إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم صفوة الخليقة، فلا يجوز أن يساء إليهم، ولا أن يُقدح فيهم، ويجب الدفاع عنهم، والتحري والتثبت في القصص والأخبار التي تنقل عنهم، ورد القصص التي تتضمن الطعن والنقيصة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.

    1.   

    شرح حديث: (سجدنا مع رسول الله..)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]و اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]) رواه مسلم ].

    هاتان السجدتان لم يقل بهما مالك ، ويرى أنه لا سجود في المفصل، والمفصل بعضهم يقول: إن أوله الحجرات، فيدخل تحته سورة النجم، والانشقاق، والعلق، فـمالك يرى أنه لا سجود فيها.

    وإتيان المؤلف بحديث أبي هريرة يدل على أن السجود فيهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام مالك يقول هذا القول، فإنا نجد في المذهب المالكي ثلاث روايات:

    رواية تقول كما قال مالك .

    وراوية تقول: جميع الآيات الخمسة عشر كلها فيها سجدة، ما عدا الثانية من الحج.

    والراوية الثالثة تقول: جميع الآيات كلها بما فيها الثانية من الحج.

    إذاً: جاء عن مالك في الموطأ عدم السجود في المفصل، وأما عند العلماء المالكية فإنهم يذكرون في المذهب خلاف ما في الموطأ، وهي روايات عن مالك في غير الموطأ.

    فيكون مالك يثبت السجود في المفصل على بعض الروايات عنه.

    1.   

    شرح حديث: (ص ليست من عزائم السجود)

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ((ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها) رواه البخاري ]

    إذا أطلقت كلمة: عزيمة، فمعناها: واجبة؛ لأن العزيمة في الاصطلاح تقابلها الرخصة، ولكن المراد هنا: أنها ليست من السجدات التي جاء فيها الحرص، وجاء فيها التنويه والطلب كبقية آيات السجدات التي في غير (ص).

    يقول الأصوليون: سجدات التلاوة جميعها سنة مندوب إليها، ولكن المندوب يتفاوت بعضه عن بعض؛ فسورة (ص) فيها سجدة، ولكن الطلب فيها والتحريض عليها والحث عليها أقل من الطلب والتحريض والحث في غيرها، وسيأتينا أن سورة الحج تميزت بسجدتين (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) يعني: السورة، أو (فلا يقرأهما) يعني: الآيتين اللتين فيهما السجدة، فهذا حث على السجود فيهما، ومن لم يسجد فيهما يتركهما، فالطلب هنا أشد منه في (ص).

    قالوا: من أين أخذ ابن عباس السجود، في (ص)؟ جاء عنه أنه قال: سجدها داود عليه السلام توبة، وسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً، فسجدنا تبعاً لرسول الله.

    وقالوا: قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وداود سجدها فاقتدى به رسول الله فسجد، أو مع اختلاف الاعتبارين: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24] فكانت استغفاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما يستوجب الاستغفار عند هذا المقام، ولكن سجدها اتباعاً واقتداء بالرسل المتقدمين صلوات الله وسلامه عليهم.

    إذاً: سجدة (ص) تجمع بين كونها سجدة تلاوة؛ لأن النص يقتضي السجود، وبين كونها سجدة شكر، وهذا بالنسبة لنا دون من كان قبلنا، وعلى هذا الخلاف هي سجدة، ولكن هل باعتبار التلاوة أو باعتبار الشكر؟

    ما دام صلى الله عليه وسلم سجدها فنحن نسجدها، سواء كانت شكراً أو كانت تلاوة، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم)

    قال المصنف رحمه الله: [ وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سجد بالنجم) رواه البخاري ] .

    يأتي المؤلف بهذا النص أيضاً في سجدة النجم بياناً للخلاف الذي وقع، فـمالك رحمه الله لم يأخذ به.

    سجدة النجم قد جاء في خبرها قصة الغرانيق، وبعض الناس يطعن في قصة الغرانيق، ولكن أصل القصة موجود، وهو السجود، فسجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها عند قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] إنما كان للتلاوة، وكان يقرؤها في مكة، فلما قرأ بها وكان المشركون حضوراً، فكل من كان حاضراً في المجلس يسمع سجد ، سواء كان مسلماً أو مشركاً، وكان سبب سجود المسلمين اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سبب سجود المشركين فاختلق له بعض الناس قصة الغرانيق، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ.. [النجم:19-22] إلى آخره، فالشيطان عند تلاوة ذلك قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فلما سجد صلى الله عليه وسلم، قال المشركون: محمد ذكر آلهتنا بخير اليوم، ولم يذكرها بخير قط قبل ذلك، فسجدوا معه ظناً منهم أنه سجد لها في هذه الحالة، ولكن هذه القصة باطلة، وإذا جئنا إلى كتب التفسير نجد أن أغلبها قد ذكر هذه القصة، لكن يجب على الإنسان أن يحذر ويتحرى، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: كنت أقرأ للآية مائة تفسير وأقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، يقرأ مائة تفسير للآية! مع أن الله أعطاه من أداة العلم من أصول، ومن فقه، ومن لغة ومن .. إلى آخره الشيء الكثير.

    بيان بطلان القصة الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود

    نحن بين أيدينا عدة تفاسير، وهناك قضايا من المشكلات في بعض التفاسير، وإن كانت مشهورة، وإن كان أصحابها أئمة؛ لكننا نجدهم يسوقون بعض تلك القضايا على علاتها، وبعضها إسرائيليات، ومن تلك القضايا التي ذكروها بعلاتها قضية الغرانيق، ومنها قضية سجود نبي الله داود، ففي قوله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23] ، قالوا: النعجة كناية عن الزوجة وعن المرأة، وداود عنده تسع وتسعون زوجة، وهذا الرجل عنده زوجة واحدة، فأرسل داود زوجها إلى القتال ليقتل فيتزوجها بعده! وهذا والله هراء، بل إن أنصاف المجانيين ليستبعدوا ذلك عن أنبياء الله ورسله، وقد نبهنا مراراً أن من يقرأ السورة من أولها يجد القرآن الكريم ناصعاً بيناً، ومقدمات السجدة تنزه نبي الله داود عن ما هو أبعد وأبعد من ذلك كله؛ لأن في أول السياق يقول سبحانه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17] ، فهذا الوصف من الله لداود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) على سبيل التأسي والاتباع؛ لأنه قال: (عَبْدَنَا) وقال: (ذَا الأَيْدِ) وقال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعني: اذكره وتأسى به في تلك الصفات، فيكفي أن يقول الله فيه: (عَبْدَنَا)، والله لا يصطفي للعبودية الخاصة شخصاً بهذه الصفة، حاشا وكلا.

    إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19] سبحان الله! ، إنسان تسخر معه الجمادات والجبال والطير، وتسبح لله معه، ثم ينظر إلى امرأة غيره، وعنده تسع وتسعون امرأة، والله! لو كان أعزب لا زوجة له لما فعل هذا.

    وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] ، وهل من الحكمة أن يقع في مثل ذلك؟! وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ تعتبر مؤهل علمي لأداء الرسالة: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ لأي شيء؟ ليفصل خصام المتنازعين بالحكمة: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ .. [ص:21] ... يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ [ص:26] ، بعدما بيّن القضية ما هي؟ خَصْمَانِ بَغَى [ص:22] - وإلى أين جاء الخصمان؟ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص:21]، دخلوا عليه وهو في معتكفه في عبادته لله وحده، وليس في لهوه ولعبه.

    وكان عليه السلام قد قسم زمنه إلى ثلاثة أيام: يوم يدخل فيه المحراب يتعبد، ويوم لأهله يقضي شئونهم، ويوم للقضاء بين الناس، فإذا باليوم الذي جعله للقضاء لا يكفي، فـ(تسوروا المحراب)، وهل الخصوم الحقيقيون يستطيعون أن يتسوروا المحراب على الملك؟ لا وكلا، إذاً: ليسوا على حقيقتهم، وهل وجدنا في علم القضاء أن خصمين يختصمان وبينهما كما بين الثرى والثريا، فهذا معه تسع وتسعون نعجة ثم يغتصب نعجة لهذا الواحد؟ هل هناك ظلم أكثر من هذا؟! وهل هذه تحتاج إلى قاض يحكم فيها؟ وهل وجدنا ظالماً عاتياً يمشي مع المظلوم: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ [ص:22] ؟! وهل هذه تحتاج إلى حكم؟! فلو جئنا إلى عجوز عمياء مخرفة لحكمت فيها، وقالت: أنت ظالم بطلبك النعجة وعندك تسع وتسعون نعجة، فكيف يأتي الخصم الظالم مع الخصم المظلوم طواعية من غير جنود أو قوة، ومن غير إرسال إليهم، وهل رأيت خصمين يأتيان إلى المحكمة طواعية؟! قد تجد الآن قضية في عشرة آلاف أو خمسة آلاف لا يأتي الخصم إلا بعد أن تتعدد الجلسات، وبعد أن ترسل إليه الجندي، ويأتي به بالقوة، فكيف بهذا؟!

    ثم: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص:22] ، وهل سواء الصراط خفي عليكم حتى تطلبوا الهداية إليه؟! فالقضية بينة من غير شيء.

    ثم ينطق سليمان عليه بالواقع: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص:24] أي: الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، وأنت تتعبد في المحراب، ونحن لم نعطك مؤهلات العبادة بقدر ما أعطيناك مؤهلات القضاء؛ وهي الحكمة وفصل الخطاب.

    لما أن علم ونطق بـ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ هنا تنبه وَظَنَّ [ص:24] يعني: علم: أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24] .. يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] ، وقوله: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فتناه في ماذا؟ في العبادة، وأنه اشتغل بالعبادة عن المهمة الأساسية التي نصبه الله لها.

    والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـمعاذ عند أن ذهب وصلى بأهل قباء العشاء وبدأ بـ (الم)، وصلى خلفه رجل مسكين يعمل كل النهار في مزرعته، فقال: هذا لا يركع حتى يتم السورة، وأنا لا أستطيع أن أتابعه فانفرد وأكمل صلاته وذهب فنام، فبلغ معاذاً خبر هذا الرجل فقال: هذا الرجل منافق، فبلغت الكلمة إلى الرجل، فجاء إلى الرسول وقال: معاذ يرميني بالنفاق، وقال: كذا وكذا، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أفتان أنت يا معاذ !) .

    فـمعاذ فتن الناس عن دينهم، فهو كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمع تلاوة رسول الله، فيتشبع روحياً ومعنوياً، ولو قرأ القرآن كله لا يشق عليه، فهو بتلك اللذة وتلك النشوة وبتلك المعنويات مع رسول الله دخل في الصلاة مع أهل قباء، فطول وشق على المأمومين.

    إذاً: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ كانت فتنة داود عليه السلام أنه خص نفسه بالعبادة، وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض خلف الأسوار.

    أي الأمرين أولى: أن ينقطع للعبادة داخل المحراب أو أن يجلس يقضي بين الخصوم؟

    الأولى أن يقضي بين الخصوم؛ لأن مهمته هي الخلافة، وقد أعطي الحكمة وفصل الخطاب.

    إذاً سجدة (ص) من داود عليه السلام إنما هي توبة مما كان عليه، ولذا ترك المحراب وجلس للناس يفصل الخصومات التي بينهم.

    وتجد بعض كتب التفسير التي تعد لأئمة التفسير تذكر المرأة، وتذكر كل الذي ذكر فيها، وتجد منهم من يحسن الأسلوب ويقول: إنما داود خطبها على خطبة غيره، امرأة خطبها إنسان، وعلم بها داود فذهب وخطب على خطبة غيره، ونحن منهيون عن ذلك: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) .

    وتجد آخرين يقولون: وما أداركم أن الخطبة كانت ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا.

    وأحسن ما قرأت فيها في تفسير أبي السعود قال: (وقد سوّد كثير من المفسرين -أو قال بعض- في هذه القضية صحائف بمدادهم، أنزه القلم أن يجري بشيء منها)، وسكت!

    فأقول: جزاه الله خيراً، نزه قلمه أن يسوق أو يورد ما قيل فيها؛ لأنها لا تليق بنبي من أنبياء الله.

    ومن العجب أيها الإخوة! أني وجدت في كتاب: تأويل التنزيل للسبكي ؛ وهو كتيب صغير جداً، أنه قال: لا دخل لعنصر المرأة في هذه القضية، وأتمم لكم مرحلتي مع هذه القضية: لما كنت أدرس كان من المقرر علينا هذه السورة، فلما وجدت في أمهات كتب التفسير تلك الروايات الإسرائيلية، أخذت القلم وكتبت على هامش الكتاب الذي أقرأ فيه: لا وجود لعنصر المرأة؛ نظراً لسياق السورة لداود عليه السلام، وامتداح الله إياه في هذه الصفات كلها، ولما جئت عند الاختبار واجهت الأستاذ المدرس، وكانت مقررة علينا في كلية اللغة، وليست في الشريعة؛ لأن فيها أبحاثاً لغوية شهيرة جداً، فسألته: ما رأيك في كذا وكذا؟ قال: نعم هذه ذكرها شيخ المفسرين، فقلت: والله هذه مصيبة، إذا كان الأستاذ الموكل بالتدريس يقرر القصة على الطلاب ويقول: ذكرها شيخ المفسرين، فبدأت أذكر له سياق السورة فإذا به يتجهم، وإذا به ينهر، ويقول: أنت تأتي بأشياء جديدة، فقلت: لا، لا جديدة ولا قديمة، الذي تراه أنت إن شاء الله فيه خير، وعزمت على أنها لو جاءت في السؤال فسأعطيه رأيه الذي هو عليه، حتى لا أكون ضده، وأحتفظ بهذا لنفسي.

    ومن العجب يا إخوان! أن تأتي المناسبات، ويأتي إمام جامعة إسلامية كبرى في الشرق الأوسط، وتأتي المناسبة، وأورد عليه الرأي في هذه القضية، فإذا به يعجب به إلى أقصى حد، ويطلب مني تسطيره فسطرته وأعطيته إياه، فأخذه معه إلى بلده، ونشره في مجلة تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى.

    يهمنا في هذا يا إخوان! أنكم ستجدون في بعض كتب التفسير أنهم يذكرون قضية الغرانيق، وبعضهم يسكت عليها، ولكن بحمد الله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه قد صفى هذه القضية في أضواء البيان.

    وأنا أريد أن أقول: إن سجود المشركين لا يستبعد، وأقول: إن المشركين عرب، وفصحاؤهم فرسان البلاغة، فلما استمعوا لقراءة رسول الله لسورة من كتاب الله، وقد اجتمع كلام المولى سبحانه مع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن معجز، والرسول سيد البلغاء، فلما قرأ القرآن على الحاضرين، كان ذلك حقيقاً أن يسجد المؤمن إيماناً، ويسجد المشرك أخذاً بسحر القرآن وبعذوبة تلاوة رسول الله.

    ولقد وجدنا في التاريخ في إعجاز القرآن أن أعرابياً سمع القرآن أول مرة فسجد، فقيل له: لماذا تسجد؟ قال: لعظمة هذا الكلام الذي أسمع، وهو لم يعلم أنه قرآن أو غير قرآن.

    إذاً: للقرآن تأثير على القلوب، وقد سمعت الشيخ محمد الراوي يقول: إنه ذهب إلى كندا -فيما أظن- أو إلى جهة من تلك الجهات في بعثة، وكان يلقي محاضرة، ومعه من الطلاب من يترجمها بلغة البلد، فكان يترجم آيات القرآن مع كلام المحاضر، فإذا بالحضور جميعاً، يقولون: قف أيها المترجم عن ترجمة القرآن الكريم، ودعنا نسمعه كما أنزل، فإن سماعنا إياه على ما أنزل من عند الله أعظم في أسماعنا من أن تترجمه بلغتنا.

    إذاً: المشركون سجدوا، وأنا أقول: سجدوا يقيناً، ولكن لا لقول الشيطان: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) حاشا وكلا، لو تمكن الشيطان أن يلقي في روع رسول الله، أو أن يدخل في التلاوة شيء لكان تسليطاً، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، فلا يمكن أبداً لقوة على وجه الأرض أن تدخل في القرآن كلمة ليست منه، ولا أن تسقط منه كلمة.

    إذاً: سجدة (ص) -كما يقول ابن عباس - سجدها داود عليه السلام توبة؛ وذلك بسبب كونه ينقطع للعبادة، ويترك الخلطاء يبغي بعضهم على بعض، فإذا وجدنا مثل هذه القصص في كتاب ما فلا نقتصر على ذلك، بل نطلب الحقيقة بقدر المستطاع، ثم مع كثرة الطلب سنجد الحقيقية ناصعة بإذن الله.

    وكذلك السجدة التي في سورة النجم، نقول: نعم سجدها المشركون، ومما يؤيد أنهم سجدوها أن المهاجرين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى، سمعوا بذلك، والهجرة إلى الحبشة كانت مرتين:

    الأولى: حينما أذن لهم صلى الله عليه وسلم بالهجرة عندما اشتد عليهم الإيذاء، وقال: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يضام أحد في جواره، أرى أن تهاجروا إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً)، فهاجر أوائل المسلمين الهجرة الأولى إلى الحبشة، ولما قرأ صلى الله عليه وسلم سورة النجم، وسجد المسلمون والمشركون جميعاً، سمع من كان بالحبشة أن المشركين قد أسلموا مع رسول الله، وأن القضية قد انتهت، ولم يبق هناك عداء، فبعضهم لم يصدق وقال: ما أظن هذا صحيحاً، وبعضهم قال: ما دام أنهم قد سجدوا فمعناه أنهم قد أسلموا، فرجع بعضهم إلى مكة فوجد الأمر على خلاف ما سمع، فهم سجدوا ولكن لا إسلاماً، ولا للغرانيق العلى، ولكن لعذوبة القرآن وسحر بلاغته، فلما رجع المسلمون من الحبشة وجدوا شدة من المشركين، فرجع بعضهم، وحبس البعض وفتن في مكة.

    إذاً: هذه دلائل عملية واقعية تثبت أن المشركين سجدوا مع المسلمين، ولكن أقول: أخذوا بسحر البيان، وبالإعجاز للقرآن، فسجدوا تلقائياً من غير وعي، ومن غير تحكيم للعقل، سجدوا عاطفياً تمعناً لكتاب الله، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث: (قرأت على النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد فيها)

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) متفق عليه ].

    هذا الأثر الثاني: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) ، في الحديث المتقدم أنه سجد، وفي هذا الحديث يقول: لم يسجد، ومن هنا قال مالك بعدم السجود فيها، وبعض المالكية يقول: إنما سجد في مكة ولما هاجر إلى المدينة لم يسجد فيها، لأن راوي هذا الحديث زيد ، هو مدني، والأول مهاجر من مكة.

    إذاً: الأخير ينسخ الأول، ولكن علماء الحديث يقولون: السجود ليس واجباً حتى يقال: المتأخر ينسخ المتقدم، وما دام أن الحكم هو الجواز فليس بلازم أن يسجد كلما قرأ، فيكون قرأ وسجد تارة، وقرأ وترك السجود تارة أخرى، والمثبت مقدم على النافي، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويفصل الموضوع فيقول: (إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، ولكن من سجد فقد أصاب - أي: أصاب السنة - ومن لم يسجد فلا إثم عليه) ، وسبب ذلك أن عمر قرأ آية السجدة على المنبر، فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم لما كان في الخطبة الثانية في الأسبوع الآخر، قرأ آية سجدة فتهيأ الناس للسجدة فلم ينزل وقال: (يا أيها الناس! إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا شيء عليه).

    إذاً: عمر بنفسه سجد وترك، فهل نقول: ترك عمر نسخ للفعل الأول؟ لا، ليس نسخاً؛ لأنه قد بين أنه لم يفرض علينا، وإنما السجود دائر بين الفعل والترك على سبيل الجواز.

    إذاً: هذا الحديث لا ينسخ ما قبله، ولكن كما قدمنا مراراً أن من غايات المؤلف رحمه الله في تأليف هذا الكتاب بيان أدلة الأحكام عند الأئمة الأربعة، فمن قال: النجم فيها سجدة عنده الحديث الأول، ومن قال: النجم لا سجدة فيها عنده هذا الحديث الثاني، ومن جمع بين النصوص وأحكم فيها العمل، وأخضعها للقواعد عند المحدثين والأصوليين فسيخرج بنتيجة الجمع بين الأحاديث المختلفة، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث: (فضلت سورة الحج بسجدتين)

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن خالد بن معدان رضي الله عنه قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) رواه أبو داود في المراسيل ] .

    يأتي المؤلف بهذا الحديث أيضاً، وفيه أن سورة الحج فضلت بوجود سجدتين فيها، وهنا مسألة: هل يقال في سور القرآن وآياته: هذه السورة أفضل من تلك؟

    اختلف العلماء في هذه المسألة، فبعضهم يقول: لا نفضل؛ لأن كله كلام الله.

    وبعضهم يقول: قد تختص هذه السورة بما لا تختص به تلك، وهذا كلام معقول، فمثلاً: آية الكرسي قالوا: هي أفضل آية في كتاب الله، لأنها تختص بصفات الله كما تقدم في الذكر بعد الصلاة، وكذلك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تختص بخصائص؛ لأنها محض صفات لله سبحانه، وهكذا الفاتحة تختص بأنها أم الكتاب؛ لأنها جمعت علوم القرآن كله، والقرآن جمع علوم الكتب قبله، فالفاتحة جمعت كل كتاب منزل من السماء.

    ويقول بعضهم: لا مانع أن يقال: الكل فاضل، وهناك أفضل، فليس هناك ناقص بل الكل فاضل، فكما تفاضلت الرسل كذلك تتفاضل السور، وكذلك تتفاضل الآيات، ومما فضلت به -أي: خصت به- سورة الحج أن فيها سجدتين، فلا يوجد سورة تجمع سجدتين إلا سورة الحج، وقد أتى بهذا المؤلف؛ لأن هناك خلافاً في السجدة الثانية من سجدتي سورة الحج، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يعتبرها إلا إذا قرأ بها في الصلاة، أما خارج الصلاة فلا يعتبرها سجدة. إذاً: المؤلف رحمه الله يسوق لنا مواضع الاختلاف في سجود التلاوة.

    1.   

    شرح حديث: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها)

    قال المصنف رحمة الله: [ ورواه أحمد والترمذي موصولاً من حديث عقبة بن عامر، وزاد: (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) ، وسنده ضعيف ].

    في هذه الزيادة تنبيه وهو: أن من لم يسجد السجدتين في سورة الحج فلا يقرأها، يعني: لا يقرأ السورة، والرواية الأخرى: (فلا يقرأهما) يعني: آيتي السجدة.

    وهنا بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بهذا النص،هل يجوز للإمام أن يقرأ في الصلاة ما شاء من آيات السجدة على غير عادة منه مع الناس؟

    مالك رحمه الله يقول: لا يجوز للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في الصلاة الجهرية ولا في السرية ليسجد بنفسه؛ لأنه إن قرأ سراً بآية سجدة فسجد، فالناس لا يعلمون لماذا سجد، وإن قرأ في الجهرية سورة فيها سجدة، فقد يسمع البعض ويعلم حكم السجدة في تلك السورة فيسجد، والبعض قد لا يعلم حكم السجدة فيها أو لا يسمع فلا يسجد، فيكون هناك اضطراب، وقد يقرأ الإمام السورة التي فيها السجدة ولا يسجد؛ لأنه غير ملزم، ولكن المأموم يعلم أنها موضع سجدة فيسجد ظناً منه أن الإمام قد سجد، إذاً: فيحصل الاضطراب، ولهذا قالوا: لا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة على غير وفاق من المجموعين، والآن يعلم الناس مشروعيتها.

    ولا ينبغي أن يقرأ بها الإمام، والكل يعلم أن فيها سجدة، ويمر دون أن يسجد؛ مخافة أن يسجد المأموم لسماع آية السجدة ويكون الإمام لم يسجد، فإن كان يريد أن يسجد فيها فليقرأ وليسجد، وإن كان لا يريد أن يسجد فيها فلا يقرأها؛ لئلا يوقع ارتباكاً عند الناس.

    حكم تخصيص قراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة

    يأتي هنا سؤال: لماذا خصت سورة السجدة بصلاة الفجر يوم الجمعة؟

    ينص ابن تيمية رحمه الله وغيره من الأئمة؛ أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام، ويوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه جاء في النصوص أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم يوم الجمعة، وأسجد الملائكة يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وتلقى الكلمات من ربه فتاب عليه يوم الجمعة، ثم جاءت الأحاديث بأن (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) ، ويوم الإثنين جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل فقال: (أما يوم الإثنين فيوم ولدت فيه وأنزل علي فيه) ، وسورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.. [العلق:1] نزلت في يوم الإثنين، وهجرته ودخوله المدينة في الهجرة كان يوم الإثنين، ووفاته صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين؛ فقالوا: يوم الإثنين يوم محمد ويوم الجمعة يوم آدم، فتأتي سورة السجدة، والإنسان معها وفيها قصة الإنسان، ويوم البعث، وكذلك فيما ذكر الدهر: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان:1-2] ، ويأتي فيها بيان الموعد ويوم القيامة والمصير؛ فقالوا: هذا يوم خلق آدم فتُقرأ السورتان تذكيراً للمأموم بيوم القيامة وببدء وجود الإنسان؛ ليعمل لذلك اليوم، فكانت هناك المناسبة لقراءة سورة السجدة؛ لأن فيها خلق الإنسان، والبعث والمعاد والجزاء، وكذلك سورة الإنسان؛ لأن البعث والمعاد يوم الجمعة وهذه صبيحة الجمعة، هكذا يقولون.

    إذاً: من لم يسجدهما فلا يقرأها، وعليه أن يتجنبهما ويتركهما.

    ومما ينبه عليه العلماء أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمد إلى نص السجدة ويقرأها، مثل: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] ، ويسجد، بل يجب عليه أن يأتي بما قبلها.

    حكم السجدة إذا كانت في آخر السورة

    ومن الأحكام: لو أن السجدة كانت في آخر السورة وقرأها في الركعة فسجد، فسيكون السجود عند التلاوة قبل الركوع، فكيف يأتي بالركوع: أينهض من سجوده راكعاً، أو أنه يقف معتدلاً بعد السجدة ثم يركع؟

    قالوا: إن صادف في قراءته آية سجدة في نهاية السورة فسجد لها نهض واستوى قائماً؛ لأن الركوع لا يكون إلا من قيام لا من هبوط في الأرض، فإذا استوى قائماً يقرأ من السورة التي بعد السجدة بعض الآيات ويركع عن قراءة وقيام، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح أثر عمر: (إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)

    قال رحمه الله: [ وعن عمر رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه) رواه البخاري ] .

    بإجماع العلماء أن سجود التلاوة ليس بواجب؛ ولكن كما أشار عمر رضي الله تعالى عنه: أن من سجد فقد أصاب، إذاً: الصواب هو مطلب كل إنسان، وأيضاً لو تتبعتم -يصعب علي تتبعه الآن- مواضع السجود الخمسة عشرة في كتاب الله تجدون أنها إما عند إعظام المولى سبحانه، أو إعظام كتابه الكريم، أو تنويهاً بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذت ما قبل آية السجدة في الخمسة عشرة موضعاً فستجد ما يوجب السجود ولو لم يأت الأمر به. أي: ستجد إعظاماً لله، أو إكراماً وتعظيماً لكتاب الله، أو تكريماً لرسول الله وللدعوة في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    ونذكر بعض النماذج على ذلك، ففي أول سجدة في سورة الأعراف، تجد أن السجود هناك يتعلق بسجود الملائكة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206] ، والآية التي قبلها قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205] ، وقبلها: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الأعراف:204] ، فهناك الأمر باستماع القرآن، وهناك الأمر بذكر الله: إِنَّ الَّذِينَ يعني: هناك قوم تشبه بهم: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الملائكة لا يفترون عن ذكر الله، ولا يستكبرون عن السجود، وقد استكبر من استكبر، وطرد بسبب استكباره، فلا تستكبر أنت وبادر إلى السجود.

    وهكذا -أيها الإخوة- لو تتبعنا كل مواطن السجود الخمسة عشرة في كتاب الله لوجدنا المعنى والسياق يدعوك لأن تسجد طواعية وإعظاماً لله سبحانه، والله تعالى أعلم.

    قوله: [ وفيه: (إن الله تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشأ) وهو في الموطأ ] .

    وهذا الأثر هو سبب كتابتي رسالة: (سجود التلاوة)؛ لأنا لما مررنا على هذا الأثر في الموطأ ونحن طلبة متأخرون، حاولت أن أجد رسالة مجموعة في سجود التلاوة فلم أجد، لا للمتقدمين ولا للمتأخرين، ولكنهم ينبهون عليها منثورة في سور القرآن كاملة، ولكن مباحثها، والخلاف فيها، والراجح في ذلك، وأحكامها الفقهية؛ لم أجد شيئاً من ذلك، فحاولت بقدر المستطاع تقريباً لنفسي ولإخواني أن أجمع فيها رسالة فجمعتها بعنوان: (سجود التلاوة)، وإن شاء الله من يحصل عليها سيجد كل ما يخطر بباله من مباحث سجود التلاوة من مواضعها المتفق عليه والمختلف فيه، وقد يكون الخلاف في السجدة في موضعها: هل هو في هذه الآية أو التي قبلها، وقد يكون الخلاف في أحكامها الفقهية: هل تكون بطهارة أو بغير طهارة، وهل تكون بسلام أو بغير سلام، وسيأتي هذا وننبه أن الرسول كبر فسجد.

    1.   

    شرح حديث: (كان يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد)

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) رواه أبو داود بسند فيه لين ] .

    هنا جاء المصنف بجزئية من الأحكام الفقهية المتعلقة بالسجدة، وهي في قوله: (كبر وسجد)، هو يقرأ وليس في صلاة، فلماذا كبر؟

    بعضهم يقول: هي تكبيرة للانتقال؛ لأنه انتقل من القراءة إلى السجدة.

    وبعضهم يقول: هي تكبيرة إحرام، فيكبر للسجدة كما يكبر لدخوله في الصلاة.

    ومن هنا قالوا: هل يسلم أو لا يسلم؟ وهل هي صلاة أو ليست بصلاة؟

    والجمهور بصفة عامة يقولون: إن سجدة التلاوة صلاة، بمعنى: أنك تكون على طهارة، وتستقبل القبلة، مع ستر العورة، وأن تكون في غير أوقات النهي، ومن عجب! ما ينقل عن ابن حزم -وقد نقلناه في الرسالة- أنه يقول: إن سجدة التلاوة لا يشترط لها شيء، ويقول: أنتم تقولون: فيها تكبير، والتكبير في كل وقت، فإذا قلتم: فيها تكبير كتكبير الصلاة، فالصلاة فيها قيام وقعود، فهل تقولون بالسجود أو بالتكبير أو بالسلام لكل قيام وقعود؟

    وأنا أستعجب من عقلية هذا الإمام الكبير أن يجعل القيام والقعود كالتكبير للسجدة، فالسجدة خاصة بالصلاة، ولا توجد سجدة في غير صلاة، أما التكبير فنجده في كثير من العبادات: نجده في الذكر بعد الصلاة، نجده عند رمي الجمار، نجده عند أيام العيد، فسبحان الله! بل حتى إذا شب الحريق نكبر، وإذا لقينا العدو نكبر، فالتكبير ليس خاصاً بالصلاة، وكذلك القيام والقعود ليس خاصاً بالصلاة، بل يأتي القيام والقعود للأكل والنوم والمشي والروحة والمجيء.

    إذاً: هذه التي ذكرها ليست من خصائص الصلاة فلا تعطى أحكامها، وأما السجود فلا يوجد سجود إلا في الصلاة، فسجدة التلاوة تشابه سجدة الصلاة، وقد تجمع السجدة بين الأمرين: بين الصلاة وبين التلاوة، كما لو تلا سورة فيها سجدة، فسجد وهو في الصلاة، فتكون جزءاً من الصلاة للتلاوة.

    إذاً: قياس غير السجدة عليها ليس موافقاً، وبالله تعالى التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756283138