أما بعــد:-
أيها الإخوة: أفادني بعض الإخوة من أصحاب التسجيلات أن رقم هذا الدرس هو السابع والأربعون، خلافاً للتسلسل الذي سرنا عليه منذ عدة دروس، فلذلك تم هذا التعديل بناءً على أنني ربما أسقطت رقم أحد الدروس.
أما هذه الليلة فليلة الإثنين التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1412هـ) وعنوان هذا المجلس هو: التطبيع، ولعل الكثير يتساءلون عن التطبيع، وماذا نعني بهذه الكلمة.
وأقول أيها الإخوة... إذا أدركنا أن الحرب اليوم في العالم كله ليست مجرد حرب في ميدان السلاح والقتال، وإنما هي حرب تتعدى ذلك إلى ميادين أخرى من ميادين الفكر، والعلم، والتقنية، والتقدم، وغيرها، بل وميادين الصراع في المجالات الاقتصادية، والمجالات الزراعية، ومجالات المياه، وغيرها، وأدركنا أن مفهوم الحرب قد تطور وأصبح مفهوماً شاملاً واسعاً، فكذلك مفهوم السلام لم يعد مفهوماً ضيقاً مقصوراً محدوداً، بل هو الآخر مفهوم شامل واسع.
فالتطبيع هو مصطلح من مبتكرات الصراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السلمي النشط في كافة المجالات.
مثلاً:
- التسليم بوجود إسرائيل.
- مراجعة العقل العربي المسلم الذي يناصب اليهود العداء، تصحيح تصورات المسلمين في زعم اليهود أيضاً، تصحيح تصوراتهم عن اليهود ليفهموهم من جديد، على أنهم شعب -كما يريد لهم اليهود أن يفهموا- شعب وديع محب للسلام.
- إحداث تغيير في نمط السلوك الإسلامي حيال اليهود ودولتهم إسرائيل.
- التسليم بالمطالب الأمنية والإقليمية التي تحتم بالتالي قيام علاقات دبلوماسية وتبادل سياسي واقتصادي وسياحي، وتكامل في كافة المجالات الحيوية بين اليهود وبين جيرانهم من العرب والمسلمين.
فهذا هو المقصود بكلمة التطبيع إذاً، وهي خلفية السلام الذي يتكلمون عنه، ويكون غطاء لأمر آخر أبعد منه.
بل لماذا نخص التطبيع بجلسة خاصة بعد ما تكلمنا عبر أسبوعين عن
منها: إن هذا التطبيع وهذا المصطلح الذي لابد أن يكون واضحاً في الأذهان، هو في الحقيقة هو الهدف الأساسي من عملية السلام، وإذا كان الأصوليون والفقهاء يقولون: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فإن من السذاجة أن يحكم أحد على عملية السلام مع إسرائيل أو مع اليهود، أنها هدنة بين طرفين متحاربين، كما يتكلم الفقهاء عادة عن موضوع الحرب والسلام.
إنه لا يؤسفنا -أيها الإخوة- أن يتهالك على امتداح السلام وأطرافه ورموزه، بعض المنافقين والمرتزقة، فهم هكذا دائماً وأبداً وكما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لاقيت معدياً فعدنان |
ولا يغيظنا أن يتكلم المنافقون والمرتزقة عن السلام، وأن يمتدحوه ويتحدثوا عن رابين، وعن رموزه ويعتبرون أنهم هم أبطال الأمة العربية، وهم رجال الموقف الذين أنقذوا الأمة في أحلك المواقف وأشد الظروف، فهذا هو دأبهم وهذا هو ديدنهم.
كما لا يغيظنا أن يتكلم اليساريون والقوميون الذين كانوا بالأمس يتظاهرون أنهم أعداء لـإسرائيل، لأنهم ينطلقون من موقف خدمة الاتحاد السوفيتي الذي يتظاهر بالعداء لـإسرائيل من باب المناورة مع المواقف الغربية، فإذا بهم اليوم يسودون صفحات جرائدنا ومجلاتنا المحلية وغير المحلية بالكلام عن السلام المزعوم والتطبيل له واتهام معارضيه بأنهم ليسوا واقعيين بل هم خياليون، أو أنهم متاجرون بالشعارات، فهؤلاء لا نجاة منهم بحال، فإنك إن وافقتهم قالوا: هذا عميل، وهذا مؤيد لـإسرائيل، وإن خالفتهم قالوا: هذا متاجر بالشعارات.
وإني لأعجب -أيها الإخوة- من هؤلاء، وقد قرأت قبل زمن مقالاً لأحد هؤلاء وهو يتكلم عن أحد رجال الفكر الإسلامي، فإذا به يصممه بوصمة وهي أنه كان مؤيداً للسلام مع إسرائيل الذي قام به أنور السادات، وإذا به اليوم هو نفسه يتكلم عن الصلح مع إسرائيل على أنه ضرورة من ضرورات المرحلة لابد منها، وعلى أن هذا الأمر لا يعارضه إلا الذين لا يدركون الحقائق ولا يدركون أبعاد الأمور.
لكننا لا نخفي أسفنا من بعض المنسوبين أو المحسوبين على الدعوة الإسلامية الذين تورطوا من قبل في تأييد خطوات السادات الخيانية حينما ذهب إلى القدس للزيارة التي ظنوها مفاجئة، ولم يدركوا ما أبعادها وما وراءها من خطط ومراحل، وهم الآن يرفعون عقيرتهم لتأييد مؤتمر مدريد للسلام، وقد كان لهؤلاء في الصمت مندوحة إذا قصرت بهم أفهامهم عن إدراك أبعاد المؤامرة ومراميها.
أما أن يتكلموا عن قضية السلام ويؤيدوها وهم يستحضرون في أذهانهم الكلام الذي يقوله الفقهاء عن الهدنة مع عدو يعتقدون أنهم لا يستطيعون مواجهته ومقاتلته، فهذا أمر في غاية الغرابة، وهل بلغ بنا الغباء، هل بلغت بنا السذاجة أن نعتقد بأن السلام مع إسرائيل الذي يتحدثون عنه هو مجرد هدنة مؤقتة تضع الحرب خلالها أوزارها لسنة أو لعشر أو حتى لخمسين سنة؟
كلا، وألف كلا!
إن السلام الذي يتكلمون عنه هو عبارة عن مسخ وتغيير للعقلية العربية والإسلامية أولاً، ثم عبارة عن ترسيخ لدعائم الوجود الإسرائيلي الموجود في هذه الأرض حتى يكون منطلقاً للعلم، والحضارة، والتقدم والصناعة، والاقتصاد، بل والأمن في المنطقة العربية، بل في المنطقة الإسلامية بأسرها، هذا هو السلام الذين يتكلمون عنه وهو في حقيقته التطبيع الذي أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء.
إن السلام قضية أكبر منا ومن إمكانياتنا، إنها قضية دولية، وقضية عالمية، فلماذا لا نتحدث عنها؟
فأقول: إن السلام ليس صفقة سياسية بحتة كما يتصورون، بل هو عملية متكاملة شاملة، تبدأ من عقل الفرد المسلم، ومن قلبه أيضاً، وتستهدف تغيير العقل والقلب المسلم، واستخراج ما يسمونه بجرثومة العداوة للكافر، سواء أكان هذا الكافر يهودياً، أم كان نصرانياً، وزرع روح المحبة والمودة والسلام والوئام لكل شعوب العالم، سواء أكانوا يهوداً أم نصارى أم غير ذلك، وهذا هو المنطلق الأساسي للتطبيع كما سوف يتضح بشكل أكبر.
إننا لا نطالب هذه الشعوب أن تقوم بالمستحيل، ولا نطالبها الآن أن تحمل السلاح فربما أنها لم تدرب لهذا الأمر ولم تعد له يوماً من الأيام، ولكننا نطالب هذه الشعوب أن تحتفظ بهويتها الإسلامية، أن تحافظ على عقيدتها، أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها، وأن لا تتخلى طرفة عين عن قرآنها الذي يذكرها صباح مساء بالعداوة مع الكافر ولو تظاهر بغير ذلك، وأن لا تتخلى عن إيمانها بقول الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] وأن لا تتخلى عن قول الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] ولا تتخلى عن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
إننا نعجب -أيها الإخوة- في الوقت المبكر الذي نشرت إحدى الصحف الكويتية خبراً يقول إن هذه الدولة ليس لديها مانع من مشاركة بعض الشركات العالمية المتورطة في التعامل مع إسرائيل في إعمار الكويت، وأنها سوف تخفف هذه الشروط وإن لم تتخل بشكل نهائي عن المقاطعة لإسرائيل.
ونعجب أكثر حين نجد رجلاً ذا علاقة بموقع السلطة يكتب في صحيفة سيارة أيضاً، ويقول: لماذا نظل نصر على محاربة إسرائيل مع أنها أثبتت خلال حرب الخليج أنها معنا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولماذا نظل على عدائنا لها مع الأشياء الكبيرة التي قدمتها لنا والتضحيات الجسيمة التي تحملتها في سبيل إنجاح موقفنا في حرب الخليج، إن هؤلاء لم يعد الفيصل بينهم وبين كل الناس هو القرآن والسنة فيقربون الناس أو يبعدونهم بحسب هذا أو ذاك، كلا.
بل أصبح الفيصل بينهم وبين شعوب العالم كلها هي قضية حرب الخليج، فمن كان معهم في حرب الخليج فهو أحب الناس إليهم ولو كان أكبر الكافرين وأشد الأعداء، وأشد الطغاة، ومن كان ضدهم أو على الأقل التزم بموقف ليس واضحاً في شجب العدوان العراقي فإنه يعتبر عدواً لدوداً لهم، ولا مانع لدى هؤلاء -أعني أولئك الصحفيين الذين كتبوا مثل هذه المقالات ومن كان على شاكلتهم وعلى مذهبهم- أن يستعينوا بـإسرائيل ومن وراء إسرائيل ومن دونها، وأن يستعينوا حتى بالشيطان في مواجهة بعض القوى وبعض الدول التي تحالفت مع العراق، أو اتخذت موقفاً عادياً ليس مؤيداً ولا رافضاً.
ونحن نقول وبكل تأكيد: إن الدول التي وقفت مع العدوان العراقي هي دول ظالمة آثمة مهما كانت وبأي زي تزيت، وأي شعار رفعت، وهذا أمر لا شك فيه، ونحن كنا من قبل ولا زلنا نقوله ويقوله معنا كل المخلصين وكل المطالبين بالعدل، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نتجاهل أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومبادئها الراسخة من أجل موقف واحد، بل ينبغي أن يكون العدو عدواً لنا أمس واليوم وغداً، وأن يكون الصديق صديقاً لنا، وليس صحيحاً أن نظل نغير خريطة أعدائنا وأصدقائنا كل يوم بحسب متغيرات الأحوال، فيوم كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة قائمة، كانت خريطة الأعداء مختلفة تماماً عما هي عليه الآن، ولما كانت حرب الخليج الأخيرة قائمة كانت الخريطة مختلفة، وأخشى ما أخشاه أن يغير هؤلاء خريطة عداوتهم يومياً فتصبح إسرائيل في نظر هؤلاء المفكرين المتقلبين وأمثالهم من الزعماء والساسة والصحفيين أن تصبح في قائمة الأصدقاء، بل ربما على رأس قائمة الأصدقاء، لماذا؟ لأنها تتميز بالقوة، ولأنها دولة ذات أهداف ومرامٍ بعيدة، ولأنه يهمها كثيراً أن تُوجد قدراً كبيراً من الانشطار، والانشقاق، والتفتيت، في الصف الإسلامي والصف العربي.
إن إسرائيل -أيها الإخوة- ومن ورائها العالم الغربي تسعى بكل إمكانياتها وقواها إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، من الناحية العقلية، والعقدية، والفكرية، ثم من الناحية السياسية والاقتصادية والحضارية، والسياحية، والعلمية، ولا يعني أن هذا حلم قد يتحقق أبداً.
فقد يقول قائل بعد سنة أو سنوات: ما كنتم تقولونه لم يجر، ونقول: هذا ما يخططونه ويسعون له بكل وسيلة، ولا يعني أنه سيتحقق، فنحن نظن بالله تعالى ظناً حسناً، ونجزم بأن الله تعالى سيحول بينهم وبين ما يشتهون، ولكن يجب أن نعلم أن من أهم وسائل إحباط هذه المخططات الوعي بها، والوعي بها لا يتم إلا بالحديث عنها وإدراكها وكشف أبعادها للخاص والعام من الناس.
أيها الإخوة: إنني أعترف إليكم بالعجز عن تناول هذا الموضوع الطويل لأسباب كثيرة، منها:-
أولاً: أنه موضوع علمي إحصائي دقيق يعتمد على المعلومات والأرقام، ويعتمد على الخرائط والتواريخ التي يثقل على المستمع في مثل هذا المجلس، أو حتى على مستمع الشريط أن يتابعها بصورة جيدة.
ثانياً: ثم إن هذا الموضوع موضوع متشعب من الناحية التاريخية ومن الناحية الواقعية، ثم إنه موضوع يمس أطرافاً عديدة قد يكون تناولها أو تناول بعضها أحياناً في حساسية مفرطة من الصعب الحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي في مقدمة هذا الحديث بالإحالة إلى أهم مراجع هذا الموضوع الخطير.
فأقول: إن أهم كتاب قرأته يتناول هذا الموضوع بصورة جيدة جداً هو كتاب الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية لـمحسن عوض، وهذا الكتاب قد طبع في مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسلة الثقافة القومية، هذا الكتاب بالتأكيد ليس كتاباً موثقاً من جميع النواحي، فهو يتكلم عن دور القوميين العرب، كما يتكلم عن دور الماركسيين العرب في مواجهة التطبيع، وفي مواجهة إسرائيل، ولعل له نبرة قومية واضحة.
ولكن الحقيقة أن هذا الكتاب يحفل بحشد هائل من المعلومات والحقائق والتحليلات لا أعتقد أن كتاباً آخر يحفل بها على الأقل في حدود ما اطلعت عليه، مع اختصار وجودة في لغة الكتاب، كما أن هناك كتاباً آخر اسمه التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني لـغسان حمدان، وهناك كتب أخرى لـجمال عبد الهادي، ورفعت فوزي عبد المطلب، وأحمد لبن، وغيرهم من الكتاب والمؤلفين.
إنها تريد القبول بالقيادة اليهودية للأمة الإسلامية سياسياً، وحضارياً، واقتصادياً وبشكل عام، فلو أجرينا مقارنه بين العمل العسكري الذي يمكن أن تقوم به إسرائيل، والعمل السلمي لوجدنا الأمر واضحاً جدا، فالعمل العسكري في متناول إسرائيل أن تقوم به، بإمكانها أن تشن حرباً أو عدواناً شاملاً على كل المحاور وكافة الأطراف، ولكن هذا العمل العسكري الذي قد تتفوق فيه إسرائيل نظراً لتفوقها في المجال الجوي وفي مجال الأسلحة الاستراتيجية وفي المجال النوعي، هذا العمل العسكري لا يمكن أن يضمن لـإسرائيل حدوداً آمنة، ولا يمكن أن يضمن لها اقتصاداً نشطاً قوياً، ولا يمكن أن يضمن لها حدوداً مفتوحة مع جيرانها.
إن إسرائيل صغيرة الحجم، صغيرة الموارد، تعتمد كثيراً على ما يأتيها من الدعم الخارجي، سواء الدعم من القوى الدولية كـأمريكا وغيرها، أو من دعم الأفراد اليهود والأثرياء اليهود الموجودين في العالم، وهي قليلة العدد، صغيرة المساحة، ومع صغر مساحتها فإن نصف هذه المساحة هي عبارة عن صحراء جرداء قاحلة، ويكفي أن تعلم في قلة موارد إسرائيل أن حجم البترول والغاز الذي تستخدمه إسرائيل من أرضها لا يعادل إلا (1%) مما تستخدمه، ومعنى ذلك أنها تستورد (99%) من الطاقة النفطية والغاز من الخارج، فضلاً عن المشكلات المائية التي قد تواجهها إسرائيل عام (2000م) كما تقول كثير من التحليلات والدراسات الغربية والإسرائيلية، ولذلك تدرك إسرائيل أن مشكلتها لا يمكن أن تحل عن طريق الحرب والعمل العسكري بأي حال من الأحول، ولا يمكن أن تحل إلا عن طريق العمل السلمي، ولهذا سعت إسرائيل إلى عملية التطبيع، لضمان أهداف عديدة منها:
إن الآلة المباشرة للتواصل بين الشعوب هي المجالات الثقافية، والفنية، والإعلامية، ولا بد من تغيير قناعاتها ضد إسرائيل، والصراع من المعروف أنه يوجد في وعي الشعوب قبل أن ينتقل إلى الواقع، والمطلوب ببساطة في نظر اليهود هو نـزع العداء من العقل المسلم استكمالاً لنـزع السلاح من اليد المسلمة، وهذه عند اليهود ليست مهمة مستحيلة، بل هي مهمة ممكنة وإن كانت صعبة، فإذا كان العداء الموجود في عقل المسلم يأتي عن طريق التعليم فيجب تغيير مناهج التعليم وإزالة كل الأسباب التي تغرس العداء في عقل المسلم عن اليهود.
وإذا كان هذا العداء يأتي عن طريق الإعلام، فيجب صياغة الإعلام ورسم سياساته بما يضمن وجود قدر من التفاهم بين شعوب المنطقة، وقدر من الإيمان والقناعة لدى المواطن والفرد العادي بإسرائيل وحقها بالعيش بسلام ضمن دول المنطقة.
وإذا كانت الحقائق التاريخية الماضية هي التي تشوه الصورة وتغرس في العقل العربي والمسلم العداء لليهود؛ فإنه من الممكن تصفية الأحقاد عن طريق تجاهل الحقائق التاريخية الماضية ونسيان السيرة النبوية ونسيان كيد اليهود للأمة الإسلامية عبر التاريخ، والتركيز على ما يمكن أن يعتبروه من الجوانب الإيجابية مثل وجود يهودي في بلاد الأندلس، أو في المغرب، أو في المشرق كان طبيباً له دور في تنمية الطب في هذا البلد أو ذاك، أو وجود مغنٍ يهودي أو تاجر يهودي، أو ما أشبه ذلك.
إن اليهود يضربون المثل بـألمانيا وفرنسا، فيقولون: إن ألمانيا وفرنسا خاضت حروباً طويلة قبل الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فقد ذابت العداوة بينهما، وأصبحت فكرة نشوب حرب جديدة بينهما لا تخطر في بال أحد من الناس، كما يضربون كذلك مثلاً بـأمريكا واليابان، حيث خاضتا حرباً شاملة من (1941م - 1945م) واستخدمتا أكثر الوسائل قتلاً وفتكاً، وهاهما الآن حليفتان ليس بينهما حرب ولا يخطر في بال أحد -فيما يظنون- أن تقوم بينهما حرب، بل إن شعوب أوروبا المتناثرة المتناحرة لمئات السنين؛ هاهي الآن قضت على مشاعر العداء بشكل حاسم دون أن تطمس الخصائص الثقافية والوطنية لكل دولة من هذه الدول.
إن اليهود يجهلون، بل يتجاهلون الفرق بين حرب كانت هي السبب في العداوة وبين عداوة كانت هي السبب في الحرب، فإن العداوة بين أمريكا واليابان أو بين دول أوروبا كان سببها الحرب، والخلاف على المصالح، أما الخلاف بين المسلمين وبين اليهود فهي سبب الحروب، وليس سبب العداوة بيننا وبين اليهود أننا خضنا معهم حرباً، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المرعى، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المياه، ولا سبب الصراع بيننا وبينهم الصراع على أشجار الزيتون في فلسطين كلا بل سبب العداوة بيننا وبين اليهود وغير اليهود أننا مسلمون وهم كفار، ونحن ننطلق من هذا المنطلق، ونقول كما قال سيد الحنفاء إبراهيم عليه السلام ومن كان معه: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
إذاً: القضية بيننا وبين خصومنا من اليهود وغيرهم ليست قضية اقتصادية ولا قضية أرض ولا قضية مياه، وإنما القضية بيننا وبينهم هي قضية العقيدة، وقضية الدين، وقد فرق الإسلام بيننا وبينهم ولذلك فرق الإسلام من قبل بين العربي وأخيه العربي، بل فرق الإسلام بين القرشي وأخيه القرشي، بل فرق الإسلام بين الأخ وأخيه الشقيق.
كم أب حارب في الله ابنه وأخ حارب في الله أخاه |
وكان المسلم يقول لأخيه: كذبت لست أخي فرق الإسلام بيني وبينك.
إذاً: القضية بيننا وبين اليهود ليست قضية صراع دنيوي، إنما هي قضية صراع ديني، وكل مظاهر الصراع الدنيوي هي أثر من أثار ذلك الصراع والخلاف الديني، الأساسي والجوهري بيننا وبين اليهود.
ولذلك نقول: إن الأمر بيننا وبين اليهود لا يُعبر ولا يمكن أن يقام عليه جسر بأي حال من الأحوال ما داموا على ما هم عليه من الكفر والضلال، ويدخل في هذا الخندق مع اليهود كل الكفار سواء أكانوا من الغرب أم من الشرق، أم حتى من العرب الذين هم عرب في ألفاظهم وكلماتهم وخطبهم النارية الرنانة ولكنهم يهود في قلوبهم، ويهود في عقولهم، ويهود في أفكارهم:
ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب |
إن العروبة ثوب يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب |
واحسرتاه لقومي غرهم قَرِم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب |
حتى إذا أمكنته فرصة برزت حُمد المخالب بين الشك والعجب |
وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب |
وحارب الدين والإسلامُ قاهرُه وكم خلا مثله في سالف الحقب |
لكن اليهود لا يعقلون، ومن وراء اليهود، ومن أمامهم، وعملاؤهم في المنطقة العربية أيضاً لا يعقلون، ولهذا يتصورون أنه بالإمكان نـزع فتيل العداوة لليهود، وأن بالإمكان أن يتغير قلب المسلم، فيحل محل العداوة والبغضاء لليهود، شامير، وعزرا، وحاييم وأمثالهم يحل محل العداوة والبغضاء الحب والرحمة والإنسانية والعطف واللطف، ومحال أن يكون هذا في قلب يخفق بلا إله إلا الله، محال أن يكون هذا بعقل يؤمن بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة, وأن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، محال أن يوجد هذا في قلب المسلم الذي يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ معارك الإسلام مع اليهود، ويعرف قضايا خيبر وبني قينقاع وبني النضير وأمثالهم، ويدرك خطط اليهود عبر مراحل الخلافة الإسلامية، وماذا كادوا للإسلام، وماذا خططوا!
إن المسلم حتى وإن كان أميّاً بسيطاً ساذجاً حتى ولو كان قروياً حتى ولو كان راعي إبل أو غنم يدرك أن اليهودي عدو له، وأن هذا اليهودي وإن كان مؤدباً في مظهره، وإن ملأت الابتسامة وجهه، وإن تأدب في عباراته وأحاديثه، وإن كتب الكلام الجميل، وإن نطق بالعبارات الحلوة إلا أن قلب هذا اليهودي مملوء ببغض المسلمين، يعرف المسلم هذا بشكل لا يحتاج إلى نقاش، ولا يقبل عنده النقاش، كما يعلم المسلم علم اليقين أنه ليس مسلماً قط إذا تخلى عن بغض الكفار، فإن كلمة: لا إله إلا الله التي هي عتبة الدخول في الإسلام هي نفي وإثبات، فهي تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله، لا معبود بحق إلا الله، وكذلك تبعاً لهذا تنفي أن تكون المحبة لغير المسلمين، فتعني نفي الحب عن جميع الكفار من اليهود والشيوعيين والنصارى والوثنيين وغيرهم، وتثبت المحبة لأهل الإسلام حتى ولو قصروا في حقك، حتى ولو ظلموك، ولو بخسوك، ولو أساءوا إليك يبقى حبهم ليس من باب المصلحة الدنيوية ولكن من باب الحب الديني.
أما أولئك الأعداء من اليهود والنصارى فيبقى بغضهم وعداوتهم حتى ولو أحسنوا إليك، حتى ولو تظاهروا بألوان المودة والقرب؛ فإنهم يبقون أعداء يبغضهم المسلم من منطلق أنه مسلم وهم كفار، لا يجتمع الإسلام وحب الكفار في قلب واحد أبدا، لكن اليهود وأعوانهم يعتقدون أن بإمكانهم إخراج هذه العداوة من قلب المسلم، ويعتقدون أن مناهج التعليم، ومناهج الإعلام، وتزوير الحقائق التاريخية كفيل بإزالة هذه العداوة من قلوب المسلمين.
أيها الأحبة: إنه في الوقت الذي يتكلم فيه اليهود عن التطبيع، وعن إزالة العداوة من قلوب المسلمين فإنهم لا يمكن أن يتقبلوا بحال من الأحوال أن يتجاهل أي مسلم الأساس العقائدي الديني لدولة اليهود، فإنها لم تقم على أساس عرقي بحت، ولا على أساس سياسي أو جغرافي، إنما قامت إسرائيل على أساس ديني، ويقول بعضهم: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، ولكن التوراة هي التي حفظت اليهود، فعقيدة دولة إسرائيل هي رخصة تسمح لهم بالتوسع وطموحات المستقبل، وهي مستند الشرعية لأعمال العنف والإبادة الجماعية التي يقومون بها، وهي مسوغ ضم القدس والجولان، واللعب بالخريطة الجغرافية في المنطقة كل يوم، فهذه حدود آمنة لإسرائيل وهذه حدود تاريخية، وهذه حدود يمكن الدفاع عنها، وهذا نطاق أمن لإسرائيل، وهذه أرض مشى فيها الأسباط الإثنا عشر إلى آخر هذه المصكوكات الدموية، ومن غير هذا يمكن أن تتلوث ثياب بني إسرائيل وأيديهم وقلوبهم من حمامات الدم التي أجروها أنهاراً في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرها.
أولاً: ضرورة تبادل المعلومات والثقافة، وتقوية الصلة الإنسانية بين كافة الأطراف.
ثانياً: مراجعة البرامج الدراسية وتحديد ما يجب حذفه من تلك البرامج وما يجب إضافته.
ثالثاً: دراسة البرامج المتبادلة في وسائل الإعلام.
رابعاً: إزالة المفاهيم السلبية في عقائد المسلمين تجاه إسرائيل.
وبذلك ندرك أن المحور الأكبر للصراع بين المسلمين وإسرائيل هو الإسلام، وإسرائيل تدرك ذلك حقاً، وتسعى جاهدة إلى نـزع هذا من قلوب الناس.
أولاً: تأسيس إسرائيل يناقض الفقه الإسلامي الذي يتعامل مع اليهود على أنهم أقلية وأهل ذمة، فإن الكتب الإسلامية كلها تتكلم عن معاملة اليهود من منطلق أنهم أهل ذمة أو أقلية، أو ما أشبه ذلك، ولا يمكن أن يقبل المسلمون بـاليهود كدولة قائمة مستقلة بذاتها.
ثانياً: أن القاعدة الشرعية تمنع الصلح مع اليهود أو مع غيرهم على أرض حكمها المسلمون ثم استولى عليها غير المسلمين من اليهود أو من غير اليهود.
ثالثاً: إن الإسلام والقرآن والسنة النبوية فيها حديث مفصل عن اليهود وعداوتهم لله عز وجل وللملائكة وللأنبياء والمرسلين وللمسلمين، وأي مسلم يؤمن بهذا لا بد أن يحمل شعور العداوة والكره لليهود.
رابعاً: إن الإسلام يربط المسلمين بالقضية الأساسية -القضية الفلسطينية- وذلك من خلال ترديد قضية المسجد الأقصى وقداسته ومدينة القدس، والأرض المباركة التي بارك الله فيها وبارك حولها:
مسرى الرسول وأولى القبلتين بها واحر قلباه ماذا للفخار بقي |
عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيث ما يممت من أفق |
sh= 9901071>مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تدوي وعهدي بها مرفوعة العنق
ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق |
sh= 9901060>واليوم دنسه فُجْر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفَسِقِ
وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق |
لو استطاع لألقى نفسه حمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق |
وولت الكعبة الغراء باكية وغُمّ كل أذان غمة الشرق |
إذاً: الإسلام -دائماً- يربط المسلمين بقضية المسجد الأقصى، قضية الأرض المباركة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، الأرض التي بارك الله حولها، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] وفي آيات آخري كثيرة.
خامساً وأخيراً: إن مدلول الجهاد في الإسلام هو مصدر من مصادر التعبئة ضد أعداء الدين بما في ذلك اليهود.
إن الدعوة إلى حرب مقدسة هو أعظم خطر يمكن أن تسمع به إسرائيل، ولذلك عززت إسرائيل دراسة هذه المفاهيم فكتبت دراسات وكتباً وبحوثاً كثيرة في جامعاتها عن خطر الإسلام، وتأثير الإسلام على عقلية المسلم، أو عقلية العربي.
فمثلاً: هناك كتاب لأحد اليهود اسمه: أثر الفكر الإسلامي في الصراع ضد الصهيونية، وهذه عبارة عن أطروحة دكتوراه في جامعة تل أبيب، وهناك أطروحة أخرى في معهد: أترومان لأبحاث السلام في الجامعة العبرية في إسرائيل اسمها: أثر الإسلام في السياسات الإفريقية في الماضي والحاضر، وهناك دراسة ثالثة اسمها: دور الإسلام كعنصر من عناصر الصراع العربي، وهذا عبارة عن بحث في وحدة الشرق الأوسط للسلام في إسرائيل.
بل نحن الآن بصدد مخططات للنفاذ والتأثير، وهي مخططات التطبيع والمطالبة بالتبديل والتغيير في معتقداتنا وعقولنا وإعلامنا وتعليمنا، فلم تعد مجرد نظريات، أو أفكار، أو دراساتٍ، أو بحوث، أو أطروحات، بل أصبحت عبارة عن أشياء، فتجتمع المؤتمرات في مدريد وغير مدريد، بل وقبل ذلك في كامب ديفد، وفي لبنان وفي بلاد المغرب، وفي الأردن، تجتمع لتتكلم عن سبل التنفيذ، ولترسم المخططات التفصيلية، ولتبدأ عملياً وتناقش أولاً بأول ما تم تنفيذه من هذا.
إذاً: القضية لم تعد مجرد نظريات أو مخاوف، بل أصبحت أموراً يسعون إلى تنفيذها واقعياً بشكل كبير، إن هذا التخطيط الإسرائيلي تجاه القضية الإسلامية قد اتخذ أنماطاً متعددة بدأت بتوجيه جهد مركز لتأسيس علاقات مع جامعة الأزهر، وإجراء ما يسمونه بحوار ديني على المستوى الشعبي، ويمكن أن يشار بهذا الصدد إلى المؤتمر الذي يسمى: مؤتمر التوحيد بين الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، وقد عقد هذا المؤتمر أول مرة في مدينة القدس عام (1979م)، وشارك فيه من الجانب المصري مجموعة بدعوة من معهد إسبن الأمريكي للدراسات، ومؤتمر وحدة الأديان الذي عقد في إحدى المدن في أمريكا.
وبعد ذلك عقد مؤتمر في سيناء عام (1984م)، وضم يهوداً ومسيحيين ومسلمين، وقام الجميع بأداء صلاة مشتركة من كل الأديان، وهي عبادة عن صلاة موحدة يقوم بها المسلمون واليهود والنصارى في وقت واحد، وعلى حد سواء، إضافة إلى مؤتمر يسمونه مؤتمر النساء المقدسيات -بل هو مجموعة من المؤتمرات بالأصح- قامت بها مجموعة من النساء اللاتي تأسست لهن منظمة عام (1979م) في ظل ظروف ما يسمى بـكامب ديفد، وذلك بهدف توثيق السلام بين مصر وإسرائيل من خلال الحوار الثقافي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الدولتين، وممثل هذه الأديان في أمريكا الشمالية، وقد عقدت هذه المنظمة النسائية العديد من الندوات، منها ندوتان في القاهرة: ندوة في التقارب بين الإسلام واليهودية، عقدها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة بعد تأسيسه عام 1982م وهناك محاضرة نظمها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة.
كما أخذ هذا المخطط شكل رموز وشعارات كان أبرزها مشروع مجمع الأديان الذي حاول الرئيس المصري السابق تأسيسه في سيناء وكان يهدف -كما هو معروف- إلى إقامة مجمع يضم مسجداً إسلامياً وكنيسة مسيحية، ومعبداً يهودياً في سيناء، وقد تبناه الرئيس السابق لـمصر بحماس بالغ، وروج له منظرو فلسفة التطبيع، واشترك في تصميم المشروع ثلاثة مهندسين أحدهم مصري مسلم، والثاني فرنسي مسيحي، والثالث يهودي إسرائيلي، والمؤكد أن الفكرة لم تكن رمزاً لوحدة المصير الإنساني، أو تجسيداً لمفهوم الإيمان لدى جميع المؤمنين بالأديان الثلاثة، كما كان يقول الرئيس المصري السابق، وإنما كانت رمزاً لخلط المفاهيم والعقائد، وسرعان ما ظهر على الساحة من يبشر بأن الإسلام هو الإيمان بالله فحسب، ويقول بأن اليهود مسلمون، وقد ظهرت كتب في الأسواق المصرية مطبوعة في حيفا، تدعو إلى المذهب القادياني، كما ظهرت فكرة الصلاة المشتركة في سيناء، والذي يتتبع الشهادات الحية -التي أوردها رجل اسمه حازم هاشم، الذي كان حاضراً في تلك الصلوات- يُذهل من حجم التدليس، ومحاولة تمييع العقيدة الإسلامية، وتشويه العبادات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم تقتصر جهود اليهود والصهاينة على مواجهة الفكرة الإسلامية فحسب، بل اتجهت إلى مواجهة التنظيمات الإسلامية في مصر كـالإخوان المسلمين مثلاً والجماعات الإسلامية الأخرى، ويلمس المتتبع للإعلام اليهودي نغمة تخويف مستمرة من دور هذه التنظيمات ورغبتها في تحقيق ثورة خمينية، أو على الأقل طبعة منقحة من تلك الثورة الخمينية، أو التأكيد على دور التنظيمات الأصولية في عرقلة السلام والتطبيع إلى غير ذلك.
ونحن ندرك أن هذه النغمة قد ظهرت من جديد، فهاهم حلفاء اليهود أصبحوا يخوفوننا من ثورة خمينية، أو نسخة منقحة منها، ويخوفون من التنظيمات الأصولية ومن العلماء، والدعاة، وطلبة العلم، باعتبار أنهم أقوى جهة معارضة لمشروعات السلام والتطبيع في المنطقة.
إن من أخطر الأمور التي تواجهنا الآن هي عقد المؤتمرات التي تسعى إلى التوحيد بين الأديان، أو ما يسمونه بالإخاء الديني، وهو الذي بدأ يبرز، وإنني لأعلم أن ببعض البلاد الإسلامية التي لا تسمح أصلاً بإقامة أي جمعية؛ إلا بعد أن توقع على معاهدة الوحدة الوطنية التي تضمن أن لا تمس أي جمعية بحقوق الأقليات الأخرى، ونعلم دولاً أخرى أصبحت تجعل يوماً من إعلامها للمسلمين، ويوماً آخر لليهود، ويوماً ثالثاً للنصارى، ويوماً رابعاً للبوذيين، ويوماً خامساً للهندوس، ويوماً سادساً للعلمانيين، وفي اليوم المخصص للمسلمين لا تكاد تأتي إلا بطفل يتعلم في الكُتّاب ومعه عصا يشير به إلى المصحف، ويعتبرون أن هذا هو ما يمكن أن يقوموا به في الدعوة إلى الإسلام، وإبراز الصورة الإسلامية من خلال جهاز الإعلام، أما في بقية الأيام فإنهم يأتون بإعلام متطور متقدم استخدم التكنولوجيا المعاصرة في الوصول إلى عقول المسلمين وتشويهها وتبديلها.
ونعلم بلاداً إسلامية ليس لديها استعداد أن تقيم معهداً للدراسات العربية أو الإسلامية إلا بشق الأنفس، لكنها تقيم وبكل سهولة عشرات المعاهد الفنية في الموسيقى، أو في التعليم، أو في الرقص، أو في الفن، أو في غيرها لليهود ولغير اليهود، ونعلم بلاداً إسلامية تعتذر عن استقبال العلماء، ولكنها تستقبل بكل حفاوة وبكل رحابة صدر، بل وبكل حرارة فناناً يهودياً أعمى، وتجلب بخيلها ورجلها في استقبال هذا الفنان، وتعتبر هذا من ضمن منجزات ذلك العصر وذلك الرئيس الذي بليت به تلك البلد، كما بليت بلاد أخرى بأمثاله ونظرائه لا كثرهم الله.
ولذلك استطاعت إسرائيل أن تعبث بـلبنان كما يحلو لها، واستطاعت أن تقضي على المسلمين من الفلسطينيين وغيرهم، والمثال الآخر لتحالف إسرائيل مع النصارى هو: تحالفها مع نصارى الجنوب في السودان، فإن إسرائيل تدعم الثورة في الجنوب -ثورة جون قرنق وغيره- دعماً بلا حدود، خاصة في الظروف الحاضرة وبعد وجود دولة في السودان ترفع شعار الإسلام، وبغض النظر عن أي شيء آخر في تلك الدولة؛ إلا أنها تنظر إليها إسرائيل على أنها جزء من الأصولية العربية التي ينبغي أن تحاربها، ولهذا لا غرابة أن تستميت إسرائيل ويستميت حلفاؤها من العرب أيضاً في دعم الثورة النصرانية في جنوب السودان.
كما تسعى إسرائيل إلى إقامة علاقة مع الدروز سواء في الجولان أو في غيره، وتسمح لهم في الانخراط في الجيش الإسرائيلي، وتعطيهم جنسيات إسرائيلية، وتسعى إلى تغيير عقولهم، وقد وجدت منهم تجاوباً كبيراً في ذلك، وحاولت إسرائيل أن تستغل الشيعة في لبنان بشتى المحاولات، وربما أن نجاحها في هذه المجالات أقل من نجاحها في المجالات الأخرى.
إذاً القضية الأولى والكبرى في قضية التطبيع هي أن إسرائيل تسعى إلى تغيير العقل والقلب العربي والمسلم لاستخراج روح العداوة والبغضاء لليهودي والكافر يهودياً كان أو نصرانياً، وإحلال روح المحبة والتعاطف والإنسانية محلها، وهذه القضية يجب أن نعيها جيداً لأنها تتعلق بلب العقيدة وبصلب العقيدة، فإنني لا أعتقد أن مسلماً واحداً فضلاً عن داعية، فضلاً عن طالب علم، فضلاً عن عالم، يمكن أن يقول: إننا نستطيع أن نجلس مع اليهود على طاولة واحدة للمفاوضات في مثل هذه القضية، فقضية البغضاء لليهود قضية لا مساومة عليها، حتى لو انتصر اليهود، وزادت قوتهم، وملكوا السلاح والإمكانيات، فهذا كله شيء؛ لكن بقاء العقيدة الربانية في قلب المسلم التي تحمله على بغض اليهودي والكافر ولو كان يذبحه الآن، فهذه القضية لا يمكن المساومة عليها بأي حال من الأحول، وأول ما يهدف إليه التطبيع هو استخراج هذه العقيدة وإزالة روح العداء لليهود.
وهناك مجالات أخرى تكون تبعاً لذلك، ولعلي لا أستطيع أن أشير إلا إلى أقل القليل منها، ولعل عزائي في ذلك أني أسلفت قبل قليل أن ثمت مراجع يمكن الاستفادة منها.
إن من الضروريات في نظر اليهود لتعزيز السلام، هو تدفق السلع التدفق الحر من إسرائيل إلى البلاد والأسواق العربية، ومع تدفق السلع تدفق الأفكار، فهاتان هما الدعامتان القادرتان في نظر اليهود على تعزيز السلام، وفي دراسة في إسرائيل عنوانها: الشرق الأوسط عام (2000م) قامت بها رابطة السلام في تل أبيب، أجرت هذه الدراسة في عام (1970م) وهي دراسة مستقبلية عن التوقعات لما تكون عليه الأحوال في ذلك الوقت، وقد قام بها دارسون من اليهود متعددون، وتوقعوا أن تقوم سوق شرق أوسطية مشتركة بين اليهود والعرب، أو على الأقل أنه سوف تقوم سوق لدول البحر الأبيض المتوسط، وتنبئوا بأن إسرائيل سوف تستحوذ على النصيب الأكبر في إدارة هذه السوق بين دول المنطقة، بل وسوف تعتبر قلب المنطقة ومركز إدارتها، وأساس تطورها في المجالات الاقتصادية ومجالات البحوث العلمية.
وأغرب من ذلك وأكثر أن هذه الدراسة تنبأت بأن دول المنطقة سوف تتخصص في المستقبل في ضوء المزايا الإنتاجية، فمثلاً تتخصص مصر في إنتاج الصناعات التحويلية، والهندسية وصناعة السيارات والصناعات المعدنية، وتتخصص سوريا في صناعة المنسوجات والمواد الغذائية، والصناعات الاستهلاكية، ويتخصص العراق وبلدان الخليج في الصناعات البتروكيماوية، ويتركز نشاط لبنان في مجال الخدمات.
أما إسرائيل فسوف تتخصص في الصناعات الإلكترونية الرفيعة المستوى، والمركبات الحديثة، وإنتاج آلات الحساب المتطورة، والأجهزة الطبية، والكيماويات المتطورة، والآلات الهندسية والكهربائية، والصناعات الحديثة المعتمدة على التحكم المركزي، والتسيير الذاتي، ويقوم التطور المستقبلي على أساس تزاوج الخبرة التكنولوجية الإسرائيلية، مع فائض رأس المال العربي، ومع الموارد العربية الوفيرة بما فيها العنصر البشري، من أجل تحقيق تطور اقتصادي سريع، ومكاسب مشتركة للطرفين.
إذاً: الدراسة تنظر إلى المنطقة على أنها منطقة موحدة، حتى أن هناك طرحاً الآن لإدخال إسرائيل ضمن جامعة الدول العربية، أنا لا أقول: إن هذا طرح على المستوى الرسمي. لكنه طرح لبعض المثقفين العرب، فهو يقول: ما هو المانع من إدماج إسرائيل ضمن الأمة العربية وإدخالها في جامعة الدول العربية؟
إلى هذا الحد بلغ بهم المستوى!!
ومن الأشياء التي تحلم بها إسرائيل من جراء مثل هذا التعامل الاقتصادي:
- إقامة مشروعات بين إسرائيل ومصركالمشروعات المحتملة والتي بدأ بعضها فعلاً.
- تنمية النفط والمعادن في سيناء.
- بيع مياه نهر النيل لإسرائيل لتنمية المناطق الجرداء في جنوب إسرائيل.
- إمكانية إقامة مشروعات مشتركة بين إسرائيل والأردن في مجال التعدين في البحر الميت، إمكانات التعاون في تسويق وإنتاج الفوسفات.
- تنمية خطوط سكك الحديد.
- تعاون بين ميناء إيلات، والعقبة.
- كما أنه يحتمل إحياء مشروعات الاستغلال المشترك لمياه الأردن والتي حاولها الرئيس الأمريكي إيزنهاور من قبل.
وفي لبنان يمكن أن يستغل اللبنانيون كفاءتهم، وعلاقاتهم، واتصالاتهم في التجارة، وبالذات في الوطن العربي، لتسويق المنتجات الإسرائيلية في الدول التي تتجاهل المقاطعة العربية لـإسرائيل، كما يمكن التعاون مع لبنان في مجال المصارف والمال أيضاً.
وهناك على كل حال مجالات واسعة للتعاون في مجال الاقتصاد بين مصر وإسرائيل، وبين إسرائيل والأردن، وبين إسرائيل ولبنان، وبين إسرائيل وبقية الدول العربية، والكلام في مثل هذه المجالات يطول، وأترك بقية الكلام وأنتقل إلى المجال الآخر وهو المجال الأمني.
إن إسرائيل وبعض هذه الأنظمة تعتبر أن هناك عدواً مشتركاً، وهذا العدو المشترك هو ما يمكن أن يعبروا عنه جميعاً باسم الأصولية، فالأصولية الإسلامية هي العدو المشترك لليهود ولكثير من العرب الذين ضلوا وأصبحوا الآن مع اليهود في خندق واحد، ولهذا لا غرابة أن تتعهد عدد من الدول التي لها حدود مع إسرائيل بحماية حدودها، ومنع التسلل إليها، بل تتعهد بأكثر من ذلك، فهي تتعهد بمحاربة كل من يقف ضد عملية السلام ومحاكمته، ومنع إقامة أي حزب -في بعض هذه البلاد التي تسمح بقيام الأحزاب- إلا بعد أن يعترف بمعاهدة السلام ويؤمن بها على أنها ضرورة لا بد أن يقتنع بها من قبل.
إنني أقول قبل أن أغادر هذه النقطة: إننا نعلم جيداً أن معظم الشعوب الإسلامية والعربية لا يمكن أن ترضى بهذا أو تقر به بحال من الأحول، وهذه هي المسألة الوحيدة الكفيلة -بإذن الله- بإحباط كل محاولات اليهود وأصدقائهم من العرب.
وهي أن الشعوب العربية في مصر والشعوب المسلمة في لبنان، وفي سوريا، وفي الأردن، وفي المغرب وفي كل بلاد الدنيا لا يمكن أن تقر بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن ترضى بها ولا يمكن أن تحول روح العداء من العداء لليهود إلى العداء لإخوانهم المسلمين، إلى العداء لمن يسمونهم بالأصوليين وهذا هو ما يحاوله الإعلام العربي اليوم، وتحاوله -أيضاً- وسائل الأمن العربية اليوم، وهي تتحالف مع اليهود في مكافحة الأصولية، وفي مكافحة الإرهاب وغير ذلك من الأسماء.
والحقيقة أن الأمر ربما يتعلق بمكافحة ظواهر الدعوة الإسلامية، وفي الوقت الذي يتمتع اليهود فيه بسياحة آمنة في مصر ولبنان والأردن والمغرب، نجد أن عدداً كبيراً من المسلمين والدعاة وطلبة العلم والمخلصين وأصحاب اللحى يزج بهم في غياهب السجون في تلك البلاد وغيرها، ويعتبرون مجرمين: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] وما ذنبهم إلا أنهم يرفضون معاهدات السلام والاستسلام، ويرفضون محبة اليهود ومودتهم، ويصرون على التمسك بدينهم وعلى الالتزام بشريعة ربهم مهما بذلوا في سبيل ذلك من التضحيات.
إذاً: هناك محاولات كبيرة بين إسرائيل وحلفائها لتوحيد الجهود الأمنية في مقاومة هؤلاء، وتبادل المعلومات، ولا مانع في المستقبل من تبادل المجرمين أيضاً، ومعروف من هم المجرمون؟!
إنهم ليسوا مجرمي المخدرات، وإنما هم مجرمون من نوع خاص يعرفهم الجميع!
وهناك قضية أن التطبيع عبارة عن استراتيجية أمريكية، وهذه قضية مهمة جداً، وخلاصتها أن هذه العملية التي يقوم بها اليهود ليست مجرد مناورة من اليهود، وإنما يقف وراءها الغرب، وتقف وراءها أمريكا، وأمريكا قد أعدت عدة جهات، منها شبكة أبحاث الشرق الأوسط، وهي أداة للسيطرة والتطبيع وتذليل العقبات، ومنها أيضاً جهات ومؤسسات أخرى.
ولذلك تشير بعض المصادر الأمريكية إلى أن مشروعات التعاون الإقليمي تضمنت بحوثاً مشتركة في مجال زراعة الأراضي القاحلة، والعلوم البحرية، والأمراض المعدية، وأنواع الأعلاف المغذية إلى غير ذلك، وقد عقد مؤتمر موسع في واشنطن شارك فيه خمسون عالماً مصرياً وإسرائيلياً بدعوة من الوكالة الأمريكية للتنمية، لتدارس ما تم تحقيقه من أوجه التعاون بين العلماء اليهود والمصريين في فترة ست سنوات وفقاً لبرنامج التعاون في الشرق الأوسط الذي أقره الكونجرس.
المهم أن التطبيع هو عبارة عن استراتيجية وخطة أمريكية والكلام في هذا يطول.
المرحلة الأولى: هي التطبيع القهري في الأرض المحتلة، فبعد ما احتل اليهود بلاد المسلمين عملوا على تغيير عقول الناس من خلال التسلط الإعلامي القهري عليهم، ومن خلال محاولة صهرهم في المجتمع اليهودي، سواء كان ذلك في الأرض المحتلة أو الجولان أو غيرها.
المرحلة الثانية: هي التطبيع الاختياري في مصر من خلال معاهدة السلام بـكامب ديفد، واستطاع اليهود أن يتغلغلوا من خلال جهود سياحية، وإعلامية، ومن خلال عشرات المراكز البحثية ومن خلال السفارة الإسرائيلية في مصر التي هي وكر للتجسس، ومن خلال التغلغل في الشعب المصري، ومن خلال عقد الصداقات مع الشباب ومع الفتيات، ومع رجال الفكر والأدب، ودعوتهم إلى الجامعات الإسرائيلية العبرية لإلقاء المحاضرات، وعقد الندوات المشتركة، إلى غير ذلك، ولا زالت الإذاعة المصرية مشغولة بالأغنية التي تقول: "سيناء رجعت تاني لينا" في الوقت الذي يسعى فيه اليهود إلى إحكام السيطرة على مصر.
المرحلة الثالثة: هي ما يسمى بسياسة الجسور المفتوحة مع الأردن، فإن الأردن ظلت مفتوحة الجسور؛ فمنذ عام (1962م) وتاريخ الأردن مع إسرائيل تاريخ مكشوف، وتاريخ الخيانة قديم جداً، بل هناك تعاون مع إسرائيل في سبيل القضاء على الوجود الفلسطيني، أو القضاء على الأقل -سابقاً- على منظمة التحرير الفلسطينية حين كانت تعتبر هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.
المرحلة الرابعة: مع المغرب، فهناك لقاءات قديمة جداً على أعلى المستويات بين المسئولين اليهود، وبين المسئولين في المغرب، وآخرها عقد في المغرب وتم فيه تبادل وجهات النظر حول كافة القضايا، وتم الاتفاق على حلول سلمية، واليهود يقيمون مناسبات عدة في المغرب ويحضرها مسئولون على كافة المستويات.
المرحلة الخامسة: مع أثيوبيا وكان ذلك من خلال ترحيل مجموعة من اليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل، وهي المعروفة باسم عملية الفلاشا، وقد شاركت فيها المخابرات، بل أدارتها المخابرات الأمريكية.
المرحلة السادسة: هي المرحلة القائمة، وهي مرحلة التكامل مع الدول العربية، حيث يكون فيها المال والنفط العربي والأسواق العربية، والخبرة اليهودية، جنباً إلى جنب.
أيها الأحبة: إن جناية القادة الذين جلسوا على طاولة المفاوضات مع اليهود على أمتهم وشعوبهم جناية عظيمة، وإن خدماتهم لليهود لا تقدر بثمن، فإنهم سوف يصنعون لـإسرائيل بعملية السلام والتطبيع ما تعجز إسرائيل أن تعمله بالعمل العسكري، هذا من جهة، كما أنهم استطاعوا أن يدجنوا شعوبهم ويذللوها ويجعلوها شعوباً خاضعة ذليلة مستسلمة، لقد أورثت هذه الشعوب الذل، والتبعية، وعدم الاكتراث بالمخاطر والأهوال التي تواجهها، مما جعلها ترد موارد الهلكة.
والواقع -أيها الأحبة- أن هذا الأمر الذي وضعوه في نفوس الشعوب غير صحيح، إن إمكانية مواجهة اليهود قائمة في كل وقت: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وكذلك أعوان الشيطان وحلفاؤهم؛ كيدهم ضعيف في كل وقت، وينبغي أن نعلم أن القهر الذي يمارسه اليهود -مثلاً- في داخل فلسطين قد ولّد جيل الانتفاضة، الذي يواجه الدبابة بالحجر، فأطفال هناك في عمر خمس وست سنوات يواجهون ذلك بمثل هذه الطريقة، ويجب أن نعلم أن مجموعة من العمليات الفدائية في لبنان وفلسطين قد أزعجت اليهود، وغيرت مقاييسهم إلى حد بعيد، فليس صحيحاً أن هؤلاء القوم يخططون فيقع ما يخططون، بل كم رتبوا وخططوا فجاءت النتائج عكس ما كانوا يريدون ويتوقعون، ولسنا أبداً ممن ينادي بتضخيم دور اليهود أو التهويل بقوتهم أو المبالغة في إرهاب الشعوب منهم، وإن كنا ننادي بضرورة أنه يجب أن نعرف حجم قوة عدونا، وندرك مدى قوته حتى نكون على استعداد له؛ لأن الاستهانة بقوة العدو خطأ كما أن المبالغة في تضخيم قوة العدو هي خطأ آخر.
إن الحكام قد جنوا حين غيبوا الرمز الذي يمكن أن يظل حياً، بمعنى: إننا قد لا نستطيع أن نواجه اليهود الآن بالسلاح؛ لأسباب كثيرة، ولا شك أن هذا الوقت ليس وقت مواجهه عسكرية مع اليهود في ظل الظروف الحاضرة، فالأمة المفككة، والأمة التي تسلط عليها عدوها، لايمكن أن تواجه عدواً آخر، إن الأمة التي تتقاتل فيما بينها لا يمكن أن تواجه عدواً خارجياً، فالأمة التي مزقتها الخلافات بين الأنظمة، والخلافات بين الشعوب، والخلافات بين الأقاليم، والخلافات بين الأحزاب، والخلافات بين الجماعات، والخلافات بين الطوائف، هذه الأمة التي مزقتها تلك الخلافات حتى لم يبق فيها مكان إلا وفيه حرب ضارية بين طرف وآخر.
هذه الأمة في ظل ظروفها الحاضرة وفي ظل تخلفها العلمي والتكنولوجي، والاقتصادي، والسياسي بكل تأكيد ليست على مستوى مواجهة العدو الإسرائيلي في الظرف الحاضر هذا صحيح، لكن بقي وجود الرمز الذي يقول للشعوب وللشباب، وللأمة، يقول للكبار والصغار، وللرجال للأطفال: إن هذا عدو يجب أن نحاربه، ويجب أن نستعد له، ويجب أن نخطط ولو بعد عشرة أو خمسين أو مائة سنة للقضاء عليه، هذا الرمز يحاول هؤلاء تغييبه، ويحاولون أن ينسوا الأمة ذلك الرمز، ويحاولون أن يؤثروا تأثيرات نفسية على الشعوب بحيث تتناسى عداوتها لليهود وتدرك بأنها في حال آمنة، وتنام نوماً عميقاً هادئاً بطيئاً.
ولذلك لا غرابة أن أقرأ في أحد صحفنا المحلية مقالاً طويلاً عريضاً ساخطاً غاضباً، فما هو السبب؟
هل سبب الغضبة لما يجري في الساحة الآن؟
كلا. بل سبب الغضبة هو ملاحظة عدد من الراصدين تسرب جمهور كرة القدم، ووجود غياب مذهل عن مدرجات الكرة، مما يعكس مخاوف ومخاطر شديدة، ولا بد من دراسة هذه الظاهرة، وإجراء مقابلات مع كافة المختصين لمعرفة الأسباب وأبعادها وظروفها، ومحاولة عمل اللازم، ومعالجة هذه الظاهرة قبل أن تستفحل ويصعب القضاء عليها!!
إذاً: هناك محاولات جادة لتغييب هذه الشعوب، وإشغالها بأمور تافهة وصغيرة وهموم يومية عن قضيتها ومعركتها الكبرى مع أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين والعلمانيين، والمنافقين في أي مكان كانوا، فهذه أعظم جناية يمكن أن يجنيها شخص، أو تجنيها طائفة، أو جهة على هذه الأمة.
فإنها قد نجحت في تمزيق الروابط والجسور مع الدول العربية الأخرى، فلم تكن الدول العربية والإسلامية في ظرف من الظروف، أو في أي وقت من الأوقات أكثر منها تفككاً، وتمزقاً، واختلافاً، وعداوةً منها الآن، وهذا يعطي فرصاً كبيرة لإسرائيل للحصول على مزيد من المكاسب، فضلاً عن أن القوى المعادية نجحت في نقل العداوة من عداوة بين الحكومات إلى العداوة بين الشعوب مع بعضها، فإن كثيراً من الشعوب العربية اليوم أصبحت عدوة للشعوب الأخرى.
وعلى سبيل المثال تجد كثيراً من المسلمين -دعك من العرب- إذا ذُكر الفلسطينيون شتم وسب، بل إنك تسمع من يقول هم شر من اليهود، ويقول: لأنهم فعلوا في الكويت كذا وكذا، فكم عدد الذين فعلوا في الكويت؟
كم عدد الذين تحالفوا مع الغزو العراقي للكويت من الفلسطينيين؟
لا أحد يستطيع أن يقدر عددهم ولكنهم بالتأكيد ليست هذه قضية شعب وإنما قضية أفراد وربما أن السبب في هؤلاء الأفراد هو أن الشعب الفلسطيني ظل طيلة الوقت وهو ألعوبة بيد الحكام، بمعنى أنه ليس النظام العراقي هو النظام الوحيد الذي حاول أن يبتز بعض الشعوب العربية والإسلامية، بل قد عملتها أنظمة عربية أخرى كثيرة، كذلك تجد العداوة مع الشعب اليمني، والعداوة مع السعودي، ومع السوري، ومع العراقي، فأصبحت القضية عداوة بين الشعوب وليست عداوة مع الحكام، وليست عداوة مع فئة ظالمة من الشعوب.
فنحن جميعاً نعادي -مثلاً- الشيوعيين، سواء كانوا فلسطينيين، أو أردنيين، أو يمنيين، أو مصريين، أو حتى كانوا من السعوديين، أو من أي بلد آخر، ونعادي المنافقين أيّاً كان لونهم، ونعادي الكافرين أياً كان مذهبهم وأياً كان بلدهم، وبالمقابل نحب المسلم الذي يحب الله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي الصلوات الخمس مهما كان بلده ومهما كانت جنسيته، فإن جنسية المسلم عقيدته، ولا يجوز أن ننساق وراء هذه الأشياء التي لم تقتصر على نطاق محدود، بل أخذت مأخذ التعميم والشمول، فينبغي أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، فالظالم ظالم، والمخطئ مخطئ ولابد أن ينال جزاءه، لكنه لا يمكن أن يؤخذ أحد بجريرة غيره بحال من الأحوال.
وماذا يقدم؟
وما هي أول خطوة؟
الجواب: في الواقع أن المسلم يستطيع أن يقدم الكثير، فهو كما يقول المثل الصيني: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فثق ثقة تامة أن محافظتك على الصلاة شيء، وقيامك بالواجبات شيء، وأداءك للتكاليف الشرعية شيء، وتربيتك لأولادك على هذا شيء، وتعلمك للعقيدة الصحيحة، ومعرفتك بتاريخ الإسلام، والثقافة الإسلامية الواعية، ودعم الأعمال والمشاريع الإسلامية، والمشاركة في الدعوة إلى الله: نشر الكتاب، نشر الشريط، حضور الحلقة، حضور الدرس، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، كل هذه الأعمال يجب أن لا نحتقرها أو نـزدريها أو نعتقد أنها لا علاقة لها بالقضية الكبرى.
فكل قضية مهما كانت صغيرة في عينك -وليس في دين الله صغير- فينبغي أن تعلم أنها خدمة أنها تنفع بها نفسك ثم تنفع بها دينك، ولا داعي أن تربط نفسك بقضية تشعر بأنها مستحيلة، مثلاً تقول: أنا ما هي علاقتي بقضية السلام، وقضية اليهود؟
وأنا لا أملك قدرة على إخراج اليهود من فلسطين، إذاً أجلس مكتوف الأيدي وأنام ملء جفني، لا يا أخي، بل عليك أن تربي أولادك على الخوف من الله، وربِّ أولادك على محبة الله ورسوله، وربهم على الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، ربِّ أولادك على أن فلسطين أرضٌ إسلامية مثلها في ذلك مثل سوريا والأردن والباكستان وأفغانستان والأندلس ومثل أي بلد آخر وأنه ينبغي أن تكون هذه البلاد كلها أرضاً إسلامية يحكم فيها بدين الله وشرعه، وتقام فيها العقيدة الصحيحة وتعلم فيها حدود الله، ويعلم فيها القرآن والسنة النبوية، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر، وإذا لم تقدر أنت قد يقدر أولادك، وإذا لم يستطيعوا هم فقد يستطيع من بعدهم، فينبغي أن يدرك كل إنسان منا أن العمل البسيط اليسير في نظره الذي يقوم به أنه يعتبر خدمة ونفعاً في هذا المجال ولبنة يمكن أن تساهم في هذا البناء الكبير.
الجواب: نعم. إن هناك أموراً كثيرة تلاحقت، والواقع أن العالم اليوم ينطبق عليه مقولة: الأيام حبلى بكل جديد، وهناك أحداث جرت خلال سنة واحدة أو سنتين إلى الآن لم يكن أحد يتوقع أن تجري خلال عشر أو عشرين سنة، فأنا اليوم أقرأ في كتاب يتكلم عن التوقعات الأمريكية لما تكون عليه روسيا، والكتاب نوعاً ما قديم، فيتكلم عن أن أمريكا -مثلاً- تتمنى القضاء على روسيا، ولكنها في مجال التوقع، فإن توقعات أمريكا هي توقعات متواضعة، فهي لا تتوقع أن تتفوق عليها تفوقاً باهراً خلال عقد أو عقدين من الزمان، ولكن الواقع جاء بنتائج مفاجئة جداً؛ حتى مراكز الدراسات والبحوث، والناس الذين يشتغلون في هذا الأمر ويسهرون الليل، ويجمعون الوثائق والأوراق والمعلومات إلى آخره، وكانت النتيجة خلافاً لما كانوا يتوقعون.
أيضاً قضايا كثيرة جداً، قوة العراق -مثلاً- حيث كانت من أعظم القوى الضاربة في المنطقة، وقفت أمام إيران أكثر من إحدى عشرة سنة، وكان من المتوقع أن هذه القوة قد تبسط جناحها على المنطقة أو تحاول ذلك، وقد تكون تهديداً ليس لـإسرائيل فقط، بل لغيرها من دول المنطقة، ومع ذلك تغيرت الأمور والموازين.
إذاً: ينبغي أن يدرك الإنسان أنه:
وأستار غيب الله دون العواقب |
الناس يخططون ويرسمون ويتوقعون ويتكلمون، لكنّ في غيب الله تعالى أموراً لم تخطر لي ولا لك، ولا لغيرنا، ولا للمحللين الخبراء على بال بحال من الأحوال، على كل حال من الواضح جداً أن هناك حالة مخاض في العالم كله، وتغيرات في الخارطة الدولية في الأوضاع، وفي التحالفات السياسية وفي موازين القوى، وهذه التغيرات نحن نطمح ونطمع إلى أن تكون لصالح المسلمين، فمثلاً الأوضاع في روسيا يمكن أن تخدم المسلمين -إن شاء الله- إلى حد ما، وقد ظهرت بعض الرءوس الإسلامية، وبعض الدول الإسلامية ذات الطابع العرقي التي تنتمي إلى أصول إسلامية، وهي تحاول أن تستعيد هويتها ولو وجدت يداً تمتد إليها لكان من وراء ذلك خير كثير.
ولذلك الغرب وإسرائيل ينظرون بتوجس وخيفة إلى روسيا، مع أن الغرب وإسرائيل مغتبطون من سقوط الإمبراطورية السوفيتية، إلا أنه في نفس الوقت بدأ يتوجس خيفة من هذا السقوط، وماذا يمكن أن يجره عليه من ويلات ومخاطر.
أقول وبكل تأكيد: والله الذي لا إله غيره؛ لو كان هناك مسلمون على مستوى المسئولية في طاعتهم لله، وإخلاصهم وصدقهم مع الله عز وجل، والتزامهم بدينهم الذي أُنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون تغيير ولا تحريف ولا تبديل، مع العمل بالأسباب الممكنة لهم والمتاحة لهم، لاستطاعوا أن يكسبوا في ظل الظروف الحاضرة أشياء كثيرة جداً؛ لكن المصيبة أنه حتى لو أن الغرب أصابه ما أصاب الشرق فتهاوت دوله دولة دولة، أو خاضت فيما بينها معارك طاحنة، فإن المسلمين في الغالب في ظل ظروفهم الحاضرة سيظلون لفترة -ليست بالقصيرة- أقل من مستوى القدرة على استغلال الأحداث لصالحهم، ونسأل الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رُشد تخرج مما هي فيه من ويلات ونكبات.
الجواب: نعم، اليهود يستغلون غيرهم من الشعوب؛ لأنهم يقولون كما في التلمود: إن الشعوب الأممية -يعني من غير اليهود- ليسوا إلا حميراً خلقوا ليركبهم شعب الله المختار، وكل ما نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، فهم يعتبرون العرب وغير العرب من حلف ائهم يعتبرونهم بهذه المثابة ويستغلونهم بهذه الصورة.
الجواب: ينبغي أن تسأل هذا الشخص ما هذا السلام أولاً؟
وما هذا الخير الذي يمكن أن يكون من ورائه للمسلمين؟
أنا أقول: إنه من التضليل أن نقول هذا سلام، كما إن من التضليل أن نقول: إن هذا صلح مع اليهود، كما أنه من التضليل أن نتكلم عن هذا على أنه هدنة، وهذا التضليل مع الأسف وقع فيه حتى بعض طلبة العلم، الذين لم يدركوا أبعاد الأمور.
القضية قضية تطبيع، والقضية قضية إزالة روح العداوة وجعل اليهود كأي دولة أخرى في المنطقة، من حيث التبادل الثقافي، والعلمي، والاقتصادي، والدبلوماسي -على كافة المستويات- السياحي، والحضاري، وهذه القضية لا يمكن أن يقبل بها مسلم أبداً مهما كان مستواه من الضعف والجهل.
الجواب: لنفترض -يا أخي- مع أني تكلمت سابقاً أن اليهود يقولون: إنه ليس عندهم استعداد للتنازل عن أي شبر- لكن لنفترض أن اليهود تخلوا عن بعض ما احتلوه، أو عن كل ما احتلوه عام (1967م)، السؤال الذي يجب أن تطرحه وتسأل نفسك عنه.. سيتنازل اليهود من أجل ماذا؟
هل من أجل سواد عيوني وعيونك سوف يتنازلون؟!
وما قيمة أن تأخذ شبراً من الأرض وتدفع مقابله اقتصادك، بل تدفع قبل ذلك عقيدتك ودينك، وتاريخ أمتك وتراثك، وعقول أبنائك؟
وما قيمة أن نرد الأرض إلى أصحابها وتكون حكماً فيدرالياً مع اليهود، أو مع الأردن، أو بأي صورة من الصور، أو بإدارة مشتركة بين الأطراف كلها ومع ذلك يتاح لليهود أن ينساحوا على الأمة؟
وما قيمة أن يتخلى اليهود عن شبر من الأرض في مقابل أن يحتلوا بلاد الإسلام كلها باقتصادهم وإعلامهم وبخبرتهم وتخطيطهم؟
مع أنه ينبغي أن نعلم أن اليهود دائماً يتميزون بالقدرة على المكر والتخطيط والدهاء.
الجواب: والنصارى أيضاً، فنحن نعتبر أن النصارى واليهود كما قال الله عز وجل: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض))[المائدة:51].
لذلك فعداوتنا لليهود وعداوتنا للنصارى واحدة، وإن كان اليهود أشد عداوة من هؤلاء، وإذا كنا الآن نتكلم عن اليهود، فلا مانع أن نخصص، وسوف أخصص -إن شاء الله- أحاديث ودروساً تتكلم عن النصارى، ومن ضمن الدروس التي تحتاج إلى تقديم -وسوف تقدم ضمن هذه الدروس بإذن الله سبحانه وتعالى، وعونه- الكلام عن الخطر التنصيري، وجهود النصارى في تحويل المسلمين عن دينهم، وهذه هي إحدى القضايا، لكن الإنسان في كل مناسبة قد يتكلم عن جزئية ويترك جزئيات أخرى.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر