إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) . حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح ].

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    وبعد تلك الرحلة الطويلة مع هذا المجموع المبارك من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي المؤلف رحمه الله تعالى -وقبيل الأخير بحديث واحد- بهذا الحديث الذي هو بمثابة المقياس والميزان للمؤمن حقاً في إيمانه اعتقاداً وقولاً وعملاً.

    ترجمة موجزة لراوي الحديث

    يقول النووي رحمه الله: (عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص ) وهو رضي الله تعالى عنه من خيرة أصحاب رسول الله، وكلهم أخيار.

    كان صلى الله عليه وسلم يقدمه على أبيه؛ لأنه سبق أباه إلى الإسلام، ولم يكن بينه وبين أبيه سوى ثلاث عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة سنة، أي: أن أباه تزوج صغيراً وأنجب، وكان من أكثر أصحاب رسول الله حديثاً، كما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (ما كان أحد أكثر مني حديثاً إلا عبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يكتب ولا أكتب).

    وهكذا يظهر أثر كتابة العلم وتدوينه، وقد قال عبد الله : (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه، فقال: اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) ، وهذا كما قال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    رتبة حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)

    ذكر النووي رحمه الله هذا الحديث، وإن كان لم يُخرَّج في الست، ولكن خُرِّج في كتاب: الحجة على من لم يسلك الطريق والمحجة للمقدسي . ويقول العلماء: إنه كان رجلاً شديداً في الله، متحرياً في السنة، محارباً للبدعة، فأحسنوا الظن به فيما يرويه.

    ولكن كما أشرنا سابقاً، أن من قواعد مصطلح الحديث والأصول عند الأصوليين والمحدثين: أن الحديث إن ضعف سنده من حيث الرجال، وشهدت له نصوص أخرى من الكتاب والسنة؛ فإنها تقويه ويصير حسناً لغيره.

    ويكفينا أن النووي وهو هو في الحديث وفي الفقه وفي العلم والفضل يستحسنه، ولهذا الحديث شواهد من الكتاب ومن السنة.

    الفرق بين متعلقات الإيمان ومتعلقات الإسلام

    الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، هذه كلمات معدودات تضع الميزان الحق في ادعاء الإيمان اعتقاداً وقولاً وفعلاً.

    فالإيمان: تصديق بالقلب واعتقاد بالغيب، بخلاف الإسلام الذي هو امتثال الجوارح ظاهراً، كما في حديث جبريل عليه السلام: عندما سأله عن الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) والشهادة نطق، (وتقيم الصلاة) والصلاة حركة، (وتؤتي الزكاة) وهي: إخراج جزء من المال، (وتصوم رمضان) والصيام: إمساك، (وتحج البيت) رحلة وعودة.

    كل هذه أعمال ظاهرة بمعنى الاستسلام والانقياد لأوامر الله، ثم جاء في الحديث: (أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، كل هذه أمور غيبية ليس عندنا منها شيء محسوس، حتى الكتب التي أنزلها الله ليس عندنا حقائقها؛ لأن اليهود والنصارى غيّروا ما أنزل الله، ولم يبق إلا القرآن الكريم بين أيدينا، وهو داخل في عموم كتبه، وما عدا ذلك: فرب العزة سبحانه غيبه عنا، لكن آياته وقدرته ودلائل وجوده سبحانه مستقرة في أنفسنا وفي الكون كله من حولنا.

    والملائكة أخبرنا الله عز وجل عنهم، وقد رآهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً.

    وكذلك الرسل كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، وبلغ عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    والبعث هو إحياء الناس بعد الموت.

    والآيات عليه في كتاب الله من الناحية الكونية ومن الناحية العقلية، بل ومن الناحية العملية متوفرة.

    أما من حيث الكون فيقول سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى.. [فصلت:39].

    وأيضاً قصة بني إسرائيل وقتيلهم، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْييِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73] أي: فأحياه الله ونطق وقال: قتلني فلان، ثم مات، فكهذا الإحياء يحيي الله الموتى.

    وإبراهيم عليه السلام قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، لأن العلم عن إبلاغ لا يساوي العلم عن مشاهدة، ولذا ذكر الله سبحانه في سورة التكاثر: (علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين).

    فقال الله له: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260]، فقطعها، ووزعها، ثم ادعها.. تأتك سعياً.

    وقصة أصحاب الكهف إذ لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنوات -ثلاثمائة ميلادية، وهي ثلاثمائة وتسع هجرية قمرية- ثم يُبعثون ويذهبون ليبحثوا عن طعام ليأكلوه، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الكهف:21].

    وهكذا الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ.. [البقرة:243].

    وكذلك قصة عزير العزير مع حماره وفاكهته، فقد شاهد عياناً كيف يُنشز الله العظام بعد موتها وكيف يكسوها اللحم!

    وكذلك موسى كان معه حوت مقلي ومملَّح فاتخذ سبيله في البحر سرباً!

    طيور.. حيوانات.. حيتان.. بشر، كل ذلك آيات عملية، ونموذج مصغر للبعث، وإحياء نفس واحدة كإحياء الناس جميعاً.

    فالإيمان يتعلق بالمغيبات، ولذا من لم يؤمن بمطلق الوعد أو الخبر وجاء عند المعاينة وأعلن إيمانه فلا قيمة لهذا الإيمان؛ لأنه لم يؤمن عن مجرد الخبر، وكما حصل لفرعون حيث آمن عند المشاهدة، فقيل له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس:91] وكذلك الحال مع عامة الناس، كل من تاب قبل أن يغرغر، وقبل أن يرى الحقائق، وينكشف له الغيب فإن الله يقبل توبته، أما إذا أصر وسوَّف حتى يعاين حقائق البعث والجزاء والآخرة، ثم يقول: تبتُ، فإن التوبة لا تقبل منه.

    سبب اشتراط تبعية هوى المؤمن للشرع

    يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن) أي: لا يصدق أحد حقيقة ويطبق الإيمان عملياً حتى يكون إيمانه الذي يدعيه وينتسب إليه ويتلبس به، يحمله على أن يكون الهوى والميل والرغبة فيه تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ وما هي علاقة الإيمان بهذا؟

    لأنك مبدئياً تؤمن بالله، فتشهد أن لا إله إلا الله، وتقول: الله ربي ورب العالمين، تعلنها سبع عشرة مرة في يومك وليلتك في الصلوات الخمس: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] أي: خالقهم ورازقهم، محييهم ومميتهم، مدبر أمورهم بالربوبية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: لأنه المستحق للألوهية والعبادة منا له.

    وتشهد أن محمداً رسول الله أي: تشهد أن الرب سبحانه وجل جلاله أرسله إليك وإلى الناس كافة برسالة وبلَّغها.

    إذاً: إن كنت تؤمن حقاً بهذه المبادئ، وأنه فعلاً لا معبود بحق سواه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله، جاء بالرسالة من عنده؛ فلا يتم هذا الإيمان ولا يكون عملياً إلا إذا كان هواك تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

    وهنا كلمة (هواه) يقولون في اللغة -واللغة العربية فلسفتها عجيبة- هوى وهواء، وثنى وثناء، وغنى وغناء، والثرى والثراء، كل هذه بينها فوارق.

    الثرى والثراء، المقصور معناه: التراب، والممدود معناه: الغنى ووفرة المال.

    الغنى والغناء، الغنى: ضد الفقر، والغناء: اللهو واللعب.

    والهوى هو: الميل والرغبة، والهواء: هو هذا الذي نتنسمه والذي يملأ الفراغ بين السماء والأرض.

    إذاً: (حتى يكون هواه)، أي: ميله ورغباته، تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهنا يقول العلماء: في هذا الحديث لفت نظر؛ لأن كلمة (الهوى) غالباً ما تستعمل في الأشياء التي هي ضد الحق يقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] يعني: ميوله ورغباته. يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص:26] فالحق يقابله الهوى، والهوى في مقابلة الحق يكون باطلاً.

    فقالوا: كيف يكون هذا الهوى -الذي هو غالباً يستعمل في الجوانب التي هي ضد الحق أو في الشر- موضِع تحقيق الإيمان ويجعله تابعاً لرسول الله؟

    ويُجاب عن ذلك والله تعالى أعلم: بأن البلاغة النبوية تضع الإنسان في رغباته كلها من بدايتها إلى أقصاها وهو الميل الفطري والرغبة الإنسانية في الغرائز وفي الميول وفيما تهواه النفس وتميل إليه من الجانب البشري، وكل ما ينزع بالإنسان إلى جانب آخر، ولكن تلك الرغبات التي تشذ بالإنسان أو تجنح به إلى اليسار لا يمكن أن يكون صاحبها مؤمناً إلا إذا كانت نزعات الأهواء والميولات النفسية خاضعة وتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: حب الآخرة، والميل إلى العمل الصالح هي الفطرة، (كل مولود يولد على الفطرة) أي: الفطرة الإسلامية الحنيفية السمحة، وهي من باب أولى تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذا أصبح هواه وميوله الذي يشبع رغباته وشهواته، ويدعوه إلى تحقيق مطالبه البشرية ورغباته الحيوانية متبلوراً ومتمرناً وتابعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن جانب الخير فيه سيكون تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم.

    ولذا يقولون: الإنسان فيه شبه بالسبُع في الافتراس وقوة الغضب، وفيه شبه بالملائكة في اللين والتواضع، والإنسان مكون من روح وجسد، فالروح -دائماً- تسمو إلى مكارم الأخلاق وعلو الهمة، وطاعة المولى، والاستئناس بالعبادة وبذكر الله، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    والجسم يخلد إلى الأرض في شهواته ورغباته، فالجسم يميل إلى طبيعته الحيوانية، والروح تميل إلى الجوانب الروحية العلوية الإلهية.

    ولذا يقولون: إذا غلبت طبائع جسمه روحَه كان حيواناً: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، وإذا غلب الجانب الروحي كان ربانياً، ممن يعلمون ويتعلمون ويطيعون الله سبحانه، ولذا انقسمت الأمم الماضية إلى قسمين:

    قسم: غلَّبوا جانب البدن، وهم اليهود، وأصبحوا ماديين يحتالون على ما حرم الله ليأكلوه.

    والقسم الآخر: النصارى الذين أرادوا أن يكبحوا جماح المادة في اليهود، فابتدعوا الرهبانية، فما استطاعوا أن يواصلوا بها.

    وجاء الإسلام وطابق ووازن بين مركبات الإنسان مادة وروحاً، فأذن له أن يأكل ويشرب ويتحرى الحلال، وأن يصلي ويصوم، ويجمع بين الأمرين بكفتين متعادلتين ويطير بجناحين سليمين قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9-10].

    ولذا يقول علماء الاجتماع: الإسلام دين ودنيا، وعلى هذا يخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا، حتى تكون طبائعه وغرائزه وهواه وميوله كلها تابعة لما جاء به صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تقديم محبة الرسول وما جاء به على النفس والولد والوالد

    هذا الحديث بهذا اللفظ وإن قال فيه النووي : رواه صاحب الحجة؛ فإننا نجد له الشواهد من الصحيحين منها:

    ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).

    وقال عمر : (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر !)، أي: الآن كملت المحبة.

    الأمور الغريزية الدافعة للمحبة

    لو أردنا أن نوازن ونقارن -قبل أن نعرف حقيقة تلك المحبة- بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءك عنه، وبين ولدك ووالديك ومالك والناس أجمعين؛ سنجد فرقاً عظيماً.

    يقول القاضي عياض : إن دواعي الأمور الفطرية الغريزية واحدة من أربع، حيثما وجدت واحدة من تلك الأربع فإنها تستدعي المحبة، قال: جلب النفع، ودفع الضر، فأيما إنسان جلب لك نفعاً وجدت في نفسك الميل إلى حبه بشكل طبيعي، وأيما إنسان دفع عنك ضراً وجدت في نفسك الميل إلى محبته.

    قال: وجمال الخلقة والخلق؛ فالإنسان من حيث هو قد ينظر إلى لوحة رسم زيتية فيها شجر ونبات ونهر ومنظر طبيعي، فلا يمل النظر إليه جِبلَّة، وترى الطائر الجميل كالطاوس مثلاً فتحب هذا الشكل أمامك.

    وأما جمال الخلُق، فإنك تجد الإنسان دمث الأخلاق الذي يعامل الناس بالإحسان وبمكارم الأخلاق وحسن السيرة، فتجد في نفسك أنك تحبه لمكارم أخلاقه، ولو لم تتعامل معه.

    اجتماع مقتضيات المحبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم

    يقول القاضي عياض : وقد اجتمعت تلك الأمور الأربعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فلا يوجد نفع أعظم مما جاءنا به صلى الله عليه وسلم فإنه عرّفنا بربنا عز وجل.

    ومعرفة العبد بربه لا يوازيها شيء، فأنت عرفت ربك وخالقك الذي خلق السماوات والأرض، وعرفت رب العالمين، فمثلاً لو أن شخصاً اكتشف جهازاً ما أو اكتشف أي شيء مجهول، أو جاء للعالم بأي اكتشاف جديد، وعرف ما لم يعرفه الناس؛ تطاول إلى السماء، وأنت تعرف خيراً مما عرف؛ لأنك تعرف رب العالمين عز وجل.

    ومن النفع الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءنا بما يدخلنا الجنة.. فعرّفنا طريق الجنة، فأيُ شيء يوازي الجنة؟

    يقول صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، وعرّفنا بالإسلام، وعرفنا بالعبودية لله، وكيف نعبد ربنا ونتقرب إليه، وعرّفنا بالملكوت الأعلى كله.

    ودرأ عنا كل شر في حياتنا، فصان وعصم دماءنا، وأموالنا، وصان فروجنا وأعراضنا، وكفَّ بعضنا عن بعض، كل شر في الدنيا سد طريقه عنا، وسد عنا أبواب النار، وبيّن لنا الطريق الذي به نسده.

    ولذا لما خطب القوم قال: (ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد بينته لكم)، فماذا نريد أكثر من هذا؟

    والترجمة القرآنية لرسول الله تقول: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128]، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه ما يلحقكم من عنت ومشقة، وحريص على جلب الخير لكم، ثم يتوج ذلك بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؛ عليه الصلاة والسلام!

    القسم الثالث: جمال الخِلقة، يقول بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله ما ملأت عيني من محمد في جاهلية ولا إسلام، أما في الجاهلية فكراهية أن أنظر إليه، وأما في الإسلام فحياءً من أن أنظر إليه)، سبحان الله! فهذا كما قال القائل:

    أهابك إجلالاً وما بك سلطة علي ولكن ملء عين حبيبها

    يهابها وهي ضعيفة ليس لها سلطة عليه، ولكن من شدة وفرط المحبة، وهنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: والله لو طُلب من أحدنا أن ينعت رسول الله لما استطاع، يقولون: ما كنا نستطيع أن نملأ أعيننا منه حياءً وإجلالاً.

    وأما جمال الخُلُق.. فلو اجتمع العالم كله من أوله إلى آخره فلن يستطيعوا أن يصفوا أخلاق رسول الله بما وصفها الله وجعلها قرآنا يتلى ونتعبد به: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، تقول أم المؤمنين عائشة لما سُئلت كيف كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (أتقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن)، يعني: يأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه، ويعمل بمكارمه ومحاسنه وآدابه.

    إذاً: لو قارنا الولد والوالدين مع دوافع المحبة التي ذكرنا فسنجد الفرق العظيم، صحيح أن الوالدين لهما الحق الثاني بعد الله وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] حتى في حالة الكفر: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا [لقمان:15] سبحان الله! لم يقل وعاشرهما، بل قال: وصاحبهما، أي: اجعلهما كصديق، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] وذلك لأنهما تسببا فيما يتسبب فيه أي زوجين من الحيوانات، ورزقهما الله من عنده هذا الولد.

    وأما الولد فقد قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15].

    وأما المال فقد قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7].

    إذاً: الناس أجمعون لن ينفعوا شيئاً (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك).

    1.   

    المحبة الحقيقية التي يطالب بها العبد

    إذاً: العالم كله مع الله سبحانه وتعالى لا شيء، والعالم كله في موازنة ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء، فإن من حقه علينا وفاءً بحقه إعطاؤه تلك المحبة، وليست محبة ذات، ولا محبة هوى، ولكنها محبة جميل.. مقابلة.. عرفان.. إيمان.. تصديق.. تكريم، كل المعاني السامية تنطوي تحت محبته صلى الله عليه وسلم.

    كانوا في الحرب أو في الجهاد أو في المعاملات، وفي كل شيء يقدمونه على أنفسهم، نحن نعرف في الوقت الحاضر أنه في أي مجموعة عسكرية جميع الفرق تفدِّي قائدها وهي أمور ارتباط دنيوية، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    محبة العمل والاتباع

    لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه، ما هي تلك المحبة؟ هل هي لوحة أكتب فيها: أنا أحب رسول الله؟

    الجواب: لا، بل يجب أن تُترجَم تلك المحبة عملياً، واعتقاداً في القلب وإيناساً وإشعاراً وطمأنينة وارتياحاً وميولاً، وأن تترجم في القول، إذا جئت لتعمل أي شيء فتنظر هل هذا العمل يحبه رسول الله أو يكرهه؟ فإذا كان يحبه وفعلته محبة لرسول الله فقد ترجمت حبك لرسول الله اتباعاً وفعلاً لما يحبه، وإذا كان عملاً يكرهه رسول الله وتأتيه جهاراً وإسراراً فهل هذا يتناسب مع دعوى محبة رسول الله؟ لا والله!

    لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

    يضرب لنا صحابي جليل مثلاً رائعاً لم يأت التاريخ بمثله، عندما أخذه المشركون إلى مكة وباعوه ممن كان قد قتل واحداً منهم في بدر، وأعلموه يوم قتله، وقبل أن يقتل أراد أن يلقى ربه نظيفاً حساً ومعنىً، أراد أن يستحد من شعره، فطلب من امرأة في البيت أن تعطيه الموسى، فأخذ الموسى في يده، وأتى إليه طفل صغير يحبو فرأت أم الطفل هذا الأسير في يده الموسى والطفل عنده فصاحت تخشى أن يقتله؛ لأنهم سيقتلونه، فضحك وقال: أتظنين أني أقتل الطفل البريء لا والله! وسلّمه إليها.

    وحينما أخذوه وأخرجوه من الحرم إلى الحل وأرادوا قتله، وكان أسيراً عند من اشتروه، وحينما قُدِّم قال: أنظروني أصلي ركعتين؛ فصلى بخشوع وبدون جزع، وقال: والله! لولا أني أخشى أن تقولوا فزع من الموت لأطلت.

    ثم قالوا له كلمة -وهي محل الشاهد- حينما صلبوه: أتود أن محمداً مكانك الآن وتُضرب عنقه وتسلم أنت؟ انظروا هذا العرض! السيف على عنقه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعيد عنهم في المدينة، فيعظم عليه أن يخطر بباله هذا الخاطر، ويقول: لا والله، ولا أن يشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة!

    لماذا لا يقول ذلك ليفكوا أسره ويدَعوه يذهب لحاله؟ لم يحتمل ولم يقو، إحساسه وإيمانه ورقة عاطفته مع رسول الله تأبى أن تقبل ورود خاطرة أن يشاك صلى الله عليه وسلم بشوكة وهو في المدينة!

    يريد أن تُضرب عنقه مراراً ولا أن يتصور شوكة يشاك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أترون هذا يعصي رسول الله؟ أترون هذا يخالف ما يحبه رسول الله؟ لا والله!

    والأمثلة في هذا الباب عديدة.

    بل أتت بعض الأحاديث في بيان من يأتي بعد رسول الله، ومدى تعلق قلوبهم به ومنها: إخواني يأتون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله.

    محبة ضبط الهوى

    قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، يقول العلماء: ما ارتكب إنسان معصية إلا وخالف هواه سنة رسول الله؛ لأنه عند الإقدام على تلك المعصية عنده وازعان، وصوتان في أذنيه: أحدهما صوت السنة تقول: أقلع فهذا حرام. والآخر صوت الهوى يدعوه: هذه لذة.. فمَن يجيب؟

    إن غلب داعي الهوى مال معه، وإن غلب داعي السنة عُصِم ونجا.

    ولذا يقول العلماء: اتباع السنة تدريب، ونحن إذا نظرنا إلى جزئيات بسيطة يقولها بعض العلماء، إنما هي من باب التعويد وترويض النفس.

    فمثلاً: نأتي في الأكل والشرب واللبس والنوم والأمور الفطرية العادية: أنت تريد أن تأكل الطعام وأول طريق الطعام الفم، لو حملت الطعام باليمنى أو باليسرى إلى فمك ووصل إلى الفم ذهب في طريقه، ولكن إذا أخذت الطعام باليسرى جاءت السنة وقالت: لا، السنة أن تترك اليسرى، وتأخذ باليمنى.

    وإذا أردت أن تشرب كذلك.. وإذا أردت أن تلبس قدمت الكم الأيمن فتلبس الثوب، ولكن إذا امتدت اليسرى قالت السنة: لا، البدء باليمنى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طعامه وشرابه ومنامه، وفي كل شيء.

    إذا جئت إلى فراشك وأردت أن تضطجع استلقيت على ظهرك، أو نمت على بطنك أو على يسارك أو على يمينك، ولكن عندما تستلقي على يسارك تقول لك السنة: لا، انقلب على اليمين، وعندما تنبطح على بطنك تقول لك السنة: لا، النوم على البطن مكروه؛ لماذا هذا كله؟

    لأنك إذا أصبحت وأمسيت تأخذ بالسنة في الصغيرة والكبيرة صرت سنياً بالاتباع، ولهذا عندما يُقدم الإنسان على عمل، أو يُدعى إلى تركٍ فلينظر وليأت بالميزان، داعي الهوى يدعوه إلى المخالفة، وداعي الاتباع يدعوه إلى الموافقة والاتباع، فيوازن بين الكفتين، وقد قدمنا أن هذا الحديث هو ميزان لرغبات الإنسان مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهنا يقول بعض العلماء: إذا كانت كفة الهوى ثقيلة جداً ومائلة ومعها الشيطان والنفس، وداعي السنة في الضمير، بعيد وخافت، فكيف أفعل؟

    يقول العلماء: توقف لحظة بسيطة جداً، وانظر إلى ما بعد رجحان كفة الهوى، أين ستؤدي بك؟ وماذا سيتم؟ لنفرض أنها من الرغبات النفسية أو الشهوة، فإن لذتها لحظة، ثم ماذا بعدها؟

    فالمؤمن يرجع على نفسه باللوم والندامة، وسيأتي الحديث عن موقف الإنسان إذا أذنب واستغفر.

    إذا كان مثلاً أخذ مالاً سرقة، أو اغتصاباً، أو جحد عارية، أو أي شيء من هذا الذي تدعو إليه النفس، فما آخر هذا؟ المال سيذهب، وستحل مكانه خطيئة.

    وفي الجملة ضع الجنة في كفة اتباع السنة، وضع النار مع ميل الهوى، وبناء عليه فانظر إلى أين تميل؟

    ما زلنا في هذا الميزان.. النفس تدعو إلى الشهوات.. وإلى المخالفة ومعها النار، والسنة تدعو إلى الاتباع والطاعة، فإذا كان الإنسان في إحدى الكفتين فسيسقُط في إحدى الجانبين، إن كنت في جانب الشهوة والهوى فستميل بك الكفة، وتسقط في النار عياذاً بالله، وإن كنت في كفة السنة والطاعة ومخالفة الهوى إيماناً برسول الله، فستسقط بك الكفة في الجنة.

    الله أكبر.. والله إن الحق لواضح، لكن غلبة الهوى على الإنسان تجعله يميل إلى المخالفة.

    وهنا وقفة بسيطة يا إخوان! لماذا يرغب الإنسان في تلبية رغبات نفسه؟

    لعل بعض الناس يقول: هذه مصلحة ظاهرة أو منفعة عاجلة.

    نقول: ألا تعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأمرك بشيءٍ أو ينهاك عن شيء، فهو أعلم بما فيه مصلحتك، فلو جئت مكتباً استشارياً واستشرته في مسألة ما، كأن تبني بيتاً في مكان ما، ولك رغبة في ذهنك، وقال لك المكتب الاستشاري: لا، هذا المحل لا يصلح لهذا الشيء، فإنك لن تقدم على إقامة العمارة في محل لا يصلح للبناء؛ لأنك استشرت من هو أعرف منك فاقتنعت بفكرته ومشورته، وإن كانت مخالفة لرغبتك.

    وكذلك إذا جئت إلى طبيب وعندك شيء ما، ونصحك الطبيب ألا تتناول العمل الفلاني أو الطعام الفلاني، فإذا رجعت إلى نفسك، فأنت ترى الطعام وتشتهيه، وتسمع نداء الطبيب من ورائك: احذره.. لا يتناسب مع صحتك، فأيهما أولى بأن تسمعه؟ والعقل ماذا يقول لك؟ أتأكل وتشرب ولا تدري ماذا بعد ذلك؟ أو تسمع نصح الطبيب؟ لا شك أنك تسمع نصح الطبيب لأنه أعرف منك.

    فإذا كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه، وطبيب الأبدان وطبيب الأرواح والسراج المنير الذي جاءنا بالصراط السوي من عند الله يقول: اسلك هذا الطريق وتجنب كذا وكذا، فهو أولى بأن تسمع كلامه صلى الله عليه وسلم.

    والله سبحانه وتعالى يقول في الآية: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. [الأنعام:151]، ثم يقول بعدها: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.. [الأنعام:153].

    قصة صلح الحديبية ومواقف بعض الصحابة منه

    ونأتي إلى مثال قريب، قد يكون اجتهاداً في الدين، وقد يكون لك رغبة في شيء، ولكن السنة على خلافه.

    في صلح الحديبية، حينما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينه وبين المشركين على شروط الصلح، وكانت عجيبة جداً، لو عرضناها على العقل وميل الهوى فإنه يرفضها؛ لأنها كانت كما يقولون في العرف السياسي أو العسكري: إملاء القوي على الضعيف؛ لأن الصلح عقد على رجوع المسلمين من مكانهم ولا يصلون إلى مكة.

    والمسلمون قدموا من المدينة وعندهم البشرى من رؤيا رسول الله بأنه سيأتي البيت، وقد مرت عليهم ست سنوات وهم مهاجرون لم يروا مكة، وكانوا قد فرحوا بالبشرى، ثم يمنعون من ذلك! ولو منعوا قبل ذلك لكان هيناً، ولكن عندما يأتون إلى النهر ويمدون أيديهم للشرب، فيقال لهم: ارفعوا أيديكم، فهذا صعب جداً.

    وصلوا إلى حدود الحرم، ونزلوا على الحد بين الحل والحرم.

    فكان من الشروط التي اشترطتها قريش على المسلمين:

    - ترجعون هذا العام وتعتمرون من العام المقبل.

    - وهدنة بيننا وبينكم عشر سنوات.

    - وأن الذي يأتيكم منا مسلماً بدون رغبتنا تردونه علينا، والذي يأتينا منكم لا نرده عليكم.

    كيف هذا؟! الذي يأتينا منكم مسلماً لله نرده إلى الكفر، والذي يأتيكم منا مرتداً عن الإسلام تأخذونه ولا تردونه؟! لم لا تجعلونها واحدة بواحدة؟ إما أن يُرد الجميع، أو يُترك الجميع.

    فيقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يأتي عمر رضي الله تعالى عنه يقيس المسألة عسكرياً مع إيمانه بالله، ليس لهوى أبداً، فيذهب إلى أبي بكر ويقول: يا أبا بكر ! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ أي: لماذا نقبل هذه الشروط؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر ! إنه رسول الله فالزم غرزه، أي: هذا رسول الله، فكن تحت ركابه، وامش في ظل بعيره، ولا تتطاول ولا تعارض ولا تقل شيئاً، فما هو بالشخص الذي سنعرض آراءنا عليه ونوجهه، بل ربه هو الذي يوجهه.

    ثم ذهب إلى رسول الله وقال نفس المقال، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم نفس الجواب: (يا ابن الخطاب ! إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً).

    وفعلاً قبِلوا.. فحلقوا شعورهم.. ونحروا هديهم.. وتحللوا..

    ولم يتحرك أحد..

    هم جاءوا للعمرة! ولكن يحدث شيءٌ عجيب، وتحدث أمور هي مقاييس في الإسلام ونحن بعيدون عنها.. عند المفاوضة للصلح ينتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ليبلغ قريشاً بأنا جئنا عُمَّاراً ولم نأت مقاتلين، فائذنوا لنا أن نعتمر ونخرج.

    فقال لـعمر : (اذهب يا عمر).. فيقول: أنت تعرف عداوتي لهم يا رسول الله، وليس هناك من يحميني، لكن عليك بـعثمان فهناك من أهله من يحميه.

    وينتدب عثمان ، فيذهب ويفاوضهم فيقولون: أما أنت يا عثمان فدونك البيت فطف به واقض عمرتك.. أيّ سبق وأيّ شرف هذا، لكن عثمان في ارتباطه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محبته لرسول الله يقول: والله لا أطوف بالبيت ورسول الله ممنوع عنه.

    سبحان الله! يطوف ولو واحد منهم فقط، ليصدق الرؤيا.

    فيرجع ولم يطف، أين المقاييس التي تحدد هذا الحب؟! بأي مقياس إلكتروني أو ذري يقاس هذا الحب؟ إن مقياس الإيمان هو الذي يحدد هذا فعلاً، وقد كافأه رسول الله على ذلك في غيبته حينما تأخر عثمان وبلغه أنه قد قتل فبايع الصحابة جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعدم الفرار، ولما بايعوا رسول الله بأيديهم وصافحوه على البيعة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول باليد الأخرى: (وهذه يد عثمان) يد رسول الله بدلاً عن يد عثمان !

    أظن أن هذا فيه إشارة خفية بأن عثمان لم يقتل؛ لأن البيعة لا تكون عن ميت، وفيه إشعار بأنه حي، وفيه شرف وتكريم لـعثمان .

    ويكتب الله الرضا فيقول: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] أي سكينة لجماعة ذاهبين يعتمرون ويبايعون على مداهمة أهل مكة في عقر دارهم بعددهم وعدتهم؟! فهذا لا يكون أمراً عادياً أبداً، لكنها سكينة من عند الله، وجعل الله هذا الصلح الذي تم فتح قريباً.

    يهمنا أن عمر رغب في أمر وردَّه أبو بكر ، وأبو بكر لا شك أنه كان يرغب فيما يرغب فيه عمر ، ولكن هواه وميوله ورغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، لذا كان عمر يقول: (فعملت لذلك أعمالاً) أي: كنت أعتق وأصوم تكفيراً لتلك الكلمة.

    وقد ذكر الله في القرآن الكريم في نهاية سورة الفتح قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.. [الفتح:27]إلى آخرها، وبعد سورة الفتح مباشرة تأتي سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

    من هنا منطلق جديد، وهو أنه لا يصح إيمان العبد إلا إذا كان هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم مبينا للأمة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

    إذاً: أنت -مهما كنت- إن غلَّبت الهوى ومِلت عن الاتباع فأنت إلى الهوان، وإن عملت عملاً ليس عليه أمر رسول الله، ولست متبعاً فيه لرسول الله؛ فهذا العمل مردود، فكيف يضيع الإنسان بين الهوان ورد العمل؟

    ولذا كان على المسلم أن يحمل نفسه أولاً بالاجتهاد في الدعاء أن يوفقه الله لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والله أسأل أن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن ما جازى نبياً عن أمته، ونسأله تعالى أن يرزقنا وإياكم محبته ومحبة سنته.

    وهذا فضل من الله.. عندما يحبب الله للإنسان الإيمان: وَلكنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7-8]، وبالله تعالى التوفيق والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755967498