إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان [1]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، ويعتقدون أن هذا الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد اهتم سلف هذه الأمة بمسألة الإيمان اهتماماً عظيماً لأنها أول مسألة اختلف فيها أهل القبلة، ولم يكن قبلها نزاع في شيء من مسائل الأصول، وإنما كان الخلاف في مسائل الفروع والفقه.

    1.   

    مقدمة شرح كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    أهمية كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد

    فإن هذه الرسالة للإمام العالم المحدث اللغوي أبي عبيد القاسم بن سلام ، وهي رسالةٌ شائعةٌ بين أهل العلم، ولها اختصاص:

    1- من جهة مصنِّفها، وما له من الإمامة وفقه حقائق الأقوال في هذا الباب.

    2- ومن جهة موضوعها؛ فإنها في أصل من أصول الدين أشكل شأنه ليس على أهل البدع والكلام فقط، وإنما على طائفةٍ من متقدمي أهل السنة والجماعة ومتأخريهم أيضاً.

    طرق التأليف في مسائل الإيمان عند الأئمة المتقدمين

    عُني بالتصنيف في باب الإيمان جملة من أعيان أئمة السنة والجماعة، حتى إن كثيراً من المحدِّثين فيما صنفوه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قد صدروا جملة من كتبهم بهذا الاسم-أي: باسم كتاب الإيمان-.

    والمراد بهذه التسمية في الجملة أحد وجهين:

    الوجه الأول: أن يُراد بكتاب الإيمان الجملة من مسائل أصول الدين، وعلى هذا المراد يًذكر القول في مسمى الإيمان وغيره من المسائل، كالقول في الصفات، والقدر، والشفاعة، ومسائل الكبائر... إلى غير ذلك.

    وهذه طريقة جماعة من أئمة السنة من المصنفين في الحديث وغيرهم.

    وعلى هذه الطريقة صنف الإمام مسلم رحمه الله كتاب الإيمان من صحيحه، فقد وضع في صدر صحيحه كتاب الإيمان، وأراد به القول في جملة مسائل أصول الدين، وكأن المراد بالإيمان هنا: الإيمان العام الشرعي الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله).

    الوجه الثاني: أن يراد بكتاب الإيمان مسماه، والمسائل المتعلقة به، كالقول في زيادته ونقصانه، والفرق بين اسم الإيمان والإسلام، وما يتعلق بمسألة الاستثناء.

    وقد وضع الإمام البخاري رحمه الله كتاب الإيمان في صحيحه على هذه الطريقة.

    وممن استخدم هذا الوجه مَنْ يُدخل على ذلك ما يكون فرعاً عن هذا الأصل، وهو: القول في باب الأسماء والأحكام.

    ولهذا يجد الناظر في كتاب الإيمان من صحيح مسلم وكتاب الإيمان من صحيح البخاري فرقاً بيّناً؛ فإن مسلماً رحمه الله ذكر أحاديث التوحيد والشفاعة والصفات وأحاديث من القدر، بخلاف البخاري ؛ فإنه قصد إلى تقرير اسم الإيمان وأنه قول، ودخول العمل فيه، والقول في زيادته ونقصانه، والرد على المرجئة... إلى غير ذلك من المسائل.

    وقد وضع الإمام المصنف كتابه هذا على المراد الثاني، فإنه لم يقصد بكتاب الإيمان جملة المسائل في أصول الدين، وإنما قصد هذه المسألة الخاصة، وما يلتحق بها من المسائل أصولاً كانت أو فروعاً.

    الفروع التي تندرج تحت قول السلف: الإيمان قول وعمل

    من المعلوم أن الذي درج عليه السلف أن الإيمان قولٌ وعمل.

    ويتفرع عن هذا القول ثلاث مسائل أصول:

    المسألة الأولى: أنه يزيد وينقص، وهذه مسألة ملتحقة -ولابد- بتقرير مسمى الإيمان.

    ثم ثمة مسألتان أصول قد تذكران في حال وتؤجلان في حال، وهما:

    أولاً: مسألة الأسماء، ويراد بها أسماء أهل الإيمان والدين، والعصاة من المسلمين، وما يتعلق بشأنهم في دار الدنيا من تسميتهم مؤمنين أو فساقاً أو غير ذلك.

    وهذه المسألة فرعٌ عن القول في مسمى الإيمان كما سيأتي تفصيله.

    ثانياً: مسألة الأحكام، ويراد بها أحكام أهل الملة في الآخرة من جهة الثواب والعقاب.

    وهذه المسألة -أيضاً- فرعٌ عن القول في مسمى الإيمان.

    وثمة مسألتان تذكران على هذا التقدير في حال وتتركان في حال، وهما ليستا من الأصول على التحقيق، وهما:

    أولاً: الفرق بين اسم الإيمان والإسلام.

    ثانياً: الاستثناء في الإيمان، وقول الرجل: هو مؤمنٌ إن شاء الله..

    وهاتان المسألتان من حيث الإجمال نَزَعَ بعض أهل السنة من المتأخرين إلى تقوية شأنهما، وجعلهما في مسائل الأصول والإجماع.

    والصواب: أنهما ليستا كذلك، فإن جمهور الخلاف فيهما بين السلف إما خلاف لفظي أو خلاف تنوع، ولم يحفظ عن أحد من الأكابر من السلف مادة من خلاف التضاد فيهما، وإن كان حكي ذلك عن بعض أعيانهم، إلا أن النقل يسقط أو يتأخر على أحد وجهين:

    الوجه الأول: أن النقل لا يكون مثبتاً، كما نقل عن سفيان الثوري رحمه الله في ذلك.

    الوجه الثاني: أن يكون فهم بعض المتأخرين لمراد بعض المتقدمين فيه غلط، كما فهم جملة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بعض أجوبته على غير وجهها في هذه المسألة.

    وعلى هذا تكون المسائل الأصول في باب الإيمان والتي عُني الأئمة بتقريرها:

    1- القول في مسماه.

    2- القول في زيادته ونقصانه؛ فهي مسألة أصل، والخلاف فيها مع المرجئة وغيرهم معروف ومثبت.

    3- القول في باب الأسماء والأحكام كفرعٍ عن القول في مسمى الإيمان.

    هذه جملة لابد لطالب العلم من اعتبارها في فهم مراد المصنفين من أهل السنة والحديث.

    وقد تقدم أن لهذه الرسالة اختصاصاً من جهة فقه مؤلفها لحقائق الأقوال، وهذه مسألةٌ أنبه إليها في صدر هذه الرسالة؛ لأن كثيراً من المتأخرين قد فاتهم هذا الفقه؛ فإن مؤلفها -كما سيأتي في صدرها- ينزع إلى أن المخالفين من المرجئة الفقهاء أتباع حماد بن أبي سليمان رحمه الله هم في دائرة السنة والجماعة، ومن المعدودين في أتباع السلف.

    وهذا من فقهه؛ فإن هذا هو التحقيق في شأن هذا القول كما سيأتي بيانه.

    لكن إذا قيل: إنه قولٌ لطائفة من أهل السنة فإن هذا لا يستلزم أن لا يقال فيه: إنه بدعة، ولا يستلزم أن لا يقال فيه: إنه مخالفٌ للإجماع، بل يقال: إنه قول لطائفة من أهل السنة، ومع ذلك هو قولٌ بدعة، وقولٌ مخالفٌ للإجماع، كما سيأتي تقريرة وبيانه.

    1.   

    شرح باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته

    [قال أبو عبيد : أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه، فإن هذا -رحمك الله- خطبٌ قد تكلّم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إليَّ علمه من ذلك مشروحاً مخلَّصاً وبالله التوفيق].

    أسباب أهمية مسألة الإيمان عند السلف

    ذكر المصنف رحمه الله في مقدمته أن هذه المسألة فيها خطب عند السلف، أي: أنها مسألةٌ كبيرة عظيمة الشأن؛ وإنما كان أمرها كذلك لسببين:

    السبب الأول: أنها أول مسألة تنازع فيها أهل القبلة ، ولم يكن قبلها بين المسلمين نزاع في شيء من مسائل أصول الدين، إنما كانوا يختلفون في مسائل الفروع ومسائل الفقه وما يتعلق بذلك.

    السبب الثاني: أن حماد بن أبي سليمان ، ومن وافقه من الفقهاء لم يستعملوا في الاستدلال على قولهم شيئاً من الطرق المحدثة المبتدعة، بل كان طريقهم في الاستدلال هو طريق الأئمة المعروفين، وإنما اشتبه عليهم مقام في كتاب الله، وهو ما ذكر في القرآن كثيراً في قول الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) وكذلك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يأتي التنبيه إليها.

    وسوف نتكلم في هذا المقام عن السبب الأول، بذكر شيء من تتابع ظهور البدع، أما الكلام عن السبب الثاني فسيأتي في ثنايا الكتاب عند الحديث عنه.

    1.   

    ظهور البدع في الإسلام

    تقدم أنه إذا اعتبرت المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة أمكن القول أن أول نزاع وقع في اسم الإيمان، وتحقيق القول في مسماه، وقد حدث هذا في آخر خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

    وفي آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم ، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حدث النزاع في القدر، وذلك زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير رضي الله عنه وبين بني أمية.

    وقد ظهر القول في القدر في البصرة، ثم شاع في بلاد الشام، ودخل على بعض مدن الحجاز، وظهرت القدرية بقوليهم الغالي وما دونه.

    وقد تقلد القول بنفي خلق أفعال العباد المعتزلةُ وجملةٌ من أصحاب الرواية، وإن لم يكونوا من كبار المحدثين، وإنما هم من رواة الحديث، وفرقٌ بين أعيان الرواة وبين أئمة الرواية، وعن هذا قال الإمام أحمد : "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة" .

    وينبه -وإن كان الباب ليس في القدر- إلى أن ثمة فرقاً بين قول هذا النفر من رجال الإسناد في القدر، وبين قول المعتزلة، وإن كانت النتيجة في الجملة واحدة، فإن الفريقين يقولون بأن أفعال العباد ليست مخلوقة لله؛ لكن المعتزلة بنوها على مقدمات كلامية وأصول نظرية، وطردوا لها فروعاً أخرى في مسائل التكليف والتحسين والتقبيح وتحكيم العقل... إلى غير ذلك، بخلاف هذه الجملة من أهل الحديث؛ فإن قولهم لم يبن على علم الكلام، ولم يتفرع عنه كثير من النظر والفروع، وإن كانوا متأثرين بالمعتزلة في نتيجته الكلية.

    هذه هي ثاني مسألة من المسائل الأصول التي حدث فيها نزاع.

    وقد انقرض عصر الصحابة ولم يحدث نزاعٌ بين أهل القبلة في مسائل الإلهيات، أي: القول في أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله.

    وفي المائة الثانية ظهرت بدعة التعطيل لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته على يد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثال هؤلاء من أئمة التعطيل، وظهر ما يقابله من قول غلاة المشبهة من أتباع الشيعة الإمامية، وأخصُّ مَنْ ذُكِر عنه مثل هذا القول هو هشام بن الحكم الشيعي الرافضي.

    ثم شاعت الأقوال في مسائل الصفات، وظهر أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي ، وانتسبوا إلى السنة والجماعة، وظهر في أقوال أهل التشبيه أتباع محمد بن كرام السجستاني من الحنفية، وقد كان مائلاً إلى شيءٍ من طرق التشبيه.

    ثم شاعت هذه الأقوال وانتشرت، وإن كان قول السلف بقي محفوظاً بعد الأئمة على يد المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة؛ فإنه ما من طائفة من أتباع الأئمة الأربعة إلا وفيها محققون حافظون لمذهب الأئمة، وإن لم يكن أتباع الأئمة الأربعة -أعني: من انتسب إليهم من الفقهاء- على درجة واحدة؛ فإن منهم المنتحل لطريقٍ بدعيٍ معروف كبعض معتزلة الحنفية، والغلاة من متكلمة الأشعرية النظّار، ومنهم من هو متأثر بعلم الكلام تأثراً عاماً، ومنهم المبالغ في تقرير السنة الزائد على كلام السلف إلى قدرٍ من الغلو، كما هي طريقة أبي إسماعيل الأنصاري الهروي في مسائل التكفير؛ فإنه يبالغ في مسائل التكفير ويزيد فيها بما لم يعرف عن السلف والأئمة كـأحمد وغيره... إلى غير ذلك من الطرق التي ليس هذا موضعاً لذكرها.

    ظهور الخوارج والمعتزلة

    بهذا يتبين أن أول مسألة حصل فيها نزاعٌ بين أهل القبلة هي القول في اسم الإيمان، وأول من أحدث الخلاف في هذا الأصل، بل وفتح باب الخلاف في مسائل أصول الدين: هم الخوارج.

    هم قومٌ حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه" .

    وقد روى الإمام مسلم في صحيحه هذه العشرة وأخرج البخاري طرفاً منها، وهي مخرَّجة في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد تلقاها أئمة الحديث بالقبول.

    وقد ورد حديثهم من رواية أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وطائفة من الصحابة، وهو يعد عند أهل العلم في الحديث من المتواتر، لكن على معنى المتواتر عند المحدّثين وأهل الأصول من أئمة السلف كـالشافعي رحمه الله ، وسيأتي بيانه إن شاء الله.

    ومن أوجه روايته الثابتة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قسم فقسمه بين أربعةِ نفر، فقام رجل غائرُ العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل. فقال خالد بن الوليد -وفي وجهٍ عمر بن الخطاب ، وكلاهما في الصحيح-: دعني أضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي. قال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم. ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُقفٍّ؛ فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من صلبه، قيل: حقيقةً، وقيل: كنايةً وهذا هو الأقرب- قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجهٍ: (قتل ثمود) وفي وجهٍ: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله) وفي وجهٍ: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل).

    وقد ذكر صلى الله عليه وسلم آيتهم فقال: (آيتهم: رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة) وذكر صلى الله عليه وسلم شدة مروقهم من الدين فقال: (كمروق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله -أي: الرامي- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجدُ فيه شيء، سبق الفرث والدم).

    ومع هذا الوجه من كلامه صلى الله عليه وسلم ، والتشديد والتغليظ على هؤلاء، كقوله صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) إلا أن الصحابة لم يفهموا منه أنهم كفار ؛ ولهذا لما ظهر الخوارج في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقاتلهم في النهروان، ورأى آيتهم، مع هذا كله فإن الصحابة لم يمضوا فيهم بسنة الكفار.

    وقد جاء أن علي بن أبي طالب قيل له: "يا أبا الحسن ! أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً" .

    ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين" .

    فهم قومٌ ظالمون لأنفسهم من أهل البدع، وإن كان قد يقع في أعيانهم من هو منافق أو من قد غلب عليه وجه من الكفر، وهذا علمه وشأنه عند الله سبحانه وتعالى.

    وقد استطالوا على المسلمين بما أحدثوه في هذا الأصل، فإنهم فهموا أن الإيمان هو جميع الواجبات الشرعية الظاهرة والباطنة، ولكنه شيءٌ واحد إذا ذهب شيءٌ منه فقد ذهب جميعه، وعن هذا قالوا: إن مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر، وإذا كان كافراً فإنه يكون مخلداً في النار.

    وعلى هذا درج أئمة الخوارج إلا الإباضية منهم الذين قالوا: إنه كافرٌ كفر نعمة، مع قولهم بأنه خالد مخلدٌ في النار.

    هذا هو مبتدأ هذا النزاع، ومنه بدأ الأئمة -رحمهم الله- يطعنون على أهل البدع ويذمون أهل الأهواء.

    وقد قارب الخوارج في قولهم طائفةٌ وهم المعتزلة، والفرق بين المعتزلة والخوارج فرق يسير؛ فإن المعتزلة تقول عن مرتكب الكبيرة: إنه فاسق، ولا تسميه مؤمناً، بينما تقول الخوارج: إنه كافر. أما في الآخرة فقد اتفقتا على أنه مخلد في النار.

    فجمهور الفرق بين المعتزلة وبين الخوارج هو في دار الدنيا؛ فإن المعتزلة يرونه فاسقاً، والخوارج تراه كافراً. وأما أصل القول في اسم الإيمان: أنه قولٌ وعملٌ، ظاهرٌ وباطنٌ لا يزيد ولا ينقص.. فهذا متفق عليه بين الطائفتين، وإن كان قول الخوارج أشد غلواً.

    ظهور المرجئة

    قابل الخوارجَ والمعتزلةَ المرجئةُ، فقد قالوا قولاً على الضد من قول الخوارج والمعتزلة.

    وهم طوائف، فقد ذكر أبو الحسن الأشعري رحمه الله في المقالات أن المرجئة ثنتا عشرة طائفة، أشدهم إرجاءً الجهم بن صفوان وأبو الحسين الصالحي وأمثال هؤلاء من غلاة المرجئة، الذين يقولون: إن الإيمان هو العلم والمعرفة.

    وأما أخفهم إرجاءً فهم من سموا بمرجئة الفقهاء، وهم قومٌ من علماء السنة والجماعة خرجوا في مسألة العمل عن المعروف عند سلفهم، فقالوا: إن الأعمال الظاهرة- أي: أعمال الجوارح- لا تدخل في اسم الإيمان، وإن كانت ركناً وأصلاً وواجباً في الدين؛ ولهذا لا يرون أن الصلاة داخلة في اسم الإيمان، وإن كانوا يعتبرونها ركناً من الإسلام وأصلاً في الدين، وهذا الاعتبار لا يعني أنهم يكفرون بتركها؛ فإن هذه مسألة أخرى لا يلتزم بها جميع من أخرج العمل من مسمى الإيمان.

    والمقصود من هذا: أن أول من أحدث القول في الإيمان على خلاف طريقة السلف هم الخوارج، ثم شاعت البدعة، وأول من خرج من أهل السنة عن قول سلفهم هو حماد بن أبي سليمان تلميذ إبراهيم النخعي ، وهو من كبار أعيان فقهاء الكوفة، ومن العلماء والعباد والنساك العارفين بالسنن والآثار ومقاصد الشرع، لكنه في هذه المسألة خالف سلفه، وخرج بقوله: إن الأعمال الظاهرة لا تدخل في اسم الإيمان، وتبعه على هذا قومٌ من فقهاء الكوفة، وأخص من تقلد هذا القول واشتهر به هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، وإن كان هناك تردد بين بعض أهل العلم والمقالات في صحة القول عن أبي حنيفة ، لكن الصحيح أنه قولٌ معروفٌ للإمام أبي حنيفة رحمه الله.

    1.   

    منهج الأئمة في تقرير الأقوال والمذاهب

    [اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين:].

    ظاهرٌ في كلام المصنف رحمه الله أنه لم يقصد هنا ذكر أقوال أهل القبلة؛ ولهذا لم يذكر قول الخوارج ولا أقوال جماهير المرجئة، وإنما ذكر أقوال أهل العلم والعناية بالدين، ويقصد بهم أهل السنة والجماعة، وهذا فقهُ حسن.

    فإن هذه الطريقة منهج في تقرير الأقوال، فإن أقوال أهل البدع تؤخر، ولا تُجعل مقارنة لأقوال أئمة السلف رحمهم الله.

    خطأ بعض الباحثين في تسمية الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البدع خلافاً مقارناً

    وقد درج بعض الباحثين من المعاصرين على تسمية الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البدع خلاف مقارنة، وهذه اللفظة فيها بعض التردد؛ فإن مادة التقارن في اللغة توحي بشيء من التشاكل، والموازنة، والبحث عن الأرجح.. إلى غير ذلك، وهذا غير حاصل بين أقوال أهل السنة وبين أقوال أهل البدع.

    أما إذا استخدم الباحث في مسائل الفقه هذه اللفظة فقال: هذا فقهٌ مقارن أو هذه كتبٌ في الفقه المقارن، فهذا استعمال لا بأس به؛ لأن هذه المقارنة بين مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وأمثالهم من الفقهاء والأئمة، وهذه المذاهب لا يجوز أن يجزم أن أحدها أرجح من الآخر على الإطلاق، لأن المسائل التي اختلفوا فيها قد اختلف فيها الأئمة قبل هؤلاء الأربعة.

    وبهذا يتبين أن تسمية الخلاف بين أهل السنة والجماعة وأهل البدع خلافاً مقارناً فيه بعض التردد، وهي ليست طريقةً معروفةً عند السلف، فإنهم إذا ذكروا اختلاف الفقهاء ذكروه على طريقة من التقارب، وإذا ذكروا أقوال أهل البدع ذكروها على طريقة من الخروج عن الإجماع، والتنبيه إلى تركها، والتحذير من شأنها.

    بماذا يعتبر الرجل مبتدعاً؟

    من فقهه رحمه الله أنه جعل مرجئة الفقهاء وعلى رأسهم حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله في دائرة أهل السنة والجماعة؛ فإن هذا هو الصحيح، وعلى هذا لا يجوز أن يُعد أمثال هؤلاء في أهل البدعة.

    وهذا يدل على قاعدة؛ وهي: أن من وقع في شيء من الأقوال البدعية وعامة أمرهِ على السنة والجماعة فإنه لا يسمى مبتدعاً عند السلف، وإنما المبتدع -وهو اسم فاعل- من غلب عليه حالٌ من البدعة:

    إما أن يكون هذا الحال يغلب على دلائله -أي: في المنهج- كمن ينتحل علم الكلام، ويجعله هو المعتبر في تقرير مسائل أصول الدين.

    وإما أن يغلب على حاله كثرة الاستعمال لأقوال أهل البدع، كأن يوافق أهل البدع في القدر والأسماء والأحكام والإيمان ومسائل أخرى.

    وإما أن يغلب عليه بدعة ولو واحدة لكنها مغلظة، كمن قال في مسألة الصفات قولاً من التعطيل واستقر عليه، فهذا وإن استقر أمره في الإيمان والأسماء والأحكام والقدر على مذهب السلف إلا أنه يسمى مبتدعاً.

    وإذا اعتبر هذا التحقيق فإننا لا نجد في أعيان الناس من استقر على بدعة مغلظة في أصل وحقق مذهب السلف في أصولٍ أخرى، فإن الباحث عمن يقول بتمام قول المعتزلة -مثلاً- في تعطيل صفات الرب سبحانه وتعالى ، والذي قال عنه السلف: إنها أقوالٌ كفر، كالقول بخلق القرآن، وإنكار العلو وأمثال ذلك لا يجد واحداً من الأعيان يستقر على تحقيق هذه البدعة المغلظة، ومع ذلك يحقق السنة وقول السلف في مسائل الأصول الأخرى.

    وإنما الذي يعرض أن بعض الأعيان من المنتسبين إلى السنة والجماعة قد يغلطون في شيء من مسائل الصفات، أو القدر أو الإيمان وإن كان أصل بابها عندهم على طريقة السلف.

    وقد عرض هذا لإمام الأئمة ابن خزيمة -وهو من كبار أعيان أصحاب الشافعي رحمه الله - فقد قال في مسألة حديث الصورة قولاً لم يُتابع عليه، وقد قال الإمام أحمد عن هذا القول لما سأل عنه: "هذا قول الجهمية"؛ ومع ذلك لا يجوز أن ينسب ابن خزيمة إلى الجهمية، ولا أن يخرج عن السنة والجماعة بوجهٍ ما، وإن كان قوله غلطاً.

    ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن الإمام أحمد لما تكلم الجهمية باللفظ بالقرآن قال قوله المشهور في رواية أبي طالب : "من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوقٍ فهو مبتدع" . ومع ذلك ثبت القول بمسألة اللفظ على مرادٍ صحيح عن جملة من أئمة السلف؛ فإن محمد بن يحيى الذُهلي كان يقول: "إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً" ويشنع على من يقول: إنه مخلوق. وعن هذا هجر البخاري ، وحصل بينه وبين الإمام البخاري ما حصل في المسألة المعروفة.

    وكان مراد الذهلي من قولته تلك: أن القرآن ليس مخلوقاً.

    فمراد محمد بن يحيى الذُهلي من هذا اللفظ مرادٌ صحيح، وإن كان الجمهورُ من أئمة السنة كـأحمد وغيره يرون أنه لفظ محدث.

    وقد نقل عن الإمام البخاري وثبت عن غيره ثبوتاً جازماً أنهم إذا سُئلوا عن هذه المسألة أجابوا بقولهم: اللفظ بالقرآن مخلوق.

    فـالبخاري كان مراده صحيحاً، فإنه لما قال: "اللفظ بالقرآن مخلوق" أراد أفعال العباد؛ ومن المعلوم أن الإمام البخاري كان على عناية بمسألة خلق أفعال العباد، وعن هذا صنّف كتابه "خلق أفعال العباد" في تقرير هذا والرد على القدرية.

    وهنا فرقٌ لطيفٌ لطالب العلم، وهو أن ثمة فرقاً بين من قال قولاً جواباً وبين من قاله ابتداءً، فـالبخاري قاله جواباً وكذلك الذُهلي ؛ لأن هذه المسألة ابتلي الناس بالسؤال عنها، وقد سئل عنها الإمام أحمد ، فأجاب بقوله: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع". وأما أن أحداً من أعيان أئمة السلف ابتدأ ذكر المسألة فلا.

    فالقصد: أنه لا يجوز أن يقال عن البخاري أو الذهلي : إنه مبتدعٌ أو جهمي؛ وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "و أحمد وأمثاله وإن قالوا هذا القول إلا أنه لا يراد بذلك أن الواحد من الأئمة إذا أطلق مثل هذا القول صح أن يسمى كذلك، فضلاً عن أن يعطى حكم الجهمية أو أهل البدع".

    إذاً: ثمة أقوال في باب الصفات أو القدر أو الإيمان هي أقوالٌ غلط، ويمكن أن يقال: هي أقوالٌ بدعة، ومع ذلك لا يضاف أصحابها إلى أهل البدع.

    وبعبارة أخرى: لا يلزم من وقوع الرجل من أهل العلم في بدعةٍ من البدع اللفظية- أي: بدع الأقوال- أن يسمى مبتدعاً، فإن هذا لو تُكلِّف لزاد الشر والفتنة، ومن غلب حاله على السنة والجماعة اعتبر بها واعتبر بإضافته إليها، ومع هذا يقال: إن هذا القول الذي قاله بدعةٌ مخالفة.

    وقد بين الإمام ابن تيمية رحمه الله أن أبا عبيد رحمه الله كان يذهب إلى أن قول مرجئة الفقهاء بدعةً؛ ولهذا نقل عن فقهاء الكوفة أكثر من نقله عن غيرهم؛ ليبيّن مفارقة حماد بن أبي سليمان للكوفيين، وأن هذا ليس إجماعاً عند أهل الكوفة .

    والمقصود بهذا أن عدم إخراج المصنف لـحماد بن أبي سليمان وأتباعه من دائرة السنة والجماعة لا يلزم منه عدم الحكم على قولهم بأنه بدعة، وتسميته بدعة لا يلزم منه أن يسمى من يقول به مبتدعاً، وهذا كالقول أنه لا يلزم من قول الرجل ما هو كفرٌ أن يسمى كافراً.

    1.   

    الخلاف بين السلف في تفسير الإيمان خلاف لفظي

    [فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب وشهادة الألسنة وعمل الجوارح..]

    هذا هو قول السواد من السلف، وألفاظ السلف في القول في مسمى الإيمان متعددة، واختلافها هو من باب الخلاف اللفظي، وهذا أدق من أن يقال: إنه خلاف تنوع.

    فإن الخلاف عند النظّار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    1- خلافٌ لفظي.

    2- خلاف تنوع.

    3- خلاف تضاد.

    وخلاف التضاد: هو أن يكون بين القولين تضاد، أي: لا يمكن اجتماعهما، كأن يقول قائل: إن العمل يسمى إيماناً، ويقول الآخر: إن العمل لا يسمى إيماناً.

    وخلاف التنوع: هو أن تكون المادة المستعملة تختص في قول ما لا تختص في القول الآخر، بمعنى: أن صاحب القول الأول يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الثاني، وصاحب القول الثاني يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الأول، ويكون المعنى الأول والثاني كلاهما صحيح، ويحصل التمام باجتماعهما.

    وغالب ما يكون خلاف التنوع في كلام السلف في التفسير، فإن الناظر في كتب التفسير كتفسير ابن جرير -وهو أخص كتاب في المأثور- يرى أن أقوال الصحابة والتابعين -ولا سيما من انشغل منهم بالتفسير- فيها اختلافٌ كثير، وعامةُ هذا الاختلاف إما لفظي وإما تنوع، بمعنى: أن يذكر أحدهما معنى، ويذكر الآخر معنى آخر، لكن يمكن اجتماعهما، ويكمل أحدهما الآخر.

    إذاً: غالب الاختلاف في الألفاظ المنقولة عن السلف في اسم الإيمان هو خلافٌ لفظي، ولا نقول: إنه خلاف تنوع؛ لأن هذا القول يقتضي أنهم إذا عبروا عن هذه الحقيقة بعد الخلاف فيها يقتصرون على جملة من معناها.

    1.   

    الألفاظ المنقولة عن السلف في مسمى الإيمان

    الألفاظ المنقولة عن السلف كثيرة، أشهرها وأكثرها شيوعاً في كلام الأئمة: أن الإيمان قولٌ وعمل، وإن لم يكن هذا هو الشائع عند المتأخرين؛ فإن الشائع في المختصرات عند المتأخرين هو كلام الشافعي : "إن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد" وهو مقارب لكلام المصنف.

    وقد نقل عن طائفةٍ كـالبخاري في صحيحه في إحدى الروايتين -فإن لفظ البخاري روي بوجهين-: "وقال أبو عبد الله : الإيمان قولٌ وعمل". والرواية المشهورة في صحيح البخاري أن البخاري قال: "وهو قولٌ وفعل" وهذا حرفٌ صحيح، وقد بحث الشراح عن وجه الفرق بين الفعل والعمل... إلخ، وهذا كله تكلف، حيث إنه لا فرق عند البخاري بين قوله: الإيمان قولٌ وعمل، أو الإيمان قولٌ وفعل، وقد يكون أراد مراداً من التحقيق.. وهذا أمر آخر.

    وقال سهل بن عبد الله التستري -وبعض شيوخ العُباد من السلف- لما سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: "الإيمان قولٌ وعملٌ ونية وسنة" . وهؤلاء يعللون قولهم بأن العمل والقول والنية إذا خرج عن السنة صار بدعة.

    لكن هل هذا القيد قيد لازم أو قيدٌ بياني؟

    هو قيد بياني؛ لأن من المقطوع به أن من قال: الإيمان قولٌ إنما يقصد الأقوال الشرعية وليس البدعية والعادية.

    والقيود البيانية من جنس الاصطلاح، لا مشاحة فيها.

    وإذا قيل: هل الفاضل ذكرها أو تركها؟

    قيل: الأمر متعلقٌ بمصلحة ذكرها، فإن كان ذكرها يقتضي مصلحة كفهم المخاطبين كان ذكرها حسناً، وإن كان ذكرها يقتضي قدراً من الاختلاف وإشاعة الخلاف... وما إلى ذلك فإن ذكرها لا يكون مصلحةً؛ ولهذا العامة والجمهور من السلف لم يزيدوا على قولهم: الإيمان قولٌ وعمل، وقال الشافعي : "قولٌ وعملٌ واعتقاد". وقال المصنف قوله السابق.

    وهذه كلها أقوالٌ صحيحة، فمن قال منهم: قولٌ وعمل واعتقاد.. فقوله واضحٌ، وهو أبين من جهة ذكره للمواضع الثلاثة: أن الإيمان يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بعمل الجوارح.

    1.   

    معنى قول السلف الإيمان قول وعمل

    أما الكلمة الشائعة عن جمهور السلف وهي قولهم: إن الإيمان قول وعمل فيراد بالقول: قول اللسان وقول القلب، ويراد بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، وعلى هذا تكون أصول الإيمان من حيث المحل أربعة:

    قول القلب

    المحل الأول: قول القلب، وهو تصديقه، وهذا هو أشرف مواضع الإيمان، ولهذا وإن كان السلف يقولون: إن الإيمان قولٌ وعمل، إلا أنهم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وعامة السلف مع هذا القول يذهبون إلا أن أصل الإيمان مبناه على تصديق القلب" ولهذا إذا تعذر التصديق سقط الإيمان كله، بخلاف العمل فإنه قد يدخله التفصيل، فإن التصديق يقابله التكذيب، والأمر يقابله المخالفة، ولهذا كان الوعيد الشديد في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] حتى قال الإمام أحمد : "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك" .

    وهذا الوعيد ليس في حق من خالف من عصاة المسلمين، أي: من وقع في معصية، وهو على إقرارٍ بكونها معصيةً واستقامةٍ في جملة أمره على الإسلام وأحكامه، ولا يقال: إنه داخل في الآية؛ لأنه قد خالف بترك واجب أو فعل معصية، لأن المراد بالآية -على الصحيح- الإعراض عن شيءٍ من أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم.

    وسبب تفسير المخالفة بالإعراض هو أن الفعل (خالف) يتعدى بنفسه من حيث الأصل؛ فتقول: خالف زيدٌ عمراً، لكنه في الآية عُدِّي بالحرف فأعطي حكم الفعل اللازم؛ وذلك لأنه ضُمن معنى فعل آخر، وأقرب ما يقاربه الإعراض، وهذا هو المناسب لسياق الآيات في هذه السورة.

    والمقصود من هذا: أن القول قول القلب هو أشرف مقامات الإيمان، ولهذا لما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته...) إلخ، فجعل مبناهُ على التصديق.

    قول اللسان

    المحل الثاني: قول اللسان، ويراد به ما هو بيِّن، من الشهادتين وغيرها من شرائع الإسلام والإيمان التي تقال باللسان.

    عمل القلب

    المحل الثالث: عمل القلب كالخوف، والرجاء، والاستعانة... إلى غير ذلك.

    فإن قيل: فما الفرق بين قول القلب -الذي هو تصديقه- وبين عمل القلب؟

    قيل: من هدي الصحابة رضي الله عنهم أن ثمة أموراً كثيرة يُعلم الفرق بينها ضرورة، تقوم في نفوس العقلاء، وإن كان كثيراً من العقلاء قد لا يحسنون ضبط الحد من جهة الكلام في التفريق بينها، أي: هناك أمورٌ كثيرة مستقرة من حيث الفرق أو مستقرة من حيث المعنى، وإذا طلب من الإنسان التعبير عن هذا الفرق قد لا يحسنه، ولربما كان ذكره للفرق مدعاة للشغب عليه من المخالفين، وإلزامه بشيءٍ من اللوازم.

    إذاً: الفرق بين التصديق وبين عمل القلب مستقر عند عامة المسلمين وسوادهم؛ فإنهم يفرقون بين تصديقاتهم وبين ما يقوم في قلوبهم من التعلق بالله سبحانه وتعالى ، ومحبته، والخوف منه، والرجاء... إلى غير ذلك، فهذا فرقٌ من حيث المعنى مستقر.

    وإنما ينبه هذا التنبيه؛ لأن الحد للأشياء -الذي يسمى التعريف، واسمه في المنطق الحد- والمعاني أمرٌ حادث في العلم، ينبغي لطالب العلم ألا يلتفت إليه كثيراً؛ لأن هذا الحد يقع عنه في كثير من الأحوال جملة من المفاسد، من أخصها:

    1- التضييق للمعاني.

    2- استباق المعاني.

    ما معنى استباق المعاني؟

    مثلاً: مسألة السنة والبدعة، هي قبل أن تكون حداً وتعريفاً هي استقراءٌ في فقه الشرع.

    فإذا نقدنا مسألة الحد، وقلنا: إن الذين بالغوا في تقريرها هم علماء الكلام، فقيل: فما البديل عنها؟

    قلنا: الذي كان عليه السلف -الصحابة والأئمة من بعدهم- هو الاستقراء؛ فيكون تحقيق المعاني باستقراء جميع مواردها.

    مثلاً: إذا قيل: ما هي البدعة؟

    قيل: لقد عرفها الشاطبي -مثلاً- في الاعتصام بأنها: "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه" .

    وهذا الحد ليس بالضرورة أن يقال: إنه غلط، لكن نقول: أخذ مثل هذه المسائل الكبرى بحدٍ مختصر يقع لفظه في سطر، ويقع شرحه في صفحة أو صفحتين يظن الآخذ له أنه قد فقه وفهم الفرق بين مدلول السنة ومدلول البدعة، ومتى يسمى القول أو الفعل سنة، ومتى يسمى بدعة، ومتى يكون القائل أو الفاعل على السنة، ومتى يكون على البدعة، ومثل هذه الاستطالات عن طريق الحدود.. أمر غير متحقق.

    ومن يراجع في كتب المنطق وعلم الكلام يرى أنهم يذكرون الحد ويذكرون الرسم، وقد قال الإمام ابن تيمية : "إن المحققين من النظار يرون تأخر الحد عن جمهور الأشياء، وإنما يستعملُ معها الرسم" .

    ما الفرق بين الحد والرسم؟

    الحد: هو الضبط للماهية نفسها.

    أما الرسم: فهو التمييز للماهية عن غيرها.

    قال الإمام ابن تيمية : "وهذا هو التحقيق" فإن الممكن في جمهور المعاني هو التمييز لها عن غيرها، وأما تعيين ماهيتها فهذا في الغالب أنه يتأخر، ويقع عنه ضيقٌ.. وما إلى ذلك.

    إذاً يقال: الفرق بين التصديق وعمل القلب هو فرقٌ مستقر؛ فإن أحسن المسلم التفصيل له بلسانه وإلا فكما قال الإمام ابن تيمية : "وكثيرٌ من المسلمين، يقوم في نفوسهم من العلوم الضرورية في باب الإيمان بالله ورسوله والنبوة والشريعة وغير ذلك ما لا يستطيعون التعبير عنه.." .

    فهذه مسألة مما ينبغي أن يتفطن له؛ فإن كثيراً من المسلمين يتأخر عن الإبانة عن فرق مستقر.

    ولا يفهم من هذا أننا نقصد إلى أن نقول: إن تعريف البدعة أو استعماله غلط. لكن لا ينبغي أن يستطال فيه وأن يعظم شأنهُ.

    فإذا ذكر الفرق بين التصديق وعمل القلب قيل التصديق: هو التصورات التي يقرُ القلب بثبوتها، فهو على باب الإثبات والنفي، ولهذا كان ما يقابل التصديق هو التكذيب.

    وأما عمل القلب فهو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له كالخوف والمحبة والرجاء.

    ومعنى هذا أن التصديق -وهذا من معاني أهل السنة في تقريرهم للإيمان- يوجبُ بذاته عمل القلب، وهذا هو الفرق بين التصديق الشرعي الإيماني، وبين التصديق المطلق المرادف للمعرفة؛ فإن المعرفة لا تستلزم عمل القلب؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] وقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]فمعرفة الكفار هي علم محض، وأما التصديق الشرعي الذي يذكر في الإيمان فهو ما استلزم العمل.

    فإذا كان التصديق لا يستلزمُ عمل القلب فإنه يتأخر عن كونه تصديقاً على التمام الشرعي.

    عمل الجوارح

    المحل الرابع: أعمال الجوارح.

    فالتصديق الشرعي يستلزم:

    أولاً: العمل الظاهر والباطن.

    ثانياً: الإخلاص لله، فهو تصديقٌ بخبر الله سبحانه وتعالى أو خبر نبيه عنه؛ فمن فقه المصنف أنه قال: "الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب" فذكر مسألة الإخلاص.

    ومن هنا يتبين أن الإيمان هو التوحيد؛ لأن الإيمان يراد به الأقوال والأعمال الشرعية المتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى وحده.

    وشهادة الألسنة أَخَصُها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    وبهذا يتبين أن جملة قول السلف: أن الإيمان قولٌ وعمل على هذا التطريد.

    1.   

    زيادة الإيمان ونقصانه

    ويقولون: "إنه يزيد وينقص" وهذا المعنى لابد منه، وهو أصل في ذكرِ مسمى الإيمان؛ فإن الغلط الكلي -كما سيأتي شرحه إن شاء الله- الذي خالف به أهل البدع مذهب السلف في اسم الإيمان ومسماه هو أنهم لا يلتزمون أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا الغلطٌ مشترك بين الخوارج والمعتزلة ومن يقابلهم وهم المرجئة؛ فإن كل طائفة من هذه الطوائف جعلوا والتزموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وجعلوا مورد الزيادة والنقص فيما حوله من الشرائع التي لا تسمى إيماناً عندهم كالمرجئة، أو في موردٍ آخر على طريقة الخوارج والمعتزلة.

    فهذه الجملة أصلٌ في مسألة الإيمان؛ لأن مبنى المخالفة للمخالفين إنما تفرع عن عدم تحقيقها، وإلا فإن في كتب الخوارج والمعتزلة أنهم أجمعوا على أن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد، ومنهم من يعبر بما يقارب من عبارة أهل السنة فيقول: قول باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالأركان، وإن كانت كتب الخوارج قليلة، لكنَّ الإباضيين منهم يقولون بهذا، لكن الفرق بينهم وبين السلف هو الزيادة والنقصان.

    تعلق الزيادة والنقصان في الإيمان

    يستعمل المتأخرون من أهل السنة في كتبهم عبارة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا التعبير لا بأس به، لكنه ليس فاضلاً، فإنه يوحي -ليس عند العامة بل حتى عند بعض طلبة العلم المبتدئين- أن مورد الزيادة والنقصان هو في الأعمال الظاهرة فقط.

    وهذه المسألة فيها نزاع، فإن أبا محمد بن حزم رحمه الله يقرر أن الزيادة والنقصان لا يتعلقان بالتصديق.

    فهو يقرر أن الزيادة والنقصان تدخل أعمال القلوب لكونها أعمالاً، فالمحبة ليست واحدة، والرجاء ليس واحداً.

    وكذلك تدخل أقوال اللسان، فإن الناس متفاوتون في ذكرهم للشريعة وألفاظها وهديها وتوحيد الله وذكره... إلى غير ذلك.

    وكذلك تدخل أعمال الجوارح.

    لكنه تأخر فقال: إنه ليس من طريقة أهل السنة أن الزيادة والنقصان متعلقان بالتصديق. وعلى هذا يكون التصديق واحداً.

    وهذا غلطٌ دخل عليه من المرجئة، فإنه بنى هذا على مسألة أن التصديق يقابله التكذيب، وأنه إذا نقص ذهب، فإما أن يصدق الإنسان وإما أن يكذب.. فما الوسط بينهما؟ وكيف تحصل الزيادة والنقصان في أمرٍ يدور بين الوجود والعدم؟

    هذه هي شبهة المرجئة التي دخلت على ابن حزم رحمه الله ، ولا وجه لها ألبتة، لا عقلاً ولا شرعاً.

    فإنه يقال: إن التصديق -لاشك- يقابله التكذيب، لكن التصديق عند عامة العقلاء يتفاوت؛ فإن من صدق بشيءٍ بناءً على دليلٍ واحد ليس كمن صدق بهذا الشيء بناءً على عشرة أدلة، ومن صدق بشيءٍ بناءً على حديث يرى أنه حسن، وهو متردد في ثبوته، ليس كمن صدق بهذا الشيء وقد بناهُ على حديثٍ متواتر متفق على قبوله.

    أي: أن تعدد الأدلة يوجب اختلاف التصديق.

    وحتى لو كان الدليل من حيث الثبوت واحداً، كآيةٍ من القرآن؛ فإن نظر المخاطبين والمكلفين فيها يتفاوت تصديقه.

    مثلاً: قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] هذه الآية من قرأها من المسلمين يصدق بها، لكن لا يلزم أن كل من قرأها من العلماء والعامة يكونون على درجة واحدة في تصديقهم -هم ليس فيهم مكذب، هذه جملةٌ منتهية؛ لأن من كذب كفر- لأنهم في فقههم لمعناها وتأملهم فيها يتفاوتون، ومن هذا الوجه تفاوت إيمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، ومن غيره، كأوجه العمل الظاهر والباطن.

    والمقصود من هذا بيان أن التصديق يتفاضل؛ فإن مما لا شك فيه: أن تصديق أبي بكر بالنبوة والقرآن والحديث ليس كتصديق آحاد الفساق، مع أن الفاسق لا يكذِّب.

    ولهذا اعتبر الشارع أن تحقيق التصديق تحقيق لتمام التوحيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).

    قد يقول قائل: إن المسلمين يعلمون أنه لا إله إلا الله، إذاً أين وعيد أهل الكبائر؟

    هل نقول: إن هذا حديث مطلق قيّدته أحاديث الكبائر؟

    الجواب: لا؛ فإن الإطلاق والتقييد لا يستعملان في مثل هذه النصوص، والقول بأنهما يستعملان فيها غلط، ومع الأسف هذا الغلط شائع بين العلماء: المعاصرين والمتقدمين؛ لأنه غلب في تقرير مسائل الفقه والنظر في أدلة الشريعة الفقهية مسألة أن المطلق يحمل على ما يقيده، والعام يحمل على ما يخصصه، والعام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص، فصاروا يستعملون هذا في تقرير فقه نصوص الأصول، فصاروا يقولون: إن هذا مطلقٌ قيّدته أحاديث أهل الكبائر وما يلحقهم من الوعيد.

    وهذا الغلط فرع عن الغلط في استعمال الطرق النظرية والحدود والضوابط، وما إلى ذلك من الطرق التي كان المقصود منها تنظيم العلم وليس ذكر حقائق العلم؛ فإن حقائق العلم حقائق تستقرأ من كلام الله ورسوله، وقد ذم الله على أهل الكتاب أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والبدع إنما نشأت في الإسلام من أخذ بعض النصوص وترك بعضها.

    فالصواب: أن الحديث على ظاهره، ومعناه: أنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فإن عُدِم العلم الذي هو التصديق لم يدخل الجنة، وإن نقص علمه تأخر دخوله.

    فإذا قيل: لماذا لم يدخل أصحاب الكبائر الجنة ابتداءً مع أنهم يعلمون أنه لا إله إلا الله؟

    قيل: لن نخالف الحديث، هل هم يعلمونها على التمام؟

    الجواب: لا؛ لأنهم لو حققوا العلم لحققوا العمل، لكن لما نقص علمهم أمكن تأخرهم.

    ومما يدل على هذا أن الصحابة لم يستشكلوا شيئاً عندما حدث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، مع أن بعض الأعراب أو من أسلم حديثاً أحياناً كانوا يسألون عن بعض المشكلات، ولا يمكن أن يكون الصحابة لم يفقهوا المعنى ومع ذلك يسكتوا، كما يعتذر ويبرر بعض الناس هذا بقول أنس كما في الصحيح: (نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء)فإن الصحابة لم ينهوا عن السؤال عما يتحقق به إيمانهم، وإنما نهوا عن الاستفصال في أمرٍ قد سُكت عنه، كما هو في قوله تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]

    وأما ما يتحقق به إيمانهم وتصديقهم فلا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن ينهى الصحابة أو غيرهم عن السؤال عنه، بل هذا السؤال مما أمر الله تعالى به، كما في قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]

    وكذلك لم يستشكلوا عندما حدث النبي صلى الله عليه وسلم الناس بما قد يظهر على أنه مقابل لحديثه هذا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن مسعود -: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)إنما استشكل رجل فقال: (يا رسول الله! الرجل يحبُ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحبُ الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) فكان سؤال الرجل عن هذه المسألة اليسيرة يدل على أنه قد فقه المقصود بأصل الحديث، وأنه لا يراد به أن من في قلبه ذرة من كبر يحرم من الجنة على الإطلاق أو أنه يؤبد في النار.

    وسبب هذا الفقه أن الصحابة كانوا على قدرٍ من الاستقراء لفقه الإسلام، وهذا هو الذي ينصح طلاب العلم بتتبعه والقصد إليه.

    والمقصود من هذا: أن تمام العلم بتمام العمل.

    إذاً: من المسائل الأصول في مسمى الإيمان: القول في زيادته ونقصانه، والزيادة والنقصان تقع في مواردهِ الأربعة:

    1- في قول القلب الذي هو تصديقه، وقد خالف في هذا ابن حزم وطائفة من أصحاب أحمد والشافعي ، وبعض المنتسبين إلى السنة من المتأخرين، وقولهم مخالف لنص الإمام أحمد وغيره من السلف، بل هو مخالف لظواهر الحقائق الشرعية والعقلية، والتي تدل على أن التصديق يتفاضل.

    2- في أعمال القلوب، وهذا بيّن؛ فإن محبة المسلمين ورجاءهم لله وخوفهم منه سبحانه وتعالى ليس واحداً.

    3- في أقوال اللسان وفي أعمال الجوارح على قدرٍ مشهور معروفٍ مدرك بالبديهة.

    ومن المسائل الأصول: التلازم بين الظاهر والباطن، ومعناه: أنه إذا عدم الإيمان الباطن عدم الإيمان الظاهر، فمن أظهر شرائع الإسلام أو بعض خصال الإيمان كالصلاة وغيرها ولا باطن معه من الدين فهذا هو المنافق.

    إذاً: إذا عدم الباطن عدم الظاهر حقيقةً وليس حالاً، ومعنى: ليس حالاً: أي قد يظهر حالاً كما ظهر من المنافقين الذين يقع لهم صلاة أو زكاة أو حج أو ما إلى ذلك، ومع ذلك قال الله فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ [النساء:145]فهم كفارٌ بالكتاب والسنة والإجماع.

    وأما إذا عدم الظاهر فهل يعدم الباطن؟

    هذه المسألة فيها تفصيل ليس هذا محله، إلا أن من أسباب الإشكال فيها عند المعاصرين مسألة الحدود، والألفاظ المتأخرة -ككلمة "جنس العمل"- التي بدأت تحاط بها المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين.

    ويتلخص من هذا أن مسألة مسمى الإيمان تتضمن ثلاثة أصول:

    الأصل الأول: أنه قولٌ وعمل.

    وهذا ينتج عنه أن الإيمان من حيث المحل أربعةُ أصول:

    1- قول القلب، وهو تصديقه.

    2- عمل القلب.

    3- قول اللسان.

    4- عمل الجوارح.

    الأصل الثاني: أنه يزيد وينقص، وهذه اللفظة أفضل من لفظة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن كان تصديق القلب إذا تحقق سمي طاعة، لكن كلمة الطاعة والمعصية لما تأخر أمر الناس صارت تتبادر إلى الأعمال الظاهرة، ولهذا يقال: يزيد وينقص ظاهراً وباطناً.

    الأصل الثالث: التلازم بين الظاهر والباطن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755908103