إسلام ويب

صفات الله عز وجلللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ -شارحاً للعقيدة الواسطية- عن صفة الرؤية وعن آثار الإيمان بأن الله يرى، ثم فسر الآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال، ومثل بقصة عيسى واليهود وقصة صالح وقومه، ثم شرح معاني العفو والمغفرة والقدرة والرحمة، وتكلم عن صفة العزة والبركة، ثم شرع في ذكر ما تنـزه عنه الله تبارك وتعالى.

    1.   

    صفة الرؤية

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله خاتم النبيين وآله وصحبه والتابعين.

    قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وقوله: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين:35] وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقوله: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].في هذه الآيات الكريمات استرسل المصنف رحمه الله تعالى في ذكر الآيات المتعلقة بالرؤية وإثبات الرؤية لله عز وجل والبصر، وأن من أسمائه السميع البصير، ثم عقبها بالآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال وما أشبه ذلك.

    فمن الآيات المتعلقة بالرؤية قوله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] وهذه الآية في سورة العلق، وهي خطاب لـأبي جهل وأمثاله من المشركين، الذين كانوا يمنعون المؤمنين من الصلاة وينهونهم عنها ويتهددونهم بها.

    فقال الله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:9-14].

    وهذا تهديد ظاهر؛ لأن ذكر الرؤية في هذا السياق يوحي بما بعدها من الأخذ بالعذاب في العاجل والآجل، فإن إخبار الكافر أو المنافق بأن الله تعالى يراه، هو تهديد له، أي: إن ما تعمله هو مرئي لنا وأنك محاسب عليه، كما أن إخبار المؤمن أو المجاهد بأن الله تعالى يراه؛ هو تأييد له بأن الله تعالى معه ويراه ومناصره ومجازيه على عمله، فقوله عز وجل لـأبي جهل هنا: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

    أي: يرى ما يعمل من الاستهزاء بالمؤمنين ومحاربتهم ونهيهم عن الصلاة واضطهادهم على فعلها، وأنه عز وجل سوف يأخذه بهذا العمل؛ ولهذا ختم السورة بقوله: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَة * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:15-18].

    عظمة بصر الله

    وفي الآية إثبات الرؤية لله عز وجل، وأنه يرى كل مرئي سبحانه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم {: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو عز وجل يرى كل شيء، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يحجب بصره جبل ولا مرتفع ولا منحدر ولا شيء، بل الخلق كلهم بمرأى منه عز وجل: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8].

    وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالتوكل عليه، فيقول: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:217-220] فأمر الله عز وجل نبيه بالتوكل عليه وحده دون سواه والانقطاع إليه، ووصف عز وجل نفسه بقوله: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218] أي: حين تقوم ليلك للعبادة والتهجد، فالله تعالى يراك.

    آثار الإيمان برؤية الله للعبد

    وهذا كما سبق في الآية قبلها؛ أن ذكر الرؤية في الخطاب مع المؤمنين هو نوع من التأييد والتطمين لهم، فإنه عز وجل يراك حين تقوم، تراوح بين قدميك بقيامك وركوعك وسجودك ودعائك وتضرعك.

    فأنت بمرأى من الله عز وجل؛ ولذلك يكون المؤمن مرتاح النفس عارفاً عالماً أن عمله لا يضيع؛ فإن العبد إذا علم أنه مراقب من قبل الله عز وجل، وأن عمله يَرى من الله تعالى سره ذلك، وهذا من طبيعة البشر؛ أنه إذا رأى من يكبره كشيخه أو والده أو من كلفه بعمل معين، وأمره أن يقوم به على الوجه الأكمل، ثم رأى أنه يطلع على عمله ويتابعه عليه وهو مخلص في ذلك سره هذا، كما هو معروف من طبيعة الإنسان، وجاءت الأديان مؤيدة لهذا الأمر، كون العبد يعمل العمل الصالح فيسره أن يُحمد به، فتلك عاجل بشرى المؤمن.

    فكيف إذا علم أن الله عز وجل هو المطلع عليه؟! فلهذا سلى وعزى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فقال له: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:217-218] والله عز وجل يرى نبيه في كل وقت، يراه حين يقوم، وحين ينام أيضاً، وفي الليل، وفي النهار، ويراه في كل حال، ولكنه خص هذا الوقت -وقت القيام- للسبب الذي ذكرت، وهو أن العبد محتاج فيه إلى الصبر والتثبيت؛ فلذلك ذكره الله عز وجل بأنه يراه.

    وهذه الرؤية لها ما بعدها، فهو يحب هذا العمل منك ويشكره لك ويثيبك عليه؛ فلهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته عائشة كما في الصحيح: { أنه قام حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال عليه الصلاة والسلام:- أفلا أكون عبداً شكوراً}.

    ولهذا لما عَرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان كما في حديث جبريل المشهور قال: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} أي: أنت بين أمرين: أن تعبد الله كأنك تراه وتنظر إليه، فحينئذٍ تصلح من عبادتك وتحسن من حالك ولا تألو ولا تمل، لكن إن لم يصل لك هذا ولم تستطعه؛ فإنه يراك أي: تذكرَّ أن الله عز وجل يراك، وتذكر العبد لرؤية الله عز وجل تحدث نشاط القلب واندفاع الهمة والدأب على العبادة والجلد عليها، فهذا من معاني قوله عز وجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:218-220].

    وفي الآية إثبات الرؤية لله جل وعلا وأنه يرى كل شيء، ولا يحجب رؤيته شيء من ظلام أو سهل أو جبل أو بر أو بحر أو غيره، وفيها أن من أسمائه عز وجل: السميع العليم.

    انكشاف الخلق لله

    قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] هذه الآية من سورة التوبة وهي خطاب للمنافقين، الذين يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] فيقول: وقل اعْمَلُوا أي: اعملوا ما شئتم، وعلى أنه خطاب للمنافقين، فهذا الأمر أمر تهديد ووعيد، كما في قوله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40] وكقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.

    فيقول الله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] فأما رؤية الله عز وجل للعمل، فهي متحققة حال وقوعه، فإنه يقع برؤية من الله عز وجل، ويراه سبحانه حال وقوعه، هذا فضلاً عن علمه بهذا العمل قبل وقوعه، وعلمه به علم تحقق وقوعه بعدما يقع، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يكشف له صنيع هؤلاء، ويريه عملهم ويفضحهم.

    وكذلك رؤية المؤمنين لهم في الدنيا بأن يعرفهم الله عز وجل على أعمال هؤلاء المنافقين، وقد يكشف لهم ما خفي من أمرهم؛ كما يحدث كثيراً أن الإنسان قد يستخفي بعمله حيناً من الدهر، ثم يفضحه الله في عقر داره.

    ومهما تكن عند امرئ من خليقة      وإن خالها تخفى على الناس تعلم

    وقد جاء في حديث مرفوع وفيه ضعف: {ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه} وهذا مشاهد، فكم من إنسان يخادع ويتستر، لكن الله عز وجل يكشفه للمؤمنين، ويظهر حقيقة عمله، فهذا تحقق رؤية المؤمنين لهذا العمل في الدنيا.

    وأما في البرزخ فقد جاء في آثار أيضاً فيها نظر؛ أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات.

    وأما في الآخرة: فالأمر حينئذ لا خفاء فيه ولا شك قال الله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] فإن العبد يومئذ مكشوف، وكل شيء منه مكشوف، بدءاً ببدنه الذي لا يستره ساتر كما قال صلى الله عليه وسلم: {تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً }وكما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

    فهو مكشوف الجسد مكشوف السريرة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9-10] مكشوف الماضي كله وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] وقال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30] وقال: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:12-13].

    فيراه الناس ويسمعون ماذا عمل وماذا أخذ وماذا ترك، وأنه شقي أو سعيد، اللهم إلا المؤمن التائب؛ فإن الله تعالى يستره بذنبه حتى إذا وافى يوم القيامة قال الله عز وجل له: كما في حديث النجوى -حديث ابن عمر- {فعلت كذا فعلت كذا، قال: يا رب سترتها عليَّ في الدنيا فاغفرها لي، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه!

    وأما الكافر أو المنافق فكما أخبر تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] فيكون في ذلك فضيحة لهم وكشف لما كانوا يكنون في الدنيا وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].

    1.   

    الآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال

    انتقل المصنف رحمه الله إلى نوع آخر من الآيات الكريمات المتعلقة بالمكر والكيد والمحال، والمحال: اختلفت عبارة السلف في تعريفه، فقال بعضهم: البطش، وقال بعضهم: الكيد والمكر، وهذا هو المتبادر، أي: شديد المكر والكيد بأعدائه.

    ومكره عز وجل وكيده بأعدائه يأخذ صوراً شتى؛ فإنه عز وجل يوصف بهذا وصفاً مقيداً لا وصفاً مطلقاً، مثل المحال والكيد والمكر، فهذه يوصف الله تعالى بها وصفاً مقيداً، فيقال: يمكر بأعدائه، أو يمكر بمن يمكر به، أو يمكر بمن يمكر بالمؤمنين، وما أشبه هذا، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً؛ لأن هذا ليس من الأسماء الحسنى، ولا من الصفات العلى التي يوصف بها بإطلاق، كالكرم والقوة والعزة وما أشبه ذلك، بل هذا يحمد في حال ويذم في حال؛ ولهذا لا يوصف الله عز وجل به على سبيل الإطلاق، وليس من الأسماء الحسنى.

    وكذلك لا يشتق له عز وجل منها اسم ولا صفة مطلقاً، فلا يقال من أسمائه الماكر مثلاً ولا الكائد، بل حتى الأشياء التي ليست مدحاً محضاً ولم ترد في الكتاب والسنة، فإنه لا يسمى بها، فلم يرد -مثلاً- في أسمائه عز وجل أنه المتكلم ولم يرد في أسمائه المريد، وإن كان متكلماً يتكلم متى شاء عز وجل بما شاء، وإن كان فعالاً لما يريد، يريد ما شاء ويفعل ما يريد، ولكنه لم يرد وصفه بذلك في الكتاب والسنة.

    وأشد من ذلك: الكيد والمحال والمكر، فإن الله عز وجل لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وكذلك لا يشتق له منها اسم، فلا تقول من أسمائه الماكر أو الكائد؛ لأن المكر منه حسن وقبيح، ومنه محمود ومنه مذموم، فأما المكر بالماكرين من الكافرين والمستهزئين والفجار وأشباههم فهو محمود، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن نفسه، وأما ما سوى ذلك فهو مذموم.

    ولهذا لم يرد المكر والكيد وما أشبههما في الكتاب إلا مقيدة، ولهذا قال الله عز وجل هاهنا: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] في سياق صنيعه عز وجل بأعدائه وأعداء رسله، أي أنه شديد المكر والكيد بهم.

    ومن مكره بهم جل وعلا وكيده لهم: أنه يستدرجهم قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182] ويملي لهم وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] حتى إذا أخذهم أخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كما قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وكما قال: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:42].

    وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} وكما قال سبحانه في غير موضع: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183] وكما قال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178]... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، التي ذكر الله عز وجل فيها أنواعاً من كيده ومكره بأعدائه ومحاله بهم، أنه يماحلهم ويمكر ويكيد بهم عز وجل؛ لكفرهم وعتوهم وفسادهم ومناوءتهم لأنبيائه ورسله والصالحين من عباده.

    قصة عيسى واليهود

    قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] هذا جاء في سياق اليهود وكيدهم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك -كما هو معروف في الروايات الإسرائيلية- أنهم أرادوا قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، فدخل بيتاً فدخل وراءه أحد الخونة من أتباعه ليدل اليهود عليه، فرفع الله عيسى إليه فلم يجده هذا الرجل، ثم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل من أتباعه، فخرج فقال: ما وجدت في البيت أحداً، فشبه لهم فظنوه عيسى فقتلوه.

    فلاحظ أولاً كيف وقى الله عز وجل نبيه ورسوله من كيدهم بل رفعه الله إليه، كما قال عز وجل عن اليهود وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157-158] وقال في الآية الأخرى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] فألقي الشبه على ذلك الرجل فقتلوه.

    فانظر كيف وقى الله نبيه منهم، وانظر كيف مكر الله عز وجل بهذا الخائن، فألقى عليه شبه عيسى، فدارت الدائرة عليه ووقع السيف في رقبته، فظن اليهود أنهم قتلوا عيسى.

    ولذلك ينـزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وتخرج خيراتها الأرض في زمنه.

    وخروج عيسى عليه السلام متواتر في الآيات والأحاديث، وذكره الله تعالى في مواضع من كتابه كما في قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] وفي قراءة وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) وكما في قوله عز وجل: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النساء:159].

    وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها حديث في الصحيحين، وساق ابن كثير في سورة المائدة طائفة كثيرة منها، وهي أحاديث تبلغ مبلغ التواتر؛ ولذلك كان الإيمان بنـزوله من أصول عقائد أهل السنة والجماعة.

    وكأن نـزوله عليه الصلاة والسلام -والله تعالى أعلم- مربوط بخدعة أخرى من خدع اليهود مثل التي حصلت أول مرة حين رفع، فإن رفعه كان مكراً من الله عز وجل بـاليهود والنصارى الذين أرادوا قتله، فكذلك نـزوله هو أيضاً مكر بهم.

    ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين عيسى وبين الدجال، والدجال هو زعيم من زعماء اليهود، يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، ويسيح في الأرض، ويتبعه الفساق والكفار والمنافقون من كل مكان.

    فبعد حيلة من حيل اليهود وارتفاع من شأنهم؛ ينـزل عيسى مرة أخرى ليقطع الله به دابرهم ودابر إخوانهم من النصارى، والأمر أقرب ما يكون، فهذا معنى قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54].

    عظات وعبر

    وفي الآية عبرة وأي عبرة أيها الإخوة! أن أعداء الدين يخططون ولا يألون جهداً؛ لأن المكر بالنسبة لهم دقة التخطيط، فيخططون وينتبهون لكل دقيق وجليل، ويضعون أعينهم ويرتبون، ويحسبون لكل شيء حسابه، هذا مكرهم هم، مكر البشر مكر الإنسان، مكر الليل والنهار، ولكن قارن مكرهم بمكر رب العالمين: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

    والآية التي قبلها في المكر: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] فهؤلاء مكروا، والله عز وجل مكر بهم، كما قال الله عز وجل: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46] مكرهم ليس بالسهل بل هو عظيم!

    ونحن نرى اليوم مكر الكافرين وكيدهم، شيء تشيب منه الرءوس، يشتغلون وَيَصِلُون الليل بالنهار؛ في التخطيط للمسلمين والإيقاع بهم وحصرهم وأخذهم في الضحى من النهار، وهكذا خيل إليهم وظنوا أن الأمور قد استحكمت بأيديهم، وأنه لا أحد ينافسهم ولا يهيجهم ولا يغير من سلطانهم، لكنهم نسوا الأمر الثاني.

    أما نحن المؤمنين فلا يمكن أن ننسى هذا، وإلا فسوف نفضي إلى اليأس، لا ننسى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] ولا ننسى وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] فالقرب من الكفار واليهود والنصارى لا يعتقدون قضية مكر رب العالمين.

    بل هم يعتقدون أن كل الأمور بأيديهم، وأن القوة بأيديهم والتخطيط لهم، وأجهزة أمنهم ومخابراتهم وقواهم ومباحثهم وجهودهم ودراساتهم ومراكز أبحاثهم مهيمنة، وأن الأمر قد استوثق في أيديهم واستتب لهم، لماذا؟

    لأنهم كما أخبر الله عز وجل لا يشعرون.

    ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام تربى في بيت فرعون، فهذا من عدم شعورهم؛ لأن فرعون يمكر بالمؤمنين، ويقتل بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، كما هو معروف، فهذا هو مكره، وهو مكر البشر الضعيف الهزيل، لكن مكر رب العالمين عظيم فقد كتب الله هلاك فرعون على يد موسى الذي تربى في حجره، وعلى يد زوجته، وفي قصره، ويأكل من نعمه: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

    فالمؤمن دائماً يضع هذا في حسابه؛ لأن حسابات البشر تخطئ، وتنتبه لأمر وتنسى مائة، والله عز وجل هو الرقيب والمحيط المطلع على كل شيء ولهذا يضيع مكرهم أدراج الرياح، ويحبط الله عز وجل صنيعهم وما يسعون ويخططون له.

    قصة صالح وقومه

    قوله عز وجل: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] أيضاً لها سياق، وهو في قصة قوم صالح: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49] أي: نقتله ونقتل أهله في الليل بياتاً ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] أي: ليس عندنا خبر عن الموضوع.

    هذه خطة وهذا مكر البشر الضعيف الهزيل، يستسهل بالأمر فيفضحه الله عز وجل، يخطط لشيء فيحبط الله خطته وما سعى إليه.

    فهذا مكرهم؛ أنهم يقتلونه ثم ينكرون ذلك، فقال الله عز وجل: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] مكرهم كبير، لكن مكر رب العالمين أكبر فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:51-52].

    هذا هو الفرق بين مكر الله ومكر العباد هم قد خططوا واجتمعوا بالليل سراً وتقاولوا واتفقوا على قتل النبي وقتل من معه وإنكار ذلك وجحوده، لكنه ما تم ولم يستمر، انظر كيف كان عاقبة مكرهم! لكن مكر رب العالمين ظهرت آثاره: أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.

    ولذلك قد يخطط العبد الخطط، وقد كتب الله عز وجل أن يقبض روحه قبل أن توضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وقد تخطط أمة من الأمم وقد كتب الله عليها الانهيار قبل أن تحقق ما تريد، وقد يشتغل قوم وقد كتب الله لهم الخسف أو الزلزال أو المسخ أو الريح العاصف أو الطوفان أو الفيضان أو الغرق وهم لا يشعرون قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].

    فالخلاصة: أن معنى هذه الآيات كما في قوله: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً [النمل:50] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ)[آل عمران:54] وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30] أن الله عز وجل يوصف بالمكر وصفاً مقيداً، أنه يمكر بأعدائه، يمكر بالماكرين، يمكر بالكافرين، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً.

    وكذلك قوله عز وجل: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] ومثله قوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15-17] فهو يثبت الكيد لله عز وجل بمن يكيد لرسله وأنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده.

    ويكيد أيضاً للصالحين، بمعنى: أنه يصنع لهم صنعاً خفياً مما تكون فيه نجاتهم.

    ولعل من الآيات التي ذكرتْ ذلك قوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76] فإن الكيد هو التدبير اللطيف الخفي، الذي قد لا يدركه الإنسان، فكذلك الله تعالى كاد ليوسف، بمعنى: أنه كاد كيداً له لمصلحته ولخيره، فكان يقع ليوسف عليه السلام كثير من الأمور التي يظنها الناس شراً، مثل ترك إخوته وإلقائهم له في الجب، ومضايقته وبيعه، وكونه في قصر العزيز، ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وسجنه... إلى غير ذلك، ثم تبين أن هذا كله كان من تدبير الله عز وجل التدبير اللطيف الخفي ليوسف عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    العفو والقدرة والمغفرة

    قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً [النساء:149] في هذه الآيات الكريمات التي سردها المصنف رحمه الله تعالى، لا يزال في مجال إثبات مجموعة من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى اللائقة بعظمته وجلاله، مثل صفة العفو والقدرة والعزة والجلال ونحوها مما جاء إثباته في القرآن الكريم.

    وقد ساق رحمه الله تعالى هذه الآية: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً [النساء:149] فالمعنى: أن الله عز وجل يوصي عباده في هذه الآية العظيمة بالعفو عند المقدرة، وهذا من فضائل الصالحين وأصحاب المروءة، أنهم يعفون عند قدرتهم على الشيء، فإذا أساء إليهم أحد بقول أو فعل مروا به مرور الكرام وأعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. ولم يؤاخذوهم بما صدر منهم من قول أو فعل؛ إيثاراً للصبر ولما عند الله عز وجل؛ فإنهم يعلمون أن ما عند الله عز وجل خير وأبقى.

    ولذلك لا يستجيبون لدوافع النفس التي تدعو إلى الغضب للذات والانتصار للنفس، بل تجد أحدهم يغضب لله عز وجل، فإذا انتهكت حرمات الله غضب وزمجر وانتصر لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، لكن إذا تعرض له أحد بشخصه بقول أو فعل، فإنه يمر به مرور الكرام ولا يلتفت إليه ولا يغضب له، على النقيض من حال كثير من الناس في هذا الوقت -نسأل الله العفو والمسامحة- فإن أكثرهم يغضب لنفسه أكثر مما يغضب لربه ودينه، فإذا سمع من ينال منه أو يشتمه أو يسبه، أو يتكلم في نسبه أو أحد أقاربه أو أسرته أو عائلته، غضب غضباً لا يقوم له شيء، واستخدم وسائل الإنكار الثلاث: اليد واللسان والقلب بحسب الإمكان!

    لكن قد يسمع هذا الشخص أو غيره يسب الله تعالى، أو يسب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يسب الإسلام، فلا يغضب كغضبه ذاك، ولا يستخدم وسائل الإنكار كما استخدمها في المرة الأولى.

    ولا شك أن الجدير بالمسلم أن يكون غضبه لله عز وجل لا لنفسه، فيؤثر الإعراض عمن تعرض لذاته أو شخصه ما لم يكن في ذلك مذلة للإسلام، ولكنه لا يطيق الصبر والسكوت على من يتعرضون لدينه، فالله عز وجل يوصي عباده بالصبر والإعراض والعفو عن السوء الذي يصيبهم من الناس، ويختم الآية بذكر اسمين من أسمائه عز وجل وهما: العفو، والقدير.

    تعريف العفو

    والعفو: هو في الأصل من عفا يعفو، وهو يعني عند العرب زوال الشيء، كما يقال: عفت الديار، أي: زالت عن أماكنها وتهدمت ولم تبق على حالها.

    والمقصود به في حق الله جل وعلا: أنه يسامح عباده، ولا يؤاخذهم بما يصدر منهم، بل يعاملهم برحمته وفضله، فمن أسمائه (العَفُوُّ) لمن يستحق العفو.

    طلب المؤمنين: العفو من الله

    ولذلك كان العفو من أعظم مطالب المؤمنين، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويأمر أصحابه أن يدعوا بذلك.

    فكان يسأل الله تعالى العفو والعافية، كما في دعائه عليه الصلاة والسلام المحفوظ: {اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي} وكما كان في وصيته لـعائشة رضي الله عنها لما سألته: {إن علمتُ ليلةَ القدر أي ليلة هي، ما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني}.

    وقد ذكر الله تعالى العفو في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم، وأنه يعفو عن عباده، وعفا عن طائفة كبيرة منهم ممن تاب إليه وأناب، وأن العفو من صفاته والعَفُوَّ من أسمائه.

    وأما القدرة فلعله سبق الإشارة إليها، وأن من أسمائه (القدير) والقدرة من صفاته فهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    والمعنى: أن الله تعالى مع قدرته -وهو السر في جمع الاسمين والله أعلم- أن الله مع قدرته على أخذ الظالمين والانتصار منهم وإنـزال العقوبة بهم إلا أنه لا يعاجلهم بالعقوبة بل يمهلهم، وقد يعفو عنهم أو عن بعضهم، يعفو عمن يشاء والعفو عنهم برحمته وفضله جل وعلا، ففي هذه الآيات إثبات صفة العفو والقدرة وإثبات اسم (العفو) و(القدير).

    قصة أبي بكر مع مسطح

    وقوله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22] وهذه الآية هي في سورة النور، وقد نـزلت في سياق حديث الإفك وما تلاه من آثار، حيث إن أبا بكر رضي الله عنه، كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وهجرته وفقره، فكان قد ضمه إليه ينفق عليه، فلما صار حديث الإفك وكان مسطح ممن وقع فيه وأشاعه وأذاعه وتكلم فيه، فلما نـزلت براءة عائشة رضي الله عنها؛ حلف أبو بكر رضي الله عنه أنه لا ينفق على مسطح بن أثاثة شيئاً، فأنـزل الله تعالى قوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُواْ الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى [النور:22].

    وقوله: "ولا يأتل" أي: لا يحلف، وأولوا الفضل والسعة أي: أولوا المال الوفير والفضل الواسع والكرم والجود، وعلى رأسهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإن الله أثنى عليه في غير موضع، منها هذا الموضع، ومنها قوله عز وجل في آخر سورة الليل: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21].

    حتى ذكر بعض المفسرين الإجماع على أن هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، فأثنى الله تعالى عليه بأنه من أولي الفضل والسعة، ونهاه وأمثاله من الفضلاء الذين وسع الله عليهم أن يحلفوا على ألا يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، أي: كـمسطح بن أثاثة وغيره، وفي هذا دليل كبير على أن الإنسان لا ينبغي له أن يبخس أحداً حقه لخطأ وقع فيه.

    ولهذا وصف الله عز وجل هؤلاء بأنهم من المهاجرين في سبيل الله، فلم تحبط هجرتهم لأن بعضهم وقع فيما وقع فيه من حديث الإفك أو غيره، بل وصفهم الله تعالى في القرآن بأنهم من المهاجرين في سبيل الله وأمر بالعفو عنهم، وباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم.

    فهكذا الداعية وطالب العلم يحرص أبداً على أن ينـزل الناس منازلهم، وألا يكون مثل صاحب جور، إن مدح أسرف وإن ذم أسرف، وإن حصل من أحد زلة أنسته كل محاسنه، كلا! بل يحرص على أن يكون صاحب ميزان وقسطاس مستقيم، يعرف للناس حقوقهم، وإن زل منهم من زل أو أخطأ من أخطأ، إلا أنه يضع كل شيء في موضعه، فلا يحمله الغضب من خطأ فلان على أن يظلمه أو يجور عليه، فينسى فضائله ومحاسنه وأعماله، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم لو ذهبنا نستقصيه.

    وأمر عز وجل بالعفو والصفح: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] أي: ينسوا ما صدر منهم أو يتناسوا ما صدر منهم من خطأ ويصفحوا عنهم فيه ويسامحوهم، وحرض الله عز وجل على ذلك أتم التحريض بقوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22] ولهذا لما سمع أبو بكر رضي الله عنه قال: [[بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي]].

    وأعاد ما كان ينفق على مسطح رضي الله عنهم أجمعين، وذلك لقوة الحث والتحضيض في هذه الآية على الإنفاق في سبيل الله بقوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] ومن الذي لا يحب أن يغفر الله له؟ إذاً فليسامح الناس عما صدر منهم في حقه وليعف عنهم ويصفح.

    وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22] فهذه من أسمائه عز وجل.

    تعريف الغفور

    والغفور: مأخوذ من الغفر، وهو يأتي في اللغة أيضاً بمعنى الستر والتغطية، فكونه عز وجل غفور، من دلالاته ومعانيه أنه يستر ذنوب عباده ويمحوها عنهم، فلا يؤاخذهم بها في الدنيا، ولا يعذبهم بها في الآخرة، ولا يفضحهم بها على رءوس الخلائق، ولهذا كان من المناسب جداً في الدعاء؛ أن العبد إذا أراد أن يدعو بمحو ذنوبه أن ينادي الله تعالى باسمه الغفور، فيقول: يا غفورُ اغفرلي.

    تعريف الرحيم

    وأما الرحيم: فهو اسمه جل وعلا وهو من صفة الرحمة، والرحمة صفة له تليق بجلاله، وليست هذه الصفة ولا غيرها مما يشابه حال المخلوقين أو يماثلهم، فإن الرحمة في المخلوق ضعف وانكسار ورقة قلب، أما الرحمة منه جل وعلا فهي صفة تليق بجلاله، بمقتضاها يعفو عن المخطئين، ويرحم عباده ويتجاوز عنهم ويدخلهم جنته، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فهم يدخلون الجنة برحمته جل وعلا، والله غفور رحيم.

    1.   

    صفة العزة

    وقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] في هذه الآية إثبات صفة العزة له سبحانه وتعالى، والاسم منها العزيز، وهو من أسمائه الحسنى أيضاً الثابتة في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم قال تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:3] كما أن الصفة نفسها بلفظ العزة ثابتة في مواضع عدة في الكتاب والسنة منها هذه الآية: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].

    وهذه الآية جاءت في مجال كشف المنافقين كـعبد الله بن أبي بن سلول وغيره، ممن قالوا في غزوة بني المصطلق: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8] فعدوا أنفسهم أعزة وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه أذلاء، وهددوا بإخراجهم من المدينة، فقال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] فالعزة هي من الله تعالى وإليه، فهو العزيز، ومن لاذ بجانبه فهو العزيز أيضاً، ولهذا قال: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يونس:65].

    وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أصابه وجع فليضع يده على موضع الوجع، وليقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر} وهذا في الصحيح، وكذلك من دعائه صلى الله عليه وسلم: {أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، أعوذ بعزتك أن تضلني} ومثل ذلك كثير معروف، فالعزة من صفاته، والعزيز من أسمائه.

    معاني العزة

    والعزة تحتمل عدة معاني: منها الغلبة، تقول: عز فلان فلاناً، أي: غلبه، سواء أكانت الغلبة بالحجة أم كانت الغلبة بالقوة، ولعل منه قوله تعالى على لسان دواد عليه السلام: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23] فقوله: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23] أي: غلبني بالحجة، فالغلبة من معاني العزة.

    ومن معاني العزة: القوة والصلابة، كما يقول العرب: هذه الأرض عزاز -وهذا مستخدم حتى عند العامة- أي: أرض قوية صلبة، وليست أرضاً رمليةً رخوةً، فمن معاني العزة: القوة. ومن معاني العزة: العلو، سواء أكان علو القدر أم علو القهر أم علو الذات، وكل هذه ثابتة لله تعالى.

    عزة المؤمنين

    ومن عزته جل وعلا يستمد المؤمنون عزتهم، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولهذا لا تجد المؤمن الصادق إلا عزيزاً بإيمانه، حتى لو كان فقيراً أو ضعيفاً في نفسه، وما تلك المواقف الشجاعة القوية المحفوظة للمؤمنين من العلماء والمجاهدين والدعاة المخلصين؛ إلا آيةٌ على عزتهم، وأنهم يقولون: هذا الرأس الذي يطأطئ لله رب العالمين لا يمكن أن يطأطئ لغيره بحال من الأحوال، وهذا القلب الذي يتعبد لله لا يمكن أن يدين بالعبودية لغيره، وهذا اللسان الذي يلهج بذكره تعالى لا يمكن أن يستخدم في القيل والقال، والإطراء الذي لا حاجة إليه، والمبالغات التي تمتعر منها النفوس السليمة.

    وهكذا يكون المؤمن عزيزاً في قوله وفعله ومواقفه؛ عزةً لا تجعله ذليلاً مهيناً، وهي عزة أيضاً معتدلة لا تفضي بالمؤمن إلى نوع من العلو والاستكبار والتعاظم، بل هو متواضع في نفسه، ولكنه إذا أريد على إذلال نفسه أو إهانتها؛ فإنه يغضب ويزمجر كما يزمجر الأسد، ولا يرضى لنفسه الدنية في دينه، حتى ولو كان فقيراً، ولو كان ضعيفاً، ولو كان معدماً لا يملك شيئاً، ولو كان أسيراً، ولو كان مهزوماً، ولو كان مريضاً؛ فإن العزة جزء من دينه لا يتجزأ.

    ومن يوم أن فقد المسلمون هذا الشعور بالعزة، أصبحت أمم الأرض كلها تعبث بهم كما تشاء، فلا بد من بعث العزة في نفوس المؤمنين وإثارة الحمية الدينية في قلوبهم.

    وقوله عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] هذه كالآيات التي قبلها في إثبات العزة والاعتراف بها حتى على لسان عدو الله إبليس؛ فإنه أقسم بعزة الله جل وعلا على ما أراد قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] ففيه إثبات العزة لله عز وجل والاعتراف بها، حتى على لسان مردة الشياطين وعلى رأسهم إبليس اللعين.

    وبالمناسبة: فإن القسم بالله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته جائز، فيجوز أن يقسم الإنسان بعزة الله تعالى على شيء، فيقول: بلى وعزة ربنا، أو لا وعزة ربنا، أو ما أشبه ذلك، أو بغيرها من أسمائه أو صفاته.

    1.   

    صفة البركة

    وقوله تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:78] تبارك: مأخوذ من البرَكََة، و(البركة) هي الخير الكثير الثابت المستقر، ومنه قالت العرب للماء الكثير المجتمع: البِرْكَة؛ لأنه ماء مستقر في مكانه لا يتجاوزه، فالبَرَكَة هي الخير الكثير الثابت المستقر، ومنه يقال برك البعير إذا استقر في مكانه وقعد، وهذا اللفظ في قوله: "تبارك" لم يأت إلا في حق الله تبارك وتعالى، كما في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:78] وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف:85].. وفي مواضع كثيرة جداً في القرآن الكريم.

    اختصاص "تبارك" بالله

    ولذلك نص جماعة من أهل العلم كما ذكر ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد": أنه لا يجوز إطلاق هذا اللفظ على غير الله جل وعلا، فلا يجوز أن تقول مثلاً: تبارك فلان، ولا يجوز أن تقول: تباركت الدار، وإن كان هذا موجوداً عند العامة، فإذا جاءهم أحد في البيت قال أحدهم: البيت يتبارك بدخولك يا فلان، أو السيارة تباركت بركوبك فيها، من باب الكلام الطيب والمجاملات -لا أقول أنه طيب لأنه ممنوع- لكن من باب المجاملات التي يتداولونها فيما بينهم، وإذا كثر الشيء عندهم وطال، قالوا: تبارك هذا الشيء من الطعام أو غيره، وقالوا: هذا الطعام -ما شاء الله- تبارك.

    وأصلاً تبارك؛ تعني أن البركة من عنده هو، أما إذا كانت البركة من غيره -كما هي الحال بالنسبة للطعام أو الدار أو السيارة أو سواها- فإنه لا يقال: تبارك، ولكن يقال: بورك فيه: لأن البركة ليست من عنده وإنما هي من عند الله تعالى، ولهذا لا يقال: تبارك الشيء، إنما يقال: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

    وقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:78] هذا ثناء على الله تعالى وعلى اسمه الكريم بالجلال والعظمة والكبرياء والإكرام، الذي هو تنـزهه جل وعلا عن كل صفة من صفات النقص والعيب، أو تكريمه تعالى للطائعين في الدنيا بالسعادة، وفي الآخرة برضوانه والجنة، فهو عز وجل كريم، ومن صفاته الكرم والإكرام أيضاً، فهو يكرم عباده دنياً وأخرى متى أطاعوه والتزموا أمره.

    1.   

    ما تنزه الله عنه

    وقوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] هنا بدأ المصنف رحمه الله في ذكر بعض الأشياء المنفية عن الله تعالى، والتي يسميها العلماء: السلوب، أي: جمع سلب، والسلب: هو النفي الذي هو ضد الإثبات، ولهذا من أهل البدع من لا يصفون الله تعالى إلا بالسلوب، أي: بالنفي، نفي النقائص، فلا يثبتون شيئاً إنما ينفون النقص، فيقولون: إنه تعالى ليس كذا وليس كذا...

    ولا شك أن الأصل الإثبات وليس النفي، وإنما يكون النفي لأسباب معلومة: كما إذا تبادر إلى ذهن بعض الناس معنى غير لائق فإنه ينفى، أو ادعى آخرون صفة نقص لله جل وعلا فإنها تنفى؛ ولهذا جاء النفي في مواضع معلومة محددة لسبب معلوم محدد أيضاً.

    نفي السمي عن الله

    ومن ذلك قوله جل وعلا: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وهذه الآية في سورة مريم، وفيها أمر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بأن يعبد ربه ويصبر على عبادته: وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65] ثم قال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وهذا سؤال واستفهام، ما هو المقصود من هذا الاستفهام؟ المقصود منه الإنكار، فهو استفهام إنكاري، استفهام بمعنى النفي أي: لا سمي له.

    والسمي يحتمل أكثر من معنى، فيحتمل أن يكون المقصود: أنه ليس له من يماثله في اسمه حقيقة، وهذا لا شك فيها؛ فإن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وإن وجد من المخلوقين من يسمى ببعض أسمائه جل وعلا؛ فإن الفرق بين الاسمين مما لا يحتاج إلى بيان، فهو كالفرق بين المخلوق والخالق، ليس بينهما تماثل ولا تقارب إلا في أصل المعنى.

    فمثلاً: إذا وصف العبد بالكرم، ووصف الله تعالى بالكرم، فالعبد قد يوصف بأنه كريم فيقال: فلان كريم، والله تعالى كريم، فأي تماثل أو تشابه بين هاتين الصفتين، أما كرم العبد فهو أنه قد يعطي من ماله، وهذا المال الذي عنده إنما هو في الحقيقة من مال الله قال الله: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ [النور:33] وقد يعطي الدرهم أو الدرهمين أو الدينار أو الدينارين، فإن كان بالغاً في الكرم مبلغه تخلى عن ماله، وهذا لا يحصل إلا للنوادر الذين يتحدث عنهم في التاريخ.

    أما الله جل وعلا فإن كرمه شامل للدارين، وكل كرم في المخلوقين فهو من كرمه سبحانه وتعالى، فإنه هو الذي جَبَلَ عباده على هذه الصفات، وهو الذي أعطاهم ما يجودون به على الناس.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755971692