إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    مقدمة عن مؤلف الأربعين النووية وسبب تأليفها

    بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المؤلف رحمه الله:

    عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم ] .

    فهذا أول حديث في مجموع النووي رحمه الله، المسمى بالأربعين النووية، والنووي رحمه الله يتفق علماء الرجال ويتفق المحدثون والفقهاء من بعده: على أنه إمام جليل، زاهد ورع، فقيه محدث، وهو محل اتفاق على جلالته وفضله في العلم، وله مصنفات عديدة وكلها نفع الله بها طلبة العلم، سواءً في الفقه كالمجموع شرح المهذب، ولا أعتقد أنه توجد موسوعة فقهية تضاهي هذا الكتاب، اللهم إلا إن كان المغني لـابن قدامة عند الحنابلة.

    وله أيضاً كتاب روضة الطالبين في الفقه الشافعي، وله شرح مسلم، وله رياض الصالحين من أحاديث خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وكلها بحق مراجع في بابها.

    وهذا الكتاب الذي اشتهر عند الناس بالأربعين النووية، نسبة إلى مؤلفه الإمام النووي ، الذي ينسب إلى نَوى، وهي منطقة تتبع الجولان من أعمال دمشق، ونشأ بها، ثم تعلم في دمشق أي في الجامع الأموي، ورحل إلى عدة أقطار وتعلم، ونفع الله سبحانه وتعالى به وبمؤلفاته.

    سبب تسمية الأربعين النووية

    وأصل كتابه هذا الأربعين النووية، يقول بعض العلماء: إن كثيراً من العلماء قد ألفوا في الأربعينيات، فمنهم من يجمع أربعين حديثاً في موضوع واحد، كفضائل العلم، ومنهم من يجمع في فضائل البلدان، أو في المسلسلات أو في غير ذلك.

    وأما سبب التحديد بهذا العدد فقد ورد حديث ضعفه البعض، ولكنهم عملوا به في فضائل الأعمال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً على أمتي من أمور الدين أدخله الله الجنة، أو جعله الله من المتقين)، ورتب صلى الله عليه وسلم جزاءً على من جمع أربعين حديثاً من أمور الدين.

    قالوا: وإن كان ضعيفاً إلا أن كثيراً من العلماء جمعوا أربعينات في مواضيع مختلفة، وأصل الأربعين النووية كما ذكر ابن رجب في مقدمة شرحه: أن ابن الصلاح وهو من أجل علماء الحديث في الشام، جلس في يومٍ مجلساً ليملي أحاديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، فأملى ستةً وعشرين حديثاً في مجلسه ذاك، فجاء النووي رحمه الله وأخذ هذه الستة والعشرين وأضاف إليها ما أكمل الأربعين، وبالتحديد اثنين وأربعين حديثاً، انتخب فيها الأحاديث الجامعة التي تعد كأصل أصيل في الإسلام.

    وبعضها يقول عنه بعض العلماء: ربع التشريع، أو ربع الدين، أو ثلث الدين، هناك أحاديث عامة كما جاء عن أحمد رحمه الله: أن ثلاثة أحاديث تدور عليها الشريعة كلها: حديث عمر بن الخطاب : (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)، وحديث: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك المتشابهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).

    ويقول أحمد لأن الأعمال كلها لا تقبل إلا بنياتها، والأعمال الفرعية لابد أن تكون مطابقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحديث الثاني، والثالث: أن الأعمال منها ما هو بين حلال، ومنها ما هو بين حرام وبينهما المشتبهات، وجميع أحكام الفقه هكذا: إما حلال بين وإما حرام بين، وإما مشتبه بينهما، ليس هناك قسم رابع، (فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) فيقول أحمد رحمه الله: لم يخرج حكم تشريعي عن هذه الأحاديث الثلاثة.

    ويروون عن أبي داود رحمه الله أنه يقول: جمعت أربعمائة ألف حديث، ووجدتها تدور على أربعة أحاديث، وذكرها ابن رجب في مقدمته، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تعتبر قواعد عامة، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) ، فهو صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم والحكم؛ لأنه يجمع المعنى الكبير جداً في كلمتين، كما في هذا الحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)، فلو جئت بجميع أعمال المكلفين في الطهارة أو الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج... إلخ، فقسه على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن كان موافقاً لما جاء فيها فبها ونعمت، وإلا فهو مردود، ويشهد له قوله سبحانه، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    والشافعي رحمه الله كان له بحث أو له جمع آية وحديث، يقول: إن جميع الأحاديث النبوية لها أصل يشير إليه في كتاب الله، ولكن ما كل إنسان يجد هذا.

    يهمنا أن العلماء جمعوا أربعينات في مسائل مختلفة، وكان ممن جمع فيها النووي رحمه الله، وكان جمعه في جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وقد جمعت هذه الأربعين دون أن يلاحظ فيها التناسق بين الأحاديث، والمهم أنها موجودة في هذا المجموع لو استوعبها إنسان لكأنما استوعب جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

    ما استدركه بعض العلماء على الإمام النووي

    ويورد عليه بعض العلماء مما ترك من الأحاديث التي تعتبر الأم في بابها قالوا: ترك حديثاً في الفرائض هو أصل للفرائض (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى ذكر وارث).

    وقد اتفق علماء الفرائض أن هذا الحديث أصل في باب الميراث، والاتفاق على أن الإرث يكون بالفرض والتعصيب، إذاً: ألحقوا الفرائض على ما جاء في كتاب الله، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وبين ميراث الزوجين عند وجود الولد وعدمه، وبين حق الذكر مع الأنثى في الأولاد والأخوة والأخوات، وبين حق الأم والأب إذا كان هناك أولاد أو ليس هناك أولاد، وبين ميراث الجميع، وما بقي فلذوي العصبات، (لأولى رجل ذكر).

    فيقولون: إنه لم يذكره وكان من حقه أن يذكره مع هذه الأحاديث، ولذا جاء ابن رجب رحمه الله وأخذ الأربعين أو الاثنين والأربعين وأضاف إليها ثمانية حتى كملت الخمسين حديثاً وأدخل فيها هذا الحديث، وما شاكله مثل: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أيضاً أصل في بابه، فلم يفصل في ذكر المحرمات وأحال ذلك إلى ما ذكر من المحرمات من النساء في القرآن.

    ومهما يكن من شيء فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي لنفسه الكمال، والنووي بنفسه في هذا المجموع ما قال: جمعت كل شيء، إنما جمع ما وقع عليه اختياره في هذا الباب.

    وهذا الحديث الذي بدأ به هذا المجموع المبارك يتفق العلماء على أنه أصل من أصول الدين، وعلى أنه ثلث أو ربع أو خمس الدين، ويتفق العلماء أيضاً على أن هذا الحديث يدخل في كل باب من أبواب الفقه، ولذا جاء عن بعض السلف أنه قال: لقد بدأ البخاري كتابه بهذا الحديث تنبيهاً على وجوب إخلاص النية في العمل لله، ولو ألفت كتاباً لجعلت مقدمة كل باب: (إنما الأعمال بالنيات)

    نأتي إلى هذا الحديث وإلى منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله.

    يروي النووي رحمه الله هذا الحديث عن عمر مباشرة، وقد أشار في مقدمته أنه التزم أمرين:

    - حذف السند ليسهل الحفظ.

    - وصحة الحديث لنطمئن إليه، فلا يوجد في الأربعين النووية حديث ضعيف.

    تلقيب عمر بن الخطاب بأبي حفص والفاروق

    وفي بداية الحديث عن هذا الإيراد لعلنا نتساءل عن هذه الألقاب والكنى والأسماء، أمير المؤمنين أبو حفص الفاروق عمر يبين علماء اللغة: أن العلم اسم يعين المسمى مطلقاً كما قال ابن مالك في الألفية، ثم بين أنه يأتي كنية وعلماً واسماً ولقباً، والعلم هو ما يعين مسماه بدون قرينة، وسمي الاسم اسماً لأنه وسم أي: علامة على صاحبه، وأصل الوسم العلامة للإبل ونحوها، وهو مأخوذ أيضاً من السمو وهو العلو، ومنه السماء، سما يسمو سمواً، لكأن الاسم سمة علت على صاحبها فميزته عن غيره.

    والكنية ما صدرت بأب أو بأم كأبي حفص وأبو بكر، واللقب ما أشعر بمدح كالفاروق وذي النورين أو بذم.

    السؤال هنا: ما هو سبب هذه الألقاب التي لقب بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؟

    أما أمير المؤمنين فيقولون: إنه في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانوا يقولون لـأبي بكر خليفة رسول الله، فلما جاء عمر كانوا يقولون: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر فقالوا: جاء وافد من العراق يسأل أين أميركم؟ قالوا: من أميرنا؟ قال: عمر، قالوا: جئت بها، فسموه أمير المؤمنين، وقالوا: إنه هو الذي قال: أنتم المؤمنين وأنا أميركم فأنا أمير المؤمنين، يهمنا أنه لقب جاءه بعد توليه الخلافة.

    أبو حفص الحفص: الأسد قالوا: كني أبو حفص عمر بذلك لشجاعته وقوته وخفته، ويذكرون عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمسك أذن الفرس بيد ويثب على ظهر الفرس، دون أن يعتمد على شيء، وذلك لنشاطه وخفته، وهذا القصد والوثب من سمات الأسد والنمر، فلقب أبو حفص لهذه الصفة كما يقولون.

    أما الفاروق فقد لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لقب خالداً بسيف الله، ويذكرون ذلك في قصة إسلامه وأنه كان أشد الناس على المسلمين إيذاء، وفي يوم أخذ سيفاً، ومضى يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتله، فلقيه رجل وقال: أين يا عمر ؟ قال: أريد قتل محمد. قال: هل ترى بني هاشم تاركيك؟ فقال له عمر : صبأت، قال: أدلك على أعجب من ذلك، أختك وزوجها أسلما.

    فبدل أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أخته، وكان عندها وعند زوجها خباب بن الأرت يقرئهما القرآن ويخفيان إسلامهما، فلما جاء عمر وسمع خباب صوته اختفى داخل البيت، ودخل عمر إلى البيت فقال لأخته وزوجها: ما هذه الهمهمة التي سمعتها، قال له زوج أخته: ما هو إلا حديث بيننا -وكانا يقرءان سورة طه-، فعدا على زوج أخته، فقامت أخته تدافع عن زوجها فلطمها فأدماها، فلما رأى الدم من أخته أسف على ذلك.

    ثم قالت له أخته: رغم أنفك يا عمر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقال: أريني الصحيفة التي كنتما تقرآنها، قالت: لا. إنك رجس وهذا كتاب الله، اذهب فاغتسل، فذهب ثم جاء وأخذ الصحيفة وقرأ ما فيها ثم قال: أين محمد الآن؟

    فلما سمع خباب قول عمر نادى وخرج وقال: أبشر يا عمر! لعل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس أصابتك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أعز الإسـلام بـعمر بن الخطاب أو بـعمرو بن هشام) قال: أين محمد الآن؟ قـال: في الدار التي بأعلى الصفا.

    فذهب عمر رضي الله تعالى عنه فوجد حمزة على الباب رضي الله تعالى عنه ومعه رجال، فلما رآه حمزة قال: لقد جاء عمر إن كان أراد الله له خيراً فالحمد لله، وإلا فقتله يسير علينا، فلما طرق الباب وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته خرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك بتلابيبه وبحمالة سيفه وقال: أما آن لك أن تسلم يا عمر !! قبل أن يخزيك الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

    ثم جلسوا في الدار فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق أحياءً وأمواتا؟ قال: والذي نفسي بيده إننا على الحق أحياءً وأمواتاً، قال: فلماذا نجلس هنا أفلا نعلنها، وخرج عمر وخرج رسول الله في صفين على أحدهما عمر وعلى الآخر حمزة وذهبا إلى البيت وطافا بالبيت، فساءت وجوه قريش، وقالوا: الآن انتصف المسلمون منا.

    فحينئذٍ سماه الرسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق، كأنه فرق في ذلك اليوم بين الخفاء بالدعوة وبين ظهورها، أو بين المسلمين والمشركين، حيث تميزت جماعة المسلمين حينما دخل عمر في الإسلام وكان ابن مسعود يقول: (إسلام عمر فتح، وهجرته نصر، وخلافته رحمة) من هنا سمي الفاروق ، وذلك كما سمى الله سبحانه وتعالى يوم بدر يوم الفرقان؛ لأنه يوم فرق الله فيه بين قوة الشرك الطاغية وبين قوة الإسلام الداعية إلى الله.

    1.   

    شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)

    نأتي إلى حديث النية منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله:

    أولاً: من حيث اللفظ (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأة ما نوى) هاتان جملتان متقاربتان لفظاً مختلفتان مضموناً.

    كلمة (إنما) تعتبر عند علماء اللغة أداة قصر، ومعنى القصر أو الحصر هو أن تقصر المبتدأ على الخبر، ومن أساليب القصر النفي والإثبات (ما وإلا) مثل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، وكذلك تقديم ما حقه التأخير مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فأصلها ( نعبدك ونستعينك ) ولكن تقديم المعمول يدل على أنه محصور على ما بعده، فالمعنى: ( إياك وحدك نعبد ) فقصر العبادة على مرجع الضمير المتقدم هنا ( إياك ) وكان أصله ضمير وصل وهو الكاف: ( نعبدك ) فلما فصل جيء بـ( إيا ) فصار ( إياك ) لأنه لا ينطق بالكاف وحده، فصارت الجملة هكذا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك.

    ومن أساليب الحصر أيضاً: تعريف كل من المبتدأ والخبر كقوله: (الكاتب زيد) فزيد معرفة والكاتب عرف بأل، والمعنى أنه لا كاتب إلا زيد، وكقول البعض: الشاعر شوقي أو الشاعر المتنبي فقصر الشعر على المتنبي كأن غيره لا يذكر معه، فتعريف الطرفين، وتقديم ما حقه التأخير، والنفي والإثبات، و(إنما) كلها أساليب قصر، وأم الباب هي (إنما) إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ [الرعد:7] فكلمة (إنما) هي أداة حصر وحدها.

    وهنا (الأعمال) هي المحصور والمقصور على النية، فجميع الأعمال مقصورة ومحصورة ومتعلقة بالنية.

    هل تدخل النية في جميع الأعمال

    وهنا (الأعمال) معرف بأل فيشمل جميع الأعمال، ومن هنا قال جمهور العلماء: كل عمل لابد أن يتعلق بالنية.

    بعض العلماء يقول: هذا العام مخصوص خرج منه ما لا يحتاج إلى نية، كالأمور التي ليست مقصودة للتعبد، كالأمور الجبلية، كالأكل والشرب والنوم واللبس، فهذه أمور جبلية لا تحتاج إلى نية، وتحصل بدون النية، فإذا أكلت شبعت ولو ما نويت الشبع، وإذا لبست سترت وإن لم ترد الستر.

    ويقول الآخرون: الحديث على عمومه ولا يخرج منه شيء، حتى الأمور الجبلية داخلة في هذا الحديث؛ لأنك إذا أكلت لتشبع شكراً لله على النعمة، أو لتتقوى على طاعة الله، فإن نيتك في الأمور العادية تحولها إلى عبادة، فإذا لبست تنوي الستر كان لك أجر، وإذا لبست تنوي الفخر والخيلاء كان عليك وزر، إذاً: ما خرج من هذا الحديث شيء.

    ويقول آخرون: إذا كانت عندك أمانة أو وديعة أو عليك دين، فعندما ترد الوديعة لمودعها، وتؤدي الأمانة لصاحبها، وتقضي الدين، فهذه الأمور لا تحتاج إلى نية، والآخرون يقولون: بل النية تدخل هنا أيضاً، فإن كنت تريد أن تأكل الأمانة، أو أن تجحد الوديعة، أو ألا ترد الدين، وجاء الحاكم وأخذها منك قهراً ليوصل الحق لصاحبه، فأنت أثمت بنية الخيانة أو الغدر، وإذا دفعتها إليه عملاً بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] كان لك أجر بنية الوفاء امتثالاً لأمر الله.

    وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تستدين، فقالوا لها: لماذا تستدينين وقد تكونين في غنى عن الاستدانة؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استدان وهو ينوي السداد كان الله في عونه حتى يسدد دينه).

    إذاً: النية لها دخل حتى في العادات، فإذا كان الإنسان يريد عملاً ما من أمور الدنيا أو أمور الآخرة فله من الجزاء بحسب نيته، مثل إنسان بنى بيتاً يستتر فيه ويأوي إليه عياله، ويتركه لعياله من بعده فله أجر على هذا العمل، ألا ترون الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة يضعها في فيَّ امرأته فله بها أجر) ، وقال: (أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيت لو وضعتها في حرام أليس عليك وزر).

    إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال) عامة لا يخرج من ذلك عمل قط.

    كلام العلماء على نية القصد

    والنية في الأعمال على قسمين:

    - نية بالقصد.

    - ونية للتعيين والتمييز.

    النية التي للقصد، تكون في الأعمال الأخروية التي قد يدخلها الرياء والسمعة، وقد يدخلها مصلحة أخرى، فهذه الأعمال أجرها متعلق بالنية الخالصة لوجه الله.

    أما المميزة فتأتي في الصلاة والصيام، وهي التي يهتم بها علماء الفقه.

    وقد جاء في نية القصد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله الرجل يقاتل حمية، الرجل يقاتل ليرى مكانه، الرجل يقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فالنية نية القصد أي: ماذا قصد بقتاله؟

    ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وسمع أن ثقيفاً اجتمعت له وأراد أن يخرج إليهم، فأراد أن يخرج مسلمة الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتاجوا إلى دروع وإلى سيوف وإلى عتاد، فأرسل إلى صفوان وكان على دين قومه -لم يسلم بعد- يطلب منه أن يعيره أدرعاً، قال: غصباً أم عارية؟ قال: بل عارية مؤداه أو قال: مضمونة، وجاء صفوان بنفسه وهو على دين قومه، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وحينما فوجئ المسلمون بهوازن ترشقهم بالنبال كالجراد رجع من رجع من المسلمين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وقال قائل: هؤلاء أصحاب محمد لا يردهم إلا البحر، فقال صفوان: والله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن، وإنما قال ذلك حمية لقريش لا غير.

    وهكذا الأعمال التي يقصد بها وجه الله فالنية فيها بمعنى القصد فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ولهذا جاء في الحديث أنه سبحانه وتعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً وأشرك معي فيه غيري تركته وشركه) ويؤتى يوم القيامة وينادى من عمل عملاً يرائي به غير الله فليطلب جزاءه ممن كان يرائي، والأحاديث في هذا كثيرة.

    طروء الرياء وإحباط أجر العمل

    ويبحث العلماء في مسألة: إذا دخل الرياء عملاً أصله لوجه الله ولكن طرأ عليه مقصد جانبي، فهل يبطل هذا العمل لقوله: (تركته وشركه)، أو أنه يبطل منه بالقدر الذي دخل فيه الرياء؟

    نعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الرياء وقال عنه إنه الشرك الخفي، والرياء: أن ترائي بعملك فتعمل بقصد أن يذكرك الناس، أو يمدحوك، ولذا قيل في الذي يجاهد حمية: (يأتي يوم القيامة فيذكره الله تعالى بنعمه عليه فيذكرها، فيقول له: فما صنعت فيها؟ فيقول: خرجت بمالي وبنفسي وجاهدت في سبيل الله، فيقول: كذبت! خرجت ليقال فلان شجاع، وقد قيل، ويؤتى بالعالم فيعرفه الله نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت بها؟ فيقول: تعلمت وعلمت ليعلم دينك، فيقول: كذبت! إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل)

    ولهذا يقول الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله: من تعلم العلم ليماري به العلماء أو يجاري السفهاء أو يلفت أنظار الناس إليه فالنار فالنار، ويقول ابن عبد البر : من تعلم ليماري العلماء فقد قسا قلبه، أي: ضاع عن التحصيل؛ لأنه لم يرد بتعلمه وجه الله، وهذا مما يوقف طلبة العلم على أحرج المواقف، لأن الشهرة أمرها خطير، ولأن طلب الرياء عند الناس أخطر، فليتق الله كل طالب في نفسه وفي علمه وليرجُ وجه الله فيما علم وفيما علَّم، سواء استفاد منه الناس أم لا.

    وفيما يتعلق بالرياء هل هو يحبط جميع الأعمال أو العمل الذي راءى فيه، وإذا قصد بعمله وجهاً سوى وجه الله، هل يكون له في ذلك حض؛ كمن حج ليتجر، وكمن قاتل ليغنم مع إعلاء كلمة الله.

    يقول العلماء: إن كان القصد الأول هو وجه الله وما جاء من غيره فإنما هو تبع، فلا شيء في ذلك، والمسلمون كانوا يخرجون ويقاتلون وكانوا يغنمون، ولا يؤثر ذلك على قصدهم في إعلاء كلمة الله.

    وبعضهم يقول: إن قاتلوا وغنموا فقد فاتهم ثلثا أجر الغزاة، وإن قاتلوا ولم يغنموا فلهم أجر الغزاة كاملة.

    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغزو ويقاتل ويغنم، ويأخذ من الغنيمة خمسها ويقسم على أصحابه، ولا يؤثر ذلك؛ لأن القصد الأول إنما هو إعلاء كلمة الله.

    ولذا كان مالك رحمه الله يكره النفل أي: تنفيل الإمام أو القائد للغزاة في أول الأمر في ذهابهم، والنفل هو أن يقول القائد: من قتل مشركاً فله سلبه، يقول مالك : الأولى ترك هذا في الذهاب مخافة أن يذهب هذا المسلم لا لإعلاء كلمة الله ولكن لقتل المشرك ليأخذ السلب، فكرهه حتى لا تغلب المادية على نيته وعلى قصده، أما في العودة فلا مانع؛ لأنهم قد تحدد القصد عندهم وانقضى، فلا تأثير هنا على القصد.

    وجاء في الحديث (يخرج جيش يريد الكعبة فيخسف الله بهم الأرض، قالت عائشة : يا رسول الله!! يكون فيهم السوقة وغيرهم فما ذنبهم؟ قال: يخسف بهم جميعاً ويبعثون على نياتهم)، فبعضهم نيتهم هدم البيت، وبعضهم لا قصد لهم، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنما صحبوا ذلك الجيش ليبيعوا ويشتروا ويربحوا، فيبعث كل واحد منهم على نيته.

    وهكذا نية القصد تأتي في الأعمال التي يراد بها وجه الله، فهذا الذي حج ويتجر إن كان خروجه للحج، وإنما يتجر ليستعين على نفقة الحج، فلا مانع من ذلك؛ لأن القصد هو الحج والاتجار إنما هو وسيلة وليس بغاية، أما إذا كانت غايته التجارة والحج جاء تبعاً فهذا بقدر جزئية النية في الحج يكون له أجر، وهكذا في جميع الأعمال.

    وهذا يتكلم فيه علماء العقائد وعلماء التوجيه والتربية.

    كلام العلماء على نية التعيين والتمييز

    القسم الثاني من النيات: وهي نية التمييز والتعيين، يقول الفقهاء في قوله: (إنما الأعمال بالنيات): إن العمل قد يقع ولو لم توجد نية، فالصلاة استقبال وقيام وركوع وسجود إلى آخره، فلو أن إنساناً استقبل القبلة وكبر ووضع يديه وركع ورفع وسجد وسلم، فقد أتى بالصلاة وحصَّل العمل، لكن النية غير موجودة، قالوا: فإن كان في الفريضة فلا تصح فريضة إلا بالنية، وهل تنقلب هذه الصلاة نافلة وتصح أم أنها باطلة؟ خلاف بين العلماء.

    ومثل آخر: سنة الفجر ركعتان، والفريضة ركعتان، فالذي يميز بين ركعتي الفريضة وركعتي النافلة هو النية، فإذا نوى بالركعتين الأوليين النافلة، ونوى بالركعتين الأخريين الفريضة فقد ميز بين الصلاتين بالنية.

    ومثال آخر في باب الطهارة: إنسان في شدة الحر انغمس في بركة أو في حوض، أو دخل تحت الدش يتبرد من الحرارة، وأراد أن يصلي، فلابد له أن يتوضأ؛ لأن نيته ليست لاستباحة الدخول في الصلاة، إنما اغتسل للتبرد.

    والخلاف في هذا بين أبي حنيفة رحمه الله والجمهور؛ فالجمهور يقولون: إن النية تكون في الأعمال الأساسية التي هي المقصد، أما الوسائل فلا تحتاج إلى نية، فإذا لبست ثيابك من أجل أن تستر عورتك للصلاة لم تحتج إلى تنوي عند اللبس أن تستر العورة لأجل الصلاة؛ لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة وليس غاية.

    فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء أيضاً ليس غاية بذاته وإنما هو شرط لصحة الصلاة، فإذا توضأت للتبرد لا بنية استباحة الصلاة وصليت بهذا الوضوء؛ صحت صلاتك بهذا الوضوء كما صحت صلاتك بذلك الثوب.

    والجمهور يقولون: الوضوء بذاته عباده وليس هو مجرد شرط للصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح: (إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت ذنوبه من فيه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل وجهه خرجت ذنوب وجهه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه خرجت ذنوبه مع آخر قطر الماء، ويخرج من الوضوء لا ذنب له، وكانت خطواته إلى المسجد وصلاته نافلة له)؛ قال الجمهور: فالوضوء بذاته عبادة؛ لأنه يكفر الذنوب.

    والرجل الذي وجد امرأة في أقصى المدينة، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت امرأة في أقصى المدينة، وما تركت شيئاً يفعله الرجل مع امرأته إلا فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: أصليت العصر معنا؟ قال: لا، قال: توضأ وصل، فلما توضأ الرجل وصلى نزلت الآية: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فدعا الرجل وقرأها عليه، فقال: ألي خاصة يا رسول الله!! قال: بل لأمتي كلهم)، قال العلماء: إن وضوءه مع صلاته من مكفرات الذنوب، إذاً فالوضوء عبادة بذاته.

    وإذا نظرنا أيضاً إلى أعمال الوضوء وجدناها تدور بين العادة وبين العبادة، فالاغتسال من الجنابة تعميم للبدن بالماء، والاغتسال يوم الجمعة تعميم للبدن بالماء، الاغتسال من التبريد والنظافة تعميم للبدن بالماء، وكل هذه الأغسال في صورة واحدة، فما الذي يميز ما كان واجباً عما كان مسنوناً وما كان عادة؟

    النية هي التي تميز ذلك، ولهذا فالجمهور على أن النية شرط في صحة الطهارة.

    نأتي إلى الصلاة كما أشرنا، فإذا صلى ركعتي الفجر ثم صلى الصبح لم يفرق بين ذلك إلا النية، وإذا أراد أن يجمع الظهر والعصر، فالنية تحدد الظهر وتحدد العصر .. وهكذا، إذاً: النية تدخل في العبادات في وسائلها وفي غاياتها.

    وهل النية شرط في صوم رمضان؟

    قال بعض العلماء: لا تشترط النية في صوم رمضان، فيكفي أن ينوي الصوم، ولا حاجة إلى تعيين النية، فكونه ينوي الصوم فذلك يكفي؛ لأن الإنسان قد يمتنع عن الطعام حمية، وقد يمتنع عن الطعام لعدم رغبة فيه، وقد يمتنع عن الطعام لعدم وجود الطعام، فإن كان في رمضان فظرف الصوم يعيِّن المقصود فلا حاجة للنية عن ذلك.

    وقال بعض العلماء: بل النية واجبة، وتكون من الليل.

    فإذا كان في غير رمضان، فهناك صوم قضاء رمضان، وهناك صوم كفارة، وهناك صوم تطوع، وهناك صوم نافلة، كالإثنين والخميس، فإذا أراد أحدنا أن يصوم يوماً قضاء أو كفارة أو نافلة أو نذاراً، فلابد من النية لكي يميز نوعية الصيام هنا.

    فمن هنا يقول بعض العلماء: (إنما الأعمال بالنيات) أي: تعيينها وصحتها بالنية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيت الصيام بالليل فلا صيام له).

    وبعضهم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أي: كمالها وفضيلتها.

    والصحيح: أن كل عمل توقفت صحته على النية فإنه يقدر المحذوف في قوله: (إنما الأعمال) أي: إنما صحة الأعمال بنياتها، وإذا كان يؤدى بغير نية، كدين أخذ من صاحبه، بأن حكم الحاكم على مدين بدفع الدين فامتنع فباع ماله ووفّى الدائن حقه؛ صح السداد، ولا يتوقف سداد الدين على نية المدين؛ ولكن كمال أجر هذا العمل يتوقف على النية.

    إذاً: النية تدخل في جميع الأعمال، فهي إما أن تصحح ما يفسد بدونها، وإما أن تكمل وتحسن ما يصح بدونها، ولهذا فالحديث عام في جميع الأعمال التي يتناولها التكليف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756191683