السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة الإثنين الموافق الثاني عشر من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) للهجرة، وهذا هو الدرس الحادي والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، موضوع الدرس في هذه الليلة هو "نظرة في أحاديث الفتن".
أيها الإخوة: إن وموضوع هذه الليلة في غاية الأهمية:
وسوف أتناوله في عدة نقاط، أولها: ما هي الفتن؟
وما هو المقصود بها؟
وللفتن في القرآن الكريم والسنة النبوية معانٍ منها:
العذاب، فيقال: الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات:13-14] ذوقوا فتنتكم: أي: ذوقوا عذابكم.
ومن معاني الفتنة أيضاً: صرف الإنسان عن دينه، سواء كان هذا الصرف بالقوة والشدة والبطش، أو كان بالشبهات والشهوات والترغيب ونحوها، وهذا كثير في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217] وكما في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] وكما في قوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] وكما في قوله عز وجل: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس:83] أي: يصرفهم عن دينهم وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:73] يعني يصرفونك عنه إلى غيره وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49] أي: يصرفونك عن الدين والقرآن والوحي إلى شئ آخر غيره.
ومن معاني الفتنة: الزيغ والضلال والانحراف، سواء كان ذلك بالكفر والشرك أو بالمعصية مما دون الكفر والشرك، كما في قوله عز وجل: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14] فتنتم أنفسكم أي: أضللتموها، وكما في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7] وابتغاء الضلال، ابتغاء الانحراف، وكما في قوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] أي: زيغ فيهلكون، كما قال الإمام أحمد: لعله إن رد بعض قوله -أي: قول النبي صلى الله عليه وسلم- أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك.
وأخيراً: فإن من معاني الفتنة الابتلاء، والاختبار، والامتحان، كما في قوله عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3] ولقد فتنا الذين من قبلهم، أي: اختبرناهم وبلوناهم وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام:53] أي: ابتلينا بعضهم ببعض.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه |
فحذيفة رضي الله عنه عرف الشر لا للشر لكن ليتقيه ويحذر منه، ولذلك كان حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبير بالمنافقين، وأحوالهم، وأسمائهم، وأوصافهم، وكذلك كان العالم بالفتن، ولذلك جاء في الصحيحين أيضاً: { أن قال حذيفة: بل يكسر، قال: هذا حري ألا يغلق أبداً قال: نعم يدرى، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط
إذاً: الصحابة رضي الله عنهم كان من بينهم من يهتم بأخبار الفتن وأحوالها، ويتتبعها ويسأل عنها ليحذرها ويحذر الناس منها، ثم جاء بعد ذلك العلماء فصنفوا الكتب، كما فعل البخاري، ومسلم، وأبو داود، الترمذي، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم، فكانوا إذا ألفوا وجمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: كتاب الفتن، أو كتاب الملاحم وأشراط الساعة، ثم يذكرون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الفتن.
ثم جاء علماء آخرون فألفوا وصنفوا كتباً خاصة، حول أحاديث الفتن، وقد صنف في أحاديث الفتن جماعة كثيرة من أهل العلم، منهم: نعيم بن حماد، له كتاب مخطوط اسمه "الفتن والملاحمb/" ومنهم: حنبل بن إسحاق الشيباني، له كتاب اسمه "الفتن" وهو مخطوط أيضاً، ولا أدري أهو موجود أيضاً أم لا.
ومنهم أيضاً: أبو عمرو الداني، الذي صنف كتاباً أسماه "السنن الواردة في الفتن" وهو مخطوط.
ومنهم أبو الغنائم الكوفي، صنف كتابا أسماه "الفتن".
ومنهم الحافظ ابن كثير، له كتاب "النهاية في الفتن والملاحم" وقد يسميه بعض الناس (الفتن والملاحم) ومن هؤلاء كتاب "الملاحم" لـأبي الحسن بن المنادى، وهناك الكتب الواردة في أشراط الساعة، مثل: "الإذاعة فيما كان وما يكون بين يدي الساعة" لـصديق حسن خان، وكتاب "الإشاعة لأشراط الساعة" للـبرزنجي، وهناك كتب خاصة في أنواع معينة من الفتن.
فمثلاً: الدجال، هناك كتب خاصة في أحاديث الدجال، ككتاب "التصريح لما تواتر في نـزول المسيح"، وهناك أحاديث في عيسى بن مريم، وهناك كتب خاصة في المهدي قديمة وجديدة، هذه الكتب من كتب الملاحم ويذكرون فيها كثيراً من كتب الفتن، ومن الكتب المعاصرة وهى كثيرة كتاب "إتحاف الجماعة" وهو كتاب ضخم جامع للشيخ عبد الله بن حمود التويجري، "إتحاف الجماعة في أحاديث الفتن وأشراط الساعة" وهو كتاب ضخم جامع حاشد، جمع فيه كثيراً من الأحاديث الواردة في ذلك، وهناك كتاب جديد اسمه "مجموعة أخبار في الزمان وأشراط الساعة" للشيخ عبد الله بن سليمان المشعلي، من علماء هذا البلد، وهناك كتاب "أشراط الساعة" لـيوسف الوابل وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، قسم العقيدة في كلية الشريعة عام (1404هـ) إلى كتب كثيرة جداً في الفتن والملاحم وأحاديثها.
وتقل وتكثر؛ فليس هناك مكان في الدنيا معصوم من الفتن كلها، فقد يعصم مكان ما من بعض الفتن، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر مثلاً { أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، فعلى كل بلد منهما وأنقابهما ملائكة يحرسونهما، لكن يتزلزل البلد ويرجف ثلاث رجفات، فيخرج إلى الدجال كل منافق ومنافقة} فهذه البلاد معصومة من الدجال، لكنها ليست معصومة من الفتن الأخرى، فالفتن كثيرة.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى تلك البلاد (نجد) بلاد المشرق، وهى بادية العراق وما حولها، سماها النبي صلى الله عليه وسلم (نجداً) وذلك لارتفاعها، والنجد هو: كل ما علا وارتفع، تقول: أنجد فلان -أي: ارتفع- وكذلك أتهم: أي دخل في تهامة، وهكذا، فالنجد هو: المرتفع، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم بلاد العراق (نجد)، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال في الثانية أو في الثالثة: هناك الزلازل والفتن حيث يطلع قرن الشيطان } قال الإمام الخطابي رحمه الله: نجد من جهة المشرق، ومن كان بـالمدينة نجدة بادية العراق ونواحيها فصرح الإمام الخطابي بأن المقصود بـنجد: جهة المشرق، وهى بادية العراق ونواحيها.
خرجت من الكوفة والبصرة وما حولهما.
فمثلاً: الرافضة نشأتهم في العراق، وكان لهم فيها هيمنة وسيطرة وعلو وفساد في أزمنة كثيرة وإلى يومنا هذا، وهم يشكلون كثرة فيها.
وكذلك المعتزلة الذين ألَّهُوا العقل وحكَّموه وعبثوا بالنصوص وخربوا عقول الأمة، وعبثوا بها أيضاً، خرجوا من البصرة وما حولها.
وكذلك الخوارج أين كان ظهورهم وانتشارهم؟
من العراق، ولذلك لما جاءت المرأة إلى عائشة رضي الله عنها، وقالت: [[ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت لها
إذاً الخوارج والرافضة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة إنما خرجت من العراق وانتشرت منه إلى أنحاء بلاد الإسلام، وهؤلاء أصحاب الفتن الاعتقادية كان لهم -باستثناء المعتزلة- كان لهم وجود عسكري وقوة، فكانوا يقاتلون، مثل الخوارج، أقلقوا الخلافة الإسلامية زماناً طويلاً، وكان لهم دول في بلاد المغرب وما حولها، وأزعجوا المسلمين أيما إزعاج، وكانوا أهل بأس ونجدة وشدة وقوة، وتأريخهم معروف:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعِ |
فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعِ |
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع |
ويقول آخر منهم:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف |
ولكن أَحِنْ يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف |
عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله زالون عند التزاحف |
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف |
فـالخوارج كانوا أهل قوة وشجاعة وبأس ونجدة، وكان ظهورهم من العراق، وأقلقوا راحة المسلمين إقلاقاً عظيماً، فكلما تجمع عشرة منهم قاموا بثورة ضد الخلافة وحاربوا الجيوش؛ وقد ينتصرون على أضعافهم بما تميزوا به من القوة والشدة، وهذا معروف شأنهم.
وهكذا كان، فإن أهل العراق لما جاءهم الحسين رضي الله عنه تخلوا عنه، وخذلوه في كربلاء حتى قتل شهيداً رضي الله عنه، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين نام مرة ثم استيقظ وهو يبكي، فقالت له أم سلمة: يا رسول الله! ما يبكيك؟ قال: {أُريت مقتل ابني هذا -وكان عنده فأشار إليه- وأوتيت بتربة من تربته حمراء}.
أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب |
فقتلوا حسيناً رضي الله عنه، والغريب في الأمر أنهم بعد ما قتلوه صاروا يقيمون المآتم في مثل ذلك اليوم حزناً على قتله، ويضربون وجوههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما فعلتم بأنفسكم المهم أنهم تسببوا في قتل الحسين رضي الله عنه، وتخلوا عنه وخذلوه أيما خذلان.
ولذلك لما جاءوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه يسألونه عن قتل المحرم للبعوضة؟ قال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أجرأكم على الكبيرة وأسألكم عن الصغيرة، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسألون عن البعوضة! الذي قتل الحسين لا يحتاج أن يسأل عن البعوضة.
وكذلك هذه الفتنة التي يعيشها المسلمون اليوم فإنها جاءت من قبل تلك البلاد.
فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم واقع لا محالة، وأقل البلاد فتناً وأكثرها اطمئناناً وأبعدها عن القتل والقتال وسفك الدماء، تلك المواطن التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من مواطن الإسلام، وذلك كـبلاد الشام وبلاد اليمن والجزيرة العربية بشكل عام وخاصة أرض الحجاز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه المواطن أنها من الأماكن التي يفيء إليها الإسلام ويرجع إليها، وحين تتحقق الغربة يكون الإسلام في مجمله ومعظمه في تلك البلاد، وهذه ليست قاعدة مطردة، فقد يكون بلد من هذه البلاد يوماً من الأيام تغلب عليه أهل الشر والفساد، وحكموه كما حكمت النصيرية والشيوعية، وكما حكمت أديان وملل ومذاهب، لكن العبرة بالغالب، فلا يشكل على الإنسان أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجد وقت من الأوقات حكم فيه بعض هذه البلاد قوم غير مؤمنين، أو حكمت بغير ما أنـزل الله عز وجل، فالعبرة بغالب الأحوال.
والفتنة قد تكثر في زمان وتقل في زمان، أما بدايات النقص فهي قديمة جداً، بداية النقص وظهور الفتن قديمة جداً.
فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن انتهاء القرون الفاضلة يعتبر من بدايات النقص التي تلم بالمسلمين، ومع هذا كله فإن الخير في الأمة كثير وسوف أشير إلى شيء من ذلك فيما يأتي.
أيهما الذي تُعبِّدنا بالعمل به
؟ لقد تعبدنا بالعمل بالشرع، لا بالعمل بالقدر، فقد نجد شيئاً نهى الله تعالى عنه في كتابه ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أخبر الله تعالى أو أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر سيقع، فنحن لا علاقة لنا بكونه سيقع أو لن يقع، إنما علاقتنا أن نحمي أنفسنا من هذا الأمر ونجاهد وننهى غيرنا عنه، أما وقوعه أو عدم وقوعه فهو أمر إلى الله عز وجل.
مسلم
في صحيحه لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساءثوبان
، وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند جيد، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فالتشبه بالمشركين لا يجوز مطلقاً، سواء اليهود أو النصارى أو عبدة الأوثان أو غيرهم، فيما هو من خصائصهم سواء في أعمالهم أو في أمور السياسة أو في أمور الاقتصاد أو في أمور السلوك أو في الأخلاق أو في الأفكار، لا يجوز التشبه بهم بحال من الأحوال، ومع ذلك فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التشبه سيقع، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومثله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فجحر الضب لا يوجد أضيق منه، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لو حصل أن اليهود والنصارى دخلوا جحر ضب، فإنكم ستحاولون أن تدخلوا جحر الضب وراء اليهود والنصارى! {قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!} أي: ليس هناك إلا هم: اليهود والنصارى، وفي الحديث الآخر {لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إنه لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك} الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية، إن الإنسان يستحي أن يتحدث بهذا أمام الناس، فضلاً عن أن يأتي زوجته، فكيف بمحارمه؟
فكيف بأمه؟
والعياذ بالله، لو وجد في الأمم الأخرى من يصنع ذلك لوجد في هذه الأمة من يصنع ذلك، {قالوا: يا رسول الله! فارس والروم، قال: من القوم إلا أولئك}.
إذاً: اليهود، النصارى، الروم، فارس وغيرهم من الأمم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك نوعاً من التشبه سوف يقع، فلا تعارض، نقول: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم سيقع لكن نحن مطالبون ومتعبدون بأن ننهى عن التشبه، نمتنع منه في نفوسنا، نمنع أولادنا وزوجاتنا وأهل بيتنا ومن نملك، نحذر الناس من هذا الأمر، نؤلف الكتب ونلقى المحاضرات ونتكلم عن هذا الأمر، ونبين للناس خطورته، ثم لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون من هذه الأمة من لا يسمع لنا، لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون في هذه الأمة أصحاب الفكر المستغرب، من الذين تربوا على موائد الشرق والغرب، وأعجبوا بالمفكرين الغربيين من اليهود والنصارى فحذوا حذوهم وصاروا على نهجهم، وصاروا يعظمونهم ويعتبرون أن هؤلاء هم المفكرون الحقيقيون، وأن الحياة تفهم من خلال أفكارهم، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد من أعجب بالأدباء والشعراء الغربيين، وليس المقصود مجرد الإعجاب بأدبهم وتشعرهم بل الإعجاب بشخصياتهم وحياتهم، فصار يحاول أن يعيش وفق ما عاشوا حتى لو كانوا يعيشون في تعاسة وشقاء لأعجبه أن يعيش في هذه التعاسة والشقاء، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: { حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه }.
فإذا كان الغرب يعيش في شقاء وجحيم ونسب الانتحار والتدمير نسب مرتفعة، أعجب كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام ممن تربوا على موائد الغرب أن ينقلوا إلينا تعاسة هؤلاء الغربيين ويحاولوا أن يدخلوها في هذه الأمة، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد في الأمة من ينقل القوانين الغربية ويحكمها في دماء المسلمين أو أموالهم أو أبشارهم أو أخلاقهم، لا يضيرنا ذلك مادمنا قمنا بما يجب علينا من التحذير من ذلك، والنهي عنه وبذل ما نستطيع في منعه، وقمنا فيما يتعلق بأشخاصنا ومن نملك بالمنع من هذا الأمر، فإن الإنسان متعبد كما بالشرع واتباعه لا باتباع القدر، ولا يقعد هذا الأمر من هممنا؛ فإننا نعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس عاماً، لهو لم يخبر أن الأمة كلها سوف تتبع اليهود والنصارى، بل أخبر أن من الأمة من يفعل ذلك فئام من أمته، طوائف من أمته ومعنى ذلك أنه لا يزال في هذه الأمة فئام وطوائف أخرى كثيرة بقيت على الدين الصحيح، ولم تقبل لا ما كان عند اليهود ولا ما كان عند النصارى ولا فارس والروم ولا غيرها، بل رضيت بمنهج الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أننا سوف نقاتل المشركين -واليهود من المشركين- على نهر الأردن نحن على شرقيه وهم على غربيه، حتى إن آخرنا وبقيتنا يقاتلون المسيح الدجال، وذلك فيما بعد والراوي يقول: أنقل الحديث وأنا يومئذٍ لا أدرى أين يكون الأردن، لكن أنقل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيا سبحان الله! انظر: الآن اليهود يتجمعون لتحقيق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يثلج صدر كل مؤمن بحيث يقطع قطعاً جازماً لا شك فيه ولا ريب في تحقيق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لنا مع اليهود جولة قادمة منتصرة، فنقول: يا معشر اليهود! اصنعوا ما بدا لكم، وألَّبوا واجمعوا وتنادوا واصنعوا، فإن جيش محمد صلى الله عليه وسلم سوف يعود.
فالمقصود من هذا الحديث الذي ذكرته فقط للتنبيه، لكن موضوع قتال المسلمين لليهود، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حين نعلم بهذا الحديث هل يسرنا -مثلاً- أن اليهود احتلوا فلسطين وما حولها، أبداً لا يسرنا ذلك، أي مسلم لا يسره بأن تقع البلاد التي بارك الله حولها في أيدي اليهود؟! أيُّ مسلم يسره ذلك؟!
على منابت تاريخ وأرض هدى من الرسالات ذات الجدر والسمق |
على الخليل وكم ضاءت منائرها في المسجد الحرم الأقصى من اليفق |
على منابت قدس المجد باركها وحولها الله وهى اليوم في الربق |
مسرى الرسول وأولى القبلتين بها واحر قلباه ماذا للفخار بقي |
عيناي عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيثما يممت من أفق |
مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تدوي وعهدي بها مرفوعة العنق |
ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق |
واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق |
وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق |
لو استطاع لألقى نفسه حُمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق |
وظلت الكعبة الغراء باكية وغم كل أذان غمة الشرق |
وقائلين:يهود قلت:واحربا أجل! يهود يهود الذل والفسق |
يا نائمين انظروا فالله من أزل أرسى نواميسه في الخلق كالفلق |
هم حاربونا برأي واحد عددٌ قِلٌ ولكن مضاء ثابت النسق |
يحدوهم أمل يمضي به عمل ونحن وا سوأتا في ظلة الحمق |
زاغت عقائدنا حارت قواعدنا أما الرءوس فرأي غير متفق |
البعض يحسب أن الحرب جعجعة والبعض في غفلة والبعض في نفق |
إذاً: لا يوجد مسلم يسره أن ينتصر اليهود أو يحتلوا فلسطين ليتحقق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يسرك أن تقرأ في الصحف اليوم أن مئات الألوف من اليهود يهاجرون من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل؟
وتقول: الحمد لله هم يتجمعون حتى نقتلهم؟
كلا، لا يسر المسلم بذلك.
هل يسرك ما تقرأ في الأخبار والصحف والتقارير من التقنية الهائلة، والتقدم العلمي، والقوة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية والحضارية التي تتميز بها هذه الدولة، التي هي شوكة في جسم الأمة؟!
كلا والله، فإن كل مسلم يسوءه ذلك ولا يسره.
لكن إذا حزن لذلك واغتم له وامتلأ قلبه غيظاً وهماً وكمداً حتى كاد الأمر أن يؤول به إلى اليأس، قلنا له: لا تيئس: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنهم وإن فعلوا ما فعلوا إلا أن لنا معهم جولة نحن فيها المنتصرون بإذن الله عز وجل، وهذا ما قاله لك رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذاً نحن متعبدون بكراهية هذه الأعمال كلها، كراهية تجمع اليهود، إن الله تعالى يكرهه فنحن نكرهه أيضاً، وهذا الذي تُعبِّدنا به هذا الشرع، نحن متعبدون بالحزن لهذا الأمر، ومتعبدون بكراهية القوة التي يملكون، كراهية مجيئهم من أقاصي الدنيا إلى فلسطين، كل ذلك نحن نكرهه، ونحن متعبدون بذلك، بل نحن متعبدون بالحزن، فإن الحزن الذي تحزنه إذا سمعت بأخبار اليهود وتقدمهم وتجمعهم من كل مكان، هذا حزن محمود تؤجر عليه بإذن الله عز وجل.
ولو كان لك قوة أو تأوي إلى ركن شديد، لكان يجب عليك أن تبذل ما في وسعك لمنع هذا الأمر، فلو أننا نحن المسلمين نملك قوة إعلامية، أو قوة اقتصادية، أو قوة سياسية، أو قوة عسكرية نستطيع بها أن نمنع مجيء اليهود من الاتحاد السوفيتي أو من بلاد أوروبا إلى فلسطين، لوجب علينا أن نستخدم هذه القوة الإعلامية، أو الاقتصادية، أو غيرها في منعهم.
إذاً: كان يجب أن نبذل ما نستطيع في ذلك، لكن إذا لم نستطع نقول لهم: لا بأس، انتظروا فهناك يوم قادم سوف يفصل الله تعالى بيننا وبينكم وهو خير الفاصلين.
الشرع أن الله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إذاً: فالله أمرنا بالوحدة والاعتصام بحبله وعدم الافتراق يقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ [الأنعام:159] ويقول سبحانه وتعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ومنها: أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.
فالقرآن والسنة "الشرع" يأمرنا بالتوحيد والوحدة وأن نجتمع على كلمة الله عز وجل، فيجب أن نسعى للوحدة بين المؤمنين، وتوحيد الكلمة وجمع الصف على الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة، وأن نبذل جهدنا في هذا بقدر ما نستطيع، ومع ذلك فعندنا يقين وقناعه، راسخة أنه مع جهدنا وتضحيتنا وبذل ما نستطيع مع ذلك كله، فإننا نعلم أن ما نبذله له ثمرة طيبة، ولكن لن يكون من ثمرته أن الأمة كلها تجتمع على عقيدة واحدة، وعلى مذهب واحد، وعلى حكم واحد، وعلى رأي واحد في كل شئ، هذا لن يكون والله تعالى أعلم، إنما نحن نبذل ما نستطيع، وهذا هو الشرع الذي تعبدنا به، أما القدر الذي سيقع فهو أمر إلى الله عز وجل ليس لنا منه شيء.
إذا هذه قاعدة مهمة، مهمة، مهمة -أقولها ثلاثاً- وهى: أنه يجب أن نفرق بين الشرع والقدر، لقد أخبر الرسول عليه السلام أن فتناً ستقع وأمرنا بأمور، فنحن نأتمر بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أما وقوع الفتن وعدم وقوعها فهذا أمر آخر لسنا منه في شيء.
فالجهاد شريعة ماضية بإجماع المسلمين، هذا أصل ليس فيه خلاف، لكن هناك استثناءً من هذا الأصل، ما هو الاستثناء؟ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً من الأيام لأصحابه: {كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس} يغربل الناس غربلة: أي ينخلون نخلاً فيذهب الطيب ويبقى الخبيث، ويبقى حثالة من الناس، والحثالة: هي الوسخ الذي يكون في أسفل الإناء، بعدما يشربه الإنسان تبقى فيه حثالة { تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه هكذا، فقال له قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم
المهم في هذا الحديث أن الرسول عليه السلام ذكر أنه إذا كانت الفتن واختلف الناس ومرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا، أَقْبِلْ على أمر خاصتك، على نفسك وزوجتك وأولادك وقراباتك، واترك أمر العامة، هذا مثال، ومثال آخر في الباب نفسه حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن أبا أمية الشعباني قال لـأبي ثعلبة الخشني: ماذا تقول في تفسير الآية؟
قال له أبو ثعلبة: أي آية؟
قال له: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] قال له: لقد سألت عنها خبيراً، سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: {بل ائتمروا بالمعروف، وتناهو عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأىٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبضٍ على الجمر، للصابر فيهن أجر خمسين يعملون مثل عمله، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم، قال: بل منكم} والحديث رواه الترمذي وصححه ورواه ابن ماجة والحاكم وصححه أيضاً ورواه البيهقي في شعب الإيمان وغيرهم، والحديث له شواهد يصح بها.
إذاً: في حديث عبد الله بن عمرو وأبي ثعلبة ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة صفات، إذا وجدت في شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، ففي ذلك الوقت أي مؤمن صادق يسعه أن يترك الناس ويقبل على نفسه، لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر، ولا تتعلم، ولا تجاهد، ولا ولا، لكن متى يحدث هذا؟
الحديثان ذكرا لنا مجموعة صفات أذكرها لكم باختصار:
ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في نـزع الأمانة من قلوب الناس، وقال في آخره أن حذيفة رضي الله عنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حتى إنه ليقال: إن في بني فلان رجلا أميناً} أي: أن الناس كلهم ليس عندهم أمانة، حتى أصبحت القبيلة بأكملها ليس فيها أمين إلا واحداً، فالناس يتكلمون، فيقول أحدهم: سبحان الله! قبيلة كذا فيها فلان، رجل أمين، البلد الفلاني قد يكون سكانه مليون أو أكثر فيه فلان رجل أمين، أما البقية فقد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا.
وكل يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر له بوصل |
وضاعت الأمور فلا ندري من نصدق، ولا ندري الصواب من الخطأ، ولا ندري ولا ندري، فيأتي إنسان فيصور الواقع الذي يعيشه ويطبقه على هذا الحديث، نقول له: لا، رفقاً، انتظر قليلاً.
أنا لست أنكر أن هذه الأمور كلها يوجد شيء منها الآن، خذ على سبيل المثال: الإعجاب بالرأي، والله الذي لا إله غيره إنني أشهد أنك إذا سمعت حديث بعض الناس في مجالسهم أو في غير ذلك، تقول: سبحان الله! هذا إعجاب كل ذي رأي برأيه، يتكلم الواحد منهم عن قضية شرعية مختلف فيها، فالعلماء اختلفوا فيها، والصحابة اختلفوا فيها، والأمة اختلفت فيها، فيقرر رأيه وقوله حتى كأنه حق وما سواه باطل، حتى كأنه أتاه وحي بأن هذا الأمر حق وهذا الرأي حق. وهذا من إعجاب المرء برأيه، حتى إنك تجد الإنسان والعياذ بالله قد يكون -أحياناً- عنده رأي خطأ وفاسد وباطل، ومع ذلك يتعصب لهذا الرأي، وتتشبع به نفسه، ويمتلئ به قلبه، حتى إنه إذا وجد من يخالفه في هذا الرأي يغضب ويكاد يتمزق من الحسرة، وربما من الغيرة والغضب لله وللرسول أيضاً، لكن تلبس عنده الإعجاب بالرأي بما يعتقد أنه حق وشرع وصحيح.
لكن هذا ليس عاماً فما زال في الأمة بحمد الله؛ من الكبار والعلماء، وطلاب العلم، والعامة من لا تجده معجباً برأيه، قد يعتقد برأيه فإذا ناقشته فيه قال: جزاك الله خيراً، والله قد أصبت، وما ظاهرة رجوع الناس إلى مذهب أهل السنة والجماعة واعتقادهم به وتخليهم عن كثير من البدع، إلا دليل على ذلك، ومظاهر تراجع كثير من الناس عن المذاهب الفاسدة المادية من اليسارية والقومية والناصرية والشيوعية ومجيئهم إلى الإسلام إلا دليل على ذلك، وما رجوع بعض العلماء عن أقوالهم إلا دليل على ذلك.
فالعالم قد يقول لك: من كنت أفتيته بكذا فليرجع إليَّ؛ فأنا رجعت عن قولي وتبين لي أن ما قلته له خطأ وأن الصواب كيت وكيت، وهذا دليل على أنه لا يوجد عنده إعجاب بالرأي، وإلا لتمسك برأيه وما تراجع عنه.
إذاً، الإعجاب بالرأي موجود لكن لم ينتشر في الأمة بحيث أن الأمر وقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي -كل من ألفاظ العموم- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} ما زالت الأمة في خير كثير.
إذاً: هذه الصفات السبع إذا وجدت أستطيع أن أقول لكم: لا تأمروا بالمعروف ولا تنهوا عن المنكر، لماذا؟ لأنه لا فائدة من الأمر والنهى، ما دام أن كل واحد معجب برأيه، والهوى متبع، والدنيا مؤثرة، والشح مطاع، وهؤلاء القوم صاروا حثالة ومرجت أماناتهم وعهودهم واختلفوا وصاروا هكذا، إذا تحقق (100%) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ لا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع للمصلحة، وما دام لن يتحقق الامتثال فلا فائدة، فنقول للآمر حينئذٍ. -إذا وجد هذا- أمسك عليك نفسك، أمسك لسانك واحفظ نفسك، حتى لا تصاب بأذى وتتعرض لاضطهاد، أو تضييق، أو إزعاج، أو تؤذى في نفسك، أو أهلك، أو ولدك، أو مالك، أو أصحابك، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر.
لكن متى يتحقق هذا؟
أو متى نحكم على واقع معين بأنه قد تحقق فيه هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟
وأريد أن أشير إلى أن أصول الأحداث وبداياتها كانت موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة في الحديث السابق -حديث نـزع الأمانة- قال: [[ولقد مر علي زمان ما أبالي أيكم بايعت]] -ليس عندي مانع أي واحد أبيع له ولا آخذ منه المال- يقول: إن كان مؤمناً يرده علي إيمانه وإن كان كافراً يرده علي ساعيه فالأمور مضبوطة إذا كان مسلماً يرجع لي بالمال، وإذا كان غير مسلم فالجهات المسئولة تحفظ لي مالي، هكذا ثم يقول حذيفة: [[أما اليوم فما أبايع إلا فلاناً وفلاناً وفلاناً]] ذكراً أناساً معدودين هم الذين يبايعهم، أما البقية فلا يبايعهم.
إذاً: البدايات موجودة منذ عهد الصحابة، لكن متى تحقق الأمر الذي يجعلنا بمنجاة، ويبيح لنا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هل تحقق هذا؟ كلا، لم يتحقق هذا، ومازلنا مطالبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فيما مضى وفي الوقت الحاضر أيضاً.
فالبداية وجدت منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم كما ذكر حذيفة رضي الله عنه، وأما فيما عدا ذلك فإن كل عالم في عصره يخيل إليه أن الأمر يوشك أن يكون.
فمثلاً: أذكر أن ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري وهو فقيه مالكي، لما تكلم عن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويكثر الزنى....}إلى آخر الحديث، قال ابن بطال رحمه الله: جميع ما تضمنه هذا الحديث من أشراط الساعة رأيناها عياناً، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقي الشح، وعمت الفتن، وكثر القتل إلى آخر الحديث. وعقب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: إن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله يعني وجود الشح مع وجود الكرم، ووجود الجهل مع وجود العلم، ووجود القتل مع وجود الأمن، ولم يكن أمراً عاماً. قال ابن حجر: وقد مضى على الوقت الذي تكلم فيه ابن بطال ثلاثمائة وخمسون سنة والأمور في ازدياد.
ومن الطريف أن الخطابي في كتاب "العزلة" روى حديثاً عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: [[إنها كانت تتمثل بهذه الأبيات- تقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
]] يتحدثون مخافة وملاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشرب
أي: أنهم قوم يكثرون من الكلام، ويحاولون أن يخطِّئوا الآخرين وإن لم يكونوا مخطئين، هكذا تقول عائشة رضي الله عنها، تقرأ هذه الأبيات وهي للبيد، فتقول عائشة رضي الله عنها: [[ويح
يقول عروة بعدما روى الحديث: [[كيف لو بقيت
بعد هذا يقول هشام بن عروة: [[كيف لو أدرك أبي - ولما قالوا لسلمة بن شبيب وهو أحد رواة الحديث أيضاً قالوا له: يا أبا الفضل! كيف تقول أنت؟! فعروة تكلم وهشام بن عروة تكلم وعائشةتكلمت، وأنت كيف تقول؟! تقول: كيف لو عاشوا -قال: ما عسى مثلي أن يقول! أنا أقول: "على رأسي التراب"
أنا لا أقول: كيف لو عاش فلان؟
أنا أقول: التراب على رأسي؟
أي: كأنه رضي الله عنه يقول: أنا أذم نفسي وأوبخ نفسي ولا أتكلم في الآخرين.
فهذا محمول منهم على الزراية بأنفسهم وواقعهم وذمه، ولا يلزم أن يكون هذا دليلاً على تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يريد أن يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو تحقق في هذا الوقت يلزمه أن يراعي ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ألاَّ يحكم إلا إذا تحققت فيه الشروط، هل هو عالم بالشرع مثلاً؟ إذا لم يكن عالماً بالشرع فليس من حقه أن يحكم، وإلا فبعض الجهال قد يرى هذا الوقت، فيقول: أبداً، الواقع ممتاز، ونحن في أحسن حال، بل إن بعض المنحرفين قد يخيل إليه أن الأمة ما مرت في زمن أحسن من تلك الأزمنة التي يعيش فيها؛ لأنه يقيس الأمور ليس بمقياس الشرع بل بمقياس الهوى، مقياس الدنيا، فلا بد أن يكون الذي يحكم على الواقع عالماً بالشرع، ولا يكفي العلم بالشرع -أيضاً- فقد يكون عالماً بالشرع لكنه غير عالم بالواقع، لا يدرى ما الناس عليه، فإذا كان من البيت للمسجد ما رأى منكراً في حياته قط، يقول: والله الأمور -والحمد لله- جيدة، لكن لو أخذته مرة في رحلة وذهبت به إلى أحد الأسواق، أو الحدائق، أو غيرها فرأى من المنكرات لربما فقد وعيه من شدة ما فوجئ به. فلا بد من العلم بالشرع مع العلم بالواقع، أن نعرف الواقع.
وهناك صفة أخرى، وهي: أن يكون الإنسان فيه اعتدال بطبعه، فبعض الناس حاد المزاج ينظر إلى الجانب المظلم، مثل ما يقال في المثل: لو أتيت بكأس نصفه فارغ ونصفه الآخر ممتلئ بالماء، فتأتي به لإنسان فتقول له: صف لي هذا الكأس؟
فيقول لك: هذا الكأس، نصفه فارغ، فهو نظر إلى الفراغ الموجود في الأعلى، فقال: نصفه فارغ، وهذه نصف الحقيقة.
وتأتى لإنسان آخر، فتقول له: صف لي هذا الكأس؟
فيقول لك: هذا الكأس نصفه ممتلئ، فهو نظر إلى النصف الممتلئ.
وتأتي لإنسان ثالث، فيقول لك: كلاهما أصاب هذا وصف شيئاً وهذا وصف شيئاً آخر.
إذاً: قد تأتي لإنسان عنده نوع من النظرة التشاؤمية للواقع، فيقول لك: الواقع فيه كذا وحصل من تبرج النساء وفساد الشباب وضياع الأمور، وكذا وكذا، فيذكر لك سلسلة وقائمة من الانحرافات، حتى يخيل إليك أن الدنيا كلها رقعة سوداء وليل مظلم.
وقد تأتي لإنسان آخر فيقول لك: يا أخي بالعكس المساجد ملئا والدروس يحضرها جماهير غفيرة، والكتب فيها والأشرطة فيها والحمد لله، وإقبال الشباب وتحجب الفتيات ويذكر لك الجانب المشرق، فنقول: كلاهما وصف بعض الواقع، والواقع فيه هذا وفيه هذا.
ولذلك حتى في الماضي عندما تقرأ مثلاً كتاب الأغاني لـأبي الفرج الأصفهاني، يخيل إليك أن الواقع الذي كان يعيشه ويتحدث عنه واقع والعياذ بالله كله واقع زنى ولواط وفجور وفساد وغناء، لماذا؟
لأن الرجل يتكلم في أوساط من الفنانين والأدباء والمغنين، أوساط سيئة منكرة يتحدث عنها، لكن عندما تذهب إلى كتب الجرح والتعديل وكتب الحديث وكتب التاريخ تجد جانباً آخر مشرقاً.
إذاً: ينبغي أن يكون الذي يحكم على الواقع ممن وهبه الله تعالى بفطرته وطبيعته اعتدال وتوازن، وانضباط، بحيث لا يكون من الناس الذين عندهم شدة عاطفة أو قسوة تجعلهم ينظرون إلى جانب واحد فقط، ويغفلون عن الجانب الآخر، فلابد من توافر هذه الشروط فيمن يحكم:
أولاً: العلم بالشرع.
ثانياً: العلم بالواقع.
ثالثاً: الاعتدال الفطري في النظر.
النقطة الثانية: أن الأمور تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، فمن الممكن أن تجد بلداً من البلاد يوماً من الأيام شاع فيه الفساد وعم وطم وغلب، حتى أصبح يقال للإنسان: اليوم ما أمامك إلا السكوت ولزوم البيوت، لماذا؟ قال: والله الآن إن تكلمت تضررت وما نفعت فاسكت، الزم بيتك وكف عليك لسانك. وبعد ذلك بزمن تأتي على البلد نفسه أمور جيدة فقد تحسنت الأمور وصلحت، وأصبحت الأحوال جيدة، وأصبح الإنسان مطالباً بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله عز وجل، فيختلف الأمر من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.
النقطة الثالثة: وهو أنه إذا التبس عليك الأمر فارجع للأصل، فقد سبق أن ذكرت أن الأصوب للإنسان أن يختلط بالناس إن كانوا جيراناً أو أقارب أو والدين، أو يصلي مع الجماعة، أو يحضر الجنائز ويتبعها، ويعود المرضى إلى غير ذلك من الأمور التي هي من حق المسلم على المسلم، هذا هو الأصل، فإذا جاء أحدهم وقال: الزمن قد فسد وأنا لن أعود مرضى ولا أتبع جنائز ولا أزور أقارب، لماذا؟
قال: فسد الزمان، نقول: يا أخي إن الزمان فيه خير وشر، والأصل أن هذه الأمور كلها واجبة عليك ولا تخرج من عنقك إلا بعد أن تتيقن يقيناً لاشك فيه بأن الأمور وصلت إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ يسعك، ولا تحكم بنفسك؛ بل اذهب إلى أهل العلم الكبار الذين تدين الأمة برأيهم وسلهم عن مثل هذه الأمور، أما أن تأخذ بنفسك، فلا، فالأصل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب أن يختلط الإنسان بالناس في حدود إقامة وأداء الحقوق المطلوبة لهم، وما أشبه ذلك، ولا تنتقل عن هذا الأصل إلا بيقين.
فكثير ممن يتكلمون في الفتن لا يتقنون إلا الأحاديث التي تدل على اليأس.
مثلاً: إذا تكلم أحد في الفتن أو سمع كلاماً حول أحاديث الفتن تبادر إلى ذهنه، حديث أنس رضي الله عنه: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم} سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، والحديث لاشك فيه صحيح رواه البخاري أو حديث: {لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً} أو حديث: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أكل أمن حلال أو من حرام} هذا في صحيح البخاري. فيدب اليأس إلى نفوس الناس، وكأن القائل منهم يقول: هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع وآل الأمر إليه، فلا فائدة، ولا حيلة، ولا داعي لأن نقوم نحن بواجبنا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، والجهاد، وغير ذلك؛ لأن الأمور قد انتهت وهذا فيه عدة أخطاء:-
محمد بن عبد الوهاب
جاء إلى بلادعمران
} هو الذي عليه الصلاة والسلام قال: كما في حديثأنس
وهو حديث صحيح: {ومنها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الصابر من هذه الأمة على دينه له أجر خمسين يعملون مثل عمله من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم} ومع ذلك يجب الاعتدال، فحينما نقول هذا لا نعني أننا ننتظر رجالاً كرجال القرن الأول يظهرون بيننا! كلا، يجب أن ننظر نظرة واقعية، وندرك أن كل عصر له رجاله، وليس صحيحاً أن نطلب المحال بحيث إذا قيل للإنسان: أين العلماء؟
قال: في "ثلاجة" وهي مقبرة معروفة بـبريدة، هذا صحيح "ثلاجة" فيها علماء لكن أيضاً -الحمد لله- الأمر كما قال الأول:
إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول |
فالأمة فيها خير كثير، وفيها علماء فطاحل جهابذة يستسقى بدعائهم المطر من السماء، ويتعبد لله تعالى بسؤالهم وفتياهم واتباعهم وطاعتهم فيما بلغوا من دين الله وشرعه، وهم أئمة وقفوا أنفسهم على هذا الدين، وهناك طلاب علم كثيرون، نذروا أنفسهم لهذا العمل.
ليس صحيحاً أن أرحام النساء عقمت فلا تلد! ليس صحيحاً أن نتصور أن الأمة -مثلاً- بعد شيخ الإسلام ابن تيمية انتهت؛ صحيح أن ابن تيمية علم راسخ ربما لم يأتِ بعده مثله، بل أجزم أنه لم يأتِ بعده مثله، لكن مع ذلك هناك رجال كثير في هذه الأمة، هناك علماء، وهناك جهابذة، وهناك مصلحون، وهناك دعاة، وهناك مجاهدون، وهناك أئمة، بل إنني أقول: إن الأمة نفسها تشارك في صناعة هؤلاء الأئمة، فإن العالم إذا كان في وسط قوم يعظمونه ويقدرونه ويوقرونه ويعرفون له قدره، فإن هذا يزيد من ارتفاعه ومكانته كما قال أحدهم: إنما عَظُمَتْ بصغار عظموك.
فالعالم إذا أحاط به الناس وأخذوا عنه وقدّروه وبجلوه واحترمته الخاصة والعامة، وأصبح له مكانته، فليس من السهل أن يخطئه أحد أو يعارضه أحد أو يقف في وجهه أحد، لكن إذا كان هذا العالم مركوناً لا يلتفت إليه أحد أصبح في الأمة مثل الذهب الذي في معدنه لم يعلم به أحد، فالأمة هي التي تشارك في صناعة العلماء والقادة والدعاة وإعدادهم وإخراجهم، فينبغي ألا نقوم دائماً بلوم الآخرين وننسى الدور الذي كان يجب علينا أن نؤديه.
فمثلاً: بعض الأحاديث تتكلم بذم الناس "ذهب الناس وبقي النسناس"، "رأيت الناس أخبر ثقله"، "بعد مائة سنة لا يبقى مولود لله فيه حاجة" مثل هذه الأحاديث لا تصح، لكن بعض الناس يفرحون بها، من أجل يعرض عن الناس ويتركهم ويقول: هؤلاء الناس لا خير فيهم ولا تلتفت إليهم، هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فيعتمد على أحاديث ضعيفة أو موضوعة في ذم الناس.
وإذا انتقل إلى العلماء بدأ يذم العلماء وينتقص منهم، ويقول: هؤلاء لم يفعلوا ولم يفعلوا وفيهم وفيهم، ثم يذهب يستأنس بحديثين أو ثلاثة أحاديث موضوعة، في ذم أهل العلم وأن من أهل العلم من يمسخ في آخر الزمان قردة وخنازير، وأنهم يتعلمون العلم لغير وجه الله تعالى... وإلى آخره، فيستشهد ويستأنس بهذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في الحط من أقدار علماء عصره، ولا نشك أن هناك أحاديث صحيحة في هذا الباب؛ وهناك علماء ينطبق عليهم الكلام، لكن ينبغي أن توضع هذه الأمور في مواضعها.
هناك -مثلاً- من يترك الزواج ويترك إنجاب الأولاد، فتقول له: لماذا؟
يقول: هذا الزمان زمان مظلم، الولد تتعب فيه لا تدري كيف يتربى؟
ولا تدري، ولا تدري، ثم يأتي لك بحديث مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدهم جرو كلب، خيرٌ له من أن يربي ولداً من صلبه} هذا الحديث رواه الحاكم وغيره وفيه ضعف، يقول: أنا لا أريد أن أربي أولاداً ولا أهتم بهم، لماذا؟
الكلاب خير منهم، هذا ليس منطقاً، وليس صحيحاً، هذه نظرة تشاؤمية، نظرة سوداوية، ينبغي لطلبة العلم أن يحرصوا على إخراج الناس من هذا النفق المظلم، وجعلهم يعيشون في النور.
يهتمون بها في نظري لسببين:-
السبب الثاني وهو أهم: أن الناس يؤثرون دائماً ألا يعملوا، فنحن دائماً نحب ألا نعمل، نحب أن نتكلم لكن لا نحب أن نعمل، فأحاديث الفتن -أحياناً- يتخذها بعض الناس مهرباً من العمل.
فمثلاً: إذا وجد الأحاديث الواردة في المهدي، قال: لا داعي للعمل علينا أن ننتظر، نسينا أن كل واحد منا يجب أن يكون مهدياً يدعو إلى الله عز وجل، يهتدي بهدي الله عز وجل ويدعو إلى الله عز وجل، أما المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنحن ما تُعُبِدْنا بأن ننتظره متى يأتي؟
بعد مائة سنة أو مائتين أقل أو أكثر، الله أعلم، هذا غيب عند الله عز وجل، ما تعبدنا بأن ننتظر شخصاً معيناً، إنما تعبدنا بأن نقوم بالواجب، ندعو إلى الله ونتعلم ونتعبد ونجاهد هذا هو المطلوب، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أما انتظار شخص معين فهذا لم نُتَعَبَّد به كما تفعله الرافضة، فهم منذ مئات السنين وهم عند سرداب سامراء ينتظرون مهديهم الذي لا يخرج أبداً، حتى ضحك منهم الناس وقال لهم أحد الشعراء:-
ما آن للسرداب أن يلد الذي أوجدتموه بجهلكم ما آنا |
فعلى عقولكم العفاء فإنكم خلقتم العنقاء والغيلانا |
يقول: أنتم مجانين، منذ مئات السنين وأنتم تنتظرون! والغريب أن عندهم فرساناً وخيولاً ربطوها ينتظرونه، وكلما حصلت حركة قالوا: جاء، جاء، ويدعون في كتبهم يقولون: عجل الله فرجه وسهل مخرجه.
هل يصلح أن يكون أهل السنة ينتظرون مهدياً بهذه الطريقة، المهدي سيخرج لكن متى؟
هذا علمه عند ربي في كتاب، نحن مطالبون بأن نعبد الله بالدعوة والجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وألا ننتظر أحداً، لا ننتظر أحداً يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنا.
مثلاً: إذا كثرت الفتن مثل زماننا هذا فليس معناه أن يترك الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالعكس لقد زاد الأمر وجوباً! وليس معناه أن يترك الإنسان الجهر بكلمة الحق في زمن الفتنة، لا. وإن زمان الفتنة يوجب أن يزيد الناس من الجهر بكلمة الحق، وإعلانها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إليها، وإلا إذا اتضحت الأمور وبانت لم تعد هناك فائدة من الكلام، وإذا استقام الناس والتزموا بالمعروف فلا فائدة من النهي عن المنكر.
فالناس أحوج ما يكونون إلى الأمر بالمعروف إذا تركوه، وأحوج ما يكونون إلى النهي عن المنكر، إذا وقعوا فيه، وأحوج ما يكونون إلى بيان الحق إذا التبس الأمر عليهم، فإذا ظهر الأمر لم يبقَ لأحد فضل ولا كلام.
مثال آخر كثيراً ما يورده الناس أيضاً في هذا الزمان وفي غيره، وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {من أن المسلمين يصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم يغزون وإياهم عدواً من ورائهم فيغدرون، ويأتون في ثمانين غاية تحت كل غاية ثمانين ألفاً، ويشترط المسلمون الشرط على الموت وينتصر المسلمون في النهاية}. وهناك أحاديث أخرى من هذا القبيل. أيضاً بعض الناس يطبقون هذا الحديث على الواقع وهذا الحديث وإن كان أهل العلم ذكروا أنه لم يقع، كما قال ابن المنير فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر قال: "أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر إلى هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمتقين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون ضعف أو أضعاف ما هو عليه الآن". هكذا يقول ابن المنير انتهى كلامه، لكن نجد أحد المؤلفين المعاصرين وهو الغماري فسر هذا في كتاب له سماه "مطابقة الاختراعات العصرية" فسره بحلف الأمريكان والعرب لقتال الروس.
فإذاً أقول: لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع، لا، لا نطبق الأحاديث على الواقع بل ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ويزيدنا الأمر إيماناً وتسليماً، أما أن نأتي نحن ونتكلف -أحياناً- في تأويل النصوص وتطبيقها على واقع معين، فأرى أن هذا لا يصلح للعلماء، وإن صلح للعلماء أو طلبة العلم المتقدمين المبرزين الفقهاء فإنه لا يصلح للعامة ولا ينبغي لهم أن يشتغلوا بهذا الأمر، مع أن هذا الأمر يدعوهم -أحياناً- إلى ترك الاشتغال بالعمل والجد والاجتهاد، وأن يعتمدوا فقط على الانتظار، والانتظار وحده لا يصنع شيئاً، بل هذا قد يوحي لهم بأن يتصرفوا -أحياناً- تصرفات غير مشروعة، بإيحاء لا شعوري فيتصرفون تصرفاً غير جيد بسبب توقعهم أن هذا هو الحال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدنا أن اشتغالهم بأحاديث الفتن لم يصرفهم عن الاشتغال بالحلال والحرام، ومعرفة الشرع، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكرها، علمه من علمه، وجهله من جهله } حتى قال حذيفة رضي الله عنه: {إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه } والحديث متفق عليه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الفتن ومع ذلك ذكر حذيفة لنا شيئاً منها ونسي شيئاً منها.
عمرو بن أخطب يقول كما في صحيح مسلم: {صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر فخطب حتى جاء الظهر، فنـزل وصلى الظهر ثم صعد وخطب حتى جاء العصر فنـزل وصلى العصر، وصعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم بما كان وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا} أي أن من الصحابة من علم وحفظ ومنهم من نسي.
المشكلة إذاً مشكلة تطبيق النصوص على الواقع، كم من قوم ضلوا -مثلاً- بسبب تطبيقهم للنصوص على واقع معين، ولعل من أظهر الأمثلة المهدية، كم من قوم ادعوا المهدية في زمن بني أمية وبني العباس، ومهدي المغرب المهدي بن تومرت، ومهدي السودان محمد بن أحمد الذي ادعى المهدية، وكون مجموعة لا تزال معروفة إلى اليوم باسم الأنصار حزب الأمة كما يسمونه في السودان وغيرهم كثير، ادعوا المهدية بالباطل بسبب أنهم طبقوا النصوص على الواقع وهم ليسوا أهلاً لذلك.
ومن الطريف حديث: {نجد قرن الشيطان} الذي ذكرته قبل قليل، وأن العلماء ذكروا أن المقصود بنجد نجد العراق، من المغرضين الحاقدين من فسروه بأن المقصود نجد هذه التي نحن فيها الآن، وفسروا قرن الشيطان بالدعوات الإصلاحية التي خرجت في هذه البلاد، وهذا من سوء رأيهم وصنيعهم وفساد قصدهم.
وهناك مؤلف أحببت أن أنبه إليه في نهاية هذه المحاضرة اسمه: "مطابقة الاختراعات العصرية لما جاء به سيد البرية" لمؤلف اسمه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وهذا المؤلَّف طريف وغريب في الوقت نفسه، فإن مؤلفه تجشم الأمر الذي حذَّرت منه، وحاول أن يطبق النصوص على الواقع بطريقة غير صحيحة في كثير من المواضع، -مثلاً- تكلم عن قضية الطائرات والسيارات، وكما يقول: "الأوتومبيل" والقطارات والمطر الصناعي، وقضية المغاسل، وأشياء كثيرة جداً مما جاء في هذا العصر، حاول أن يبحث لها عن حديث يدل على أنها سوف تظهر، وتكلف لذلك تكلفاً عظيماً يُذَمُ ولا يُحْمد، حتى أن من العجائب أنه فسر قوله عز وجل: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:4] العشار هي النوق، يقول: تعطيل العشار لوجود "الأوتومبيل وبوابير" سكة الحديد، فالناس استغنوا عن ركوب الإبل لوجود السيارات وقاطرات السكة الحديدية، -مثلاً- مع أن هذا يوم القيامة، ومثله: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] هذا -أيضاً- يوم القيامة، تحشر الوحوش فيقتص للشاة القرناء من الشاة الجلحاء؛ ثم يقال لها: كوني تراباً وهو يقول: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) أي: جمعت في حديقة الحيوان كما هو واقع، ثم أخذ يتكلم عن حديقة الحيوان، وأنه لا يجوز جمع الحيوانات في الحدائق، إلى آخر ذلك، وفعل مثل ذلك بأحاديث كثيرة، فأردت أن أنبه إلى أن هذا مسلك خطير، والغريب أنه في آخر الكتاب لما تكلم عن الطائفة المنصورة وأنها باقية قال: -غفر الله لنا وله- فبنا وبأمثالنا، يدفع الله الضلال عن هذه الأمة، بل لا نبالغ إذا قلنا -طبعاً (نا) هذه نون الجمع لكنه عظم نفسه- لا نبالغ إذا قلنا قد وردت الإشارة إلينا والحمد لله على نعمته، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا ظهرت فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة المال؛ فالقائمون بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار} يقول: فليس في مغربنا بل ولا في الشمال الإفريقي أحد قائم بالكتاب والسنة إلا أنا! هذا لا شك أنه غير صحيح.
فنقول سامحه الله وغفر الله لنا وله.
الجواب: نعم، هذه نقطة مهمة جداً، حتى حين تنظر إلى واقع الناس تجد أنه لما حصلت الأحداث زاد المصلون في المساجد، ففي مسجدنا -مثلاً- زاد عدد المصلين في صلاة الفجر النصف، بعد ذلك بدأ العدد يتناقص حتى آل الأمر وأصبح شيئاً عادياً، لماذا؟!
أنا أعتقد أن عذاب الله عز وجل لن يندفع عنا بقوة من قوى الأرض، إذا كنا مؤمنين فعلاً ونعتقد أن العذاب إن نـزل بنا فإنما ينـزل بذنوبنا، فهل نعتقد أن عذاب الله يدفع عنا بالوسائل المادية! فالله عز وجل عنده من الجنود مالا يعلمه إلا هو: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
فإذا كتب على أمة من الأمم العذاب فوالله لا تدفع عنها قوة مهما تكن، فينبغي للعبد أن يخاف الله عز وجل وأن يظل مرتبطاً بهذا، وأن يكون في قلبه توكل على الله وثقة به وخوف منه أن يراجع نفسه ويصحح أعماله.
وأنبه إلى أمر من هذه الأمور: فالله عز وجل لما ذكر العقوبة للأمم في كتابه ذكر أنه يأخذ الأمم على غفلة، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97] ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] إذاً العذاب إذا أتى يأتي على غفلة، فإذا رأيت الأمة تأتيها المحن والفتن والزلازل والتنبيهات مرة بعد مرة وهي تنتبه لحظة ثم تعود إلى نومها، فَخَفْ من ذلك. علينا أن نوعي الناس وأن نهز قلوبهم، ونقول لهم: عودوا إلى الله عز وجل، توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
الجواب: إذا وجدت وتحققت فعلاً فحينئذٍ ما عاد يؤمر بمعروف وينهى عن منكر، وحينئذٍ قربت الساعة، فيرسل الله عز وجل ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين، ويرفع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، ويأتي ذو السويقتين من الحبشة إلى الكعبة فيهدمها، فحينئذ هذا آخر الزمان ولا يبقى أحد في الأرض يقول: الله الله.
الجواب: أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، بعضهم قال: أيس الشيطان، لكن مع يأسه فإن الله أخبر أن الشيطان سوف يعود إليه الأمل من جديد، يعود إليه الأمل في آخر الزمن إذا رأى فساد الناس، وبعضهم قال: أن يعبده المصلون يعني المؤمنون التائبون العابدون، هؤلاء لا ينحرفون إلى الوثنية، بل يعبد الشيطان والأوثان قوم كانوا على الشرك أو أنشئوا عليه إلى غير ذلك.
الجواب: يوجد في صحيح مسلم.
الجواب: هذه فتنة الأهل والمال، فتنة الشهوة، وتحتاج إلى حديث خاص.
الجواب: مدح الكفار بما فيهم من الخصائص الطيبة، هذا من العدل ولذلك لما ذكر كـعمرو بن العاص رضي الله عنه، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس قال: رضي الله عنه: أما إنهم على ذلك، إن فيهم خصالاً خمساً وذكر من خصالهم: أنهم أصبر الناس عند المصيبة وأسرع الناس إفاقة، وأعدل الناس مع المسكين والفقير، وأرحم الناس على الولد، وقال: خامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك} يعني: أن فيهم من القوة والاجتماع ما يمنعهم من أن يتسلط عليهم باغٍ أو طاغٍ، فذكر الكفار بأن فيهم خصالاً حسنة هذا لا يعني الإعجاب بهم.
الجواب: لا. العدل مطلوب، وحتى الذي يسمع الأخبار أو يقرأ الصحف يجب أن يقرأ ويسمع بتمحص، لكي لا يدخل كل شيء إلى عقله وقلبه، بل يمحص بعض الأشياء فيقبل ويرد وفق مقياس سليم دقيق.
الجواب: لا يحصل إلا قبيل قيام الساعة عند ظهور الأشراط الكبرى، فيبعث الله تعالى ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر