحاً مع قريش في الحديبية؛ أما الذي يجري الآن، فإننا نغالط أنفسنا كثيراً إذا قلنا هذا صلح أو هذه هدنة!
إن هذا نـزع للعداوة أصلاً من قلوب المسلمين، فهل نحن في حرب مع اليهود الآن؟!
هل نحن في معركة؟!
منذ زمن طويل، منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ما قامت معركة حقيقية مع اليهود، إلا ما يقوم به اليهود من جولات آمنة على الأجواء العربية، ويهاجمون لبنان أو غيرها متى شاءوا؛ وأما هم فإنهم بمنجاة منا ولم يتعرض لهم أحد، قد يتسلل جندي فيقتل من هنا أو من هناك، هذا كل ما يفعل الآن.
فنحن لسنا في حالة حرب حقيقية مع اليهود؛ حتى يُطالب بمصالحة معهم، ثم هذا الذي يتم الآن هو عبارة عن نوع من الاعتراف الحقيقي بالوجود الدائم لليهود، وأنهم جزءٌ من هذه المنطقة، وأن لهم الحق في البقاء فيها، وأنهم ينبغي أن يكونوا مع العرب ومع المسلمين تكاملاً ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إلى غير ذلك، نغالط أنفسنا إذا تصورنا غير هذا، ولذلك قال العلماء: إن عقد هدنة مطلقة يعني: إلغاء الجهاد وأقول: أي إلغاءٍ للجهاد أعظم من هذا، ونحن نعلم أن مواثيق الأمم المتحدة تقتضي عدم اعتداء أي دولة على حدود جيرانها، وأن هذا الاعتداء يعتبر تعدياً تتدخل بمقتضاه الدول الأخرى الكبرى وغيرها لمنع هذا الاعتداء، فهذا إلغاء واضح للجهاد، والتوقيع عليه إقرار بإبطال الجهاد، ونحن لا نقول للناس: جاهدوا الآن وهم لا يملكون الجهاد؛ لكن نقول: لا يجوز لمسلم أن يعترف بأن الجهاد باطل الآن أو منسوخ، وإذا ظن إنسان أن الجهاد منسوخ أو أنه لا جهاد في الإسلام، فإنه يكون كافراً بذلك؛ لأن الجهاد من الشرائع الظاهرة المستقرة المتواترة، التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الخلف والسلف، فعقد صلح دائمٍٍ، يعني إلغاء الجهاد، وإذا تصورنا أن العدو الوحيد الآن: هو إسرائيل كما يتصورون ويعبرون.. فإذا جلسنا معها على مائدة المفاوضات والسلام، فمعنى ذلك كأنه لا قتال، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: كذبوا، كما في الحديث الصحيح، الآن جاء دور القتال ولا يزال الله عز وجل يزيغ قلوب أقوام للطائفة المنصورة ويرزقهم منهم، لكن هكذا هم يزعمون وهم يتصورون.
إذاً: الشرط الثالث أن تكون الهدنة محدودة بزمن معين.
الشرط الرابع: أن يخلوا عقد الهدنة من شرط فاسد، وذلك كشرط معاونة الكفار على إخوانه المسلمين، وهذا لعله أن يكون موجوداً في عدد من المهادنات والمصالحات، التي تعقد اليوم وأمس وغداً، ويحتج البعض بصلح الحديبية، إلا أنه في صلح الحديبية جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة أصلاً، وعقد صلحاً مع المشركين لمدة معينة، لا تتجاوز عشر سنوات، ويحتج بعضهم باليهود أيضاً، والرسول هو الذي جاء إلى المدينة وهاجر إليها والإسلام كان ناشئاً فيها، واليهود يدّعون ويزعمون أنهم أصحاب حق أصلي في الحارات والأحياء التي يسكنونها؛ فبمقتضاه عقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود، كان الحاكم فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اليهود مطالبين بموجبها أن يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي شجار يحدث بينهم، ومطالبين بموجبها بالدفاع عن المدينة ضد أي اعتداء فلما خانوا أجلاهم الرسول من المدينة.
النقطة الأولى: هذه كلمة نقلتها بحروفها من فتاوى سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز سئل: كيف السبيل، وما هو المصير في القضية الفلسطينية التي تزداد مع الوقت تعقيداً وضراوة؟
فقال: إن المسلم ليتألم كثيراً، ويأسف جدا من تدهور القضية الفلسطينية من وضع سيئ إلى وضع أسوأ منه، وتزداد تعقيداً مع الأيام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، في الآونة الأخيرة، بسبب اختلاف الدول المتجاورة وعدم صمودها صفاً واحداً ضد أعدائها، وعدم التزامها بحكم الإسلام الذي علق عليه الله النصر ووعد أهله بالاستخلاف والتمكين في الأرض، وذلك ينذر بالخطر العظيم والعاقبة الوخيمة، إذا لم تسارع الدول المجاورة إلى توحيد صفوفها من جديد، والتزام حكم الإسلام تجاه هذه القضية، التي تهمهم وتهم العالم الإسلامي كله؛ ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد: أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولاً وأخيراً.
ولكن أعداء الإسلام بذلوا جهوداً جبارة لإبعادها عن الخط الإسلامي، وإفهام المسلمين من غير العرب أنها قضية عربية، ولا شأن لغير العرب بها -ويبدو أنهم نجحوا إلى حد ما في ذلك- ولذا فإنني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل في تلك القضية، إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهاداً إسلامياً، حتى تعود الأرض إلى أهلها، وحتى يعود شذاذ اليهود إلى بلادهم التي جاءوا منها، ويبقى اليهود الأصليون في بلادهم تحت حكم الإسلام، لا حكم الشيوعية ولا العلمانية، وبذلك ينتصر الحق ويخذل الباطل، ويعود أهل الأرض إلى أرضهم علي حكم الإسلام، لا حكم غيره، والله الموفق.
النقطة الأخرى: سئل الشيخ حفظه الله عن هذه المسائل في أكثر من مناسبة، وأجاب بما حضره، ولكنه قال في آخر الشريط: " إنني لا أسمح -فيما معناه - إنني لا أسمح بنقل أي كلام أو فتوى أو غير ذلك إلا بعد عرضها علي، وموافقتي عليها وتوقيعي عليها، لأن الكلام الشفهي يعتريه الزيادة والنقص، وربما يفهم خطأ... إلى غير ذلك " ولذلك لم يأذن الشيخ أن ينشر أي شيء عنه، إلا بعد ما يعرض عليه ويوقع عليه بالموافقة والتصحيح، ولذلك فإنه لا ينبغي لأحد أن يتسرع في نشر شيء عن العلماء، إلا بعد أن يتأكد ويتثبت ويسجل توقيعهم بأسمائهم على موافقتهم على ذلك.
أم هي قناعة؟
وإذا كانت قناعة، فما مصدرها؟
أقول: هي قناعة راسخة، مصدرها أمور:
فالتاريخ -كما يقال- يعيد نفسه والله تعالى يقول: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
فنحن نرى انهيار المعسكر الشيوعي ماثلاً أمامنا على رغم قوته الضاربة لأكثر من سبعين سنة، وبذلك يمكن انهيار المعسكر الرأسمالي الغربي أحياناً بآفة أخرى، ومن طبيعة الإنسان أيضا أنه يرى الواقع الذي يعيشه، سرمداً لا يزول، فقد نسينا الآن سقوط الشيوعية، وبدأنا نتصور أن العالم الرأسمالي الغربي باقٍ لن يزول، وهذا خطأ كبير.
فالله تعالى يقول كما سلف: وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] ويقول جل وعز: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُبقت العضباء ناقته قال عليه الصلاة والسلام: {حق على الله تعالى ألا يرتفع شيء إلا وضعه}.
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم |
فلا داعي أن نضرب ونرجم بالغيب بعد كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، {والله الذي لا إله غيره ما كذبنا ولا كذبنا} هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلام. وقال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] وجاء في رواية أخرى للحديث السابق ذكرتها مرات وكرات { على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه}.
وهذه راوية إسنادها لا بأس به وفيه ضعف يسير لكن حسنها جماعة من أهل العلم، والواقع يصدقه ويشهد على ثبوته، ولو جاء راوٍ آخر ضعيف يشهد للحديث لحسناه؛ كيف وقد جاء الواقع الماثل الآن يؤكد ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم! فقبل ذلك حينما دونت الكتب، وألفت، لم يكن لليهود وجود يذكر في فلسطين، ولم يكونوا قريبين من نهر الأردن، لكنهم وُجدوا بعد ذلك في هذا الزمن بالذات، وقد ظن بعض الإخوة أنني قلت: إن اليهود ولن يتعدوا إطارهم الآن.
وأنا أقول أرجو الله تعالى ألا يتجاوزوا نطاقهم الحالي، -وأظن أنهم لن يذهبوا عنه بعيداً- لكن هذا بلا شك ليس قطعاً؛ وإنما هو ظن غالب فقد يتوسع اليهود، ثم ينكمشون بعد ذلك، وقد يكون الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، معركة تأتي اليوم أو غداً، بعد عشر سنين أو خمسين سنة الله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن دلالات المعركة أمور:
أولاً: هذه المعركة حق، وكل من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلم أنها واقعة لا محالة -على رغم كل العقبات وكل الظلمات وكل الحواجز- هذا غيب أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: هذا لا يعني أبداً القعود وترك الأمر، بحجة أن المعركة قادمة والنصر قادم، لا،فالنصر ليس هبة للقاعدين والكسالى، النصر هبة من الله عز وجل للمجاهدين وللمضحين.. وللصابرين.. وللمرابطين.. كما ذكر سبحانه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
ثالثاً: هذه المعركة لا تعني ألا نهتم بما يجري الآن ولا نكترث له ونقول: دعهم يفعلون ما يشاءون، لا! لأن الاهتمام بالواقع هو جبلة طبيعية عند الإنسان، وخذ مثالاً: الرسول كان موعوداً بالنصر، حتى إنه في مكة -كما في صحيح البخاري- كان يقول لأصحابه: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} ومع ذلك في معركة بدر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوة العدو وبأسه وكثرته، وقلة أصحابه؛ أصابه ما أصابه، فرفع يديه إلى السماء، ودعا الله عز وجل وخشع وابتهل، وقال: {اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد بعد اليوم}. هذه طبيعة الإنسان، أنه يهتم بواقعه ويتابعه؛ فالاهتمام به جبلة، وهو أيضاً مطلوب.
والاهتمام بأمر المسلمين مطلب يدل على التعاطف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: {مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} ويقول: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً}.
لقد عاشوا زمناً طويلاً تحت ظل البطش والإرهاب في أكثر من بلد، وهم الآن يتحركون بالعقلية ذاتها، عقلية اليهودي المضطهد، عقلية بالغة في التخوف من كل شيء، وهذا يبدو للناس أنه مكر ودهاء عند اليهود، والواقع أن عقلية الشعور بالاضطهاد تجعل اليهود دائماً خائفين -حتى وهم متمكنون الآن- شعور التوتر شعور القلق شعور عدم الاستقرار الأمني، عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالذي يقدم خدمة جليلة لهم، هم الذين ذهبوا إلى مؤتمر السلام، عندما يسحبون هذا القلق من نفسية اليهود، ويجعلونهم يعيشون بعقلية ونفسية مرتاحة آمنة مطمئنة، فكم يجني هؤلاء الذين يمنحون إسرائيل السلام والاستقرار! كم يقدمون من خير لها وكم يخدمونها!!
إن اليهود طائفة محصورة محدودة، غير قابلة للنماء والزيادة؛ لأنهم لا يقبلون أحداً ينضم إليهم، وهذه بحد ذاتها معضلة كبرى، خاصة اليهود الذين يواجهون الشعوب الإسلامية، -فيجب أن نعرف أن اليهود يعيشون في وسط إسلامي، يتزايد بشكل غريب جداً، وكثافة عددية هائلة، فتعدد الزوجات -مثلاً- وكثرة النسل، هذه كلها أشياء جاء الدين بالحث عليها، ولذلك نجد المسلمين والعرب يتزايدون بكميات هائلة، لا يقاس بها أي شعب آخر.
عبد الرحمن العشماوي
يقول: وقفة على أبوابشامير
وديان
شامير
يسخر منهم من تطلعهم إلى السراب ألا فَلْيَرْو ظمآنطارق
تلك الوجوه لما عصاه سيف ولا عاقته أكفانعبد الرحمن البورنو
بعث بها إلى، بارك الله فيه يقول: كيف يعود للقدس أمانه، هذه -أيضاً- لـعبد الرحمن البورنو
.يا سائلي عن همومي لا تساءلني دعني أفكر في همي الذي أجدُ |
ليلي طويل وأوراقي مبعثرة والنفس في قلق والقلب يتقدُ |
ما بال أمتنا في اللهو غارقة وقومنا عن بلوغ المجد قد قعدوا |
أهواك يا أمة الإسلام فاستمعي لما أقول ويا قوماه فاحتشدوا |
إني أخاطب أهل العلم في بلدي جزاكم الله خيراً أيها الأُسد |
أنتم دعاة الهدى والحق لا تهنوا في دعوة الناس كل الناس واجتهدوا |
أوتيتم العلم إن العلم مكرمة فلا تضنوا بما أعطاكم الصمد |
ادعوا إلى الله في سر وفي علن وحدثونا بأخبار لها سند |
قولوا لنا عن رواة كلهم ثقة ماذا جرى يوم بدر الخير ما أحد |
وحدثوا عن صلاح الدين عن رجل يمسي ويصبح بالأحزان يتقد |
حتى أعد لطرد الكفر محتزماً بالعزم والجيش جيش الحق قد حشدوا |
فسار بالنصر والخيرات يحملها والناس لله شكراً جلهم سجدوا |
فهل ترى أمتي عن مثله عقمت فإننا اليوم للأبطال نفتقد |
إلا أمانٍ على بعد تلوح لنا حتى دنت وبها الأضواء تتقد |
فإذ هي الصحوة الكبرى مباركة فالأرض في بهجة والناس قد سعدوا |
أخيراً هذا أخ كتب يقول: مسافة للجرح بين البلوت ومؤامرة السلام، كلام طويل بعد كلام يقول: هناك قضية غير قضية السلام وهي قضية الشباب الضائع.
تعددت يا بني قومي مصائبنا وأَقفلت بابنا المفتوح إقفالاً |
كنا نعالج جرحاً واحداً فغدت جراحنا اليوم ألواناً وأشكالاً |
هذه من جراحنا، كم ترتسم في وجهنا علامات التعجب، مخبئة وراءها علامات الاستفهام، فتحتار الحيرة في عيوني، وتتشوش الأصوات في مسمعي، عندما أسمع أو أرى أو أقرأ أن مسلماً في هذه الأوقات الحرجة من عمر أمتنا، يشكو من الفراغ في هذا الوقت الذي أصبح المسلمون فيه بأمس الحاجة إلى الدقيقة، ليدفعوا عجلة الحياة لصالحهم، إن بعضاً من شباب أمتي -الكلام لا يزال للأخ الشاب المشارك وهو المسئول عن هذا الكلام أيضاً- يقول: إن بعضاً من شباب أمتي من أحفاد أبي بكر وعمر وعقبة وابن الوليد أمسوا يعيشون عيشة لاهية حرة، يحيون حياة من لا يعرف نبياً، ولا يؤمن برسالة ولا وحي ولا يرجو حساباً ولا يخشى معاداً، نعم وربي! إنهم يعيشون بعيداً، هم في وادٍ ودينهم وواقعهم في وادٍ آخر.
وأقول للأخ الكريم: لعلك قسوت على كثير من هؤلاء الشباب، فلعل في قلوبهم إيمان وإشراق، ولكنه غطي بالمعاصي وبالذنوب، بالتضليل الإعلامي، وبقرناء السوء وبغفلة الدعاة والمعلمين والداعيات والمعلمات والمصلحين والمصلحات، ولعل هذه صيحة لنا جميعاً أن نقوم بواجبنا بنفض الغبار عن قلوب شبابنا.
يقول: كان الجامع الكبير في قرطبة معقلاً من معاقل الإسلام العظيمة، وصرحاً من صروح الحضارة وقلَّ أن شهد التاريخ له مثيلاً، في محرابه صلى الفاتحون، وفي ساحاته تكونت حلقات الأئمة الأعلام من أمثال: أبي محمد بن حزم، وابن رشد، والشاطبي، وابن النفيس، والزهراوي، منذ خمسة قرون وهو يطل كل صباح ومساء عبر الوادي الكبير الذي يشق قرطبة يسأل الطير والنسيم والأنجم عن أحبابه -الذين هجروه وبالأمس- خُبر أن جماعةً من الأعراب في طريقها إلى مدريد فاشرأب عنقه ثم كانت هذه القصيدة يقول بين قوسين: مع الاعتذار الشديد لأعضاء الوفود فليسوا مقصودين بذواتهم:
أرقُ وليلي مذ فجعت طويلُ أيلام في حمل الهوى متبول |
ما زلت أرقب في شذاك أحبتي فمتى سيشفى يا نسيم غليل |
أشقاني المحراب يسأل عنهم مذ فارقوا والمنبر المثكول |
والمصحف المطوي يسأل عنهم قد شاقه الترتيل والتأويل |
من هؤلاء القادمون أعقبة والمجد فوق ركابه محمول |
أم طارقٌ تشكو القوارب بأسه والفتح في عزماته موصول |
من هؤلاء القادمون؟ جلودهم سمر ولكن في القلوب شهول |
لم يستقلوا الصافنات وإنما ركبوا بغالاً سعيهن ثقيل |
وتجردوا من كل أبيض صارم للمجد فيه تلألؤ وصليل |
جاءوا إلى مدريد بئس مجيئهم لا السعي محمود ولا مأمول |
جاءوا إلى مدريد كل عتادهم قول يفوح مهانة وطبول |
جاءوا إلى مدريد في أعناقهم شرف العروبة ويحهم مقتول |
يا أيها الأقصى الأبي وقد علا فوق المآذن غاصب ودخيل |
يا أيها الأقصى الأبي وقد جرى خلف الأعادي خائن وعميل |
من هؤلاء القادمون قلوبهم شتى تكاد من النفاق تزول |
جاءوا وخلفهم الكرامة تشتكي وبكل نادٍ وحشة وذهول |
جاءوا وخلفهم العروبة قطعت مزقاً وجنب المسلمين ذليل |
جاءوا يسوقهم الأعادي عنوة فهم لهم بين الأنام ذيول |
جاءوا ويا بئس المجيء كأنهم حمر تساق إلى الردى وعجول |
إني لأنكر هؤلاء فما هموا قومي وما أنا منهم منسول |
أنا من كرام العالمين صحائفي بيض ومجدي في الأنام أثيل |
أنا من كرام العالمين وإن جثا فوقي الصليب ومنبري مكبول |
قومي هم التاريخ في أعتابهم صنع الفخار وكوّن التبجيل |
ركبوا المنايا يوم عزت أنفسٌ فجرت بهم نوق لها وخيول |
وتقاسموا الدنيا فتوح شهادة وفتوح هدي ساحهن عقول |
لم يهتكوا عرضاً ولا أزرى بهم دنس يشين فعالهم وغلول |
كانوا الفضيلة في ذرى عليائها كانوا المكارم والزمان بخيل |
كانوا العدالة شرعهً مهدية كانوا التقى مذ أحكم التنـزيل |
كانوا الهداية للأنام فكلهم للعالمين مبلغ ورسول |
أنا من أولئك يا زمان وإن غدت بيني وبينهمُ رُبى وسهول |
أنا منهمُ مهما تطاول بعدنا وبدا لنا بعد الرحيل رحيل |
أنا منهمُ ولسوف يجمع شملنا حبٌ تجذر في القلوب أصيل |
حبٌ تكفكف وجده غرناطة وتذوب من لوعاته إشبيل |
حبٌ على الإيمان شاد بناؤه جذلٌ بكل المكرمات نبيل |
أنا منهم ولسوف يأتي طارق ولسوف تدحر للعداة فلول |
ولسوف تعلو في المآذن صيحة ويجلجل التكبير والتهليل |
فاختر لنفسك ما تشاء فإنه يوم سيأتي يا زمان جليل |
بطبيعة الحال الدكتور لما قال: كانوا المكارم والزمان بخيل، يعني أنه في وقت لم يكن فيه مكارم، وإلا فمن المعروف أن الزمن ليس إلا ظرفاً للحادثات يكتب الله فيه ما يشاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار}.
وهذا أخ آخر ذكر قصيدة للأستاذ عبد الرحمن العشماوي: يطلب مني أن ألقيها، وأعتقد أن الدكتور عبد الرحمن ألقاها، لكن لا مانع أن أقرأها استجابة لرغبة الأخ ورغبة في المشاركة:
تقول أما تحب لنا السلاما أما ترجو لأمتك الوئاما |
ينادى للسلام وأنت تشكو كأنك قد تعشقت الخصاما |
يمد الغرب كفاً من وئام وأنت ترى عداوته لزاما |
تمهل يا حبيب القلب إني أخاف عليك بعد المدح ذاما |
فديتك يا منى قلبي فإني عرفت بك المحبة والغراما |
وأبصرت الرضا وجهي وشعري وقد ألبسته منك الوساما |
فديتك لا تظني أن قلبي عن الشوق المبرح قد تعامى |
ولكن الهموم إذا أحاطت بقلب أحدثت فيه اضطراما |
لو اجتمع العباد بكل أرض علي وصوبوا نحوي السهاما |
فلن يصلوا إلي بدون أمر يقدره الذي يغني الأناما |
أقلي اللوم والعتبى فإني أرى تفريق أمتنا حراما |
لقد أسرجت من حبي جواداً لأمتنا وألقيت الخصاما |
غرست لها ميادين القوافي وفي شعري نصبت لها الخياما |
إلى أن يقول:
وما أخشى الهزائم في حروب فرب هزيمة أحيت ركاما |
أخاف من الهزيمة في نفوس لئلا يمسك الباغي الزماما |
إلى آخر ما ذكر في هذه القصيدة الجميلة جزى الله خيراً الدكتور/ أحمد على هذه المشاركة.
وفي الختام :
أسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير وبركة، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه على كل شيء قدير.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر