إسلام ويب

شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر)للشيخ : عمر سعود العيد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وهو يستلزم الإيمان بوجود الجنة والنار، وإنهما لا تفنيان، وأن الكفار سيعذبون في النار لا يموتون فيها ولا يحيون، وأكثر أهلها النساء، أما عصاة الموحدين فسيعذبون فيها ثم يخرجون برحمة الله، وقد خلق الله للنار خلقاً وللجنة خلقاً، ولكل واحدة ملؤها، كل ذلك بحكمة أحكم الحاكمين.

    1.   

    مصير الأشقياء والأتقياء

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

    والنار يصلاها الشقي بحكمة     وكذا التقي إلى الجنان سيدخل

    معنى النار

    (أل) في لفظة (النار) للعهد، ويقصد بها النار التي توعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف شرعه ودينه من الكفار والمشركين، ومن عصاة المؤمنين، ولا يقصد بها نار الدنيا، فإنها ليست المرادة في قول الناظم رحمه الله تعالى، وإن كانت نار الدنيا جزءاً من نار الآخرة -نعوذ بالله- وقد أمر الله باتقاء النار في غير ما آية، وحذر منها، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من النار، وذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن النار التي توعد الله بها إنما يصلاها الشقي.

    قال في اللسان في كلمة (يصلاها) يقال: أصلاه النار أي: أدخله إياها، وكأن النار يدخلها الأشقياء، يقال: صلي فلان بالنار يصلى صلياً أي: احترق، والله يقول: هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً [مريم:70] أي: أن الكفار أولى من يدخل هذه النار.

    من هو الشقي

    (الشقي) في اللغة مأخوذ من الشقاء والشقاوة، وهو بالفتح ضد السعادة، والشقي هو المتلبس بالشقاء والشقاوة، ويقصد بها في سوء حاله وشره، وسميت الشقاوة بمعنى نكد العيش فإذا كان الإنسان متنكداً في عيشه، سمي هذا الشخص شقياً.

    معنى الحكمة

    وقوله: (بحكمة) الحكيم: هو فعيل من أحكم، يقال: أحكم الإنسان هذا الشيء إذا أتقنه أي: أحاطه من الخلل، بمعنى أنه لا يقع فيه زلل ولا نقص، وأصل مادة (حكم) في كلام العرب مأخوذة من المنع، من الفساد والخلل، وقال: ومنه حكمة الدابة، أي: أن الدابة يوضع في فمها لجام ويصبح الفارس يحكمها، فلا تميل يمنة ولا يسرة، بمعنى: أنه يضبطها في سيرها وفي مشيها، والحكيم بمعنى: المتقن للأمور كلها، ولذلك يقال: إن الله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، ويعتبر من أسمائه الحكيم، ومن صفاته كذلك أنه الحكم والحاكم سبحانه وتعالى، وهو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وقيل: إن الحكيم بمعنى ذو الحكمة، و(الحكمة) هي: معرفة أفضل الأشياء، وقيل: إن الحكيم بمعنى الحاكم، وقالوا: الحاكم هو القاضي.

    الحكمة في دخول الأشقياء النار

    بين المؤلف رحمه الله تعالى أن النار يصلاها الشقي، وكون الشقي يصلى هذه النار لم يصلها عبثاً، ولم يصل هذه النار ظلماً له، وإنما بحكمة قد تبدو للناس وقد لا تبدو لهم، وإن كان الشقي يدخل النار فحكمته واضحة لإظهار عدل الله سبحانه وتعالى، فالله يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] أي: أنكم تأتون بشيء من عند أنفسكم، ولذلك ميز الله أهل الحق من أهل الكفر، وأن أهل الحق في الدنيا على إيمان وصلاح واستقامة وفي الآخرة مثلها، وإن كان بعض الناس قد لا ينظر إليه إلا نظرة ازدراء، والله قد قال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] ولكن أهل الإيمان يوم القيامة هم الذين يضحكون من الكفار، والسبب: هو ما يحدث من بيان حكمة الله تعالى فيما يجريه الله على عباده في الدنيا، وما يثيبهم الله في الآخرة.

    معنى التقي

    قول الناظم: (وكذا التقي) قالوا: التقي مأخوذ من التقوى، ويقال لك: خذ هذا أي: اتق بهذا الشيء، إذا أردت أن تحمل شيئاً حاراً تجد الناس يفزعون، خذ هذا لتتقي به حرارة النار، وكأن التقي عمل أعمالاً في هذه الحياة الدنيا تقيه من عقوبة الله يوم القيامة، ولا تقوى للإنسان من نار الله يوم القيامة إلا بالعمل بطاعة الله تعالى، فمن لا يعمل بطاعة الله تعالى لن يجعل بينه وبين عقوبة الله تعالى وقاية.

    نجد أن التقي إلى أين؟ إلى الجنة.

    معنى الجنة

    ذكر أن التقي سيدخل إلى الجنان، والجنان مفرد جنة، وقد تكلم العلماء في ألفاظ (الجنة والجِنة والمجن والجن) وكل هذه الألفاظ تأخذ معنى الاستتار، ولذلك يقال: المجن يستتر به المقاتل، والجن سموا جناً لأنهم يستترون عن الأعين، والجنة سميت جنة وهي البستان، وهي الحديقة ذات الأشجار الكثيرة الملتفة، وهذه تستر من دخل فيها، وتجد أن الإنسان إذا ذهب إلى حديقة ومعه أهله بحث عن شيء يستره من الأشجار الملتفة حتى لا يطلع عليه أحد، وهي دار النعيم التي أعدها الله لأوليائه، ونسأل الله أن نكون من أهلها، وهذه يوم القيامة، ولذلك قالوا: منه الاجتنان وهو الستر لتكاثف أشجارها والتفاف بعضها على بعض، وتظليلها لأهلها.

    قال: سيدخل التقي إلى الجنان، ومعنى الدخول: هو نقيض الخروج.

    1.   

    قبول الحق والعمل بالعلم

    أنبه للأحبة تنبيهاً لطيفاً في أدب الطلب، ولعل هذا يكون هو آخر أدب:

    أولاً: قضية إبداء الملحوظات: يجب أن تكون صدورنا قابلة للحق، ويصبح ديدن المسلم دائماً الرجوع إليه، ولا تأخذ المسلم العزة أنه قال قولاً لا يمكن الرجوع عنه، أبداً، بل يرجع الإنسان؛ لأن المقصود هو الوصول إلى الحق، وليس المقصود أن يكون ما قاله الإنسان لابد أن يكون حقاً، ليس شرطاً.

    ولهذا قالوا: إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال، وإذا وطن الإنسان نفسه على هذا الأمر كان ذلك خيراً له في الدنيا والآخرة، وسبحان الله! من أعظم ما وجدت أي: على ضوء معيشتي مع مشايخنا سماحة شيخنا العلامة، أن شخصيته فريدة، ومتميز بصفات من أندر ما تجدونها في الدنيا، ولعل من الأمثلة عليها قضية الرجوع، وأذكر من اللطائف أنه منذ أكثر من عشر سنوات أفتى سماحة شيخنا بفتوى، وجاء أحد الطلاب يسأله وقال: يا شيخ! أنت ذكرت هذا، ويوجد حديث كذا، فنظرت إليه ولعله في المتوسط أو في الثانوي ولم يجاوزها، فقال الشيخ حفظه الله، بعد أن أورد الحديث: ائت بالحديث وإذا صح رجعنا عما قلناه.

    أحدنا لو اعترض عليه صغير أو كلمه، قال: هذا طفل وهو لا يفقه شيئاً، أو أخذ الإنسان يلف يمنة ويسرة، وقال: المسألة خلافية، ولعلنا نرجح كذا، لا، بل المسلم ديدنه أن يبحث عما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك يلتزم به.

    الأدب الذي أحب أن أنبه عليه وقد نبه عليه العلماء رحمهم الله تعالى، وهي قضية العمل بالعلم، إن الأحبة عاشوا في هذه الأيام أجواء مليئة بالعلم، يقول السلف: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] وجاءت الآيات تبين: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2] ويقول نبي الله شعيب: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] وقوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63].. وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] ذكر العلماء في تفسير (ربانيين): بأنهم الذين يعلمون ويعملون.

    ومن اللطائف في طلب العلم، وإن كنا نذكر أمثلة عليها: اتصلت على سماحة شيخي منذ أربعة أيام أستفتيه في مسألة، وهو في الطائف وأنا في الرياض ، وعندما اتصلت سلم علي حفظه الله، ثم إذا بي أسمع المؤذن عندهم في الطائف ، ثم قال لي: انتظر، إن المؤذن يؤذن؛ لأجل الإجابة، ثم بعد ذلك سل ما بدا لك، فقلت: سبحان الله! لو اتصل عليك أحد من هنا وهناك هذا وقت، وجلست أنتظر في المكالمة أردد مع مؤذن الطائف ، والشيخ يردد كذلك، فقلت: سبحان الله! انظروا مثالاً عظيماً على قضية التطبيق والامتثال، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون من أحرص الناس على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    وزرت أحد مشايخي الكبار وكان عندي سؤال، وحدثته بالقصة، سبحان الله! ويؤذن المؤذن وكنت أتكلم، قال: طبق، سمعت ....... وسكتنا، فقال: سبحان الله! كم من مرة نسمع ولا نجيب، ولكن ما تميز به هذا العالم العجيب بقضية التأسي وسرعة التطبيق، ولهذا نقول: سبحان الله! فيما أعرفه عن هذا العلامة أنه ما ثبتت عنده سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا طبقها، لا في أذكار ولا في أوراد، ولا في دعاء استفتاح، ولا في غيره من العبادة، لا تصح عنده سنة إلا نفذ، ولهذا أقول: رفع الله شأنه، وأعلى منزلته، وأعظم أجره فيها، وجعله أنموذجاً للتأسي والقدوة، وحببه الله للناس، كله بسبب محبته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقه لها.

    نجد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: عن علمه فيم عمل به) وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى حديثاً في صحيح مسلم ، ويسمى من المسلسلات، ومنها: حديث مسلم نذكره بسنده، قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن عوف ، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بنى الله له بهن بيتاً في الجنة) نجد الآن التطبيق العملي، قالت أم حبيبة : [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم] قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة : [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من أم حبيبة] قال: عمرو بن عوف الراوي عن عنبسة : [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من عنبسة ] قال النعمان بن سالم : "فما تركتهن منذ أن سمعتهن من عمرو بن عوف" مسلسل في التطبيق، ويدل هذا على أنه ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقيل لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم علمه ورداً: (إذا أويتما إلى فراشكما فسبحاً..) قيل لـعلي : ما تركت وردك؟ قال: [ما تركته منذ أن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا له: ولا ليلة صفين -وقت المعركة- قال: ثكلتك أمك ولا ليلة صفين ] مع وجود القتال ما نسيه.

    وأقول للأحبة: وكان في الذهن إعداد محاضرة كنت سميتها: (التأصيل والترقيع في واقعنا المعاصر) وكان هذا من الأدلة على إثبات التأصيل عند الصحابة رضي الله عنهم.

    أقول للأحبة: نحن ننطلق إلى سفر، ونصبح كلما صعدنا السيارة نقول للشباب: جزاكم الله خيراً لا تنسوا دعاء السفر، ونسافر معهم عشر سنوات ودائماً: لا تنسوا دعاء السفر، لا تنسوا أوراد الصباح والمساء، علي بن أبي طالب ما تركه بعدما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أبداً قال: [ولا ليلة صفين ] وهكذا نجد أم حبيبة وغيرها سمع ولزم، وعرفت فالزم، أي: تمسك بهذا، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به -أي: إذا ثبت عنده عمل به- حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا قينة ديناراً، قال: فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت رضي الله عنه وأرضاه.

    ولذلك قال سفيان رحمه الله: من عمل بما يعلم كفي ما لم يعلم أي: يعلمه الله ويفتح الله عليه خيراً، إذا عرفت حفظ الحديث فاعمل به، قال الإمام ابن الجوزي ونختم به: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، يقول: الذي استفدت منه العامل بعلمه، وإن كان غيره أكثر علماً منه.

    هذا أدب وأمررناه على عجل، وننطلق إلى ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى من قضية النار -نعوذ بالله من النار- والجنة.

    1.   

    مسائل متعلقة بالنار وأهلها

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    والنار يصلاها الشقي بحكمة

    بالنسبة للنار فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه النار داراً لأعدائه، وأعدها الله للكافرين والمنحرفين عن شرعه والمبتعدين، وتوعد الله بها العصاة، فالأصل أنها مقر للكفار، ولكن العصاة متوعدون بها، وتوعد العصاة بها ليس للخلود فيها، وإنما للدخول والتطهير، والله سبحانه وتعالى قد بين في غير ما آية ذكر النار وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن أولياء الله أنهم يقولون: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192].. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63].. إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] وبين الله أنها: لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ:22].. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص:56].

    أدلة وجود الجنة والنار الآن

    الجنة يجب أن نثبت أنها موجودة الآن، ووجودها الآن قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة منذ القدم إلى قيام الساعة يثبتون وجودهما، ولا يقولون كما تقول المعتزلة ، فإن المعتزلة تنفي وجود الجنة والنار الآن، ويقولون: إن الله ينشئها يوم القيامة، ولهم شبه باطلة في عدم إثباتهم للنار، ومن شبههم يقولون: إنها لو كانت مخلوقة الآن ولا ساكن لها، يكون وجودها عبثاً، والله منزه عن العبث، وهؤلاء مساكين قاسوا الله بخلقه فشبهوا أولاً، ثم عطلوا الرب سبحانه وتعالى عن هذه.

    ومن شبهتهم كذلك قالوا: إنها لو كانت موجودة ومخلوقة الآن لوجب أن تفنى يوم القيامة، والله يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] ويقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88] دل على أنها تهلك يوم القيامة، فما الفائدة من وجودها؟!

    وهؤلاء من أجهل الناس، ما عرفوا المقصود في هذه الآية، والله يبين أن كل شيء هالك، أي: يبين أنه مما أراد الله هلاكه، وإلا فإن العرش لا يهلك، ومنها الجنة، وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث أن الجنة موجودة، والدليل على وجود الجنة أحاديث كثيرة: (مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج وإذا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، يقول: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، ثم أخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) بل إن من أعظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) ونجد من الأدلة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ورأى بها سدرة المنتهى، ووصف لنا السدرة: (يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها).

    وأعظمه حديث ورد في قصة الكسوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في صلاة الكسوف تقدم صلوات الله وسلامه عليه، وهو يمد يده الشريفة كأنه يتناول شيئاً وهو يتقدم، وتقدم الصحابة معه، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشيح بوجهه خائفاً، فرجع الصحابة، وسأل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مد يده وتقدمه وعن تأخره؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (فتحت لي الجنة ورأيتها، وأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه إلى قيام الساعة) دل على أن الجنة موجودة، وإلا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سيأكلون منه إلى قيام الساعة، وسبب رجوعه صلى الله عليه وسلم أنه فتحت له النار، وخشي من وهجها ولهبها، ورأى بها النبي صلى الله عليه وسلم أناساً يعذبون ومنهم المرأة وكانت من بني إسرائيل، كان عندها هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فماتت، فوجدها النبي صلى الله عليه وسلم تخمشها هذه الهرة عقوبة لها، فدل على أن الجنة والنار موجودتان الآن.

    وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (دخلت الجنة، ورأيت قصراً عظيماً، فقلت لمن هذا؟ قالوا: لرجل من قريش، قال النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أنه لي، ثم أردت دخوله فقيل لي: إنه لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاستحييت لما علمت من غيرة عمر ) فبكى عمر عندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، أعليك أغار! أعليك أغار! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) والحديث المسلسل الذي سمعناه: (من صلى لله اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) هذه النار لا شك في وجودها، وكذلك الجنة لا شك في وجودها.

    وبالنسبة للنار فإن النبي صلى الله عليه وسلم رآها ورأى أحوال الناس فيها، ونعوذ بالله من أحوال الزناة، وشرَّاب الخمر، وآكلي الربا وغيرهم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم ووصفه لنا كأنه يراهم رأي العين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) والسبب: أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد الجنة وشاهد النار رأي العين، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم يحطم بعضها بعضاً.

    خزنة النار

    هذه النار -نعوذ بالله منها- لها خزنة، وهؤلاء الخزنة خلقهم عظيم، وبعثهم شديد: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وذكروا بأنهم غلاظ شداد، ولذلك الغليظ الشديد ليس في قلبه شيء من الرحمة لأحد، وخلقهم الله بهذه الصفة حتى لا يسمع أو لا يتأثر ببكاء أهل النار، وبما يصيبهم من الشدائد، ولهذا سبحان الله! لو رأيت شخصاً يقام عليه القصاص، وسمعت بكاءه وصراخه وعويله، قد يرق قلبك لما تسمع، ولكن جعل الله هؤلاء الملائكة غلاظاً شداداً، حتى لا يوجد في قلوبهم رأفة لمثل هؤلاء، وبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هؤلاء هم خزنة النار.

    وسبحان الله! ذكر هؤلاء الخزان وإذا عددهم: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] ويصبح عددهم في نظر الناس قليلاً، ولما سمع كفار قريش بهذا العدد جاء جاهل من هؤلاء وقال: أنا علي خمسة عشر؛ لأنه كان قوياً وكان بأسه شديداً، وأنتم عليكم كلكم أربعة، ولهذا قال الله: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر:31] جعل الله تلك العدة فتنة، ويظن بعض الناس قلة العدد أنها دليل على أنه يمكن للإنسان الخلاص، وهؤلاء بمنظار عقولهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وإلا لو نظر الإنسان إلى قضية الملائكة وما عندهم، من أعظمهم ملك الجبال الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطبق على أهل مكة الأخشبين، جبلين عظيمين يطبقهما، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود بسند صحيح، أنه قال: (أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنة إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) وكيف بالمخلوق الضعيف الصغير الحقير يعترض على هذا العدد، ويظن بأنه سيكون له شيء، ولهذا قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت في ذكر عدد من الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنه يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من هؤلاء الملائكة لا يمكن للبشر كلهم لو اجتمعوا عليه أن يفعلوا شيئاً أو يقاوموه، ولا شك أن هذا أمر عظيم، وسبحان الذي يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد.

    مكان النار وسعتها

    أين توجد النار؟

    اختلف العلماء على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: من العلماء من قال: إن النار في الأرض السفلى، ويفسره بعض المعاصرين الآن، ولعلكم إذ تسمعون بعض من يتكلمون عن طبقات الأرض، يقولون: إن تحت هذه الكرة الأرضية ناراً، ويقصدون به تأجج البراكين الآن، البراكين تصهر الحجارة كلها، وتصبح مصهورة، وقالوا: إنها تحت الأرض وهي التي أعدت.

    القول الثاني: من العلماء من قال: إنها في السماء، واستدلوا لذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج رأى النار، وقالوا: إنها في السماء.

    القول الثالث: من العلماء من توقف في ذلك، وقال: لم يرد لنا شيء واضح في هذا الأمر، ولكن الواجب علينا أن نؤمن بوجود النار وأن لها مكاناً، لكن أهي في الأرض أم في السماء الله أعلم بهذا، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى التوقف فيها، وعدم الجزم بالمكان لعدم الوضوح فيها.

    أما الجنة فالذي يظهر أنها في السماء، ويستدل لذلك وإن كان بعض أهل العلم توقف فيه، ولكن لا أدري ما السبب في التوقف؛ لأننا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنها أوسط الجنة وأعلاها، وسقفها عرش الرحمن) وعرش الرحمن في العلو في السماء، مما يدل على أن الجنة في السماء، أما النار فبعض العلماء توقف فيها ولم يجزم، وإن كان بعض المحققين يجزم بأنها في الأرض وليست في السماء.

    هذه النار سعتها عظيمة -ونعوذ بالله أن نكون من أهلها- ويظهر لنا سعة هذه النار في أمور متعددة:

    أولاً: لكثرة عدد الداخلين فيها، فقد ثبت أن الله يقول لآدم: (أخرج بعثاً من ذريتك إلى النار، فيسأل ربه كيف؟ فيقول الله له: أخرج من الألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحداً إلى الجنة) فإذا كان من أبناء آدم تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، يدل على أن العدد كبير جداً، ومكانهم كبير.

    ومنها كذلك: خلق أهل النار، فقد ثبت في صحيح مسلم أن (ضرس الكافر يوم القيامة في النار كمثل جبل أحد ) كم له من الأسنان! وقالوا: وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، بل قالوا: إن غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، حجمه كبير جداً، والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء، وذكر العلماء هنا تنبيهاً لطيفاً، قالوا: إن تضخيم جسم الكافر حتى يزداد في العقوبة ويزداد ألماً، وتشتد عليه عقوبة الله تعالى.

    ومما يدل على ضخامتها وبعد قعرها: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بنا سمعنا وجبة -أي: صوتاً- فقال: أتدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار والآن وصل إلى قعرها) ونعوذ بالله من هذه.

    ومما يدل على ضخامتها ما يثبته أهل السنة والجماعة وإن كان المبتدعة لا يثبتونه، ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال النار يلقى فيها، ويقال لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ قال: فيضع فيها الجبار قدمه فينزوي بعضها على بعض -أي: تنطوي- فتقول: قط قط) أي: بعزتك وكرمك، أي: حسبي حسبي، الآن امتلأت مما يدل على سعتها، وهي تقول: هل من مزيد هل من مزيد؟

    ومما يدل على ضخامتها كذلك: كثرة الملائكة الذين يسوقون هذه النار، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود : (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) أي: حتى يأتوا بها إلى الموقف، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار.

    أبواب النار

    هذه النار لها سبعة أبواب، قال سبحانه وتعالى في القرآن: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:43-44] ودل على أن هذه النار لها أبواب مستقلة، لكل باب جزء يدخلونه، ولعل ذلك على حسب ذنوبهم، وكل باب إذا دخله أهله فإنه يغلق عليهم، وقال العلماء: من الأبواب ما يغلق ولا يفتح، وهذا في حال الكفار وفي حال المشركين الملاحدة، ويدخل فيه المرتدون كذلك: الكفار، والمشركون، والمنافقون، كل هؤلاء يغلق عليهم الأبواب فلا تفتح أبداً، ويكون لهم الخلود في النار -نعوذ بالله منها- وهناك أبواب تفتح وتكون للعصاة من الموحدين، ولأصحاب النفاق العملي، وأصحاب الشرك الأصغر، وأصحاب الكفر الأصغر، فإن هؤلاء لا يخلدون في النار، وإنما يدخلون ثم يخرجون كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة ، فإنهم يقولون: من دخل النار فلا يخرج منها أبداً، وقولهم باطل.

    شدة حر النار

    هذه النار حرها شديد، وأي شخص يشعر بحرارة في الدنيا أو الآخرة فإنه يحتاج إلى ثلاثة أمور: يحتاج إلى ماء بارد، وظل، وهواء، ولهذا إذا جلس الإنسان في ظل، ثم جاءه هواء، قال: أسأل الله برد الجنة، وأهل النار لا يوجد لهم هذا أبداً، بل هم في جهنم وفي سموم، أي: هؤلاء في جهنم وفي السموم وهي: الريح الشديدة الحارة، وفي الماء الحميم الذي اشتد حرارته، وفي ظل من يحموم، أي: شديد الحرارة -نعوذ بالله من ذلك- فلا يستفيدون لا من الماء ولا من الظل، ولا يستفيدون كذلك من الريح التي تأتيهم، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بشدة حرارة هذه النار كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم أنه قال: (نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) وقال في حديث آخر: (فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً) دل على أنه ضوعفت عليها أشد، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم: والله يا رسول الله إنها لكافية، أي: أن هذه النار التي في الدنيا كافية، فأحدنا لو أُدخل إصبعه في النار ما استطاع، كيف لو أدخل كاملاً تأكله النار، ومع ذلك شددت عليهم هذه النار زيادة في العقوبة، وورد أنها خففت، ولو لم تكن هكذا ما استفاد الناس منها، لو كانت بنفس النار التي وجدت وخلقت ما استطاع الناس أن يأكلوا، أو يستفيدوا منها، نعوذ بالله من هذه النار.

    رؤية نار الآخرة في الدنيا وتأثيرها

    بالنسبة لنار الآخرة هل يمكن أن ترى في الدنيا؟

    نقول: لا، وإنما رآها النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في صلاة الكسوف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس : (ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منها) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورأيت أكثر أهلها النساء ) دل على أن النساء هن أكثر من يدخل النار، ولعل هذا نساء الدنيا، وسيأتي لماذا كان النساء أكثر أهلها؟

    تأثير النار على الدنيا وأهلها:

    لا شك أننا نجد أثر النار التي هي نار يوم القيامة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب! أكل بعضي بعضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأذن الله لها بنفسين، ثم قال: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر..) نحن في هذه الأيام الحر شديد جداً، هذا هو أشد ما تجدون من زمهرير النار، وهو من زمهريرها، وما نجد من البرد كذلك هو من نفس النار، نعوذ بالله من النار، ولهذا قيل: من السنة الإبراد بصلاة الظهر بسبب شدة الحر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن شدة الحر من فيح جهنم).

    خلود النار والرد على المخالفين

    مسألة: النار خالدة ولا تفنى، ولقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال متعددة ولم نومئ إليها، وبعض العلماء ذكر أنها تصل إلى سبعة أقوال:

    القول الأول: قول الجهمية : وهم يقولون بفناء النار وفناء الجنة، نعوذ بالله من حالهم، وقد رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في آخر كتابه: الرد على الزنادقة ، وبين أن الجنة والنار لا فناء لهما.

    القول الثاني: قول الخوارج والمعتزلة: يقولون بخلود كل داخل في النار، ولو كان من عصاة الموحدين، وهذا الكلام باطل، ولهذا فإن الخوارج يكفرون صاحب الكبيرة، والمعتزلة يرون أنه خارج من الإيمان، ولكنهم في الآخرة يتفقون مع الخوارج فيقولون: بخلود صاحب الكبائر.

    القول الثالث: وهو قول اليهود قبحهم الله، وذكره الله في قوله: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً [البقرة:80] ذكر الإمام ابن جرير أن اليهود قالوا: لن يدخل الله اليهود النار إلا تحلة القسم (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ثم يقول: أنتم المسلمون تخلفونا في النار وتخلدون فيها، أما نحن فندخل أياماً معدودة ثم نخرج، وكذبهم الله في هذه الآية وفي آية أخرى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80].

    القول الرابع: قول الاتحادية كـابن عربي الطائي وغيره، قالوا: إن هؤلاء يدخلون النار، ولكن تصبح طبائعهم طبائع الجهنميين وبعدها يتلذذون بالنار، أي: يصبحون يتلذذون بهذه النار وتصبح نعيماً لهم، ولاشك أن هذا كلام باطل، وهو ينسب إلى أهل التصوف من الزنادقة.

    القول الخامس: وهو أن الله سبحانه وتعالى يخرج من شاء منها، ثم يبقي من شاء، ثم يفنيها سبحانه وتعالى، وهذا القول عزي لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ونقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وبالنسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية فليس كلامه صريحاً في ذلك، وبالنسبة لـابن القيم فإنه قد نقل عنه، ويؤمئ إليه كلامه رحمه الله تعالى، أومأ إليه في النونية إيماءً سريعاً، وقيل: إنه أومأ إليه في حادي الأرواح، ولكن هذا القول مرجوح، وشيخ الإسلام ابن تيمية وعلى فرض صحة النقل عنه، فإنه نقل عنه رحمه الله تعالى القول بعدم فناء النار، والذي يظهر أنه أرجح الروايات التي نقلت عنه رحمه الله تعالى، مما يدل على أن هذا القول مرجوح، والصحيح أن النار خالدة لا فناء لها، ومن نقل عنه من السلف بفناء النار، بعض العلماء يقول: لعل هذه هي نار العصاة، وكأنهم قسموا النار إلى قسمين: نار للمشركين ونار للعصاة، ونار العصاة يخرجون منها فلا يرجع إليها أحد، قالوا: فتلك تفنى، أما نار الكفار فإنه لا فناء لها، ولا شك أن هذا هو القول الصحيح، وهو قول جمهور سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

    عصاة الموحدين وحالهم في النار

    هناك أناس متوعدون بدخول النار وهم من المسلمين، وذكر بعض أهل العلم منها حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) وقد قدح بعض العلماء في هذا الحديث، وممن ذكر عنه تضعيف هذه الرواية الإمام الشوكاني ، ونقل كذلك عن ابن الوزير ، وقبله ابن حزم ، وذكر بعضهم أن هذه الزيادة دسيسة، وكيف يمكن أن يدخل هؤلاء النار، ولكن الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله ذكر أن هذه الزيادة ليست ضعيفة، وذكر أن هذه تحمل على نار ليست نار الخلود، وإنما هي نار العصاة، وأن هؤلاء يدخلون بسبب انحرافهم، ثم بعد ذلك يخلصون منها، أما بالنسبة للملاحدة، فإنه لا مجال لدخولهم الجنة؛ نظراً لأن هؤلاء أهل نار خلود بسبب ارتدادهم عن دين الإسلام.

    ومن عصاة الموحدين المتوعدون بالنار: أصحاب الكبر، وقاتل النفس بغير حق؛ ومنهم الذي قتل نفسه، ومنهم أكلة الربا، ومنهم النساء الكاسيات العاريات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار) ومنهم الذين يعذبون الحيوانات، وهي المرأة التي دخلت النار بسبب هرة، ومنهم كذلك وهو بيت القصيد عدم إخلاص النية في طلب العلم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله والدار الآخرة، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) أي: ريحها، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الشيخ ناصر الدين الألباني ، وقد رواه الإمام ابن ماجة وابن حبان والبيهقي : (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، وتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار) يحذر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك: (من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار) نعوذ بالله من النار.

    السر في كثرة أهل النار

    ذكر العلماء لماذا أهل النار كثير؟

    أومأ العلماء رحمهم الله تعالى، ومنهم الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه: التخويف من النار ، قال: الأول: أن أعظم أسباب دخول الناس النار هي الشهوات، ولا شك بأن الشهوات لها أثر عظيم جداً على القلب، وما أسرع ما تشتاق النفس، أضرب لكم مثالاً بسيطاً: نحن جلوس هنا، ولو زرت بيوت أهل الثراء والأموال وأصحاب القصور الفارهة وغيرها، تشعر قلبك وروحك تشتاق هنا وهناك، تتمنى لو أن كنت مثلهم، وتجد عندهم بعض تماثيل الذهب، وعليهم خواتيم الذهب، وعندهم آنية الذهب والفضة ..إلخ، يشعر قلبك لو أن لك مثل هذه الأمور، الشهوات تجذب، وربما تجالسهم وتأنس بهم، ثم تكون النتيجة: تألف ما هم عليه، وتسير مثلهم فيما هم فيه من المعاصي.

    وكذلك إذا جالست أهل المعاصي، أصحاب الخمور، أصحاب السفر إلى بلاد الكفار للزنا وغيره، رافقهم تجد أنك تزل، وتجد أنهم يحببون إليك المعصية ويزينونها إلى قلبك نعوذ بالله، ولهذا كانت الشهوات خطراً، وأمرنا بالابتعاد عن هؤلاء.

    ذكر بعض أهل العلم من الأمور، قالوا: التمسك بميراث الآباء، ولا شك بأن هذا خطر عظيم أن يتمسك الإنسان بميراث الآباء والأجداد، وخاصة في مسائل الاعتقاد: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] ونعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: لما خلق الله الجنة والنار، قال الله لجبريل: انطلق إلى الجنة، فرآها، قال: والله لن يسمع بها أحد إلا دخلها يا رب! ورأى النار فقال: والله لا ينظر إليها أحد ويسمع بها إلا فر، فحف الله الجنة بالمكاره، وحف الله النار بالشهوات، قال الله لجبريل: انطلق إليها، ولما نظر إليها قال: والله لا أظن أحداً يدخل الجنة لما حفت بالمكاره إلا النادر، وما أظن أحداً يدخل النار إلا دخل النار بسبب ما وجد فيها من الشهوات التي حفت بها وتلك بالمكاره.

    ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب علينا أن نبتعد عن الشهوات، وأن نصبر على المكاره التي تصيبنا، أكثر من يدخل النار ولاشك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : (إن أقل ساكني الجنة النساء) ويحمل على هذا، ولذلك ثبت في الصحيح من حديث أسامة : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء) وبين النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الكسوف: (رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء) إلى غير ذلك من الأحاديث.

    قال العلماء: لأن المرأة ناقصة عقل ودين، ونقصان عقلها أنها سرعان ما تزل في بهرج الحياة الدنيا، إذا دخلت المرأة السوق ضاع عقلها نهائياً، والسبب لما تريده من زهرة الحياة الدنيا وغيرها وغيرها، ولهذا سبحان الله! ما أسرع ما تتأثر، وما أسرع ما تتغير، فإذا جالست صالحة تمسكت، وإن جالست فاسدة انحرفت، ولو كانت من أصلح الناس؛ نظراً لسرعة تأثرها ولضعفها، فلا تفكر في العواقب، ولميلها إلى الدنيا وزينتها وبهرجها، والنظر إلى عدم التفكير في عواقبها.

    صفة الكافر في الآخرة

    نجد الكفار المنكب عظم خلقه مسيرة ثلاثة أيام، والضرس مثل جبل أحد، ويكون غلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، وموضع جلوسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من موضع كذا إلى كذا، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما هم فيه من العقوبة، والعذاب، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عذاب أهل النار متفاوت وليس على مزية واحدة، وأهونهم عقوبة من يوضع تحت أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار.

    ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756369147