إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [16]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، وبما يكون بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه، وهذا الباب ليس فيه مخالفة بين طوائف المسلمين، وعقيدة أهل السنة في ذلك أن الموت أول منازل الآخرة، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الله يناجي عباده المؤمنين، كما يعتقدون بحوض النبي في عرصات القيامة، والعبور على الصراط، والوقوف على قنطرة بين الجنة وا لنار، ثم دخول الجنة للمؤمنين بعد أن يستفتح لهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويكون أول الداخلين.

    1.   

    الإيمان باليوم الآخر وبما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه

    قال رحمه الله: [فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وعذاب القبر ونعيمه] .

    هذا الباب وهو اليوم الآخر وما يكون من مقدماته، ليس فيه -في الجملة- مخالفة بين طوائف المسلمين، وإن كان كثير من الطوائف يفوتهم الإقرار أو العلم بكثير من مسائل هذا الباب، لما دخل عليهم من شبهة أن خبر الآحاد لا يحتج به في العقائد، فتركوا كثيراً من مفصل الحق، ولم يعتبروه، فضلاً عن كون عامة أهل البدع ليسوا من المعروفين بالرواية والإسناد، فإنك إذا نظرت إلى علماء المعتزلة أو الخوارج، وأمثال هؤلاء، وجدتهم في الغالب ليسوا من أئمة الرواية، والذي كتب السنة وصنفها وأصلها ورواها هم أئمة السنة والحديث، كـالبخاري وأحمد ومسلم وأمثال هؤلاء.

    وإن كان في بعض الطوائف المتأخرة منهم من الحفاظ، إلا أنهم ليسوا بمقام أئمة الرواية الأوائل، فالمقصود أن هذا الباب في الجملة محل استقرار، وإن كان يفوت بعض الطوائف أو ينقصهم التفاصيل من هذا الوجه في الغالب، وقد يكون من وجه آخر، وهناك مسائل في باب اليوم الآخر، دخلها قدر من التأويل، ولا سيما المتعلقة بمسائل الوعيد وعذاب القبر وفتنته..إلخ. وفي الغالب أن التأويل لشيء من هذا الباب يقع عند المعتزلة؛ بخلاف غيرهم، فإنهم في الجملة يقرون بكلام أهل السنة في هذا الباب.

    قال رحمه الله: [فأما الفتنة، فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب: فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة فيسمعها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعها الإنسان لصعق] .

    والمرتاب المراد به هنا المنافق.

    وكلام بعض الشراح أن المرتاب هنا العصاة أو من عنده نقص في الإيمان، يفترض ألا يقال أصلاً، لأن المسلم الذي يصدق عليه أنه مسلم مهما كان فاسقاً يعرف أن ربه الله، وأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام هو دينه، وإن كانت المسألة كما هو معروف ليست مسألة وعي علمي، فإنه حتى الكافر قد يحفظ هذه الكلمات، ولكنه لا يستطيع أن يقولها حينما يسأل هذا السؤال.

    والمقصود هنا من قوله: (المرتاب) هو الكافر الذي لم يؤمن بالله ورسوله ودين الإسلام، وأما المسلمون جميعاً فإن الله يثبتهم على هذا الجواب، وإن كان التثبيت على هذا الجواب لا يعني أن العبد يسلم من العذاب في القبر أو بعد القبر إلى ورود يوم القيامة، فالمقصود أن هذا التفسير لا يمكن أن يعتبر بوجه صحيحاً أبداً.

    وبعض الأقوال ترى في كلام المتأخرين، إذا تبين أنها مناقضة للحق ومناقضة للصواب فيجب أن تستبعد ولا ينصب الخلاف، لأن هذا مما يشكك نفوس المسلمين.

    الآن بعض العامة من المسلمين ما عندهم إدراك لفضل الله سبحانه وتعالى، خوفوا بالوعيد وأسمعوا آيات الوعيد التي نزلت في الكفار، وأصبحوا لا يتصورون القبر إلا ناراً أو عذاباً..إلخ.

    الناس يجب أن يعلموا فضل الله سبحانه وتعالى، وأن رحمته سبقت غضبه، وأن يعلموا أن قضاءه سبحانه وتعالى عدل، وأنه عدل، وأنه لا يظلم مثقال ذرة.

    فالمقصود أن الله يثبت المؤمنين، أي: المسلمين جميعاً، وهم كل من وافى ربه محققاً للتوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، كما في البخاري لما سأله أبو هريرة . مع أن صاحب المعصية قد نقص تقريره وتحقيقه لعبادة الله سبحانه وتعالى بتركه لبعض الواجبات، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن له حظاً من الشفاعة) والنبي يشفع له، مما يدل على أنه موحد، فكل من وافى ربه بالتوحيد والإسلام، فإنه يمكّن من هذا الجواب بإذن الله تعالى.

    قال: [ثم بعد هذه الفتنة: إما نعيم وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد] .

    خلافاً لطائفة من المعتزلة زعمت أنه بعد هذا السؤال يبقى الناس في سبات في قبورهم إلى أن تقوم الساعة، فهذا ليس صواباً، والقرآن صريح أن ثمة نعيماً وثمة عذاباً في القبر، قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46] الآية في حق آل فرعون وكفرة قوم موسى، وإذا كانوا يعرضون على العذاب، فمن باب أولى أن الصالحين المؤمنين يعرضون على النعيم، بل أرواحهم في الجنة، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حق طوائف من المؤمنين كالشهداء وغيرهم.

    الإيمان بما يكون في يوم القيامة من بعث ونشور ووزن للأعمال

    قال المصنف رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر بها الله في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]] .

    هذه مسألة القيامة، وهي كما ذكر المصنف مجمع عليها بين المسلمين، ولكن ثمة معنى، أنه ما من أصل أجمع المسلمون عليه إلا وترى في كلام أئمة السنة والجماعة -وأخصهم الصحابة رضي الله عنهم- من الفقه والعلم في هذا الأصل ما لا يقع لغيرهم، فيكون لهم الاختصاص من هذا الوجه، حتى في الأصول المتفق عليها؛ من جهة سعة العلم والفقه في هذه الأصول، وإن كان غيرهم قد يوافقهم عليها، فالقيامة محل إجماع بين سائر طوائف المسلمين، لم يختلف أحد منهم عليها.

    وذكر المصنف أن الناس يقومون من قبورهم حفاةً عراة، هذا كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم.

    (وتنصب الموازين) والموازين ثابتة بالإجماع: وهي في قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] فالموازنة ثابتة بالإجماع.

    وأما قوله: (فأما من ثقلت موازينه)، فهذا مذكور في القرآن في غير مقام في سورة القارعة والمؤمنون والأعراف، وهذا المقصود به الإيمان والكفر، وسياقها في القرآن على الإيمان والكفر، ولا يعني هذا أن من كان مسلماً عاصياً لا يكون له موازنة، بل يدخل في عموم الموازنة، وإنما المقصود التنبيه على ما ذكره ابن حزم وابن القيم من أن عصاة الموحدين توزن أعمالهم، وابن القيم ناقل عن ابن حزم في المسألة، يقول ابن حزم : بالنسبة لعصاة الموحدين وأهل الكبائر من المسلمين- من زادت حسناته على سيئاته بواحدة، فهذا لا يعذب، بل يدخل الجنة ابتداءً، ومن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، فلا بد أن يعذب بقدر ما يشاء الله من العذاب، قال: ومن تساوت حسناته مع سيئاته، فهذا لا يعذب، ولا يدخل الجنة ابتداءً بل يحبس عن الجنة زمناً ثم يمكن من دخولها.

    وهذا التفصيل قال عنه الإمام ابن القيم رحمه الله: إنه مذهب الصحابة والتابعين، وأن خلافه قول المرجئة، والصواب: أنه ليس مذهباً للصحابة والتابعين، بل هو تفصيل لقول مجمل من أقوال الصحابة، وإنما الذي عليه الصحابة والتابعون -وهو صريح القرآن- هو الإيمان بالموازنة كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47] أما كيف تكون هذه الموازنة؟ فالكيفية في حق عصاة الموحدين لم تنطق به النصوص المفصلة، إنما نؤمن بأن الله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، ونؤمن بقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] أما أن يقال: إن من زادت سيئاته على حسناته واحدة، من المسلمين فإنه يعذب في النار جزماً، فهذا قول لا أحد يستطيع أن يقوله، ومن الذي أدراك أنه لا بد أن يعذب؟! والله سبحانه وتعالى واسع الرحمة وواسع المغفرة، وقد يغفر الله له هذه السيئة الواحدة التي زادت، فكيف تجزم له بالعذاب، فهذا ليس بصحيح؛ أين عفو الله؟ ومن الذي يستطيع أن يجزم بهذا الكلام؟ لو كانت النصوص نطقت به لقلنا: قضاء الله وقدره، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ [يونس:11] أما والنصوص لم تنطق بشيء من ذلك، فهذا لا يجوز الجزم به، وإن ذكره ابن القيم رحمه الله، فهو نقله عن ابن حزم ، ولكن ابن القيم زاده تقريراً، وقال: هذا مذهب الصحابة، وهو عن جابر بن عبد الله وابن مسعود ، وابن عباس في تفسير آية الأعراف: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف:46].

    وهذه مسألة أخرى: أن من تساوت حسناته مع سيئاته من أهل الإسلام يحبسون عن الجنة ولا يعذبون، لا يعذبون لأن سيئاتهم لم تزد، ولا يدخلون ابتداءً لأن حسناتهم لم تزد، فقالوا: يحبسون، وما أدراك أنهم يحبسون؟! وأما القول بأنهم ذُكِروا في قوله تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46] فالذين في سورة الأعراف ليس في القرآن إلا أنهم رجال، أما ماهيتهم، فقد قال كثير من السلف: إنهم قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ولكن هذا القول لم يصح عن صحابي واحد، وإنما هو مذكور عن التابعين ومن بعدهم، وهو فقه في القرآن ليس صواباً، والأصوب التوقف، وأن يقال: الله أعلم بهم. إنما هم رجال كما قال القرآن رداً لقول أبي مجلز بأنهم ملائكة، وليس صواباً؛ لأن القرآن يقول: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ) فهم رجال، ولهذا من فقه ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره للآية أنه سرد الأقوال، ونقل عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن جابر بن عبد الله : أن أهل الأعراف رجال تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ولكن الأسانيد المذكورة معلولة من جهة الانقطاع وجهات أخرى، وأنت تعرف أن ابن جرير عنده قاعدة في تفسيره: أنه إذا كانت الآية في تفسيرها خلاف، وللصحابة قول ولمن بعدهم قول، فإنه -كقاعدة مطردة لا تنخرم أبداً عند ابن جرير - يأخذ بمذهب الصحابي، إلا إذا اختلف الصحابة، فـابن جرير في هذه المرة مع أنه نقل عن بعض الصحابة أنه تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ونقل أقوالاً أخرى قد تختلف عنها عن غيرهم، رجع في آخر بحثه للمسألة، وأبطل قول أبي مجلز أنهم ملائكة قال: لأن القرآن يقول رجال، ثم رأى ابن جرير التوقف في المسألة: من هم أصحاب الأعراف؟ الله أعلم.

    وهذا هو الإيمان، وهذا هو الفقه أن يقال: الله أعلم بهم.

    وهنا تنبيه: أحكام الله تنقسم إلى قسمين: أخبار وتشريع، فالتشريع يتفقه فيه، لأنها أحكام نوازل المسلمين والحالات الخاصة التي تطرأ.

    مثلاً: التيمم، ما فيه من حديث لا يصل إلى عشرة أحاديث ربما، وسجود السهو مداره على ستة أو سبعة أحاديث، لكن صور التيمم التي تطرأ لآحاد الناس قد لا تتناهى، كل إنسان عنده صورة، هنا يكون الفقه في هذه النصوص، فنصوص الأمر والنهي يتفقه فيها، فيخرج كثير من الصور من نص عام، لكن نصوص الأخبار تؤخذ على ظاهرها وتتدبر من باب تحقيق الإيمان بها، لا من باب التشقيق منها.

    إذاً لما قال الله سبحانه وتعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46] لماذا تأخروا وهم رجال؟ جاء مورد العقل هنا ومورد التفقه، فقال: لأنهم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، وهذا ليس بلازم، لأنه يمكن عقلاً أن الله جعل ذلك عقوبتهم، لأنهم عصاة ما تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، بل زادت سيئاتهم، ولم يعذبهم في النار، بل حبسهم عن الجنة ألا يمكن هذا؟ يمكن، لكن لا نقول به، إنما نقول: الله أعـلم؛ لأن مسألة تسمية الأشياء حكمة الله سبحانه وتعالى في عدم التبليغ للناس، الناس يتفقهون في شيء الله سبحانه لم يرد أن يخبرهم به.

    المنافقون لن تجدوا أن الله سماهم في القرآن، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من تسميتهم، وحتى الرسول عليه الصلاة والسلام بعد فضح القرآن لهم، غاب عنه كثيرٌ من أعيانهم وأشخاصهم، وقال الله له: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101]، ما سماهم القرآن ولا حتى الرسول يعرفهم، ويعرف طرفاً منهم، ولم يخبر بهم جميع الصحابة، وقد قال الله له في القرآن: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ [محمد:30]ليس أن يعرف فلاناً أنه قد يوجد في بادية كذا، قال: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30]لو شاء الله لأراهم، ولعينهم له بالتسمية، ولدله عليهم، وإنما جعلت ثمة قرائن، حتى لا يتغلغل المنافقون في أهل الإسلام وأهل الإيمان وهم يعرفونهم، قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] ولهذا قال: (آية المنافق ثلاث) وفي حديث أبي هريرة : (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، فدائماً نؤكد أن السلف عليهم رحمة الله، من فقههم ما يرون التشقيق في هذا، ولا يعجب أحد، فيقول: إنه نجد في كلام ما يروى عن بعض الصحابة.

    أولاً: ما في كتب التفسير كثير من الأسانيد قد لا تنضبط إلى الصحابة، ثم إن بعض الصحابة أخذ عن بني إسرائيل ولا سيما المتأخرين، كـعبد الله بن عمرو عنده رواية عن بني إسرائيل، واعتبرها بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) وبقوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فالقصد أن هذا القول الذي ذكره ابن القيم وابن حزم ، لا نقول: إنه باطل، لأننا لا نعلم انتفاءه، وإنما نقول: إنه غلط من جهة كونه تفصيلاً لشيء لم يفصل في النصوص، قد يكون الأمر في نفس الأمر كذلك، لكن الله أعلم بأهل الكبائر، إنما وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47]، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] إنما: رحمة الله سبقت غضبه، إلى غير ذلك مما نطق به القرآن أو الحديث.

    وأما التفصيل بهذه الطريقة فليس صحيحاً، ولا يمكن إلا بتقرير مسألة آية الأعراف، وآية الأعراف في تفسيرها للأئمة وأهل السنة ثمانية أقوال، وابن جرير وكبار المفسرين -وهو الصواب- يرون التوقف فيها.

    الإيمان بما يكون يوم القيامة من بعث ونشر ووزن للأعمال

    قال المصنف رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس, ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون] .

    اتفاق جميع المسلمين على أكثر مسائل اليوم الآخر بجملتها

    هذه الجمل السابقة هي من الجمل التي كلياتها متفق عليها بين سائر طوائف المسلمين.

    ومن صنف في الاعتقاد من علماء السنة والجماعة، فإن هذا التصنيف يكون على أحد وجهين:

    الوجه الأول: أن يكون المقصود من التصنيف: التقرير لمعتقد المسلمين الذي انضبط عن الصحابة رضي الله عنهم، وإن لم يشتغل بمسألة التمييز.

    الوجه الآخر: أن يكون المقصود هو إظهار الامتياز.

    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرسالة -وهي الرسالة الواسطية- قصد فيها إظهار امتياز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف، وهذا يعني أن المصنف يغلب على تصنيفه ذكر الجمل التي فيها اختصاص عند أهل السنة عن غيرهم، بخلاف الطريقة التي سلكها أبو جعفر الطحاوي في رسالته المعروفة بالعقيدة الطحاوية، فإن الطحاوي غلب على جمله أنها جمل مشتركة بين جمهور طوائف أهل القبلة إلا من شذ من الغلاة؛ بمعنى أنها مشتركة بين جمهور طوائف أهل القبلة المنتسبة للسنة والجماعة، فيدخل في ذلك أصناف الفقهاء في الجملة، ويدخل في ذلك من يسمون متكلمة الصفاتية، كأتباع ابن كلاب ومن تأثر بطريقته، وأتباع الأشعري ومن تأثر بطريقته، وأتباع أبي منصور الماتريدي الحنفي ومن تأثر بطريقته إلى غير ذلك؛ فإن هؤلاء يعرفون بالمنتسبين إلى أهل السنة، أو بمتكلمة أهل الإثبات، وهذا يقع به امتياز عن أهل البدع المغلظة الأولى، كبدعة الجهمية المغلظة، أو بدع المعتزلة المغلظة، أو بدعة الروافض وأمثال هذه البدع.

    إذاً يتحصل لنا أن من كتب من أهل السنة المحققين لمذهب السلف، يكتبون على وجهين:

    إما أن يكون الغالب على جملهم ذكر ما يمتاز به أهل السنة عن أهل البدع المغلظة، وإما أن يكون الغالب عليها هو تحقيق مذهب السلف، وبيان ما يخالف هذا المذهب حتى عند متكلمة أهل الإثبات وأمثالهم، ولهذا تجد أن الجمل عند الطحاوي يغلب عليها أنها جمل مشتركة بين جمهور طوائف المسلمين: من جهة ألفاظها وحروفها العامة، أما إذا فصلت هذه الجمل فإنه يتبين بالتفصيل أنها تختص بوجهٍ ما بعقيدة أهل السنة، وبعقيدة السلف.

    والمقصود أن الخلاف في هذا الباب -أعني باب اليوم الآخر- في الغالب قليل، لأن الأصول التي يتفرع عنها القول في هذا الباب جمهورها متفق عليه بين أهل القبلة، إلا من شذ من غلاة الطوائف المائلين إلى الطرق الباطنية.

    فمن المعلوم -وهذه قاعدة لا بد لطالب العلم أن يعرفها- أن كل باب من أبواب الاعتقاد له أصول نتج القول في هذا الباب عنها.

    والأصل الذي تفرع عنه القول في باب اليوم الآخر، جمهوره متفق عليه بين جمهور أهل القبلة، إلا من شذ ممن مال إلى الطرق الباطنية؛ فالمائلون إلى الطرق الباطنية مؤولون في باب اليوم الآخر.

    وأضرب لك مقارنة في هذا: إذا رجعنا لباب الأسماء والصفات، وجدنا أن الأصل الذي تفرع عنه القول في باب الأسماء والصفات ليس متفقاً عليه بين جمهور أهل القبلة، لأن عامة المتكلمين حتى المنتسبين للسنة كـالأشعري وأمثاله ينتحلون علم الكلام، والأصول الكلامية في تقرير هذا الباب هي ما يسمى دليل الأعراض أو دليل التخصيص وما إلى ذلك.

    فالأصل الذي تحصل عنه القول في باب الأسماء والصفات عند جمهور الطوائف ليس أصلاً شرعياً، وهو العلم الكلامي، فإن علم الكلام إنما ابتدأ القول به في مسائل الإلهيات ثم عدَّاه من عدَّاه إلى مسائل أخرى، من مسائل القدر أو مسائل الإيمان أو ما إلى ذلك.

    ولذلك تجد أن الأشعرية والماتريدية والكلابية ثم أهل البدع المغلظة من المعتزلة ومن أخذ الاعتزال عنهم من أنواع الشيعة إما من الزيدية أو من الرافضة أو غيرهم، وكذلك الجهمية الأولى؛ جميع هؤلاء يتفرع قولهم عن علم الكلام والأصول الكلامية المحصلة من الفلسفة، فهذا باب الأسماء والصفات.

    أما باب اليوم الآخر فإن الأصل الذي يتفرع عنه القول فيه عند جمهور الطوائف أصلٌ صحيح، من جهة مجمله؛ بمعنى: أن هذا الباب يسميه كثير من الطوائف بباب السمعيات، ويقصدون بذلك أن هذا الباب لا يتكلم فيه على الأصول الكلامية من جهة ابتدائه، وإن كانوا يسعملون الدليل الكلامي في باب اليوم الآخر أو في بعض مسائله، كتقرير وإثبات لما ثبت بالقرآن، وهذا هو الفرق بين استعمال دليل المتكلمين الكلامي في باب اليوم الآخر، وبين استعماله في باب الأسماء والصفات.

    وتجد أبا حامد الغزالي وهو من علماء الكلام، لما رد على الفلاسفة في كتابه، وذكر بعض مسائل اليوم الآخر، استعمل بعض الطرق الكلامية.

    فكان الخلاف في هذا الباب أقل من الخلاف في غيره، لأن جمهور الطوائف إلا من مال إلى الطرق الباطنية، يجعلون الأصل في هذا الباب هو الكتاب، فكان الخلاف فيه أكثر اقتصاداً من الخلاف في غيره.

    ومع ذلك فإن السلف وأتباع السنة المحضة أهل السنة والجماعة لهم اختصاص في هذا الباب؛ من جهة أنهم أكثر علماً بالنصوص المفصلة لهذا الباب ولاسيما النصوص النبوية.

    فإن أكثر الطوائف غلب عليها التقصير في التحقيق للنصوص النبوية، وذلك لسببين:

    السبب الأول: عدم اشتغال علمائها بهذا العلم كثيراً.

    السبب الآخر: ما وضعوه من القواعد الفاسدة في تقريرهم للدلائل النبوية، كقاعدة: أن خبر الآحاد لا يحتج به في العقائد.

    وعليه: فثمة امتياز لأهل السنة والجماعة في هذا الباب -باب اليوم الآخر- وإن كان الخلاف فيه ليس مشتهراً مع الطوائف؛ لأن الأصل المعتبر عند طوائف جمهور المسلمين هو أصل واحد، وهو: الدليل النصي من الكتاب أو السنة.

    وانحرف عن هذا الأصل المتفق على قدره الكلي بين جمهور الطوائف من مال إلى الطرق الباطنية.

    والمائلون إلى الطرق الباطنية هم أحد صنفين: إما من الشيعة، وإما من الصوفية، فإن غلاة الشيعة باطنية، وغلاة الصوفية باطنية.

    والباطنية إنما نفذت أقوالهم بين بعض سواد المسلمين لأنهم انتحلوا أحد وجهين: إما أنهم انتحلوا التشيع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعظموا آل البيت، وإما أنهم انتحلوا التنسك والعبادة والميل إلى تحقيق النسك وما إلى ذلك بأنواع من التصوف.

    وإن كان يعلم أنه ليس جميع الشيعة باطنية، كما أنه ليس جميع الصوفية باطنية، بل فيهم وفيهم، ولكن الباطنية دخلوا على سواد المسلمين بأحد هذين الوجهين.

    والباطنية أصولهم في نفس الأمر هي أصول فلسفية، كأمثال إخوان الصفا، فإنهم منتسبون إلى التشيع، ومع ذلك فإن حقيقة أقوالهم حقائق فلسفية محضة.

    وكذلك ما جاء عن بعض غلاة الصوفية المائلين إلى هذه الطرق، فتجد عندهم من إسقاط الحقائق الشرعية -كالعبادات الأربع- ما هو معروف ومنقول عنهم في كتبهم.

    والمقصود أن هؤلاء الباطنية من الصوفية أو الشيعة هم المحرفون لباب اليوم الآخر، ولذلك تجد بعض الصوفية -وإن لم يحقق الطريقة الباطنية ويلتزم بها، لكنه أخذ شيئاً من مادتها- يميل إلى شيء من هذه الطرق في بعض أقواله، كـأبي حامد الغزالي ، فإنه ليس باطنياً محضاً، وإن كان أخذ من كلام الباطنية الصوفية شيئاً، ولذلك كان عنده أغلاط في باب اليوم الآخر تأتيه من هذا الوجه.

    باب اليوم الآخر يقتصر فيه على ما يطابق النص

    باب اليوم الآخر وأمثاله باب لا يقال فيه بالتفقه على طريقة الرأي والاجتهاد، وإنما يقتصر فيه على ما طابق النص.

    وأما البحث في أنواع الدلالات من جنس البحث الفقهي فإن هذا ليس فاضلاً، وإن كان يبدو لبعض طلبة العلم نوعاً من التحقيق في فقه المسألة أو فقه الدليل أو في فقه النص.

    فمثلاً: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نص مجمل، وتضمن هذا النص المجمل بعض المسائل المفصلة المحتملة لهذا النص، فإنه لو كان هذا النص في باب الأمر والنهي، لكان المشروع التفقه في هذا النص والأخذ بأنواع الدلالات التي جاء تفصيلها في كتب أصول الفقه.

    أما باب العقائد بعامة، ولاسيما الأبواب السمعية المحضة، فلا ينبغي لأحد أن ينظر فيها بالتفقه على طريقة الرأي والاجتهاد، وهذا باب محكم عند سائر السلف، ولا سيما إذا اعتبرت أن أئمة الحديث كـأحمد وغيره، كانوا يأخذون على فقهاء الكوفة كثرة الرأي حتى في مسائل الفقه والتشريع، فما بالك بهذا الباب؟!

    ولذلك إذا رجعت إلى الكتب التي نقلت أقوال السلف كالتوحيد لـابن خزيمة أو السنة لـعبد الله أو للخلال أو أصول السنة والجماعة للالكائي وما إلى ذلك من هذه الكتب، تجد أنهم في باب اليوم الآخر لا يذكرون عن السلف فيه إلا أقوالاً كأنها هي نفس الحروف المكتوبة في القرآن، بمعنى أن القول المأثور عن السلف يكاد أن يكون نفس النص النبوي، أو جزءاً من النص النبوي، أو جزءاً من النص القرآني.

    وهذا يدل على أن باب اليوم الآخر يؤخذ بطريقة المطابقة، وإن تضمنت هذه الطريقة التي أشير إليها عدم الإجابة على كثير من الأسئلة التي ترد، فإن هذا ليس مشكلاً في نفسه، ولكنه يشكل على البعض، فتجده يقول: إذا قال قائل كذا فماذا نقول؟ وإذا ورد سؤال: هل يلزم من ذلك كذا؟ فماذا نقول؟!

    هنا يقال: الله أعلم، فما دام النص ليس صريحاً في هذا الخبر، فإن الأصل الوقف فيه؛ لأن باب اليوم الأخر الأصل فيه أنه غيب، والغيب لا يقال فيه بالظن؛ لأن هذا الظن ليس مما شرع الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع في الغيب ظناً، وكل الغيبيات التي أوجب الله ورسوله على العباد أن يؤمنوا بها هي غيبيات قطعية بينة.

    إنما الذي يجوز أن يدخله الظن هو مسائل التشريع -مسائل الفقه- لأن أحوال العباد وما يتعلق بهم لا يتناهى من جهة اختلاف أحوالهم وما إلى ذلك، فيكون باب الاجتهاد هنا سائغاً؛ إذ لا يمكن أن تنحصر هذه الأمور بمحض النصوص الضابطة لها.

    وفي هذا جواب على سؤال قد يرد، وهو: لماذا باب الغيبيات وأصول العقائد مقولة بالنص المحض؟ ولماذا باب التشريع فيه ما هو من النص المحض، وفيه ما هو من الاجتهاد والاحتمال؟ لماذا لم يكن كل القرآن والسنة كذلك؟ ولماذا لم يكن الدين كله كذلك؟

    فالجواب: أن يقال: إن الدين في نفس الأمر كله محكم، لكن لو أن الله سبحانه وتعالى فصل أمور العباد على طريقة محققة لكان هذا فيه من الحرج في التكليف شيء كثير، ولذلك هذه النصوص التي فيها قدر من الاحتمال، يكون فيها سعة على كثير من الناس، فيما يقع من الاجتهاد وما إلى ذلك، وهذا إذا تأمله طالب العلم تبين له بياناً مفصلاً.

    وزن الأعمال يوم القيامة

    من مسائل هذا الباب مسألة الموازين، والموازين والموازنة ثابتة بإجماع أهل السنة والجماعة، وهي صريحة في القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الموازنة في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47]، وكقوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، وكذلك من النصوص النبوية.

    فالموازنة: متفق عليها بين سائر السلف، لكنهم يقولون: الله أعلم بماهية هذه الموازنة وحقيقتها، وإنما الذي دلت عليه النصوص صريحاً هو إثبات الموازين والموازنة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم العبد شيئاً.

    وكلام بعض متأخري أهل السنة في تفصيلهم للموازنة ليس له -فيما يظهر بالتتبع والله أعلم- أصل في كلام السلف، ولا في القرآن والسنة، وهذا الكلام أول من قاله هو ابن حزم رحمه الله.

    فإن قاعدة السلف في أهل الكبائر من المسلمين أنهم تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى بدليل قول الله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]فهذه المشيئة المعلقة في القرآن في أهل الكبائر قد ذكر ابن حزم تفصيلاً لها، وقال: إن هذا التفصيل هو التحقيق لأصل الموازنة المذكورة في القرآن، قال: (إن من زادت حسناته على سيئاته من أهل الكبائر واحدة -أي: حسنة واحدة- فهذا يغفر له، وإن من زادت سيئاته على حسناته من الموحدين سيئة واحدة فهذا يعذب في النار)، (فمن لفحة في النار إلى خمسين ألف سنة في النار).

    قال: (ومن تساوت حسناته مع سيئاته من الموحدين، فهذا يحبس -أي: يوقف- عن الجنة ولا يدخل النار، ثم يدخل الجنة).

    ثم قال: (وهؤلاء هم أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46]).

    هذا القول ذكره ابن حزم ، وإن كان لم يصرح أنه إجماع عند أهل السنة والجماعة، فجاء بعده ابن القيم رحمه الله وانتصر لهذا القول انتصاراً مطلقاً، ونقل أن ابن حزم حكى الإجماع عليه، وجزم ابن القيم بأن هذا القول هو قول الصحابة والتابعين، حتى قال رحمه الله في كتابه (طريق الهجرتين): (وأما قول الصحابة والتابعين، فإن كثيراً من الناس لا يعرفه، وهو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم)، ثم ذكر التفصيل المنقول عن ابن حزم ، فقال: (إن من تساوت حسناته هم أهل الأعراف يحبسون، ومن زادت سيئاته واحدةً يعذب في النار، ومن زادت حسناته واحدةً يغفر له، ويدخل الجنة)، فجزم بهذا القول، وجعله قول الصحابة والتابعين، وقال: (إن خلافه هو قول المرجئة)، وذكر أقوالاً منكرة في هذا الباب، وهي من البدع المعروفة عن المرجئة، ولا شك أنها أقوال غير صحيحة بمعنى أنه إذا قيل: إن قول ابن القيم ليس صحيحاً، فلا يلزم من ذلك أن يكون الصواب هو أحد الأقوال التي ذكرها، فإنه ذكر للناس أقوالاً في هذا ثم قال: (إن هذا ليس إلا قول المرجئة، وأما الصواب المأثور عن الصحابة والتابعين...) فذكره.

    والصواب أن يقال: إن كل الأقوال التي ذكرها ابن القيم ليست صحيحة، فيوافق على أن ما ذكره من أقوال الطوائف ليس صواباً من جهة السنة، لكن القول الذي انتصر له إنما أخذه عن ابن حزم .

    وابن القيم رحمه الله إذا انفرد في مسألة فيها غرابة ففي الغالب أن مادته فيها من ابن حزم ، سواء في مسائل الاعتقاد التي قد لا تكون أصولاً، أي: محلها القلب، وهي مسائل السمع، أو مسائل التشريع ومسائل الفقه، فإنه قرأ لـابن حزم كثيراً كـابن تيمية رحمه الله؛ فإن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية من أكثر من قرأ لـأبي محمد ابن حزم، ولكن استفادة ابن تيمية من ابن حزم كانت أحكم، ولذلك لم يدخل معه في أصل مشكل، بخلاف ابن القيم ، فإنه قد يأخذ عن ابن حزم بعض الأصول أو المسائل التي ليست محققة، ويستعمل أحياناً طرقاً في الاستدلال ليست منضبطة، كاستعماله لطريقة التضمين والتلازم في المسائل، ونفس ابن حزم في هذا الاستعمال كبير، كاستعماله لطريقة الفهم في أقوال المتقدمين أحياناً، إذا أراد أن ينتصر لقول ما وأن هذا القول هو قول لفلان وفلان من أعيان السلف، فيأخذ من أقوالهم بالفهم، فهذه الطريقة أحياناً ينتحلها ابن القيم ، وإن لم يكن كـابن حزم فيها.

    والمقصود: أن هذا القول غلط من جهة الدليل، وليس صواباً، وابن القيم رحمه الله مادته في هذه المسألة منقولة عن ابن حزم ، فإنه أول من تكلم بهذا.

    والصواب هنا -طرداً للقاعدة السابقة-: أن يقال: إن هذا مما سكت عنه القرآن والسنة.

    أما استدلال ابن القيم وابن حزم بقول الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [المؤمنون:102-103] وبالمقارنة التي جاءت في سورة الأعراف وفي سورة المؤمنون وفي سورة القارعة، فليس صواباً، لأنك إذا قرأت هذه المواضع في القرآن وجدتها صريحة في سياق المسلمين والكفار، فإن الله يقول في سورة المؤمنون: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:103-105]. فالآيات صريحة أنها في المسلمين والكفار، فإذاً هذا النوع من الدليل ليس محكماً.

    وأما قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47] استدل بها ابن القيم وابن حزم فقالا: (والقسط هو العدل، والعدل أن من زادت حسناته فهو كذا، ومن زادت سيئاته فهو كذا)، فهذا ليس صواباً، وإنما العدل هو عدم الظلم؛ ولذلك إذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى: يغفر لمن زادت سيئاته على حسناته سيئة واحدة، لم يكن هذا منافياً للعدل؛ إنما الذي ينافي العدل هو الظلم، كقول المرجئة الواقفة: إن الله قد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، فهذا من الظلم الذي لا يمكن أن يكون عدلاً منه سبحانه وتعالى، والقصد أن الاستدلال بالآية ليس له وجه.

    وأما قول ابن القيم : (هذا هو مذهب الصحابة)، فبناه على آثارٍ منقولة عن طائفة من الصحابة في آيات الأعراف، والآثار عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة بن اليمان .

    قال ابن مسعود : (أن من زادت حسناته واحدة، فهو إلى الجنة، ومن زادت سيئاته واحدةً فهو إلى النار، ومن استوت حسناته وسيئاته، حبس) هذا الأثر عن ابن مسعود ونحوه عن ابن عباس وحذيفة بن اليمان ، رواه ابن جرير في تفسيره، وهي ليست صحيحة من جهة الإسناد عن الصحابة؛ ولذلك أعرض عنها ابن جرير ، مع أن قاعدة ابن جرير في تفسيره: أن الصحابة إذا كان لهم قول، ولم ينقل قول مخالف عن الصحابة أنفسهم، وإنما المخالف من التابعين أو من بعدهم، فإن ابن جرير رحمه الله ينتصر بقوة لقول الصحابة.

    وفي تفسير ابن جرير لهذه الآية لم ينقل عن طائفة من الصحابة ما يخالف هذا القول، وإنما نقل عن طائفة من غير الصحابة، ومع ذلك لما انتهى من عرض المسألة رجح رحمه الله التوقف في أهل الأعراف، وهذه إشارةٌ منه إلى أن الأسانيد عن الصحابة عنده ليست مقبولة.

    والأسانيد إذا نظرت إليها وجدتها معلولة من أكثر من جهة، أقربها وأدناها إلى النظر أنها منقطعة.

    فالمقصود أن كثيراً من المفسرين يرجحون الوقف في أهل الأعراف، وهذا هو المذهب الصحيح، وإنما الذي أخبرنا القرآن به عن أصحاب الأعراف: أنهم رجال، خلافاً لقول أبي مجلز أنهم ملائكة، وهذا غلط، لأن الله قال: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46]ولذلك ابن جرير لم يبطل من الأقوال شيئاً إلا القول المأثور عن أبي مجلز أنهم ملائكة، فقال: إنهم رجال بنص القرآن.

    وللمفسرين في أهل الأعراف ما يقارب الثمانية أقوال، وعلى قول ابن القيم وابن حزم يلزم أن أهل الأعراف قد أجمع الصحابة وأئمة السلف على تفسيرهم بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا ليس فيه إجماع، بل الصواب في أهل الأعراف أنهم الله أعلم بهم.

    والوقف في هذا النوع من آيات القرآن أو من الدلالات هو المنهج المحقق، وليس الترجيح للتفصيل هو المحقق دائماً.

    فإن الراجح دائماً والتحقيق دائماً: هو حسن الأخذ لدليل القرآن أو السنة، هذا هو الترجيح الصواب، وهذا هو التحقيق للعلم الشرعي، وهو أن يأخذ الناظر في الأقوال أقرب الأقوال إلى الدليل.

    فنقول: إن التوقف هو الأقرب إلى الدليل؛ لأن الدليل مجمل من كل جهة، فمهما استعملت فيه من أنواع الدلالات لا تستطيع أن تفك هذا الإجمال، فيبقى هذا الدليل مجملاً، فيكون الراجح في أهل الأعراف الإجمال، والإجمال هنا التوقف في شأنهم.

    وهناك فرق بين إنكار الموازنة وبين إنكار هذا القول الذي ذكره ابن القيم وابن حزم ؛ فالموازنة مجمع عليها، أما هذا القول فإنه ينكر، فإن قيل: فما الصواب؟ قيل: الصواب أن يقال: الله أعلم.

    فهذا القول لا دليل عليه، فضلاً عما فيه من الزيادة كقولهم مثلاً: (أن من زادت سيئاته على حسناته واحدة يعذب في النار) فهذا الجزم لا دليل عليه، لأن الله يقول: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وهذه السيئة التي زادت وجعلوها الفاصل في مسألة العذاب تدخل في المشيئة، ولا أحد يستطيع أن يقول أنها لا تدخل.

    وأغرب من هذا قول ابن حزم : (فمن لفحة في النار إلى خمسين ألف سنة في النار)؛ فهذا لا دليل عليه من أي جهة من الجهات، لأنه تقدير بالزمن، وهذا لم ينطق به نص من النصوص.

    فالمقصود أن الأقوال التي هي أصول مجمع عليها بين السلف لا تؤخذ بالفهم، ولا تؤخذ بتفرد بعض أهل العلم فيها، بل لا بد أن يكون القول، إن كان محكياً، أن تكون الألفاظ عن السلف متواترة كقولهم: (الإيمان قول وعمل)؛ فكل كتاب من كتب السنة ترجع إليه تجد أن علماء السلف يطرد قولهم أن الإيمان قول وعمل، أو يقولون: قول وعمل واعتقاد.

    فـالبخاري يقول: لقيت أكثر من ألف أستاذ بالأمصار كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، وهذا تواتر لفظي.

    أو يكون القول الذي نسميه مذهباً للسلف أو لأهل السنة قد نص على الإجماع عليه غير واحد من المحققين، كأن يذكره ابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ، فيتوارد جمع على أن هذا مذهب السلف إجماعاً، أما إذا انفرد واحد من غير المحققين في هذا المذهب، أو كان من المحققين كـابن القيم ، ولكنه اتكأ في هذا المسألة اتكاءً صريحاً على من ليس محققاً وهو ابن حزم ، فهنا لا يعتبر مثل هذا النقل.

    صحائف الأعمال

    قال رحمه الله: [وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره كما قال سبحانه وتعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]] .

    هذا في منتهى الحساب؛ فإذا ما حوسب العباد وقرروا بذنوبهم على ما يشاء الله سبحانه تعالى، تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، وهي ما انتهت إليه الصحائف بعد موازنة الله سبحانه وتعالى، وما يتبع هذه الموازنة من حكم الله وقضائه، فآخذ كتابه بيمينه وهو الناجي، وآخذ كتابه بشماله وهؤلاء هم أهل النار.

    ويختلف كثير من المفسرين في ذلك؛ فمنهم من قال: يأخذونه بشمالهم، ومنهم من قال: يأخذونه وراء ظهورهم، ومنهم من قال: هذه في الكفار وهذه في المنافقين، ومنهم من فصل على غير ذلك من التفصيل، والأظهر في هذا أن يقال: الله أعلم.

    إلا إذا انضبط نص نبوي مفصل لمثل هذا المجمل من القرآن فإنه يقال به، وأما إذا لم ينضبط فيقال: إن الناس يوم القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير، وأهل النار يأخذون كتابهم بشمالهم ومن وراء ظهورهم، أما العلم بهذا فليس من العلم اللازم، والله سبحانه وتعالى بين لنبيه؛ فما نص عليه كان علماً مشروعاً، وما لم ينص عليه فليس من العلم المشروع.

    فالعلم بالرسالات وبأسماء الرسل كموسى وعيسى وإبراهيم هو علم مشروع، يزيد الإيمان، ومع ذلك ثمة رسل ما ذكرهم الله في القرآن، قال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]فهؤلاء الذين لم يذكر الله سبحانه وتعالى شأنهم في القرآن ليس العلم بشأنهم مشروعاً لهذه الأمة، لأن ما يحصل به العلم -وهو الوحي- لم يأت بهم، فلم ينزل فيهم قرآن ولم يحدث بهم النبي عليه الصلاة والسلام، فتكلف العلم بهم ليس من التكلف المشروع.

    ولذلك نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم، فتصديقهم يتضمن الإيمان، فنهى عن تصديقهم في أخبارهم، وما يخبرون به عن الأنبياء، ونهى عن تكذيبهم، إلا إذا كان الذي أخبروا به معارضاً للنصوص معارضةً بينة، فهذا يكذبون به؛ لأنه يعلم حينها أنه من المحرف المكذوب.

    ويخطئ كثير في فهم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ..)وقوله: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)فهذا ليس على إطلاقه، إنما الخطاب فيه لما احتمل فيه من خبر أهل الكتاب.

    أما ما كان من كلام أهل الكتاب بيناً أنه كذب، كبعض الروايات التي يذكرون فيها عن الرسل والأنبياء ما يعلم أنهم لا يقعون فيه وأن الله نزههم عنه، أو يحكون عن التشريع ما يعلم أنه لا يقع في شرائع الله سبحانه وتعالى، فهذا يجب التكذيب به؛ لأنه من المحرف المكذوب.

    مناجاة المؤمن لربه

    قال المصنف رحمه الله: [ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة] .

    هذا ثابت بالسنة: أن الله سبحانه وتعالى يخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، وهذا الذي ثبت في السنة الله أعلم بماهيته من جهة التفصيل، وفي الأحاديث غير لفظ كقوله: (يخلو) وكقوله: (فيدنيه الله ويضع عليه كنفه) وإلى غير ذلك من النصوص كحديث ابن مسعود وغيره. فهذه نصوص ثابتة في الصحيح وغيره، ولكن التفصيل فيها لا يزاد عن ظاهر النص.

    مسألة محاسبة الكفار

    قال المصنف رحمه الله: [وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم] .

    الكفار لا يوافون ربهم بحسنة، وإن كانوا يعملون أعمالاً حسنة في الدنيا، فإن هذا يجازون به في دار الدنيا، كما في الصحيح عن أنس بن مالك في صحيح مسلم وغيره قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكفار فيطعم بحسناتٍ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها)، والصواب في قراءة الحديث: أن تنون كلمة (حسنات)، فتكون (ما) نافية، أي: فيطعم بحسنات لم يعمل بها لله في الدنيا، أي أن هذه الحسنات لم يعمل بها لوجه الله، والأمر كذلك، فإن الكفار وإن كانوا قد يفعلون فعلاً حسناً كبر الوالدين، أو كصلة الرحم، أو كالعتق، أو كصدقات وبر وما إلى ذلك، فإن هذا وإن كان خيراً وحسنة، فإنه ليس المقصود عندهم هو وجه الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، فالقرآن والسنة تبينان أن الكفار يجازون بحسناتهم في الدنيا ولا يوافون ربهم بحسنة.

    قال المصنف رحمه الله: [ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيقفون عليها ويقرون بها] .

    أما مسألة محاسبة الكفار، فإن بعض المتأخرين من أصحاب الأئمة أطلق أنهم يحاسبون، وهذا ذكره المصنف في فتاواه، قال: إن بعض أصحاب أحمد وغيرهم، قال: إنهم يحاسبون، وبعضهم قال: إنهم لا يحاسبون، قال: والصواب: التفصيل، هذه الطريقة التي يستعملها ابن تيمية رحمه الله وابن القيم كثيراً، ويستعمل كثير من المتأخرين هذه الطريقة، فتجدهم يقولون: بعضهم قال كذا، وبعضهم قال كذا، ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال، ثم يقال: والصواب التفصيل.

    والصواب هنا هو من حيث اللفظ. بمعنى أنه إذا قيل: الصواب التفصيل، فقد يكون الصواب من حيث المعنى، وقد يكون الصواب من حيث اللفظ، فما الفرق بينهما؟!

    إذا قلنا أنه صواب من حيث اللفظ، فمعناه أن ابن تيمية يقول: إن الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناتهم مع سيئاتهم؛ لأنهم لا حسنات لهم، ولا يوافون ربهم بحسنة، فهل من قال من أهل العلم أن الكفار يحاسبون، كان يقصد أنهم توزن حسناتهم مع سيئاتهم، وأنهم يوافون ربهم بالحسنات؟ لا. لا يلزم هذا. ثم يقال: فيقررهم الله بذنوبهم، هل من قال أنهم لا يحاسبون، قال: إنهم لا يقررون؟ لا.

    فإذاً: كلام شيخ الإسلام أحكم ليس من جهة المعنى، فإن المعنى في الجملة فيه اتفاق, وإنما هو أحكم من جهة اللفظ.

    ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بمسألة غسل الجمعة، فإن شيخ الإسلام قال: إن الأئمة الأربعة يذهبون إلى أن غسل الجمعة ليس واجباً، إنما هو مستحب، ومن أهل العلم من ذهب إلى وجوبه.

    وفصل ابن تيمية -وانتصر له ابن القيم - فقال: أن من كان فيه رائحة يتأذى منها الناس، فيجب عليه الغسل، ومن لم يكن كذلك لم يجب عليه الغسل.

    فيأتي البعض ويقول: الصواب التفصيل، فهذا الصواب هو من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، والفرق أنك إذا قلت: الصواب من حيث المعنى، لزم من ذلك أن القول الثالث غير القول الأول وغير القول الثاني، وهو ليس كذلك، لأن القول الذي قال به شيخ الإسلام حقيقته هو قول الأئمة الأربعة الذين يقولون: لا يجب غسل الجمعة، لأنهم حينما قالوا: إن غسل الجمعة ليس واجباً ما أرادوا أنه كذلك حتى ولو كان به رائحة يتأذى بها الناس، فهذه مسألة خارجة، لكونها عارضة، وهم يتكلمون عن أصل الحكم الشرعي؛ ولذا لا يجوز أن نقول: أن الأئمة الأربعة يقولون: لا يجب غسل الجمعة: لا على من به رائحة يتأذى بها الناس، ولا على من ليس به رائحة، وأن ابن تيمية يفصل.

    ولو كانت الوسطية هنا وسطية المعنى، لزم أن نقول هذا القول.

    والنتيجة من هذا أن التفصيل لا ينبغي أن يلجأ إليه إلا في التقارير العلمية، ولا يفصل للعامة، بمعنى أن يقال: مسألة غسل الجمعة ليس فيها لأهل العلم إلا أحد قولين: عدم الوجوب، وهو قول الجمهور واختاره ابن تيمية .

    ولكن شيخ الإسلام نبه إلى مسألة: وهي أن من به رائحة يغتسل، وهذا يوافق الجمهور، مثل ما قلت مذهب الإمام أحمد أن صلاة الجماعة واجبة، إذا شخص خاف فوت رفقته، فجاء شخص وقال: الصواب التفصيل، فمن حصل له الخوف أو مرض لا يجب عليه الجمعة.

    فنقول: ليس مقصوداً في كلام الإمام أحمد ، أن الجماعة واجبة على كل حال.

    فالمقصود أن كثرة العناية بأن يكون الراجح من الأقوال هو التفصيل الذي فصله متأخر، ليس منهجاً حكيماً، مع أنه -ومع الأسف- يهتم الكثير بذلك، فتجد المسألة في كلام الأوائل الأكابر على قولين مثلاً، ثم يقال: الراجح ما ذكره ابن القيم ، وهو التفصيل، وما ذكره ابن القيم ليس خارجاً عن القولين، لأنه لو خرج عن القولين كان القول غلطاً. وإن كان هناك خلاف مع بعض المعتزلة ومن شاركهم في هذا الأصل من الأشاعرة أو الفقهاء، إلا أن الصحيح المنضبط عند السلف أنه إذا انضبطت الأقوال على قولين أو ثلاثة، فلا يجوز لأحد أن يزيد قولاً رابعاً خارجاً عنها.

    وأكثر ما يقول فيه أعيان المتأخرين: الصواب التفصيل، هو من التفصيل اللفظي، الذي لا ينبغي أن يلجأ إليه إلا عند الاحتياج.

    الحوض المورود

    قال المصنف رحمه الله: [وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم] .

    حوض النبي عليه الصلاة والسلام متواتر، وليس المقصود بالتواتر هنا التواتر الذي رسم حده المعتزلة، بل هو متواتر عند أئمة الحديث وأئمة السلف؛ كـالشافعي وأمثاله الذين ذكروا لفظ التواتر؛ بمعنى: أنه رواه جماهير من الصحابة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وثبت في كتب الصحاح، وتلقاه العلماء بالقبول، وقد جاء من حديث أبي ذر وابن عمر وأبي هريرة وجابر بن سمرة ، وأمثالهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وألفاظه في الصحيحين وغيرهما كثيرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن طوله شهر، وإن عرضه شهر، آنيته عدد نجوم السماء، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً)، وكقوله: (أنا فرطكم على الحوض)كما في حديث أبي هريرة ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي هذا من مقامي إلى صنعاء)، إلى غير ذلك من التحديد إما الزماني أو المكاني لحوض النبي عليه الصلاة والسلام.

    هذا الحوض -وهو على نهر الكوثر- أوتيه النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حديث أنس في الصحيح قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]إلى آخر السورة، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، وهو حوض).

    فدل ذلك على أن الحوض يكون على هذا النهر وهو نهر الكوثر، قال: (وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة..)إلى آخر الحديث.

    قال المصنف رحمه الله: [ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء] .

    وهذا ثابت في الصحيح.

    قال المصنف رحمه الله: [طوله شهر، وعرضه شهر] .

    هذا التقدير الزماني المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، وفي الصحيح كذلك التقدير المكاني، كقوله: (من مقامي إلى صنعاء) أو (من مقامي إلى عمان).

    قال المصنف رحمه الله: [من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً] .

    والذي يرد عليه هم جمهور أمته عليه الصلاة والسلام، وإن كان يذاد عنه رجال ممن أسقط السنة إسقاطاً بيناً، وقد جاء هذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد، قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهر خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ثم قال: ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً).

    فهؤلاء الذين يذادون عن حوضه هم من أسقط سنته وعارضها، وانتحل سبيل غير المؤمنين.

    الصراط

    قال المصنف رحمه الله: [والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، تمر الناس عليه على قدر أعمالهم] .

    فيمرون على الصراط على قدر أعمالهم، وليس على قدراتهم البشرية، ولو علق ذلك بالجانب البشري لامتنع أن يمر أحد على الصراط، ولذلك ليس هناك أثر لبشرية الإنسان في هذا المرور من كل وجه، وإنما يمرون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يمر كأجاود الإبل، ومنهم من يزحف، إلى غير ذلك مما هو مفصل في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (وفي جهنم كلاليب وحسك مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم عظم قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم).

    وهذا الصراط يمر عليه جميع المؤمنين وجميع الكفار، فلا يسلم من المرور عليه أحد.

    والمؤمنون الذين أراد الله سبحانه وتعالى أن يسلموا من العذاب لا يقع أحد منهم على هذا الصراط، ومنهم من يزحف زحفاً، فتدركه النجاة والشفاعة، ومنهم من يسقط بحسب ما يقدره سبحانه وتعالى، فالله أعلم بماهية هذا المرور وتفاصيله.

    وقد وردت في الصراط آثار ضعيفة، كبعض الآثار المذكورة أنه أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وما إلى ذلك، فهذه الآثار لا تصح، وإن كانت مشهورة في كثير من الكتب المصنفة.

    قال المصنف رحمه الله: [فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم] .

    من فقه المصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر هذه المسألة أنه اقتبس كثيراً من جملها من الأحرف الشرعية، فبعض جمله منقولة من القرآن، وبعضها منقولة من السنة.

    وقوف المؤمنين بعد الصراط على قنطرة بين الجنة والنار

    قال المصنف رحمه الله: [فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا عذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة] .

    هذه القنطرة بعد الصراط هي تصفية وتهذيب لأهل الجنة مما يقع بينهم من آثار نفوسهم التي لا يجازون عليها من جهة العذاب، فتهذب نفوسهم على هذا الوجه.

    وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أن فقراء المهاجرين يدخلون قبل أغنيائهم بأربعين سنة)، فهل هذا هو حبسهم في القنطرة، أم هو وجه آخر؟ الله أعلم بتفصيل ذلك.

    وإن كان هذا الحديث ثابتاً في الصحيح، فلا يفهم منه أن من سبق من الفقراء أفضل من الأغنياء؛ فإن دخول هؤلاء الفقراء الجنة قبل الأغنياء الذين حبسوا من أجل المال المحض، لا يلزم منه أن تكون درجة الفقير أعلى من درجة الغني، هذا إذا أخذ الحديث على ظاهره، أما إذا أريد بذلك مسائل أخرى في الأموال من المحرمات فهذا باب آخر، ولكن الحديث هو في المهاجرين، ولم يرد به صلى الله عليه وسلم أنهم يحبسون من جهة ذنوبهم.

    أول من يدخل الجنة

    قال المصنف رحمه الله: [وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته] .

    ثبت في الصحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)، فهو أول من يستفتح وأول من يدخل الجنة، وأمته عليه الصلاة والسلام هم أول الأمم دخولاً الجنة، وهذا بعد دخول الأنبياء ولا شك؛ إذ لا يدخل أحد من الأمم قبل استيفاء الأنبياء دخولهم الجنة، فإن الله فضل الأنبياء على سائر وأفراد الأمم، فإذا استوفى الأنبياء الدخول وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، دخلت الأمم، وأول أمة تدخل هي أمة محمد، ولا يلزم من ذلك أن الأمة المحمدية تستوفي في الدخول ثم تدخل الأمم، وإنما المقصود هو ابتداء الدخول، وإلا فلا شك أن أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام ومن صح إيمانه من أصحاب الرسل والأنبياء هم أفضل من كثير من هذه الأمة، بل أفضل من أكثرها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756165144