إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الدين يسر، ومن يسره تخفيف الصلاة على المسافر بالجمع والقصر، وهذه المسألة قد تكلم فيها العلماء ودققوا في فروعها، وناقشوا أدلتها مناقشة دقيقة.

    1.   

    حكم القصر في الصلاة

    باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    حديث: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ...)

    فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) متفق عليه، وللبخاري : (ثم هاجر، ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول)].

    هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن القصر في السفر واجب.

    فقولها في الحديث: (ثم) للتأخير والتسويف.

    إذاً: حينما نسافر نرجع إلى الأصل، والأصل ركعتين، وهذا قول قوي.

    لكن الآخرون يجيبون عن ذلك: بأن الله سبحانه وتعالى يقول: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا [النساء:101] ، فالقصر يكون من تمام الكمال.

    إذاً: قول عائشة رضي الله تعالى عنها ليس فيه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي لم تقل: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قالت: (أول ما فرضت الصلاة)، فقالوا: هذا قول واجتهاد منها رضي الله تعالى عنها، ولم تسند ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عن غيرها من الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لاستفاض ونُقل عن غيرها معها، فقالوا: هذا يجعل الأخذ به فيه ضعف.

    فهنا: أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم حصل تغيير .. فأتمت صلاة الحضر أربعاً، وبقيت صلاة السفر على ما هي عليه.

    ورد القائلون بأن القصر رخصة وليس بواجب فقالوا: أخبرونا عن هذا المسافر الذي تفرضون عليه ركعتين فقط: إذا ائتم بمقيم فهل: يتم أربعاً تبعاً لإمامه، أو يقتصر على ركعتين؟

    وإجماع الفقهاء على أن المسافر إذا ائتم بمقيم في الرباعية فعليه أن يتم، فلو أدرك مع الإمام المقيم الركعتين الأخيرتين فلا يحق له أن يسلم معه، بل يقوم ويأتي بالركعتين اللتين فاتتاه، فلو أن صلاة السفر تجب ركعتين لكان أحد أمرين: إما أن يمتنع المسافر من الائتمام بالمقيم حتى لا يلزم بالأربع، وإما أن يسلم من ركعتين التي هي فرضه، فلما لم نجد شيئاً من ذلك، ووجدنا أن المسافر يأتم بالمقيم فيتم، تبين لنا أن صلاة السفر يمكن إتمامها.

    حديث: (ثم هاجر ففرضت أربعاً ...)

    قال المصنف: [وللبخاري : (ثم هاجر ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول)، وزاد أحمد : (إلا المغرب فإنها وتر النهار، وإلا الصبح؛ فإنها تُطَّول فيها القراءة) ] .

    لما ذكرت رضي الله تعالى عنها أن صلاة السفر فرضت ركعتين، وقصرت الرباعية، جاء المؤلف رحمه الله بخبر أحمد ليبين أن القصر لا يشمل الصبح فيصبح ركعة واحدة، ولا يشمل المغرب؛ لأنه ليس هناك صلاة ركعة ونصف، ولا أن يسقط النصف وتكون ركعتين، وبيّن العلة؛ لأن المغرب وتر النهار، فلما كانت صلاة النهار كلها شفع، الصبح اثنتين، الظهر والعصر أربعاً أربعاً، وكان المغرب ثلاثاً فكان وتراً لصلاة النهار، وأما الصبح فتطول فيه القراءة: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78].

    حديث: (كان يقصر في السفر ويتم)

    قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر) رواه الدارقطني ، ورواته ثقات إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها ].

    الذين يقولون بأن القصر رخصة يستدلون أيضاً بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني ورواته ثقات، ويقولون: إنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه: صام وأفطر في السفر، وأتم وقصر في السفر.

    إذاً: الإتمام والقصر جائز جوازاً مستوي الطرفين، ولكن أجيب عن ذلك: بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتم صلاة في السفر قط.

    إذاً: هذا معارض بفعله صلى الله عليه وسلم، أما أنه كان يصوم ويفطر فهذا ثابت، فقد صام في فتح مكة حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر بعد ذلك وأفطر الناس معه.

    [ورواته ثقات، إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها].

    يقول المصنف: إن رواية الدارقطني رواتها ثقات ولكنها معلولة، وذكر العلة في الشرح بأن فيه رجلاً سماه وهو مجهول، أو أنه يروي عن غير الثقات، أو أنه غير ثقة، وإذا كان الحديث معلولاً ومخالفاً لما هو المشهور، فلا حاجة إلى الاحتجاج به، وزاد تأكيداً على رده أن هذا الذي يقولون فيه عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يتم ويقصر، فهي التي قالت: شرعت صلاة السفر ركعتين، فكيف تقول لنا: إن أصل صلاة السفر ركعتين ثم تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتم، وهذا مغاير لروايتها الأخرى!

    فاجتمع فيه:

    أولاً: مغايرة عائشة رضي الله عنه لروايتها الأخرى: (أقل ما فرضت الصلاة ركعتين).

    ثانياً: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم في سفر أبداً.

    ثالثاً: أنه معلول.

    إذاً: لا يتحج به.

    ولكن المؤلف كما قدمنا إنما يورد النصوص التي يحتج بها من يحتج ويترك الترجيح والنظر للناظر فيها.

    قال المصنف: [والمحفوظ عن عائشة من فعلها].

    يعني أن : عائشة كانت تتم وتقصر، وليس ذلك إسناداً إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها لا يستوي مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن ابن عمر لما سئل عن فعلها قال: (لقد تأولت كما تأول عثمان )، وجاء عنها أيضاً: أنها كانت تصوم وتفطر في السفر وتقول: (لا يشق عليّ)، وسيأتي لها رواية، ويناقش العلماء في ألفاظها وفي سندها.

    فهنا: فعل عائشة رضي الله تعالى عنها من تمام القصر في السفر، والصوم والفطر في السفر اجتهاد منها، وكما قال ابن عمر : (تأولت كما تأول عثمان ) فـعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقصر الصلاة في السفر ست سنوات من خلافته، وقال البعض: بل طيلة خلافته، ولم يتم إلا بمنى في أخريات خلافته، -أي: كان يقصر بمنى وفي غير منى- فقيل له في ذلك؟ فقال أحد جوابين:

    لقد تزوجت بمنى، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تزوج المسافر في بلد فليتم صلاته).

    وبعضهم يقول: قال: لقد وجدت الأعراب فأردت أن أعلمهم أن الصلاة رباعية، لأنهم إذا جاءوا إلى الحج ووجدوا الخليفة يصلي ركعتين ركعتين رجعوا إلى ديارهم وربما اعتقدوا أن الصلاة كلها ركعتين ركعتين، فقال: أتممت لأعلم.

    هذا هو تأويله: إما أنه تأول إتمام الصلاة ليعلم الأعراب، أو أنه أخذ بالنص: (من سافر فنزل في بلدة فتزوج بها فليتم الصلاة)، فجاءت عنه الروايتان.

    وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تأولت بأن الرخصة للمشقة، فقالت: (وأنا لا يشق عليّ) والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فتأولت أنه إذا انتفت المشقة انتفت الرخصة، ولا حاجة للأخذ بها.

    حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه)

    قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان ، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه). ]

    جاء المؤلف رحمه الله أولاً بما يشعر بالوجوب فذكر حديث عائشة (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) أي: بقيت صلاة السفر على الأصل، وهذا من أدلة الوجوب، وجاء بعد ذلك بهذا الحديث: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه) وهذا الحديث قاعدة عامة.

    ما هي الرخصة؟

    يقولون في فقه اللغة: إذا نظرت إلى المادة (الراء، والخاء، والصاد) بمعنى الرُّخص والرَّخص، رخص الأسعار يدل على على الرخاء والهدوء، وشيء رخص أي: لين رطب، واستدلوا بقول الشاعر: (ومخضب رخص البنان كأنه)

    (رخص البنان) يعني: لين الأصابع، وهذا وصف الفتيات والنسوة، فالرخص هو اللين، وكذلك الرخصة؛ لأن ألفاظ الشارع تنقل ألفاظ اللغة إلى ما يناسبها من التشريع، كما نقلت كلمة الصلاة من الدعاء إلى الصلاة ذات الركوع والسجود، وكما نقل الصوم وهو الامتناع عن الكلام إلى الصيام في الإسلام، وهكذا الحج وهو القصد، والعمرة: الزيارة.

    فقالوا: الرخصة: هي جلب الإرفاق أو دفع المشقة، أو إباحة ما جاءت الرخصة به مع بقاء الحكم الأصلي.

    أو هو حكم لاحق فيه إرفاق بالمسلمين، أو بالمكلف مع بقاء الحكم الأصلي الذي جاءت به الرخصة.

    مثال ذلك: قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] ثم أباح الله تبارك وتعالى للإنسان في حالة المخمصة أن يتناول الميتة، فقال: فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [المائدة:3] أي: عند الاضطرار يباح أكل الميتة.

    هل حينما أبيحت الميتة للمضطر رفع عنها حكم التحريم السابق أم هو باق؟ بل هو باق؛ بدليل أنه حينما ترفع عنه المخمصة أو يجد غير الميتة لا يحل له أكلها.

    إذاً: الحكم الأصلي باق، ولكن الرخصة جاءت مؤقتاً لإيقاف العمل بالنص في التحريم، والنص قائم والحكم موجود.

    إذاً: إن قلنا بأن القصر رخصة يبقى الحكم الأساسي هو الإتمام؛ لأن القصر جاء تخفيفاً، مع بقاء حكم الأصل وهو الإتمام.

    وكذا الفطر في رمضان، ينتهي صيام الواجب، فيقول: يا عبادي! يوم العيد أنتم في ضيافتي ومكرمتي، فمن صام يوم العيد كأنه معرض عن ضيافة الله، ولو أن شخصاً آخر دعاك إلى مكرمة وقلت: أنا في غنى عنها لا أريدها، لم يكن هذا من الأدب.

    فهذا الحديث وإن كان يشعر بأن القصر رخصة لكن الله يحب أن يؤتى بها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: القصر رخصة والأفضل العمل بها تمشياً مع هذا النص المحكم: (يحب أن تؤتى رخصة).. (صدقة تصدق بها عليكم)، إذا كنت تعرف إنساناً فقيراً، وجئت بصدقة مالك إليه، وقال: أنا لا أريدها، وأنت تعرف أنه محتاج ويقبل من غيرك، فإذا كان يقبل من غيرك صدقة ماله ويرفض أن يأخذ صدقتك فإنك تستغرب وتفتش عن السبب، فإذا كان الأمر من المولى سبحانه وتصدق علينا، ورخص لنا، فالواجب علينا أن نقبل صدقة الله ورخصته، وهذا أحسن ما قيل في ذلك، ولهذا تجدون الشارح الإمام الصنعاني يقول في العدة تعليقاً على العمدة لـابن دقيق العيد : وقد كتبت رسالة في ذلك، وحققت أن الصحيح والراجح في المسألة أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها، وهذا أحسن ما يقال في هذا الباب، والله تعالى أعلم.

    قال المصنف وفي رواية: : [ (كما يكره أن تؤتى معصيته). ]

    معناه: أن الله يحب أن تؤتى الرخص بقدر ما يكره أن تؤتى المعصية، وإذا نظرنا إلى المقابلة: بقدر ما يكره المولى إتيان المعصية بقدر ما يؤخذ بالرخصة، وكأن الذي يرفض الأخذ بالرخصة يقدم على فعل المعصية، والعكس بالعكس، والقياس العكسي يؤدي إلى هذا.

    إذاً: أحسن ما قيل في هذه المسألة هو ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ونبه عليه الشارح الإمام الصنعاني هنا بأنه كتب رسالة في ذلك، وبين أن الراجح هو أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها.

    قال المصنف: [وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) ].

    هذه الرواية مقابلة لتلك (كما يكره أن تؤتى معصيته) لأن كره المعصية يقابلها: حب العزيمة، فيحب الأخذ بالرخصة كما يحب الأخذ بالعزيمة، وكلاهما مطلوب.

    1.   

    متى يقصر المسافر

    قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين). رواه مسلم .

    كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين: هناك من أخذ هذا النص وجعل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ هي مدة السفر التي تقصر فيه الصلاة، وهذا خطأ، والصحيح في ذلك يؤخذ من قوله: (إذا خرج..) فلم يقل: إذا سافر، ولاحظوا الدقة في التعبير، وكأن السفر غير الخروج.

    فيقول: إذا خرج في سفر طويل، وقطع من السفر الطويل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شك من الرواي- صلى ركعتين، يعني أنه يشرع في قصر الصلاة في السفر الطويل بعد أن يقطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -على الشك- ولا يشرع في قصر الصلاة من بيته؛ هذا حاصل هذا الحديث.

    قال المصنف: [وعنه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول لله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة). متفق عليه، واللفظ للبخاري . ].

    قبل الشروع في شرح الحديث أحب أن أنبه بأن أهم المراجع التي يمكن أن يرجع إليها طالب العلم في هذه المسألة: أضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، فقد ذكر كل ما تقدم من خلاف، وله رأي في الترجيح، وأنا لا أقول شيئاً في ذلك، ولكن أحب أن أقول أيضاً بأنه عرض إلى ما عرض إليه الفخر الرازي في التفسير في نوعية القصر، ما هو القصر.. هل القصر في الكيفية أم في الكمية؟ ومعنى القصر في الكيفية: هو إتيان الصلاة على ما هي عليه أربعاً، ولكن مع التخفيف في الأركان.

    يعني: تقرأ الفاتحة فقط، وتسبح مرتين أو ثلاثاً فقط، وهناك من يقول بذلك، وقالوا: صلاة السفر تقصر ركعتين، وصلاة الخوف تكون ركعة واحدة، وبعضهم يقول: قصر الصلاة مع الخوف ركعة، ومع الأمن ركعتين، ولكن لم يأخذ بهذا التفصيل أحد من الأئمة الأربعة، فإذا مر عليها الطالب فلا يقف عندها طويلاً، اللهم إلا إذا كان استيعاباً للخلاف الموجود في المسألة، أما إذا أراد فقه المسألة وتحقيقها فليتجاوز هذه المرحلة في أول بحث الشيخ رحمه الله، ثم يأتي إلى الفروع التي أوردها في المسألة، وأقوال الأئمة رحمهم الله في تلك المسألة التي يتعلق بها الحكم. والله تعالى أعلم.

    المسافة التي يجوز فيها القصر

    حديث أنس رضي الله عنه يشير إلى مدة نهاية القصر، ومسافة القصر التي قدرت -وسيأتي التنصيص عليها بأربعة برد، والعبرة فيها بالمسافة البينية، أي: ما بين مسيره ومنتهاه، فإذا كانت الأربعة برد للذهاب والإياب بأن كان سفره مثلاً إلى بريدين وسيرجع بريدين، والمجموع أربعة برد فلا قصر؛ لأن العبرة فيما بين بلده وبين غايته من السفر، فإذا كانت المسافة بين بلده وبين الغاية من سفره أربعة برد قصر، وإذا كان الذهاب والإياب أربعة برد فلا قصر.

    إذا أقام المسافر أربعة أيام أو أقل فله القصر

    وهنا يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلا زال صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة أو يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة).

    إذاً: المسافر الذي استوفى شروط السفر يقصر، ومما يذكر في جواز القصر في السفر أن يكون السفر مباحاً أو سفر طاعة، وهناك من يقول: بل مطلق سفر ولو حتى في غير طاعة ولا مباح، وإن كان سفر معصية فمعصيته على نفسه، وله رخصة السفر في هذا، والجمهور يقولون: إن الله سبحانه يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ [المائدة:2] فإذا كان سفره سفر معصية فلا يأخذ بالرخصة، ولا يفتي بذلك لأنه يساعده على معصيته.

    إذا استوفى المسافر الشروط وكانت المسافة مكتملة، والسفر مباحاً فلا يزال يقصر حتى يرجع إلى بلده.

    ولكن قد تطرأ في أثناء السفر إقامة، فما حكم تلك الإقامة التي تخللت سفره حتى يرجع؟ من هنا: جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنه.

    والسفر الذي ذكره أنس رضي الله عنه إلى مكة مع إقامته صلى الله عليه وسلم هناك فيه عدة أحكام في عدة مواقف، وكان سفره صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح وعام الحج، وكل منهما يختلف حاله؛ لأن عام الفتح له ظروف، وعام الحج له ظروف، وسنتناول حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بروايته، مع الإلمام الخفيف عن الفرق بين سفرة الحج وسفرة الفتح.

    ففي سفرة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبدأ سفره صائماً حتى بلغ كُرَاعَ الغميم، وهناك أفطر وندب الناس إلى الفطر وموضوع الصوم لا يخصنا -وكان يقصر الصلاة من ذي الحليفة إلى أن رجع إلى المدينة، ولما وصل مكة وفتح الله له مكة انتظر هناك تسعة عشر، أو عشرين، أو ثمانية عشر يوماً -أكثر أو أقل- وهو يقصر الصلاة ويقول لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر).

    فقوله: (مكث ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرين -أكثر أو أقل- وهو يقصر، ما الذي أجلسه صلى الله عليه وسلم تلك المدة وقد أنعم الله عليه بالفتح؟

    نعلم جميعاً أن بعد الفتح كانت غزوة حنين، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن هوازن تجمع له، علم أن فتح مكة لم ينته، وبقي في مهمة الفتح أو الغزو تلك اللحظات، فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى هوازن.

    إذاً: كانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح مدة جهاد، ولا نقول: إنه مقيم، ولا تمت له إقامة، ولا نوى إقامة واستيطاناً.

    إذاً: ما دام الأمر كذلك فهو على سفر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة حتى رجع من هوازن ورجع إلى المدينة.

    أما سفرة الحج فيتخللها إقامة محددة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قدموا صبح رابعة) أي: وصل النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الرابع من ذي الحجة، وإذا كان وصل يوم أربعة في ذي الحجة، فالوقوف بعرفة يكون يوم تسعة، فيضطر أن ينتظر في مكة إلى يوم عرفات خمسة أيام، وفي هذه المدة قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه نووا الإقامة حتى يأتي يوم الثامن فيرحلون إلى منى ثم عرفات، فهذه المدة التي حصلت فيها الإقامة، كان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة فيها ولا يتمها؟

    كم مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل عرفة؟!

    الجواب: ارتحل صلى الله عليه وسلم إلى منى ضحى، وصلى الظهر يوم الثامن في منى، ومكث إلى صلاة الصبح في منى، فلما أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات، فكانت إقامته صلى الله عليه وسلم خمسة أيام بحساب يوم الدخول ويوم الطلوع إلى منى، والإمام أحمد رحمه الله قال: من أقام أثناء سفره لمدة عشرين صلاة، أي: عشرين فرضاً على اعتبار أن كل يوم فيه خمسة فروض؛ فإن حكم السفر يظل مصحوباً معه فيقصر، أما إذا نوى الإقامة أكثر من ذلك كأن ينوي الإقامة عشرة أيام محددة معلومة، أو ستة أيام محددة معلومة؛ فحينئذٍ يتم من أول يوم يصل، لماذا؟

    قال الإمام أحمد: الأربعة الأيام قصيرة، وتعب السفر لازال موجوداً، وهو يتهيأ لسفر لاحق، ولا يزال مصطحباً حكم السفر معه في هذه المدة المحدودة.

    وكذلك فإن أصل القصر رخصة، والرخصة لا اجتهاد فيها، إنما الرخص جميعها توقيفية، ولا تتعدى محلها، فقالوا: ما دمنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء سفره أقام بنية معينة، فكذلك نحن إذا أقمنا أثناء السفر مدة معينة نظرنا: إن كانت المدة مثل المدة التي نزلها وأقامها صلى الله عليه وسلم فنقصر كما قصر، وإن كانت أقل فمن باب أولى، أي: لو أردنا الإقامة يومين أو ثلاثة فإنا نقصر من باب أولى.

    يقولون: السنة جاءت بأربعة، ولا نزيد على ذلك، ولهذا يتفقون بأن من نوى الإقامة أربعة أيام فإنه له أن يقصر، وهناك أقوال أخرى كما عند الأحناف أنها خمسة عشر يوماً، ويقولون: هذه مدة الطهر بين القرئين، وهذه المدة جاءت بها الأخبار والآثار، على ما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.

    إذاً: المسافر إذا نزل نزولاً مؤقتاً، سواء في نهاية غايته أو في أثناء طريقه، وكان نزوله وإقامته محددة بأربعة أيام فأقل فله أن يديم القصر حتى يرحل، وإن كانت إقامته محددة معلومة أكثر من أربعة أيام فعليه أن يتم أول ما يصل.

    إذا أقام المسافر متردداً فإلى أي مدة يقصر؟

    إذا كانت إقامته غير محدودة ولا يعلم متى سيرحل، فما حكمه في تلك المدة؟

    سيأتي بيان ذلك في روايات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سواء كانت في مكة أو في تبوك.

    قال المصنف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يقصر)، وفي لفظ: (بمكة تسعة عشر يوماً). ]

    كم كانت إقامته صلى الله عليه وسلم في الحج؟

    أربعة أيام، ثم بعدها سفر متواصل إلى منى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى ثلاثة أيام، فالعودة إلى المدينة، فأطول مدة أقامها صلى الله عليه وسلم في سفر الحج هي ما بين وصوله إلى يوم التروية، وهو اليوم الثامن، والباقي كله سفر متواصل، وهنا أقام في مكة تسعة عشر يوماً.

    فيكون قطعاً ليس في الحج، إنما هو في الفتح.

    هل ظل صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة تسعة عشر يوماً، ولماذا؟

    نعم. ظل يقصر خلال هذه المدة.

    قالوا: لأنه لم ينو إقامة ولم يحدد مدة، ولم يكن يعلم متى سيرجع.

    إذاً: لم يكن هناك تحديد للمدة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم متى ينتهي الموقف، ولكنه صلى الله عليه وسلم انتهى من فتحها -مكة- في يومها والحمد لله وتم الأمر، ولكنه لم يعلم متى ينتهي من الذين جمعوا له من هوازن، ومن هنا انتظر يعبئ الجيش ويهيئه للقتال وخرج معه عشرة آلاف مقاتل، وهناك من مكة خرج معه ألفان من مسلمة الفتح ومن غير المسلمين، حتى أن من المشركين من خرج مع المسلمين حمية ودفاعاً عن مكة.

    ولما انتهى من أمر هوازن ونصره الله عليهم وغنم غنائم حنين، ورجع إلى مكة توجه إلى المدينة حالاً.

    إذاً: هذه المدة -التسعة عشر يوماً- لم تكن مقررة من قبل، إنما قررها الواقع، ولما انتهت المهمة ولم يبق للإقامة حاجة عاد صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة.

    وهنا نجد الروايات: (تسعة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، خمسة عشر) كل هذه الروايات جاءت فيما يتعلق بالمدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم في مكة، وجاءت أيضاً في تبوك عشرين يوماً، أما روايات ابن عباس في مكة -تسعة عشر.. سبعة عشر.. خمسة عشر.. ثمانية عشر.. فيقولون: إن البيهقي رحمه الله جمع بين تلك الروايات وقال: لا تعارض بينها، فمن قال: تسعة عشر يوماً حسب يوم الدخول وحسب يوم الخروج، ومن قال: سبعة عشر يوماً أسقط يوم الدخول ويوم الخروج، فلا تعارض حينئذٍ، ومن حسب ثمانية عشر يوماً أسقط يوم الدخول يوم الخروج أو العكس، والذي قال: خمسة عشر؟ قالوا: هي الرواية صحيحة، ولكنها في علم الحديث شاذة، لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين سبعة عشر، وتسعة عشر).

    وعلى هذا: وجد عندنا إقامة بدون تحديد مدة وفيها القصر إلى تسعة عشر يوماً، فهناك من العلماء من قال: إذا أقمنا في أثناء السفر إقامة غير محدودة ولا معلومة النهاية قصرنا تسعة عشر، والآخر يقول: قصرنا خمسة عشر يوماً احتياطاً، وعدنا إلى إتمام الصلاة، ولكن أكثر العلماء على تسعة عشر، وربما نجد من يروي عن بعض العلماء غير الأئمة الأربعة شهراً، على ما جاء في رواية عن علي رضي الله تعالى عنه، وربما وجدنا من يقول: إذا كانت الإقامة غير معلومة ولا محددة فظلت أطول من تسعة عشر أو عشرين، أو ثلاثين يوماً، فيظل المسافر يقصر حتى يعود إلى بلده، وهذا كما يقولون في شرح الحديث: مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو المنصوص عليه في فتح القدير شرح الهداية قال: (قصر ولو سنين).

    والجمهور يقولون: لابد من اعتبار الرخصة في أساسها، وإذا كان الأصل في الصلاة إتمامها وجاء القصر رخصة: (تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته)، والرخص إنما هي توقيفية فلا تتعدى محلها، ووجدنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الإقامة المعلومة المحدودة أنه يقصر الأربعة الأيام فنحن كذلك نقصر، فإذا زدنا في مدة معلومة عن الأربعة رجعنا إلى الأصل فأتممنا من أول يوم، فكذلك في الحالة التي لا يعلم فيها متى تنتهي الإقامة نقف عند المدة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهي تسعة عشر يوماً.

    ويقول الشوكاني : نحن قد وقفنا على الرخصة من فعله صلى الله عليه وسلم في المدة التي لا تحديد لها إلى تسعة عشر يوماً إلى عشرين، فإذا قصرنا في مثل هذه الحالة نكون مقتدين آخذين وعاملين بالسنة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقمنا أكثر من عشرين يوماً كخمسة وعشرين يوماً، فالعشرون يوماً أخذنا بها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمسة إذا قصرنا فيها لم تكن داخلة في الرخصة.

    فـالشوكاني رحمه الله يقول: ما زاد عن الأيام التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست داخلة في الرخصة، ومن قصر أكثر من تلك المدة يكون عاملاً بغير دليل ولا مستند، ثم يقول: لو قدر أن إقامته صلى الله عليه وسلم طالت في مكة أو في تبوك فوق العشرين يوماً فهل نعلم ماذا كان سيفعل بعد العشرين؟ هل يستمر على القصر أم يرجع إلى الإتمام؟ فالأمر محتمل للاتمام والقصر، فإذا كان الأمر محتملاً في التقدير العقلي فممكن أن يظل يقصر مستصحباً حكم السفر، وممكن أن يرجع إلى الأصل مكتفياً بهذه المدة، فما دام الاحتمال قائماً، على قدم المساواة، وليس عندنا ما يرجح واحداً منهما، فحينئذٍ إذا تعادل الاحتمالان نرجع إلى الأصل الذي لا احتمال فيه، فنرجع إلى إكمال الصلاة ونصلي أربعاً، ونأخذ المدة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها نرجع إلى الأصل؛ لأنه ليس عندنا نص نعتمد عليه أكثر مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756384776