إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب المساجد [2]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإسلام قائم على أساس إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، ولما كان أهل الكتاب قد انحرفوا في هذا الباب فبنوا المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وأخل كثير منهم بمبدأ الإخلاص، شدد الإسلام في ذلك خشية على أتباعه من أن يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، فشدد في تحريم اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك، وحذر منه أشد التحذير، وكل ذلك صيانة لجناب التوحيد، فلا يجتمع في الإسلام قبر ومسجد أبداً، وإن وجد ذلك فلابد من هدم أحدهما، فيهدم الطارئ ويكون الحكم للسابق.

    1.   

    تابع أحكام المساجد

    حكم اتخاذ القبور مساجد

    قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه، وزاد مسلم : (والنصارى).

    ولهما من حديث عائشة : (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً)، وفيه: (أولئك شرار الخلق)].

    أن ذكر المؤلف رحمه الله الأمر ببناء المساجد في الدور ذكر بعض المخالفات المنكرة المتعلقة بتشييد المساجد، ثم ذكر بعد ذلك بعض الأحكام التي تتعلق بحرمة المسجد.

    ثم جاء بعد ذلك بالتحذير مما كان من الأمم قبلنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وزاد مسلم : (والنصارى).

    الطرد، وفي هذا الأمر ينظر في الفعل واستحقاق فاعله اللعن، وينظر في لعن المعين كيهودي أو نصراني وهو ما زال على قيد الحياة.

    قالوا: اللعن لا يتأتى إلا إجمالاً، فتقول: لعن الله الكافرين، والمشركين، واليهود، والنصارى، والمجرمين، والظالمين، والطغاة، أما الشخص المعين فلا يجوز لك أن تلعنه، ولو كان كافراً مشهراً كفره، أو ظالماً معلناً ظلمه؛ لأن اللعن بالوصف يعم، ولا يتقيد بشخص، فما دام الوصف موجوداً توجه إليه، أما الشخص بذاته فقد يتوب الله عليه، وأنت قد عينته فألحقت به اللعنة، وقد يتوب عن موجبها، فتكون وصمته بذلك، والله سبحانه وتعالى قد تاب عليه مما كان فيه.

    أما إذا مات على ذلك الحال -على الكفر خاصة- فهو كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، فمن مات على الإسلام -مهما كانت حالته، من تقصير أو عدم أداء لواجب- لا يجوز لعنه؛ لأن أمره مفوض إلى الله وما دام أمره لله، فلا نتدخل نحن في ذلك، ولا نحكم عليه بخير ولا بشر، نعم نحكم بأنه كان على وصف كذا، أما مصيره في الآخرة فليس لنا ذلك.

    فهنا اللعن على جملة اليهود، وعلى جملة النصارى جاء مسبباً، بقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا -أي: ابتدعوا، وابتكروا، وفعلوا- قبور أنبيائهم مساجد -وتأتي التتمة- وصالحيهم).

    إشكال وجواب

    وهنا إشكال يرد على قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم)، فالأنبياء: جمع نبي، أما اليهود فقد جاءتهم رسل وأنبياء، ولكنهم كانوا يكذبونهم ويكفرون بهم ويقتلونهم، كما قال تعالى: : أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87] يعني: أن اليهود أتتهم رسل عديدة، أما النصارى فلم يأتهم إلا رسول واحد، وهو عيسى عليه السلام، فما هو التوجيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا قبور أنبيائهم) بالجمع، وكيف يصدق على النصارى؟

    قيل: هذا اللفظ صادق على واحد لا بعينه، فهو دائر بينهما، وهو يصدق على اليهود، فيكفي ذلك.

    وقيل: إن مجموع أنبياء اليهود، أو أنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى؛ لأن النصارى مكلفون بالإيمان بالنبي الذي أتاهم -وهو عيسى عليه السلام- وبالأنبياء الذين جاؤوا من قبل، فأنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى، كما أن الإسلام أمر المسلم أن يعلن إيمانه بجميع الرسل، كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، ولهذا كان الحكم في الإسلام أن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل؛ لأن أمرهم واحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء آبناء علات، ديننا واحد)، والعلات: جمع علة، وهي الزوجة بعد الزوجة، أي: إن الرجل يكون تحته عدة نسوة، وتأتي كل امرأة بولد، فهؤلاء الأولاد أبناء علات والأب واحد، وهذا التشبيه منه صلى الله عليه وسلم معناه أن الرسل وإن تعددوا في أممهم فإن مرجعهم واحد، وهو الوحي من الله واصطفاء الله إياهم، وهم رسل الله سبحانه جل جلاله.

    فقالوا في قوله: : (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم) الجمع في الأنبياء يعم اليهود بالواقع والمطابقة، ويشمل النصارى بالعقيدة واللازم؛ لأنه يلزمهم الإيمان بجميع أنبياء بني إسرائيل، وجاء الأمر إلينا، وألزمنا بالإيمان بجميع رسل الله من علمنا ومن لم نعلم، قال تعالى عن الأنبياء: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، فنحن نؤمن بكل رسول أرسله الله سبحانه وتعالى، ولو لم نعلمه.

    قوله: (اتخذوا قبور) القبور: جمع قبر.

    قوله: (مساجد) معناها: أن القبر قد وجد، ثم جاءوا إلى هذا القبر واتخذوه مسجداً، وعلى هذا يقول العلماء -في حكم المسجد مع القبر-: الحكم للأسبق، فاليهود لعنوا لأنهم جاءوا إلى القبور واتخذوها مساجد، أما لو كان المسجد موجوداً، ثم جيء إلى المسجد واتخذ فيه القبر، فيكون المسجد هو الأسبق، والحق له، ولا حق للقبر.

    الغلو في تعظيم الصالحين طريق إلى الشرك

    قالوا: ما اتخذ اليهود قبور أنبيائهم إلا تعظيماً لهم، وتعظيم الأنبياء باتخاذ القبور مساجد سيؤدي إلى الانحراف في العقيدة، وقالوا: إن أول ما أشرك بالله إنما كان بسبب الغلو في الصالحين، كما حصل في يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين، فجاء الشيطان إلى أبناء أولئك الناس، وقال لهم: إن آباءكم وأجدادكم كانوا رجالاً صالحين، ولهم عليكم حق، فعليكم أن تدعوا لهم، فكانوا يدعون لهم، ثم جاء إلى الجيل الثاني وقال: لا يكفي هذا الدعاء، إنما عليكم أن تشركوهم في العبادة. ففعلوا، فقال: إنكم لم تفعلوا مثل من كان قبلكم. فقالوا: كيف نفعل؟ قال: مثلوا لهم تماثيل واجعلوها في مساجدكم، حتى إذا رأيتموهم نشطتم في العبادة وعبدتم الله كما كانوا يعبدونه، ففعلوا على حسن النية، وتركهم، حتى جاء جيل ثالث فقال لهم: أنتم عاصون لآبائكم؛ لأن آباءكم ما صوروا هذه التماثيل للناس الصالحين في المسجد إلا ليجعلوا لها جزءاً من صلاتهم، فعليكم أن تجعلوا لها جزءاً من الصلاة، فجعلوا لها جزءاً من الصلاة مع صلاتهم لله سبحانه، ثم تركهم على هذا الشرك الأولى، وهو أول افتراقهم عن الصراط السوي، فجاء بعد ذلك وقال للأجيال بعدهم: أنتم تكلفون أنفسكم شططاً، فلماذا تتكلفون وتأتون إلى المعابد؟! خذوا هذه التماثيل واجعلوها في بيوتكم، وكل قبيلة تجعل لها تمثالاً، وكل أسرة تجعل لها تمثالاً، وتؤدي حقها في بيتها، ولا حاجة إلى المجيء هنا، فاتخذت القبائل الأصنام، واتخذت الأسر الأصنام، وانصرفت العبادة كلها للأصنام من دون الله، أي أن الشيطان صبر في دعوته على أربعة أجيال في أربعة قرون، وأخذ يحولهم ويزحزهم حتى ذهبوا عن الطريق السوي.

    فمن هنا كان اتخاذ القبور مساجد ذريعة إلى الشرك والوقوع فيه، ومن هنا نعلم سبب النهي عن الصلاة في المقابر، وتقدم لنا أن المقابر من المواطن السبعة التي نهي عن الصلاة فيها، اللهم إلا صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع، وليس فيها سجود، أما الصلوات الخمس أو النوافل فإنك إذا جئت عند القبر، واستقبلته وركعت وسجدت في أصله، فما كان للمشاهد إلا أن يقول: إنه يركع ويسجد للذي أمامه، فتكون صورة شرك، ولو لم يكن الشخص يقصد الشرك، كما نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تكون حينئذ بين قرني شيطان، فإن الشيطان عند شروقها وعند غروبها يأتي ويستقبلها بقرنيه، وهناك عباد للشمس يسجدون لها عند الشروق، ويسجدون لها عند الغروب، فيُرى الشيطان وقد قرن قرنيه بالشمس، فيوهم أتباعه وجنوده أن أولئك الذين يسجدون للشمس إنما يسجدون له هو، وهذا تدليس منه وإيهام.

    ويتفق العلماء على أن النهي في هذه المسائل إنما هو لسد الذريعة، ولحماية جناب التوحيد، كما يقول السلف رحمهم الله.

    حكم الصلاة في المساجد التي توجد فيها قبور

    بقي عندنا حكم ما لو جئنا إلى مسجد ووجدنا فيه قبراً.

    في هذه الحالة: إذا وجد القبر أولاً ثم بني عليه المسجد فلا تصح الصلاة فيه.

    أما إذا كان المسجد أولاً، وجاء صاحب المسجد وأوصى أن يدفن فيه، أو دفن فيه أباه، أو دفن شخصاً عزيزاً عليه، فالمسجد سابق، والدفن فيه لاحق، ثم ينظر إلى هذا القبر الذي دخل على المسجد أين موقعه من المصلين؟ فإن كان في قبلة المصلين مباشرة فلا تصح الصلاة إليه، وإن كان في مؤخرة المسجد والسجود بعيد عنه فالصلاة صحيحة، وإن وجد مسجد آخر فهو أولى، وإن كان القبر عن يمين المصلين أو عن يسار المصلين وليس هناك استقبال للقبر فالصلاة صحيحة، فهذا ما يتعلق بهذا الحديث، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.

    فإذا كان ذلك في قبور الأنبياء والمرسلين إلى أممهم، فكيف بقبور غيرهم، فإن النهي عن اتخاذها مساجد من باب أولى، واستحقاقهم اللعن بذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم إلا تعليماً للأمة، فمعنى ذلك أن اللعن لليهود والنصارى بسبب فعلهم، والتعليم لنا، وإلا لما كانت هناك فائدة من هذا الإخبار.

    وهنا مأخذ دقيق جداً، يبدو لي أنه أقوى دليل في هذا الموضوع، ولو لم يأت هذا الحديث، فإننا نقرأ في صلاتنا سورة الفاتحة، وبعد المقدمة والثناء على الله سبحانه والإقرار له بالربوبية والإقرار بعبوديتنا له واستعانتنا به نتوجه بطلب هو أعز ما يكون على الإنسان في حياته، فنقول: اهْدِنَا [الفاتحة:6] والهداية ضد الضلال، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ثم جاء التفصيل نوعاً ما: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] وقد جاء بيان الذين أنعم عليهم بقوله: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

    فقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] يعتبر كافياً في بيان الحق الذي يجب على المسلم لزومه، ولكن لشدة الحاجة إلى الإيضاح والتأكيد على البعد عن الباطل بين سبحانه الطريق المخالف للحق، فقال سبحانه: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فكأن الاستقامة أو الهداية إلى الاستقامة إنما هي طريق معتدل بين طرفين مختلفين هما: فريق المغضوب عليهم، وفريق الضالين.

    ومن هنا نعلم أن من وافق كلتا الطريقتين، أو أحد الفريقين فيما كان من خصوصياته فقد جانب الصراط المستقيم، ولحق بأولئك الذين وافقهم أو تابعهم، أي: في الجزئية التي تابعهم فيها، فكل من بنى على قبر مسجداً فهو بهذا النص الكريم لم يتبع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، ولكن اتبع أحد الطريقين: إما المغضوب عليهم، وإما الضالين.

    ويقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم فهو مغضوب عليه، وكل من عمل بغير علم فهو ضال، ولهذا خصّ اليهود بالغضب، والغضب أشد من الضلال؛ لأن الضلال قد يكون لجهالة، وقد يكون لعذر، والضال قابل للتعليم، وقابل للرجوع، وقابل للهداية، أما المغضوب عليه فقد انتهى أمره بما هو فيه من الخطأ والإصرار على ما هو عليه.

    الفضيلة وسط بين رذيلتين

    وعلماء الأخلاق يقولون: إن الفضيلة وسط بين طرفين، وهذا في جميع الأمور، فإذا جئت في الإسلام فالصراط المستقيم وسط بين الإفراط والتفريط، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يفرط أو يقصر، أو أن يزيد فيما شرع الله، ولما جاء النفر الثلاثة إلى أم المؤمنين عائشة ، وسألوها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وأخبرتهم أنه ينام ويقوم، ويفطر ويصوم تقاّلوا ذلك، وقالوا: عبد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأين نحن؟ فقال أحدهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر. وقال الثاني: وأما أنا فسأقوم الليل ولا أنام وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فسمعت ذلك من وراء الحجاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فصعد إلى المنبر، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فهذا إفراط في العبادة، والإفراط في العبادة ينقطع بصاحبه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).

    فإذا ركبت جوادك تريد مكة أو نحوها، فأجهدت الجواد بأقصى قوته، فسيتعب ويهلك، فلا أنت قطعت مرحلة سفرك، ولا أنت أبقيت على جوادك، ولكن إذا أخذته بالرفق، ومشيت بقدر استطاعته، وإذا وجدت مرعى تركت له الفرصة ليشبع، وإذا وجدت ماء سقيته، وإذا شعرت بشدة الحر آويته إلى الظل، فإنك تستطيع أن تواصل السير عليه، ولو مشيت به الأرض كلها؛ لأنك تأخذه على طاقته.

    ولما جاء الأعرابي وسأل عن الصلاة وسأل عن الصيام قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح إن صدق. فالفضيلة وسط بين الطرفين، لا أن يقصر فيما وجب عليه، ولا أن يزيد فيما لم يكلف به كما في الحديث: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فلن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) .

    فالفضيلة وسط بين طرفين، فالبخل والتبذير طرفان مذمومان، والكرم وسط بينهما، فالكريم ليس ببخيل ممسك، وليس بمبذر متلف، ولكنه في وسط، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67] فهذه هي الوسطية في هذا الباب.

    وكذلك الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فليس الشجاع بجبان يمتنع عن المصارعة والمقاتلة، وليس بمتهور إذا جاء إلى القتال يرمي بنفسه، ولا يدري من أين المخرج، وكذلك في العبادات، فالتوسط: عدم الإفراط والتفريط فاليهود فرطوا لأنهم قصروا في أمور العبادات واحتالوا على المحرم، كما في عملهم في يوم السبت، فلما حرموا على أنفسهم يوم السبت امتحنهم الله، كما قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، فما استطاعوا أن يصبروا، فاحتالوا وألقوا الشباك يوم الجمعة، فعلقت فيها الحيتان يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، وقالوا: نحن في السبت لم نعمل شيئاً، وكنا في بيوتنا.

    وكذلك لما حرم الله عليهم بعض الشحوم أخذوها فجملوها وأذابوها، فباعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا: نحن لم نأكل الشحم. ففرطوا في العبادات.

    وانظر أيضاً إلى ما قالوه في عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاءت به مريم عليها السلام، قومها تحمله كما قال تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:27-28]، فانظر إلى أي حد ذهبوا، بينما النصارى قالوا: هو ابن الله، هو ثالث ثلاثة. فأي فرق بين القولين؟ فبينهما ما بين السماء السابعة وتحت الثرى.

    والإسلام قال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولذا فـالنجاشي لما سمع ذلك من جعفر الطيار في الهجرة إلى الحبشة الأولى هبط إلى الأرض، وأخذ قشة من الأرض وقال: ما زاد صاحبكم على ما جاء في عيسى ولا مثل هذه القشة.

    فالإفراط والتفريط متغايران، فاليهود أخذوا جانب التفريط، والنصارى أخذوا جانب الإفراط. والتوسط في العبادة إنما هو في الإسلام، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا [الجمعة:9-10]، فساعة الذكر تذهب إليها، وساعة عمل الدنيا تذهب إليها.

    ثم إن الإنسان يتكون من مادة وروح، والمادة هي الجسم، وهو بيت تسكنه الروح، وكل له غذاؤه، فالجسم يحتاج إلى الطعام والشراب؛ لأنه من الأرض ومن مادتها، ويخلد إليها، والروح تحتاج إلى العبادة والذكر؛ لأنها نورانية تسموا إلى الملأ الأعلى، وغذاؤها العبادة، وفمن غلب جانب المادة على الروح ففيه شبه من اليهود، ومن غلب جانب الروح على المادة ففيه شبه من النصارى.

    وصف الصحابة في التوراة والإنجيل قائم على وسطيتهم بين الإفراط والتفريط

    نجد القرآن الكريم يصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به في التوراة والإنجيل- لأهل التوراة والإنجيل، وذلك الوصف قائم على أساس هذا المبدأ، وأن النصارى مفرطون واليهود مقصرون.

    قال الله سبحانه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، ثم قال سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29].

    فانظر إلى هذا الوصف: (ركعاً سجداً)، فهل اليهود ركع سجد؟ وقال الله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وهل اليهود يبتغون ما عند الله، أو يبتغون الدنيا؟

    وقال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) بخلاف القترة والغبرة على وجوه اليهود عياذاً بالله.

    وقال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ) أي: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (فِي التَّوْرَاةِ)، والتوراة لليهود؛ ليعلموا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كمثلهم.

    قال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29] والإنجيل للنصارى.

    كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].

    فانظروا إلى هذا المثل، هل هو مثل عبادة، أم مثل عمل واستثمار وإنتاج؟ إنه عمل واستثمار وإنتاج، فهو زرع يخرج شطأه يؤازر بعضه بعضاً، فيعجب الزراع ويبتهج به الزارع إذا رآه؛ لأن النصارى أهملوا أمور الدنيا وأمعنوا في أمور الروح كما قال تعالى عنهم: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] .

    فالنصارى ذهبوا في الرهبانية، وتركوا الدنيا، فجاء مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل بالعمل الدائب، والإثمار والإنتاج، ليردهم عما هم عليه، وجاء في حق اليهود أن مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما قاله تعالى عنهم: رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [الفتح:29]، وهذان مثلان يبينان أن كلتا الأمتين قد غايرت الطريق فأفرطت في جانب، وفرطت في جانب آخر، وعلى هذا جاء في هذا الحديث أن اليهود لعنهم الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وكان ذلك سبباً في التوصل إلى عبادة غير الله.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755898836