إسلام ويب

قوة الإرادة وعلو الهمةللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن قوة الإرادة وعلو الهمة شيئان متماثلان، لابد من وجودهما عند كل مسلم؛ لكي يستطيع التغلب على نفسه وشيطانه الذي يثبطه عن العمل ويجعله يعتاد على النوم والكسل والخمول والميل إلى الدنيا. وعلو الهمة يحتاج إليها في العبادة، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وطلب العلم وغيرها من المواضع التي يحتاج فيها إلى همة عالية، فما هي الوسائل التي تؤدي إلى تقوية الإرادة وعلو الهمة؟

    1.   

    أهمية قوة الإرادة وعلو الهمة

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

    فيطيب لي في هذه الليلة أن أتحدث إليكم في هذا المجلس الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً خالصاً لوجهه، وأن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، الذين تجالسوا في الله، وتذاكروا في الله، وتحابوا في الله، واجتمعوا على طلب العلم.

    أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: قوة الإرادة وعلو الهمة.

    قوة الإرادة وعلو الهمة موضوعان مترابطان؛ وهذان الموضوعان في غاية الأهمية من جهة الحاجة إليهما؛ لأنه لا يقوم بدين الله إلا من كانت له إرادة قوية وهمة عالية، فإن هذا الدين دين قويم ودين عظيم، والله سبحانه وتعالى أنزله وامتحن به الناس؛ ليرى من الذي يقوم به ممن لا يقوم، من الذي يتحرك لنصرته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومن الذي يتخاذل عن ذلك ويركن إلى الدنيا وإلى الدعة والكسل.

    وهذان الموضوعان أيضاً في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه، فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وإن العودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى إرادة قوية وهمة عالية.

    وحال الأفراد الذين يقولون: عندنا معاصٍ لا نستطيع أن نفارقها، وشهوات واقعون فيها لا نستطيع أن نبارحها، ومن مشاكلنا ضياع الأوقات والدخول في مشاريع دون تكملتها، وتنقطع بنا السبل، ونعيش في فوضى، وحياتنا ليست مرتبة على حسب الشريعة.

    لا شك أن علاج كل هذه المشكلات وعلاج قضية عدم الجدية في الالتزام بالإسلام وهذه الأوقات الضائعة، والالتزام الناقص، ومظاهر نقص الاستقامة؛ لا شك أنها لا تعالج إلا بإرادة قوية وهمة عالية.

    ونحن نلتفت لعلاج أنفسنا إلى الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء والشهداء الذين قضوا نحبهم وهم مقيمون على طاعة الله، أولئك الذين وصفهم الله تعالى بأنهم صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23] . أولئك أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، والإرادات التي جعلت أصحابها في ذلك المستوى الإيماني المرتفع.

    أيضاً: فإن هذا الموضوع مهم في العبادة، والجهاد، وطلب العلم، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأمور الشرعية المطلوبة لا يمكن تحقيقها إلا بذلك.

    1.   

    قوة الإرادة

    ولنشرع بالشطر الأول من هذا الموضوع وهو قوة الإرادة.

    أما الإرادة: فإن الإرادة الكاملة التامة هي لله سبحانه وتعالى، الذي وصف نفسه بأنه فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] لا تحدث حركة ولا سكنة في الأرض ولا في السماء إلا بإرادته ومشيئته، ولو شاء عدم وقوعها لم تقع، فهذه هي إرادته الكونية القدرية التي لا بد من وقوعها، كما قال الله عز وجل: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82]، وقال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [الإسراء:16].. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة:41].. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد:11] فمشيئته سبحانه وتعالى نافذة، إرادته نافذة؛ هذه الإرادة الكونية القدرية.

    والإرادة الثانية: هي الإرادة الدينية الشرعية كما قال الله تعالى فيها: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] ثم إن بعض الناس قد يسلكون سبيل التوبة فيتوب الله عليهم، وبعض الناس لا يسلكونها فلا يتوب الله عليهم، وقال الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وهذه أيضاً من الإرادة الدينية الشرعية، فلو كانت الإرادة هذه كونية لما حصل لواحد منا عسر أبداً، والخلط بين الإرادتين هو الذي يورد المهالك.

    وقد ضل أناس في هذين النوعين فجعلوهما شيئاً واحداً، فصار بعض الناس يقولون: إننا مجبورون على الأفعال لا إرادة لنا، وبعض الناس يقولون: إن كل شيء نفعله فالله يريده، يعني: يحبه، فضلوا واستمروا على المعاصي والضلال، قالوا: إن الله يحب هذا واحتجوا بأنه وقع وأن الله أراده، وبعض الناس: ضلوا في الناحية الأخرى فقالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وهؤلاء الضُّلاَّل هم الذين انحرفوا في مفهوم إرادة الله سبحانه وتعالى فخلطوا بين الإرادة الشرعية وبين الإرادة الكونية، والذي يخلط بينهما -ولا شك- يضل.

    فهؤلاء الذين قالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم جعلوا هناك أكثر من خالق، بل إن عدد الخالقين صار بعدد الناس الذين يفعلون الأفعال، ولا شك أن الله خلقنا وخلق أفعالنا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وأما الذين قالوا: إن العباد ليس لهم إرادة وإنهم مقصورون ومجبورون على أفعالهم سلبوا العباد القدرة والإرادة التي أعطاهم الله إياها، بل إنهم بهذا الكلام الباطل جعلوا تعذيب الله للعاصي مثل تعذيب الطويل؛ لماذا لم يكن قصيراً، والقصير؛ لماذا لم يكن طويلاً، بل إنهم عذروا إبليس وقدموا العذر لفرعون وهامان وقارون ؛ لأنهم معذورون بما فعلوه لأنهم مجبورون، وقال قائلهم في البيت المشهور:

    ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له     إياك إياك أن تبتل بالماء

    هذا بيت من عقيدة الجبرية، والذي قاله جبري، يقول: إن الإنسان مجبور، وأن الله سبحانه وتعالى امتحنه مع أن المخلوق لا إرادة له، بل إن بعض هؤلاء القدرية الضُّلال اجتمع نفر منهم فتذاكروا في القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النمل:24] فقال أحدهم: كان الهدهد قدرياً، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وكل ذلك من فعل الله.

    ونحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة، ولكن لا يقع إلا ما يريده الله، لم يسلبنا الله الإرادة والقدرة، بل إن العبد إذا أراد أن يفعل شيئاً فإن له الحرية في الفعل إذا أراد الله وقدر وقوع ذلك، ولا يشعر العاصي بقوة تدفعه إلى عمل الشيء وهو لا يريد ذلك أبداً، وليس العبد مجبوراً على أفعاله مطلقاً، وكم كانت هذه العقيدة الضالة سبباً في صد بعض الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا مثال على ذلك:

    قال بعض السلف : خرجنا في سفينة وصحِبَنَا فيها قدريٌ ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله -هذا عين ما يقع اليوم من بعض الناس الفسقة إذا قلت لهم: التزموا بدين الله.. عودوا إلى الله.. اتركوا المعاصي.. قالوا: حتى يريد الله- قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية قال: فأنا مع الأقوى منهما.

    وهذا الضلال بسبب الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الله سبحانه وتعالى أعطانا الإرادة وأراد منا أن نعبده سبحانه وهو لا يقع في ملكه إلا ما يريد: إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47] ومن الأدلة على أن الإنسان له إرادة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في عدد من المواضع في كتابه، كقوله عز وجل: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19].. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79].. وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79].. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً [القصص:19] فنحن لنا إرادة ضمن إرادة الله، ولا يمكن أن نخرج عن إرادة الله، ولكن لنا إرادة، لسنا مجبورين على أفعالنا.

    وبالمناسبة فإن عدداً من الذين يتكلمون عن موضوع الإرادة من أصحاب الكتابات في علم النفس المأخوذ من النظريات الغربية والمبني على عقائد القوم المنحرفين والكفرة عندهم هذه المسألة، وهي أنهم يقولون في كلامهم: إن الشخص يستطيع أن يفعل ما يريد، وأن الإنسان إذا صمم على شيء فلا بد أن يفعله، فهذا من نتيجة إلحادهم وعدم إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، وأننا تحت قهره وسلطانه ونفوذه عز وجل.

    فالله سبحانه وتعالى خلق فينا الإرادة وجعل فينا غرائز وأهواء وشهوات، فالإرادة الحازمة تلبي المطالب الشرعية وترفض الإذعان لما يخالف الشريعة، وعلى مقدار إيمان الإنسان تكون قوة إرادته، وبمقدار انحرافه واتباعه لأهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه تكون ضعف إرادته؛ لأن الشهوة تجعل ضعيف الإرادة مسوقاً إلى تحقيق مطالب النفس الأمارة بالسوء بدون أن يقاوم، وإرادة الإنسان المسلم تكبح جماح الأهواء والشهوات الثائرة وتسكنها بالكبح والصبر.

    وإذا كانت الإرادة قوية محكومة بالعلم الشرعي مع العقل والحكمة التي اقتضتهما الشريعة وجاءت بهما، فإن أفعال المسلم تكون حكيمة ونافعة، وإذا كانت الإرادة ضعيفة أو غير مقرونة بالعلم والعقل والحكمة فإن التصرفات لا تكون حكيمة ولا نافعة، وضعيف الإرادة يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، ويجعل غالب وقته في الهزل، ويتعطل عن العمل عند شعوره بأدنى تعب في جسمه، أو علة في نفسه، أو عند شعوره أن العمل لا يوافق هواه.. وهكذا.

    وهؤلاء ضعفاء الإرادة متبعون لأهوائهم، ولذلك تراهم يخلدون إلى النوم الطويل القاتل للقوة والمتلف للجسم، وهؤلاء الذين لم يلتزموا بدين الله ولم يأخذوا بهذه الشريعة فقصروا وجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً.

    وبعض الناس يكون عندهم قوة إرادة لكن لا يحكمونها بحكمة الشريعة، قد تكون إرادتهم قوية جداً، لكن لسبب فقدانهم للعلم والحكمة تكون قوة إرادتهم نكبة على أنفسهم، فقد يضغط بعضهم على نفسه فيركب مركب الغلو، فيصل إلى تعذيب النفس والجسد فينهار ويتحطم، وبعضهم قد يستخدم إرادته القوية فيفرض سيطرته على مجموعة من الناس ويقودهم للإجرام، وبعضهم من قوة إرادته يغامر بنفسه وبغيره مغامرات تقودهم إلى الهلكة، وهذا من الغلو في هذا الموضوع.

    وإن الإرادة التي نتكلم عنها هي إرادة وجه الله، ما نريده إرادة وجه الله سبحانه وتعالى، فإن بعض الناس في هذه الدنيا عندهم قوة إرادة لكنهم وجهوها لطلب الحياة الدنيا، فأرادوها وسعوا من أجلها، فمن أجل الدنيا يعيشون ومن أجلها يكافحون ومن أجلها يعملون في الصباح والمساء حتى يصل إلى غنى، أو شهرة، أو منصب، أو شهادة، ونحو ذلك.

    وهذا حال كثير من الناس اليوم، فإن بعضهم عنده إرادة قوية لكن في أي شيء سخرها؟ لجمع الأموال، وفتح الشركات، ومتابعة الأعمال أو الدراسة، وكله في الدنيا، تجده يهلك نفسه في الدراسة الدنيوية وهو مفرِّط في أمور الشريعة وفي أمور الدين، وجَاعلٌ إرادته كلها منصبة في قضايا الدنيا، فهذا الذي قال الله عز وجل فيه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، يعني: قد تحصل له وقد لا تحصل، فإن بعضهم يكدحون ويكدحون وعندهم إرادات لكن لا يوفقهم الله حتى في الدنيا مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * <وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً[الإسراء:18-19].

    فالذين لا يريدون وجه الله وليس عندهم إرادة لوجه الله، هؤلاء يكون من عقوبتهم التثبيط عن الأعمال الصالحة؛ لأنهم ما أرادوا وجهه، ولا فعلوا موجبات الإرادة، فإذا كان إنسان يريد الدين فعلاً، ويريد نصرة دين الله، والعمل له لكان قام بالأعمال، ولصار عنده من أعمال الجوارح وغيرها والتخطيط والتدبير لنصرة هذا الدين والسعي إليه، لكن لما فرط وتخلى ثبطه الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في الذين في قلوبهم مرض: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46] لقاموا بالعمل وجهزوا أنفسهم بما يستطيعون وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

    وفي هذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها مغريات خضرة حلوة تجذب بما فيها من الزينة والأموال واللهو واللعب، ولذلك يحتاج المسلم إلى قوة إرادة للوقوف أمام شهواتها وإغراءاتها وجاذبيتها، نحتاج إلى قوة الإرادة في أي شيء؟ في الثبات ضد هذه المغريات، قوة إرادة للثبات أمام عوامل الانحراف، وأمام عوامل التثبيط والفتور، سواء التي تأتي من داخل أنفسنا الأمارة بالسوء، أو التي تأتي من الخارج من كيد الأعداء والشيطان ونحو ذلك، وهو يسير ويجري من ابن آدم مجرى الدم، نحتاج إلى قوة الإرادة في مواجهة الوساوس التي يلقيها الشيطان، حتى هؤلاء الناس الذين عندهم وساوس في الطهارة فيعيدون الوضوء عشرات المرات ويمكثون في مكان قضاء الحاجة والحمامات الساعات الطوال ويعيدون الصلوات، بل ربما من شدة الوسوسة جعل بجانبه شخصاً يحسب له عدد الركعات.

    فما هو علاج الوسوسة؟

    إذا فكرت ونظرت لوجدت أن العلاج قوة الإرادة المانعة من تكرار الفعل، مثلاً: لو توضأ إنسان بشكل صحيح موافق للسنة، غسل الأعضاء، ووصل الماء إلى البشرة كما أمره الله، فجاءه الوسواس فقال له: ربما لم تغسل، ربما لم تمسح شعرة، ربما لم تفعل كذا وكذا، وهو يعلم أنه إذا وضع يده على شعره لوجد البلل، وأنه إذا نظر في مرفقيه وجد الماء، فما الذي يثنيه وما الذي يرد الوسواس عنه؟ الإرادة القوية المبنية على التوكل على الله، والعمل الشرعي الذي ينبئك بأن إعادة العبادة محرم لا يجوز، فلو أعدت الوضوء تأثم.

    نحتاج إلى الإرادة القوية في مواجهة الفتن؛ فتنة الزوجة التي تجر الإنسان إلى المعاصي إلا من رحم الله، فتأمر الزوج بالمعصية، أو تحببها إليه، أو تقول: لماذا لا نذهب إلى المكان الفلاني؟ وفيه ما لا يرضي الله، أو لماذا لا نشتري الشيء الفلاني؟ وهو محرم لا يرضي الله، ولماذا لا ندخل في بيتنا الآلة الفلانية؟... وهكذا مما تأمر به الزوجة إذا لم تكن طائعة لله.

    أما فتنة الأولاد: الولد مجبنة مبخلة محزنة مجهلة؛ مجهلة: يصرف الإنسان عن طلب العلم، مبخلة: يصرف الإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وعن الخوض والقتال في المعركة في سبيل الله، محزنة: إذا مرض وغير ذلك، فالأولاد فتنة: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فالصمود أمام هؤلاء يحتاج إلى إرادة قوية.

    قوة الإرادة مهمة في مقاومة ميل النفس إلى الدعة والراحة، النفس بطبيعتها تميل إلى الدعة والكسل، وتميل إلى الفوضى، والإرادة القوية هي التي تحمل النفس على العمل وترغمها على عدم الانجرار وراء ساعات النوم الكثيرة، ويرغمها على التنظيم المقاوم للفوضى... وهكذا.

    قوة الإرادة هي التي تصد الشيطان عن إلقاء المخاوف وعن الاستجابة لها: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175] يخوف أولياءه يعني: يجعل أولياءه -أعداء الإسلام- يظهرون في أعينكم وفي أنفسكم القوة التي لها رهبة وخوف إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] يخوفكم يا أيها المؤمنون بأوليائه فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175].

    الإنسان يتعرض إلى مصائب؛ مثل الموت، والمرض، والفقر، وهذه الإرادة القوية هي التي تجعل الإنسان صامداً أمام المصيبة، صابراً محتسباً على وقوع قضاء الله وقدره.

    والإرادة القوية هي التي تحمي الشخص والفرد المسلم عن الانسياق وراء الجموع الضالة التي تهيم على غير هدى من الله وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]. والإنسان من طبيعته أنه يحب موافقة الكثرة، والاختلاف عنهم ومفارقتهم صعبة على النفس، ولذلك تجد كثيراً من الناس لو سألته عن سبب معصية أو عمل خطأ أو بدعة يفعلها لقال لك: كل الناس يفعلون ذلك، ما عنده إرادة قوية تعصمه عن الانسياق وراء الكثرة الضالة التي تتبع الهوى والجهل والعادات والتقاليد، وكذلك الأئمة المضلون الذين يسوقون الناس بالضلال ويلبسون عليهم، والطاعة العمياء للغوغاء، لكن الإرادة القوية تقوم حائلاً بين الإنسان المسلم وبين مجاراة الجمهور فيما يريدونه إذا كان من معصية الله.

    1.   

    وسائل تقوية الإرادة

    ما هي وسائل تقوية الإرادة؟

    الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته يقوي الإرادة

    أولاً: الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وقضائه وقدره، والتوكل عليه، وحسن الظن به، والثقة بالله سبحانه.

    لاحظ الفرق بيننا وبين طرح مفهوم الإرادة عند الكفار وفي بعض كتب النفس، يقولون: أنت تستطيع أن تفعل أي شيء، تستطيع أن تفعل كل شيء، رددت وقلت: أريد وأريد وأريد وستفعل ذلك مهما كان، ونحن نقول: لا بد أن يوجد عندنا تصميم وعزم كما دعتنا الشريعة إلى ذلك، لكن لا بد أن نتوكل على الله، ونفوض أمرنا إلى الله مع العمل: (اعقلها وتوكل) أما الكفار يعقلون ولا يتوكلون، هذا هو الفرق بيننا وبينهم.

    ولذلك إذا فشل الواحد منهم تحطم وانهار وانتهى وربما انتحر أو أصيب بالجنون أو الأمراض العصبية، لكن المسلم يعمل وهو متوكل على الله فلو لم يستطع الوصول إلى مرامه ولا نجح فإنها فيصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى.

    بالتربية تنمو الإرادة

    ثانياً: التربية هي التي تدرب الشخص على مقاومة الأهواء والشهوات، وتربية الإرادة في نفسه هي التي تكبح جماح هذه الأهواء والشهوات، فالإنسان قد يفشل في المرة الأولى فينهار من أول مواجهة، لكنه بالتربية يصمد في المرة التي بعدها، نعم قد لا يستطيع الصمود إلى النهاية أو لا يصمد إلى النهاية ويسقط، لكن مع النصيحة والمتابعة والتوجيه وشد الأزر ومع الجو الطيب تتكون عنده الإرادة وتنمو الإرادة القوية التي تساعده في الوقوف أمام جيوش المعاصي والشهوات.

    تحديث النفس بالطاعة والانتهاء عن المعصية

    ثم من وسائل تقوية الإرادة: تحديث النفس بالشيء من طاعة الله، أو الانتهاء عن معصية الله، تحدث نفسك به باستمرار، وتتذكره بينك وبين نفسك، تأمل في حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق) هذا الذي يموت على شعبة من النفاق، لو أنه كان يحدث نفسه بالغزو دائماً وقام قائم الجهاد ونادى المنادي للنفير فإنه سيكون مع الخارجين في سبيل الله؛ لأنه دائماً يحدث نفسه في هذا الشيء، ويذكر نفسه بهذا الشيء، ويردد على نفسه تلك الآيات والأحاديث المرغبة في هذا العمل.

    وكذلك لو أنه يريد أن تكون عنده إرادة في مقاومة شهوة من الشهوات، يردد على نفسه ويتذكر دائماً وباستمرار هاجسه الذي يقلقه والشيء الذي يتردد في نفسه حرمة هذه المعصية وعقوبة العاصي عند الله والعزم على عدم العودة، والندم على الفعل، هذا في النهاية سيوصله إلى إرادة قوية تمنعه من الوقوع في هذه المعصية.

    ممارسة العبادات من عوامل تقوية الإرادة

    ومن عوامل تقوية الإرادة: ممارسة العبادات، ويجب أن يكون على رأسها ذكر الله عز وجل، وقد ثبت بالدليل الصحيح أن ذكر الله تعالى يقوي القلب ويقوي البدن، وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها وانتصر عليهم أولئك النفر من المؤمنين الذين لم يكونوا مثلهم في قوة الأجساد ولا في العدة والعتاد.

    إذاً: من المزايا التي أعطاها الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات قوة الإرادة والإيمان والقوة في القلب والبدن.

    ثم من العبادات التي تقوي الإرادة: الصيام: فلا شك أن الصيام يقوي الإرادة؛ إرادة الصبر على الجوع والعطش والشهوة لأجل الله سبحانه وتعالى، فهناك عبادات واضح أثرها في تقوية الإرادة.

    عدم التردد والتحير

    من الأمور المهمة أيضاً: عدم التردد والتحير والتلكؤ إذا ظهر لك رجحان الأمر شرعاً وأنه من طاعة الله، بل ينبغي عليك الإقدام والإسراع، الذين يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90].

    ينبغي عليك أن تأخذ بجانب الحزم والعزم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) وهذا في غزوة أحد حيث استشار القوم فأشار بعضهم بالخروج وأشار الآخرون بعدم الخروج فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول الذين قالوا بالخروج من المدينة لملاقاة العدو ولبس لأمته، وكأن بعضهم ندم، قالوا: ربما أكرهنا النبي صلى الله عليه وسلم فراجعوه إذا كان يريد أن يقعد، يعني: ما عندهم مانع في ذلك، وهم يؤيدونه لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما دام اتخذ القرار ورأى فيه المصلحة الشرعية بعدما شاور فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] فقال: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل).

    وهذا درس في مسألة رد التحير والاضطراب والتردد ونبذ هذا الكلام والإقدام على الأمر بالحزم والعزم.

    ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا هذا المفهوم في حديث مهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) طبعاً القوي في كل شيء؛ في إرادته، وفي دينه وإيمانه وبدنه ومهاراته وقدراته. (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) يعني: أقدم ولا تتردد.. لا تتحير.. لا تتخاذل.. لا تتكاسل، احرص على ما ينفعك؛ ما دام رأيت فيه المصلحة الشرعية.

    (واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء -بعد كل هذه الإجراءات- إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).

    إذاً: الإرادة القوية تقتضي الحزم والإقدام والجرأة والشروع في العمل، ولا للتردد والحيرة والاضطراب. وهذا الحديث رواه أحمد ومسلم .

    وهذه اللفتة أيضاً موجودة في حديث مسلم لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه. قال عمر رضي الله عنه، أنه ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ). بأي سبب؟ بسبب هذا الوصف يحب الله ورسوله، وهذا من ورع عمر رضي الله عنه ما كان يتطلع للإمارة إلا في هذا الموقف. (فتساورت لها رجاء أن أدعى إليها. قال أبو هريرة : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... ) الحديث.

    ومن صفات القائد المسلم الذي يقود في معركة، أو في أي مجال آخر من المجالات أنه لا يتردد ولا يتباطأ لأن عامل الحسم عامل مهم في القيادة، إذا كان الكفار يتكلمون عنه في كثير من الأمور العسكرية والإدارية وغيرها نحن أولى وأحرى بهذا، بل هو من ديننا وعرفناه قبلهم من هذا الدين.

    وإن عدم التكاسل والتردد يكون حتى في العبادة، في الصلاة، في السهو إذا غلب على ظنه، يفعل ما ترجح لديه، وإذا لم يغلب على ظنه شيء وشك يبني على اليقين ولا ينصرف عن صلاته وهو شاك فيها، إما أن ينصرف عن يقين أو غلبة ظن ويسجد للسهو.

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) هذه مثل: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار تسبب الوقاية من الأحداث السيئة والأعراض والأمراض ونحو ذلك من الحوادث والأعراض السيئة. (لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) ويحتاج الإنسان في هذا إلى الصبر، وأن يكون جاداً، وأن يعقد قلبه على الشيء ويعزم؛ والعزم من مرادفات قوة الإرادة، قال الله عزوجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].

    فهناك أفعال تحتاج إلى عزيمة وقوة: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] ليس كل الناس يستطيعون أن يصبروا ويسامحوا الآخرين.

    يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17] فليس كل الناس يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يترتب على ذلك مع إقام الصلاة.

    وتأمل في حال أولي العزم من الرسل، لماذا سموا بأولي العزم؟

    هؤلاء الخمسة المقدمون عند الله عز وجل، كانت لهم إرادات تنفيذية على مستوى رفيع، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف:35].

    ولذلك نحن نعزم ونتوكل على الله وننفذ ولا نكن كالعاجز الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني.

    والإنسان المتعرض للشهوات ينبغي عليه أن يتدبر قول الله عزوجل: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:37-41].

    فقوة الإرادة عند الشهوة أن تحضر قلبك وتحضر علمك وعزيمتك للوقوف أمام الشهوة وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين) فهذا الرجل الذي قال: إني أخاف الله رب العالمين أمام هذا الإغراء ذات منصب وجمال مغرٍ؛ وربما ترغمه وتسجنه وتذيقه الأذى إذا لم يستجب، فاجتمعت المسألة من جوانبها ترغيباً وترهيباً، وهو يقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذا صاحب إرادة قوية.

    المبادرة بالأعمال والمداومة عليها

    ومن عوامل تقوية الإرادة أيها الإخوة: المبادرة بالأعمال قبل الأعراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال) قد يأتيك فقر ينسي، وقد يأتيك غنىً يطغي، وقد يأتيك مرض يقعدك، وقد يأتيك الموت، فبادر بالأعمال الآن واشرع بها قبل فوات الأوان، قبل أن تجتمع عليك الحوادث، أو يأتي ما لا تظن وما لا تفكر فيه.

    وكذلك من عوامل تقوية الإرادة: أن يحافظ الإنسان على العمل وإن قل، فتشرع فيه ثم تحافظ عليه وإن قلت الأعمال (فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).

    وكذلك: إذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر وراءه مباشرة؛ هذا من الأمور المهمة في متابعة قوة الإرادة، والدليل على ذلك قول الله عزوجل: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، إذا فرغت من الصلاة فانصب للذكر، فليس إذا انتهى الإنسان من عمل يذهب ويلعب، إذا انتهى من الصلاة يذهب ويطلق هوى النفس يقول: الحمد لله صلينا الصلوات وأدينا الفروض فيمكننا بعد ذلك أن نذهب لمشاهدة الأفلام والمسلسلات ونلعب الورق، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح:7] ليس موجوداً عند هؤلاء، ولذلك تكون إراداتهم ضعيفة، وصحيح أنه يحافظ على بعض الأعمال الدينية كالصلاة مثلاً، أو الزكاة أو الصيام لكن في بقية أعمال الخير كسول متردد مسوف.

    التفاؤل يؤثر في الإرادة

    وكذلك من الأمور التي تؤثر في الإرادة: التفاؤل وعدم التشاؤم، فإن بعض الناس الذين عندهم نفسيات متشائمة ليست عندهم إرادات قوية؛ لأنه بمجرد ما يرى شيئاً يجلب لنفسه التشاؤم فيترك العمل، وتنتهي الإرادة، وتفتر وتتلاشى، كما أن بعضهم إذا ذهب يفتح الدكان فرأى رجلاً أعور تشاءم وقال: هذا يوم سوء سنخسر ثم أقفل الدكان ورجع، وإذا خرج له رقم مقعد (13) قال: هذا رقم سوء وشؤم، أكيد سيحصل لي حادث فيلغي السفر ويرجع، وهكذا بعض الناس يتشاءمون، ربما لو طنت أذنه اليسرى قال: هذا العمل لا بد من عدم الإقدام عليه، وهكذا.

    والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التفاؤل، كان يتفاءل ويحب التفاؤل، وقال: (الطيرة شرك) لا يجوز التشاؤم؛ والتشاؤم يبطئ الهمة ويشتت القلب ويميت روح الإقدام.

    الصبر والتحمل يقوي الإرادة

    وعلى المسلم أن يتحامل على نفسه رغم الصعاب؛ وهذه من الأشياء التي تقوي الإرادة، كما قال الله عزوجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104] ففي غزوة أحد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحق بالمشركين وفي المسلمين جراحات، وتعب شديد من المعركة وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] مثلكم لكن الفرق أنكم وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] وهذا فرق أساسي ومهم جداً وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] تحملوا وتجلدوا وتصبروا إن تكونوا تألمون فهم يألمون أيضاً لكنكم أنتم أيها المؤمنون وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].

    ثم على المسلم أن يتلقى الأحداث بالصبر وعدم الجزع عند المصيبة، أو الحزن على ما فات، وهذا -ولا شك- نابع من الإيمان بالقضاء والقدر، والله سبحانه قال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] من قبل أن نخلقها ونوجدها في الواقع هي مكتوبة في كتاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] فائدة الإيمان بهذا المفهوم ذكرها الله تعالى فقال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].

    وبعد هذا العرض في موضوع قوة الإرادة لننتقل الآن إلى الشق الثاني من موضوع هذه الليلة وهو علو الهمة.

    1.   

    علو الهمة

    علو الهمة -أيها الإخوة- شيء لا يحسنه ولا يتوفر إلا عند أكابر الناس الذين جعل الله التوفيق حليفهم.

    وعلو الهمة: التطلع إلى الأعلى وهو رضا الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجه الله، ما هي همتنا؟ وما الذي ينبغي أن تكون موجهة إليه؟

    إنه ابتغاء وجه الله والجنة..

    ....................     وإنا لنبتغي فوق ذلك مظهراً

    هذه الهمة العالية ليست إلا لمن وفقه الله تعالى.

    مركبات علو الهمة

    علو الهمة مركب من عدة عناصر:

    منها: الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، لأن بعض الناس يطمحون إلى وظائف ومناصب ومستويات مادية وشرف دنيوي ومدح وثناء، فهذا ليس علواً في الهمة بل هو دنو في الهمة؛ لأنه صار ينظر إلى الدنيا، لماذا سميت بالدنيا؟ لأنها دنية سافلة.

    فالذي يتطلع إلى منصب أو وظيفة لا يوصف بأنه ذو علو في همته، بل هذا همه في الدنيا، وذكرنا أنه قد يكون عنده من قوة الإرادة والشخصية ما يحقق له الغرض الذي يريده، لكن ليس له عند الله من خلاق، فإن قصد بها وجه الله صارت قضية شرعية، كمن قصد أن يحصل على الشهادة لكي يوظف ذلك في طاعة الله، أو قصد التجارة لينفق على نفسه وأهله بالمعروف وأن يتصدق وأن يدعم القضايا الإسلامية، ونحو ذلك، فهذا ممن يبتغي وجه الله، همته إرادة وجه الله، وما تاجر إلا لوجه الله، ما اكتسب إلا لوجه الله، ما درس إلا لوجه الله، فهذا عنده علو همة.

    فعلو الهمة هو الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، وكلما عظم الهدف وسمت النفس إليه ارتفعت الهمة ووصف صاحبها بأنه عالي الهمة، وكلما هبط الهدف ودنا نزلت الهمة وحصلت الدناءة ورضي المرء بالصغائر والتوافه.

    علو الهمة يقتضي أمورا:

    منها: الجدية في العمل وعدم التواني والكسل، إذا دعا الداعي من الله عز وجل إلى عمل تسابقوا إليه مثل حي على الصلاة فإن من علو الهمة إن كانت مطرقته رفعها ألقاها خلف ظهره ولا يطرق بها وإنما يذهب إلى الصلاة مباشرة، إذا أراد أن يبيع فأذن المؤذن لم يبع ولم يكمل التفاوض ولا المساومة وترك ذلك للصلاة، هذا من علو الهمة، عندما يستطيع الحج يحج هذا علو همة، لا يسوف ولا يؤخر، إذا قال الله: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] طاروا إليه رجالاً وركباناً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ [النساء:71] يعني: جماعات، أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71] نفير عام، الجيش كله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72] ما عندهم علو همة بل عندهم ضعف إرادة فهم يثبطون.

    وقلنا: إن علو الهمة وقوة الإرادة أمران مترابطان غاية الترابط وبينهما علاقة وثيقة جداً.

    أصحاب الهمة الدنيئة لا يقومون إلى ما يرضي الله، وإذا دعا الداعي إلى شيء من الطاعات أحجموا وسوفوا وتكاسلوا، كما وصف الله المنافقين بقوله: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142].. وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].

    فالتكاسل والتقاعس هذا مما ينافي علو الهمة، وعكسه الجد وعدم التواني، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من العجز والكسل، فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل). كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا دعاء مهم جداً.

    والإسلام يدفع المسلم إلى ابتغاء الكمالات، من التطلع للآخرة، والتطلع إلى المعالي، وإلى الأشياء العظيمة، والإسلام يصرف المسلم عن أن ينزل ببصره إلى الدنايا والتوافه والصغائر والأمور الحقيرة، خذ مثلاً على ذلك: يريد الله عز وجل من المسلم أن يرتفع بنفسه عن هذه الأرض وجواذبها ودناياها ليتطلع إلى الأمر العظيم وإلى الهمة العالية وهي طاعة الله عزوجل -العبادة- أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].

    فهو يريد أن تكون همة العباد إلى هذا الشيء وهو قيام الليل قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وقال الله عزوجل: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95] لا يستوون هؤلاء، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، ثم قال: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:95-96].

    هذا المنادي من الله يدعو العباد إلى التطلع إلى هذه المعالي، ويقارن بينهم وبين الشيء العادي والشيء الدنيء، وكذلك حتى الأشياء العالية متفاوتة، فيقول: التمسوا الأعلى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].

    والإسلام كما أنه يحث على الارتفاع والتطلع إلى معالي الأمور مثل طاعة الله من قِبل عباده، من الجهاد، والصدقة، والصلاة، وقيام الليل، فإنه يصرف المسلم عن أن ينظر ببصره أو يتطلع ويهفو قلبه أن يركن إلى سفاسف الأمور والدنايا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها) وجاء الحديث بألفاظ أخرى.

    والسفساف: هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، ومن الأمثلة على ذلك:

    ذم السؤال في الإسلام -الشحاذة وطلب الناس- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فسرها في الحديث الآخر: (اليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة). ما يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا شحاذين وسُؤًّالاً يمدون أيديهم، وإنما أن يكونوا عاملين يأكلون من عمل أيديهم، وأشرف طعام يدخل جوفك ما صنعته بيدك؛ هذه سنة داود عليه السلام، وذم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال من غير حاجة، والمكثرين من السؤال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)، وقال: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش -أو خدوش، أو كدوح- قيل: وما الغنى يا رسول الله؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب). فإذا كان له ما يغنيه وسأل جاءت المسألة يوم القيامة في وجهه نُدَباً وآثاراً.

    وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر أصحابه إلى قضية ترك سؤال الناس بالكلية، وقال: (من يتكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان : أنا، فكان بعد ذلك لا يسأل أحداً من الناس شيئاً) وصار الصحابة رضوان الله عليهم إذا سقط السوط من يد أحدهم لا يسأل أحداً من الناس أن يناوله إياه.

    وقضية علو الهمة تكون بالتطلع إلى الآخرة، والتطلع إلى طاعة الله، حتى في الدعاء، فإن الإنسان تكون همته عالية في الدعاء (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة) وقد يقول قائل: أنا مقصر ومذنب وأعرف نفسي لا أستحق الفردوس، نقول: لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة).

    إن الله كريم، ولا يعجزه شيء، سبحانه وتعالى وهو المنان فاسأله، وماذا يضرك؟ إن علو الهمة يكون حتى في الدعاء فيتطلع إلى الفردوس، على أن المسلم يسأل الله الفردوس، وربما بعض الناس يقول في نفسه: دعني فسوف أسأل أن أكون عند باب الجنة فقط، نقول: لا. يقول: عندي معاصٍ، نقول: لا. فاسأل الله الفردوس، حتى في الجنة اسأل المراتب العليا، ادع الله فربما يجيبك فتكون من الفائزين بهذه الدرجات العلى والنعيم المقيم.

    الدافع إلى علو الهمة

    والذي يدفع المسلم إلى علو الهمة هو الزهد في الدنيا؛ لأنه لو عرف حقيقة الدنيا أنها فانية زائلة ملعونة، وأنها كالعصف المأكول، وأنها تكون كهذا الذي تذروه الرياح، فإذا عرف قيمة الدنيا وتفاهتها وحقارتها وزوالها وفناءها فإنه في هذه الحالة يزهد فيها، وتتطلع همته إلى الأمور العليا إلى الآخرة وإلى الجنان وما أعد الله فيها.

    ومن الأمور المعينة على أن تكون الهمة عالية: اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه، فإنه إذا انشغل بما يعنيه؛ ومعنى: يعنيه، أي: يعنيه شرعاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني: الدعوة إلى الله، كسبك لأجل أولادك وزوجتك والإنفاق على زوجتك يعنيك، كل هذا يعنيك، معرفة أوقات الصلوات تعنيك، وما لا يعنيك هو: كل ما يضرك وما لا مصلحة لك فيه شرعاً.

    انظر إلى هؤلاء الناس الذين عندهم هوايات عجيبة: التصوير، وجمع الطوابع، والرياضات البحرية وتقضى فيها ساعات، وصيد الجرابيع، وأن يصعد بسيارته على تل من رمل؛ هذا همهم في هذه الأشياء، وآخر يجلس عند الألعاب التي في الكمبيوتر عشر ساعات واللعبة تأخذ كل يوم مراحل وساعات طويلة: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فينبغي ترك هذه الأشياء، لا نقول: لا تروح عن نفسك، ولا تتريض الرياضة المباحة، لا. هذا مما يعنيك، لكن الإغراق في هذه الأشياء، وإضاعة الساعات الطويلة فيها، هذا لا شك أنه منافٍ لعلو الهمة.

    وترك فضول الكلام، ومجالس إضاعة الوقت، والناس الثرثارين؛ هذا مهم لكي يحفظ الإنسان وقته، فالشخص الذي عنده علو همة ينصرف لمراعاة وقته، وكل ما هو من مدعاة الكسل والخمول، فالإنسان يترفع عنه، حتى التثاؤب انظر كيف أمرنا برد التثاؤب وتغطية الفم في الصلاة إذا تثاءبنا حتى لا يدخل الشيطان؛ لأن التثاؤب من الشيطان والتثاؤب عنوان الكسل والخمول، حتى التثاؤب الذي هو عملية طبعية تكون في الجسم ومع ذلك نرده ونكظمه حيث أمرنا بذلك شرعاً.

    1.   

    صور من علو الهمة عند السلف

    وبعد هذه النقاط في مقتضيات علو الهمة وبعض الأسباب التي تؤدي إلى علو الهمة لننتقل إلى تطبيقات عملية في واقع السلف في بعض الجوانب فيما يتعلق بعلو الهمة، ومن ذلك: الهمة في العبادة، والهمة في البحث عن الحق، والهمة في الدعوة إلى الله، وفي الجهاد، وفي طلب العلم.

    وتحت كل فرع من هذه الفروع نضرب أمثلة ونستلهم المعاني من قصص أولائكم النفر الكرام من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

    الهمة في العبادة

    أما الهمة في العبادة: فإن الله سبحانه وتعالى قد رغبنا في ذلك، وذكر لنا حال أصحاب الهمم العالية في العبادة؛ مثل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:16-17] وهذا النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الأمة قاطبة في همته، فهو أعلى الناس همة في العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه.

    قال ابن مسعود : [صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه] يعني: يكمل الصلاة قاعداً.

    وروى مسلم عن حذيفة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه).

    والأمثلة كثيرة في الصحابة والتابعين وذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في محاضرة بعنوان: "اجتهاد السلف في العبادة"، فلا نطيل في ذلك.

    ولكن لنعلم -أيها الأخوة- أن الشيطان يثبط الإنسان أن تكون له همة في العبادة، والشيطان يعقد على قافية رأس أحدنا بثلاث عقد حتى لا يقوم الليل، فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت، وإذا صلى انحلت كل العقد، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً نام حتى أصبح، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه).

    أما بالنسبة للهمة في البحث عن الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- كان يسأل الله أن يوفقه للحق ويدعو ربه ويناجيه في الليل وهو يصلي ويقوم الليل: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك).

    الإنسان مطالب بالوصول إلى الحق، وأن يحاول ذلك، سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو العبادات ومعرفة الصواب والحق فيها، ينبغي أن يبذل جهده في ذلك.

    الهمة في طلب الحق

    ولنأخذ مثلاً واحداً يبين لنا الهمة العالية في البحث عن الحق، إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من عباد النار من المجوس، وكان مع أبيه يحش النار، فحصلت له حادثة حيث أرسله أبوه في أمر فمر على ديرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية فأعجب بهم فأخبر أباه فسجنه وقيده بالسلاسل، فأرسل إلى أولئك النصارى يسألهم عن أصل هذا الدين، قالوا: هو بـالشام ، فأرسل إليهم يقول: إذا كان هناك أناس يريدون السفر إلى الشام فأعلموني فلما علم حلَّ القيد وهرب وخرج إلى الشام، وذهب إلى أسقف في كنيسة يخدمه ويتعلم منه ويبحث عن الحق، فإن عبادة النار هذه لا تجدي، ولا تنفع، ولا تصلح.

    ولما أوشك الرجل على الموت عَلِم سلمان أنه كان رجل سوء، وأنه كان يأخذ من صدقات الناس ويخزنها، فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه، وجعلوا واحداً بدلاً منه وكان رجلاً صالحاً على دين التوحيد، يعني: ملة عيسى عليه السلام، فلازمه سلمان رضي الله عنه يخدم ويتعلم منه فلما أوشك الرجل الصالح على الموت قال: لمن توصي بي من بعدك، فأوصاه إلى رجل بـالموصل ، فذهب إليه يتعلم منه، فلما نزل به الموت أوصاه إلى رجل بـنصيبين ، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل بـعمورية ، وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد.

    فلما نزل الموت بصاحب عمورية، سأله سلمان فقال: تدلني على من؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.

    فلما واراه ودفنه أعطى كل ما يملك إلى رجال من تجار من العرب ليحملوه إلى أرض العرب، لكنهم ظلموه وباعوه عبداً لرجلٍ من وادي القرى فباعه على رجل من بني قريظة، فجيء به إلى المدينة وهو عبد، فأقام في الرق.

    وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة وسلمان لا يدري عنه شيئاً، يعمل في النخل، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فجاء ابن عم اليهودي يخبره بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان فوق النخلة فلما سمع الخبر قال: فأخذتني العرواء -يعني: الرعدة- حتى ظننت أني سأسقط على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا؟ ولكن سلمان عند المساء أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام قال: هو صدقة، فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه مرة أخرى بطعام قال: هو هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان يقول: هذه واحدة، والثانية: فدار سلمان حول ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يتثبت من شيء فأرخى له الرداء فقال سلمان : فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي. يعني: بعد هذه السنوات الطويلة جداً وصل سلمان إلى هدفه، وعرف الحق، ترك أباه وأهله وفارق الأوطان وتغرب وأنفق كل ما عنده من البقرات والمال لأجل أن يسافر إلى المكان الذي فيه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وظُلِمَ وبِيْعَ عبداً فاشتغل في الرق سنوات طويلة جداً حتى وصل إلى الحق وعرفه.

    وإذا كانت النفوس كباراً     تعبت في مرادها الأجسام

    الهمة في الدعوة إلى الله

    وأما الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قضية ينبغي أن تكون مغروسة في أنفسنا؛ لأننا -أيها الإخوة- مطالبون بأمر إلهي ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] يجب علينا أن ندعو لننقذ الأمة من الهلكة، الأمة الآن تعيش في أحط أوضاعها، وأسفل ما مر بها في تاريخها، ولو تأمل الداعية صعوبة المهمة لعرف أنه لا بد أن يكون صاحب إرادة قوية وهمة عالية؛ لأن هناك جهداً كبيراً يجب أن يبذل، فتصحيح الانحرافات الموجودة ليس أمراً سهلاً، والأمر أعظم مما قال عمر بن عبد العزيز لما قال: [ إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره ].

    هذه الأمة الآن غارقة في المصائب والمعاصي، والكفر والشرك على رأس ذلك، إنها المحاربة من قبل الأعداء؛ يحاربون المساجد بالمراقص، والزوجات بالمومسات، والعقيدة بالفكر المنحرف والفلسفة، والقوة باللذة، يحاربوننا بأن يجعلوا همتنا دنية في اللقمة والجنس.

    والداعية إلى الله إذا رأى أهل الباطل وعملهم في دعواتهم الباطلة وسعيهم لنشرها حتى لربما كانت عجوزاً شمطاء في المجاهل والأدغال مع ضعفها وقلة حيلتها تعمل لأجل الصليب، أو غير ذلك من الأفكار المنحرفة، ويسهرون الليل، وينفقون الأموال، فالعيب الكبير في الشخص أن يتقاعس عن الدعوة وهو ينظر إلى أولئك القوم.

    والداعية إلى الله يعلم أنه منصور، وإن لم يكن منصوراً بالسنان فهو منصور بالحجة والبيان (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله).

    وتأمل في قوة إرادة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو همته في الدعوة لما بعث ولم يكن في الأرض في ذلك الوقت إلا هذه البشرية المنحرفة، تأمل حال رجل واحد مطلوب منه التبليغ وحمل الناس على الدين، وإقامة الإسلام في الأرض، وهو واحد أمام هذا الكم الهائل من ركام البشرية المنحرفة التائهة الغارقة في الشرك والوثنية، كم تكون المهمة صعبة والحمل ثقيل؟ رجع يقول: (زملوني زملوني) من هول ما ألقي عليه من هذه التبعات العظيمة، لا يقام بهذه المسئولية إلا من قبل رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أصحاب همم عالية وإرادات قوية، والدعوة إلى الله طبيعتها الابتلاء والفتن والمحن، ولا بد من صبر.

    الدعوة تحتاج إلى بذل أوقات، وهذا نوح ظل يدعو قومه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14].

    الدعوة إلى الله تحتاج لصاحب همة عالية يدعو إلى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، في جميع الأحوال والظروف، وينوع الوسائل.

    والداعية إلى الله يرحل ويتجول في أي مكان سافر وإلى أي مكان ارتحل فهو يدعو، تأمل حال الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ). لاحظ: أتانا رسولك؛ هؤلاء رسل النبي صلى الله عليه وسلم يجوبون القفار والصحاري وينتقلون بين القبائل لتبليغ الدعوة، أسفار ومشاق وصرف أموال وتعب، لكن هذه حال الدعوة.

    والداعية وقف لله تعالى لا يصلح أن يترك هذه المهمة، أو يقول: أدعو سنة وأنام سنة، كلا.

    وقد تكلمنا في بعض المحاضرات الماضية عن أساليب الدعوة، ووسائل الدعوة، وبعض صفات الداعية، فلا نطيل بهذا ولكن القضية تذكير بأن المهمة في عصرنا صعبة ولكنها واجبة، ولا بد أن نكون أصحاب إرادات كبيرة وهمم عليا لنقوم بهذه الدعوة.

    الهمة في الجهاد في سبيل الله

    أما الجهاد في سبيل الله: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام حكى لنا حال رجل مَثَّلهَ بألفاظ عجيبة تبين همة هذا الرجل العالية في الجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاشر الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه). هذا رجل على أهبة الاستعداد، دائماً مستعد ممسك بعنان فرسه، أي وقت سمع منادي الجهاد طار ولم يمش مشياً، بل طار على الفرس يبتغي مظان الموت، وأين يوجد القتل فيدخل في المعترك. حديث صحيح رواه مسلم .

    (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحتمي به أصحابه). وتمنى ألا يتخلف عن سرية قط، لكن لأجل بعض المصالح، ومع ذلك قاد عدداً كبيراً من الجيوش والسرايا، وأصحابه ساروا على منهاجه، وانظر إلى همة أنس بن النضر العالية في قتاله حتى ما بقي منه إلا ما عرفته أخته به وهي بنانه، سبعون موضعاً في جسمه ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، وحمزة في أحد قال الراوي: مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، يقول: يا بن أم أنمار! يا مقطعة البظور! أتحاد الله ورسوله؟! فيضربه فكان كأمسٍ الذاهب.

    ولعل من أعجب الأمثلة وأروع الأمثلة في تاريخنا الإسلامي لصاحب همة عالية في الجهاد، الرجل الذي مع شهرة اسمه لكن لا يعرف من أفعاله إلا القليل، إنه خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ هذا الرجل عجيب فعلاً فيما قدم لهذا الدين في الجهاد والقتال، أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد حينٍ، ولكن سخر قوته ومواهبه لله ورسوله، وقاد جيشاً من المسلمين في فتح مكة ، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أرسله وبعثه بعوثاً ارتدت العرب، وكانت مهمة عظيمة ملقاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعرف كيف ينتقي سيفاً من سيوف الله، فوجهه إلى أشد الخصوم مسيلمة الكذاب وقاتلوا في ليالي اليمامة وأيامها مقاتلة شديدة حتى أظفرهم الله على المرتدين.

    وبرغم قساوة وشراسة معارك الردة -التي مع الأسف ليست معروفة لكثير من الأجيال المسلمة التي ينبغي أن تدرس بعناية؛ لأن فيها أموراً كثيرة مما ينطبق في زماننا- لم يقعد خالد وإنما وجهه أبو بكر لغزو فارس، بادئاً بثغر أهل الهند والسند ، وأرسل معه أناساً، فقام خالد رضي الله عنه فقسم الجيش إلى ثلاث فرق، وأعدهم عند الحفير، وراسل هرمز يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وجاء هرمز بجيشه، ونزل على الماء ونزل المسلمون على غير ماء، وكلموا خالداً فقال: حطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين، وربط الفرس بعضهم بالسلاسل، ودعا هرمز خالداً للمبارزة يريد الخديعة، حتى إنه جعل خطة بحيث إن هناك أناساً من الفرس ينقضون على خالد من الخلف أثناء المبارزة، ولكن القعقاع وهو قائد إسلامي آخر كان منتبهاً فحمل عليهم فقتل خالد هرمز، وانهزم الفرس وأرسلت الغنائم إلى أبي بكر.

    ثم دخل في واقعة المذار وكان هرمز قد كتب لـأردشير يستمده، فأمده بقائد منهم، فالتقى الجيشان مع فلول جيش هرمز في ذلك المكان، فنهض خالد لقتالهم على التعبئة، وخرج إليهم فاقتتل الجيشان وانهزم الفرس وكانت مقتلة عظيمة.

    ثم وقعة الولجة التي أرسل فيها الفرس جيشاً كثيف العدد ونهض لهم خالد وخلفه من يحمي ظهره وقسم الجيش وأعد الكمائن واقتتل الجيشان واستعرت الحرب وصار الظفر للمسلمين وولى الفرس ومات قائدهم من العطش.

    ثم انتقل إلى وقعة أليس -وهم جماعة من عرب الضاحية نصارى من بكر ووائل- الذين عبئوا أنفسهم للثأر وراسلوا الفرس فأمدوهم، وعلم خالد باجتماعهم فذهب إليهم وعاجلهم واقتتل الجيشان مقتلة عظيمة, ونذر خالد لئن أظفره الله بهم ليجرين نهرهم بدمائهم، وهزم الله الفرس وأسر المسلمون الكثير منهم، ثم قتلوهم حتى جرى النهر بدمهم، فسمي نهر الدم، وكان خالد يقول: ما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس ، وقسم الغنائم وأرسل الخمس إلى الخليفة.

    ثم واقعة أنغيسيا التي أكمل خالد بجنده إليها وقاتل أهلها وولوا تاركين كل شيء، ما إن اقترب خالد حتى هربوا وتركوا كل شيء غنيمة.

    ثم توجه إلى الحيرة وخرج المرزبان بجنده وجعل خالد الجيش على سفنٍ في الفرات، ولكن الفرس عملوا مكيدة، بأن فجروا أنهاراً فرعية لتقف سفن المسلمين بأحمالهم، وفعلاً وقفت سفن المسلمين بأحمالها، لكن خالداً لم يكن ليحتار ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل، وإنما انفلت بكتيبة من المسلمين وقاتل المرزبان على حين غفلة من جيشه حتى هزمهم وهم القائمون على الأنهار الفرعية، وأجرى الماء في الفرات فرجع الماء وحملت سفن المسلمين، ودخل الحيرة وفتحها وأعمل القتل فيها، وخير قساوستها فاختاروا الجزية، فأرسل إلى أبي بكر الصديق.

    ثم انتقل إلى الأنباط ، وهكذا من معركة إلى أخرى، ثم إلى عين التمر وهي واقعة عجيبة، ثم إلى دومة الجندل ثم إلى الخنافس والحصيب وهي وقعة أخرى.

    ثم ينتقل خالد بن الوليد من مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة الفراض التي تحالف فيها الفرس والروم ونصارى العرب في جيش واحد ضد خالد بن الوليد وجيش المسلمين، وفتحها الله.

    ثم معركة اليرموك المشهورة وأنتم تعلمون ما حصل فيها، وظهرت العبقرية العجيبة لـخالد بن الوليد حينما أراد أن يفاجئ الروم من مكان لا يحسبون له حساباً، فاختار أن ينطلق من العراق إلى الشام عبر بادية الشام الصحراء -التي تقطع الآن بسيارات بعشرين ساعة مع الراحات- أتى خالد بدليل يدل الطريق، وأمر بحمل الماء وأمر بعشرين جزوراً سماناً عظاماً فأظمأها حتى اشتد عطشها ثم أوردها الماء، حتى رويت فقطع مشافرها وعكمها حتى لا تجتر، وكان كل يوم له منزل يعمد إلى أربع من الإبل فيقطع أسنمتها ويأخذ ما في كروشها ويسقيه الخيل حتى كان المنزل الأخير، فوفقهم الله حتى عبروا ذلك المكان، وفاجأ الروم من المكان الذي لا يحتسبونه.

    ولما حوصرت دمشق من أبوابها المختلفة كانت الفرقة التي فيها خالد هي التي دخلت دمشق وهو الذي قال لهم: انتظرونا فإذا سمعتمونا كبرنا فاقتحموا، فصعد هو ومن معه على الأسوار ونزلوا على الروم الحراس وقتلوهم وفتحوا الأبواب وكبروا، فدخلت جيوش المسلمين إلى دمشق ، وكان بعض أهلها قد صالحوا المسلمين في الجهة الأخرى، فبعض دمشق فتح عنوة وبعضها فتح صلحاً.

    وهكذا يستمر خالد بن الوليد ، وفي معركة من المعارك تواجه جيش خالد مع جيش عقة بن أبي عقة النصراني العربي الذي كان يجهز الجيش، فلمح خالد ثغرةً فترك جيشه وانطلق إلى القائد المشرك الكافر فأخذه واحتضنه ورجع به أسيراً فانهزم جيشه.

    وفي معركة من المعارك حاصر المسلمون حصناً، فقال بعض المسلمين لـخالد : إن هؤلاء إذا رأوا وجهك لا يخرجون خارج الحصن، مع أننا نريد أن يخرجوا لكي نقاتلهم، فخرج خالد نهاراً وهم يرونه مبتعداً، ثم دخل ليلاً في الجيش مرة أخرى، وفي الصباح خرجوا لأنهم علموا أن خالداً خرج، فخرجوا من الحصن ليقاتلوا فصبحهم خالد بوجهه فهزموا، رضي الله تعالى عنه.

    ويستمر حتى يطيع أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حين برجوعه إلى المدينة ، ويكون عنده حتى وافاه الأجل رضي الله عنه.

    وفي إحدى الغزوات بعدما فتح مدينة أخذ فرساناً وذهب إلى الحج -قطع مسافة إلى عرفة - مباشرة فحج ورجع فلما رآه أصحابه حليق الرأس عرفوا أنه قد حج.

    الهمة في طلب العلم

    وأخيراً من الهمم العالية في طلب العلم، وهي كثيرة جداً وننتقي بعض المقاطع:

    عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا بن عباس ! أتظن أن الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو نائم القيلولة، فأتوسد ردائي على بابه فتسفو الريح عليَّ التراب فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا أرسلت إليَّ فآتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني].

    الهمة العالية تجعله يتوسد عند الباب في الظهيرة، هذا الرجل نائم وابن عباس عند الباب، والريح تأتي بالتراب ينتظر للمسألة العلمية.

    وهذا عروة بن الزبير، فعن هشام عن أبيه أنه كان يقول لنا ونحن شباب: [مالكم لا تتعلمون؟ إن تكونوا صغاراً فيوشك أن تكونوا كباراً، وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه وأجده قد قال، فأجلس على بابه ثم أسأله عنه].

    وكان عامر بن قيس التميمي مقرئاً يقرئ الناس القرآن فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين فينصرف إلى منزله، ثم يأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى صلاته، ثم يتسحر رغيفاً ويخرج. قيام وصيام وقراءة قرآن من الصباح إلى الليل.

    أما سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كنت أجلس بالغدوات لـابن أبي مالك وأجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحولاً.

    وأما القعنبي فقال أبو حاتم : ثقة حجة لم أر أخشع منه؛ كان إذا مر بمجلس القوم قالوا: لا إله إلا الله، ذكروا الله عز وجل، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال ، قال: فإذا فرغتم منه؟ قلنا: فنأتي حينئذٍ مسلم بن إبراهيم ، قال: فإذا فرغتم؟ قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي ، قال: فبعد العصر؟ قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان ، قال: فبعد المغرب؟ فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كبلٌ ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ.

    هذا يدل على أن أبا حاتم وأقرانه كانوا يطلبون العلم ويجلسون المجالس المتواصلة في ذلك.

    وحدث بعض أهل العلم وهو ابن حبان عن بعض العلماء - ابن حبان يحدث عن نفسه- قال: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، قال الذهبي : كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف رحمه الله.

    وقال محمد بن علي السلمي : قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم فوجدته قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.

    و ابن الأخرم كان له حلقة عظيمة بجامع دمشق يقرءون عليه من بعد الفجر إلى الظهر.

    و الطبري قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا، قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، قال: إنا لله! قد ماتت الهمم. فاختصر ذلك في قرابة ثلاثة آلاف ورقة.

    وأما السمعاني رحمه الله فإنه طوف البلاد وأخذ عن مشايخ لا يعدون، وذهب إلى أبي ورد وإسفرائين والأنبار وبخارى وبسطام والبصرة وبلخ وترمذ وجورجان وحماه وحمص وحلب وخسرو وجرج والري وسرخس وسمرقند وهمذان وهرات والحرمين والكوفة وواسط والموصل ونهاوند والمدائن ولم تكن هناك طائرات ولا سيارات ولا قطارات، وإنما المشي على الأرجل والدواب حتى دخل بيت المقدس والخليل وهما بأيدي الفرنج، حيث استخدم الحيلة وخاطر ودخل رغم أنها تحت احتلال النصارى.

    السلفي الذي ذهب يطلب العلم وله أقل من عشرين سنة، ونسخ من الأجزاء ما لا يحصى، وكان ينسخ الجزء الضخم في ليلة، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاماً.

    و أبو طاهر قال: بلت الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة بـبغداد وأخرى بـمكة ، وقال: كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في الطلب أحداً -يعني: ما سأل أحداً مالاً- قيل: أنه كان يمشي في اليوم والليلة عشرين فرسخاً؛ والفرسخ تقريباً خمسه كيلو مترات.

    وروي عن سليم الرازي قال: كان أبو حامد الإسفراييني في أول أمره يحرس في درب -لكن له همة عالية ولو كان يحرس في درب- وكان يطالع على زيت الحرس -يقرأ على مشاعل الحرس- وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة.

    عطاء بن أبي رباح كان فراشه المسجد عشرين سنة.

    الزهري جلس يتذاكر الحديث من بعد العشاء حتى أصبح، وعدد من السلف فعلوا ذلك.

    الإمام مالك قَلَّ أن يصلي الصبح بوضوء جديد وإنما كان يصلي بوضوء العشاء تسعاً وأربعين سنة.

    وكيع بن الجراح والإمام أحمد تذاكرا الحديث من العشاء إلى آخر الليل.

    كان أسد بن الفرات يجلس عند محمد بن حسن الشيباني يتلقى منه الحديث، وكان ينثر في وجهه الماء -ينضح- لكي يصحو ويبقى منتبهاً في الدرس.

    أحمد بن حنبل كان يذهب من قبل الفجر إلى مجلس الشيخ ليتبوأ مكانه، وكان يقول: من المحبرة إلى المقبرة.

    كان البخاري يستيقظ عشرين مرة في الليل ليسجل ما يخطر له، يشعل السراج في كل مرة ويطفئه.

    هذه هي الهمم العالية، هذا الحفظ، والعلم، والرحلة، والتأليف والتصنيف، وهذه المجالس، وهذا الحرص على الحضور.

    هذه -أيها الإخوة- نماذج مما كان عليه سلفنا رحمهم الله في طلب العلم والهمم العالية فيه.

    فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يقوي إراداتنا في طاعته، وأن يجعلنا من أصحاب الهمم العالية في سبيله مجاهدين وعلماء عاملين، والله تعالى أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949587