إسلام ويب

من حق إخوتنا عليناللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدعوة إلى الله تعالى والسعي في هداية الناس أمر مطلوب من المستقيمين على أمر الله تعالى، ويعين على القيام بهذا الأمر النظر في ثمرات هذا الجهد المبارك، والاطلاع على الجوانب المضيئة في حياة المنحرفين المدعوين، والتزود بحسن الخلق في جملة من الأمور المطلوبة من الداعية، ليصل بذلك إلى نيل رضا الله في دعوته وكسب قلوب العباد.

    1.   

    بيان ما يلزم الشباب المستقيمين تجاه إخوانهم المقصرين

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فكنا قد انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن هديه صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة، واتفقنا على أن نؤخر الحديث عن هديه العملي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولذا سيكون موضوعنا هذه الليلة بمشيئة الله تعالى بعنوان: (من حق إخواننا علينا). وهو امتداد للمحاضرة التي ألقيت يوم الأحد الماضي وكانت بعنوان: (عوائق الاستقامة)، فهي الجزء الثاني لهذه المحاضرة، والجزء الثالث سيكون بمشيئة الله يوم الأحد القادم بعنوان: (رسالة إلى شاب).

    وكنا قد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن الدراسة التي تم إجراؤها على مجموعة من الشباب غير الملتزمين، أو الذين لم يسلكوا طريق الاستقامة، وتحدثنا عن بعض نتائج تلك الدراسة، ووعدنا باستكمال عرض النتائج في هذا الدرس والمحاضرة التي تليها.

    وسيكون موضوع هذا الدرس مختصاً بالحديث عن واجب الشباب الملتزمين والأخيار تجاه إخوانهم أولئك الذين لم يسلكوا طريق الاستقامة، وسيكون الموضوع وفق العناصر الآتية:

    أولاً: من ثمرات اهتدائهم على يديك.

    ثانياً: جوانب مضيئة من سيرتهم.

    ثالثاً: قبل الدعوة.

    رابعاً: وبعد ذلك.

    1.   

    ثمار الدعوة إلى الله تعالى

    للداعي مثل أجور المهتدين على يديه

    أولاً: من ثمرات اهتدائهم على يديك:

    عندما يهدي الله سبحانه وتعالى على يديك أحد هؤلاء، فما الثمرة التي تجنيها من وراء ذلك؟ ولا شك أن هذا الأمر من الدواعي للشاب إلى أن يهتم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يهتم بدعوة هؤلاء والتأثير عليهم.

    الثمرة الأولى من ثمرات اهتداء هؤلاء على يديك: أن لك مثل أجورهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا) والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة .

    فهذا الشاب عندما يهديه الله على يديك لابد أن يكون له نصيب من الصلاة والصيام والصدقة والزكاة والاجتهاد في النوافل، وغير ذلك من أبواب الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فلك حينئذٍ مثل أجره، وقد تكون أنت مقصراً في العمل، وقد يكون لديك بعض الكسل والفتور، فلا تكون صاحب همة في الاجتهاد في الطاعة والنوافل، فيهدي الله على يديك من يكون أكثر منك همة، وأكثر منك تقوى لله سبحانه وتعالى، وورعاً وطاعة لله عز وجل، فيكتب الله عز وجل لك بذلك أجره.

    هداية رجل خير من حمر النعم

    الجانب الثاني والثمرة الثانية: أن هذا الأمر خير من حمر النعم:

    فقد أعطى صلى الله عليه وسلم الراية لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أرسله لقتال اليهود في خيبر بعد أن قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فأعطاها علياً رضي الله عنه، وقال له من ضمن من أوصى به: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، والحديث رواه الإمام أحمد والشيخان من حديث سهل رضي الله عنه.

    هذا الحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هداية أحد على يدي علي رضي الله عنه -والخطاب ليس خاصاً به، والحكم ليس خاصاً به- خير له من حمر النعم.

    وماذا تعني حمر النعم؟

    إنها تعني أنفس ما كان يملكه العرب في ذلك الوقت، الإبل تلك الرواحل التي كانوا يمتطونها، فهداية رجل واحد خير له من حمر النعم أنفس تلك الرواحل التي يحرص العرب على اقتنائها، بل لقد كان من قيمة الإبل عندهم أنهم كانوا يقدرون بها الدية، فدية الرجل عندهم مائة من الإبل، وكذلك دية الجروح والشجاج وسائر الديات إنما تقدر بالإبل؛ نظراً لقيمة الإبل عندهم.

    الكثير من الشباب في هذه المرحلة المبكرة يتمنى أن يحصل على سيارة، وتزداد الأمنية عندما تكون السيارة جديدة، ولم يستعملها أحد قبله، وكم يفرح ويسر بذلك عندما يتيسر له هذا الأمر، فكيف لو قيل له: إنا سنعطيك أنفس ما يمتطيه الناس من الرواحل، أنفس السيارات التي يقتنيها الناس ويفاخرون بها، فلا شك أن هذا الأمر خير لك من ذلك كله، هذا إذا كان رجلاً واحداً، فكيف إذا كان أكثر من ذلك؟!

    دعوة المهتدي لمن تسبب في هدايته

    الثمرة الثالثة: أنك لن تحرم دعوة صالحة يدعو لك بها من أنقذه الله على يديك من الظلمات إلى النور:

    فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مجابة، عند رأسه ملك يقول له: آمين، ولك بمثله.

    فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى على يديك بهداية أحدهم، فسيعرف لك هذا الفضل، وسيعرف لك ما قدمت له، ولن يبخل عليك بدعوة صالحة، بل قد تكون أنت متوسداً على فراشك، نائماً في فراشك، وهذا قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى في ثلث الليل الأخير حين يقول الله عز وجل: (من يدعوني فأستجيب له؟) فيدعو لك بدعوة صالحة من صميم قلبه، يكتب الله لك بها الخير إلى يوم تلقاه.

    الجزاء من جنس العمل

    الأمر الرابع والثمرة الرابعة: الجزاء من جنس العمل:

    قاعدة شرعية معروفة لسنا بحاجة إلى الاستدلال عليها والتمثيل لها، ولكن شاهدها عندنا هنا أنك لابد أن يكون لك بعد ذلك ذرية وأبناء بمشيئة الله عز وجل، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ومهما أوتيت من قدرات تربوية، ومهما كان عندك من الحرص والعناية والاهتمام، فإن الأمر يبقى بعد ذلك ليس إليك، التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.

    وكم نرى من الأبناء الذين يعتني بهم آباؤهم، ويحرصون عليهم، ويبذلون الغالي والنفيس لحمايتهم، ومع ذلك لا يوفقون، ونرى في المقابل من الآباء المعرضين الغافلين من كان لهم أبناء صالحون، متبعون لأمر الله سبحانه وتعالى.

    فلا شك أن التربية لها دور مهم، لا شك أن المناصحة والعناية والاهتمام له دور في صلاح الابن ورعايته، لكن يبقى بعد ذلك توفيق الله سبحانه وتعالى.

    فإذا كنت -يا أخي- تحمل هم أبناء الناس، وتسعى إلى إصلاحهم، ويؤرقك هذا الأمر، وتجتهد غاية الاجتهاد في استنقاذ هؤلاء من الضلال والانحراف، فلعل مما يكافئك الله سبحانه وتعالى به، ويجزيك الله عز وجل به، أن يجزيك من جنس عملك، فيصلح لك ذريتك وأولادك، وهي أعلى نعمة يجدها العبد في الحياة الدنيا، ولا تقدر بثمن أبدا رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].

    إن هذا الأمر يمثل امتداداً لعملك الصالح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

    فأقول: نتفاءل ونحسن ظننا بالله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد أخبر أنه عند حسن ظن عبده به، فحينما نجتهد في استنقاذ هؤلاء من الفساد في دعوتهم، ونبذل في ذلك نفيس أوقاتنا؛ سيقيض الله سبحانه وتعالى بعد ذلك لأبنائنا -ولو بعد وفاتنا- من يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ويستنقذهم.

    وقد تموت أنت وابنك لا يزال في المهد، وابنك لا يزال صغيراً، حينئذٍ من له بعد الله سبحانه وتعالى؟

    ولذلك أخبر الله عز وجل في قصة موسى والخضر لما أتيا المدينة واستطعما أهلها قال: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، ثم لما سأله عن تأويل ما لم يستطع عليه صبرا؛ أخبره عن هذا الجدار وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82].

    فهذان الغلامان كان أبوهما صالحا، وهما يتيمان قد مات أبوهما ولا شك، فحفظهما الله سبحانه وتعالى في مالهما لصلاح أبيهما، ولا شك أن الذي حفظهما في مالهما يعلم سبحانه وتعالى أنهما أحوج إلى أن يحفظا في دينهما.

    أقول: لعلك حينما تجتهد في هذا الأمر أن تجزى هذا الجزاء، أن يحفظ الله لك ذريتك، ويقيض الله لأبنائك وذريتك من ينظر إليهم بتلك النظرة التي تنظر بها إلى الناس، فالجزاء من جنس العمل.

    الدعوة إلى الله دليل شكر نعمة الهداية

    ثمرة خامسة أيضاً: أن ذلك من شكر النعمة:

    فلقد منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بالهداية، والتوفيق إلى سلوك طريق الخير، ولا شك أن الفضل أولاً وأخيراً له سبحانه وتعالى، اسمع إلى أهل الجنة ماذا يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

    فهؤلاء يحمدون الله سبحانه وتعالى على أن منَّ الله عليهم بالهداية، التي لم يكونوا -ولن يكونوا أبداً- ليحصلوا عليها دون توفيق الله عز وجل (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).

    فأنت سلكت طريق الهداية الآن، منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بطريق الهداية، وأنعم الله عليك بهذه النعمة، ولا شك أن هذه النعمة شأنها شأن سائر النعم الأخرى لها حق عليك، ومن حقها أن تشكرها، وأعظم شكر لهذه النعمة أن تنقل هذه النعمة إلى غيرك الذي قد حرمها، وأن تجتهد في دعوة هؤلاء إلى سلوك هذا الطريق الذي منَّ الله عليك بسلوكه، ولو شاء ربك لكنت مثل هؤلاء، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، وقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.

    فهذا الأمر فيه شكر للنعمة، وهو أحرى بأن يكون سبباً لتوفيق الله سبحانه وتعالى لك في الثبات على هذا الطريق طريق الهداية.

    ابن القيم رحمه الله له أبيات جميلة في نونيته في ذلك، يقول:

    واجعل لقلبك مقلتين كلاهما بالحق في ذا الخلق ناظرتان

    فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان

    وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهما إذاً نظران

    واجعل لوجهك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان

    لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن

    للداعية مثل أجر الداعية المهتدي على يديه

    الأمر السادس: وماذا لو كان داعية؟

    هدى الله على يديك شاباً معرضاً غافلاً، كان همه الأمور الساقطة، كان همه المعاصي، ثم بعد أن من الله عليه بالهداية أصبح شخصاً آخر، قد يكون خطيباً مفوهاً، يقول كلمة الحق ويستمع الناس إليه، قد يكون واعظاً يبكي القلوب، قد يكون داعية ينفع الله به الأمة، بل -ولا تستبعد هذا يا أخي- قد يكون مجدداً، أليس النبي صلى الله عليه وسلم أخبر (أن الله عز وجل يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينه)؟ فلماذا تستبعد ذلك يا أخي؟ قد تقول: أنا غير مؤهل للتجديد، لكن قد يكون هذا الذي يهديه الله على يديك مجدداً لهذه الأمة.

    ونعود مرة أخرى إلى ابن القيم رحمه الله ليسمعنا أبياتاً جميلة، يثني فيها على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما منَّ الله عليه بالهداية على يديه، فقال بعد أن تحدث عن ضلال أولئك الضالين، وما في كتبهم:

    يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان

    جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران

    حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني

    حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران

    أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان

    ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن

    ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجان

    ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي ما زال يشخب فيه ميزابان

    ميزاب سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيان

    ثم قال:

    فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان

    وقال أيضاً في موضع آخر لما أثنى عليه:

    فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني

    أعني أبا العباس أحمد ذلك البحر المحيط بسائر الخلجان

    ثم قال بعد ذلك:

    هذا ولو حدثت نفسي أنه قبلي يموت لكان غير هذا الشان

    مع ما كان للإمام ابن تيمية رحمه الله من دور بارز في تجديد العقيدة، مع ما له من أيدٍ بيضاء سطرها ابن القيم رحمه الله في ثنائه عليه، لكن انظر إلى ابن القيم رحمه الله الذي له مواقف وصولات مع المبتدعة أيضاً، وله مواقف أيضاً في نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وله مصنفات ما زال الجميع يعض عليها بالنواجذ، وها نحن في درسنا هذا نقرأ ونتفيأ كتاباً من كتبه التي كتبها في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ابن القيم رحمه الله في جهوده كلها ما هو إلا ثمرة من ثمرات توفيق الله سبحانه وتعالى لشيخ الإسلام ابن تيمية .

    فتخيل يا أخي -وهذا ليس بعيداً أبداً- أن الله عز وجل هدى على يديك شخصاً كان له دور في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، في خدمة الإسلام، قد يكون من الدعاة، بل قد يكون من المجددين ممن ينفع الله عز وجل بهم.

    قد تكون أنت طاقاتك محدودة، قدراتك العقلية محدودة، قدراتك العلمية محدودة، بل همتك محدودة، لكن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً صاحب همة، صاحب طاقة، رجلاً أعطاه الله عقلاً وقدرة، فيسخر طاقته لدين الله سبحانه وتعالى، لتعليم العلم، لطلب العلم، للدعوة إلى الله عز وجل.

    فكيف يكون سرورك وفرحك وأنت ترى في الحياة الدنيا عاجل ثمرة دعوتك؟! وأما ما عند الله سبحانه وتعالى فهو خير وأبقى.

    أقول: هذه بعض الثمرات التي يجنيها من رزقه الله هذه النعمة، ومن منَّ الله سبحانه وتعالى عليه فأنقذ عز وجل على يديه هؤلاء من الضلالة.

    إنقاذ الضلال من الهلاك

    وهناك ثمرة أخرى أيضاً لا تقل أهمية عن هذه، أنه قد أنقذ الله على يديك أحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في الطريق إلى الهاوية، كان في الطريق إلى الضلالة، بل قد يكون -عافانا الله وإياكم- في الطريق إلى الخلود من النار، فأنقذه الله عز وجل على يديك، هذه بحد ذاتها ثمرة تهون دونها تلك الثمار التي يجنيها من يضيعون أوقاتهم ويصرفونها هنا وهناك.

    1.   

    جوانب مضيئة من سيرة الشباب المنحرفين

    ننتقل بعد ذلك إلى النقطة الثانية، وهي: جوانب مضيئة من سيرتهم:

    لا شك أنه ظهر لنا من خلال الدراسة التي أجريناها -سواء الاستبيانات التي أجاب عليها الشباب، أو الدراسة الميدانية التي قمنا بإجرائها، والمقابلات الشفوية التي أجريناها معهم- ظهر لنا فعلاً أن هؤلاء يعيشون في عالم آخر، عالم آخر من الضياع والانحراف والغفلة لا نتصوره، مع إدراكنا لخطورة ما هم عليه، لكن كلما ازداد الأخ اطلاعاً على واقع هؤلاء عرف ذاك العالم الذي نغفل عنه وننساه.

    ننحن مثلاً لا نقابل في مثل هذه الدروس وفي هذه المحاضرات وفي لقاءاتنا إلا أولئك الذين منَّ الله عليهم بالهداية، أما تلك الأفواج التائهة الضائعة فلا نعرف عن حالهم شيئاً.

    أقول -أيها الإخوة-: مع تلك الجوانب السيئة التي برزت لنا، والتي ظهر لنا منها أمور خافية قد كانت غائبة عنا، أو -على الأقل- كنا لا نعطيها حق قدرها، مع ذلك كله هناك جوانب إيجابية عند هؤلاء، ولا أريد أن أتحدث عن عاطفة، بل عن أرقام وأمور وصلنا إليها من خلال الدراسة:

    عدم رضاهم عن حالهم

    فالجانب الأول من الجوانب المضيئة: عدم رضاهم عن حالهم:

    أكثر هؤلاء -مع أنه يتمتع بالشهوات، مع أنه يرخي لنفسه العنان- غير راضٍ عن حالته التي هو عليها، وجه لهم سؤال: ما مدى رضاك عن حالك الآن من الناحية الشرعية؟

    فـ (6%) فقط من طلاب المرحلة الثانوية قالوا: إنهم راضون تماماً عن حالهم، و(14%) من طلبة المرحلة المتوسطة قالوا: إنهم راضون تماماً.

    وأما البقية (94%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(86%) من طلاب المرحلة المتوسطة هؤلاء كلهم عندهم قدر من عدم الرضا يتفاوت.

    فـ (14%) من المرحلة الثانوية يقول: إنه متضايق جداً من حالته التي هو عليها، و(15%) من الفئة الثانية الذين منَّ الله عليهم بالاستقامة بعد أن كانوا في طريق الانحراف وجه لهم هذا السؤال: هل كنت راضياً -في وقت انحرافك- عن حالك؟

    فـ (15%) منهم أجاب بأنه كان متضايق جداً، و(30%) من طلاب المرحلة الثانوية أجابوا بأنهم غير راضين عن حالهم، و(32%) من الفئة الثانية أجابوا بأنهم غير راضين، و(22%) من المرحلة المتوسطة أجابوا أنهم غير راضين، و(51%).

    من المرحلة الثانوية أيضاً قالوا: إنهم غير راضين عن حالهم نوعاً ما، و(64%) من المرحلة المتوسطة أجابوا نفس الإجابة.

    الخلاصة: أن أكثر هؤلاء عنده قدر من عدم الرضا والقناعة بحاله التي هو عليها، ويتفاوت هذا الأمر، فبعضهم متضايق جداً، وبعضهم غير راضٍ، وبعضهم الأمر عنده دون ذلك، لكن غالبهم وعامتهم يشتركون في أنهم غير راضين بحالتهم التي هم عليها، ولا شك أن هذا الجانب إيجابي، يخدمنا أيضاً في دعوتهم، ويشعرنا أن هؤلاء لديهم قرب من الحق وطريق الاستقامة.

    رغبتهم في تغيير حالهم

    الجانب الثاني من الجوانب المضيئة في سيرتهم: رغبتهم في تغيير حالهم:

    عندما سئل: هل ترغب في تغيير حالك؟ كانت النتيجة أن (3%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(7%) من طلاب المرحلة المتوسطة فقط هم الذين قالوا: إنهم لا يرغبون في تغيير حالهم، أي: أن البقية يرغبون في تغيير حالهم، والنسبة تتفاوت فـ (46%) من طلاب المرحلة الثانوية رغبتهم أكيدة في تغيير حالهم، و(37%) من طلاب المرحلة المتوسطة رغبتهم أكيدة.

    نلاحظ تفاوت النسب بشكل واضح بين المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية، يعني: كلما تقدم الشاب في السن ازداد تعقلاً، وازداد إدراكاً لسوء الحال التي هو عليها، ومن ثم ازداد رغبة في تغيير واقعه.

    إذاً: فعامتهم وأكثرهم عندهم رغبة في تغيير حالهم، بل إن النصف من طلاب المرحلة الثانوية تقريباً لديه رغبة أكيدة في تغيير حاله التي هو عليها.

    تفكيرهم في الالتزام

    وهناك جانب ثالث -وهو قريب من هذا الجانب-: تفكيرهم في الالتزام:

    فـ (93%) من طلاب المرحلة الثانوية فكروا في الالتزام، و(92%) من طلاب المرحلة المتوسطة فكروا في الالتزام.

    إذاً: فأكثر هؤلاء ليست القضية تقف عند عدم قناعته ولا عند رغبته، بل قد فكر فعلاً في الالتزام، هؤلاء الذين فكروا في الالتزام (32%) منهم فكروا تفكيراً جاداً في الالتزام، و(71%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(74%) من طلاب المرحلة المتوسطة فكروا ثلاث مرات فأكثر، يعني: ليست القضية مجرد مرة واحدة ولا مرتين، بل قد فكروا أكثر من مرة بأن يسلكوا طريق الالتزام.

    و(49%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(34%) من طلاب المرحلة المتوسطة صنعوا خطوات عملية، يعني: تقدموا، ما توقفت القضية عند التفكير فقط، بل قد صنعوا خطوات عملية، وأجابوا بتلك الخطوات التي صنعوها، فمنهم من قال: أصبحت أحافظ على الصلاة، ومنهم من يقول: أصبحت أجلس في المسجد بعد الفجر في الإجازة، ومنهم من يقول: التحقت بأناس صالحين، يعني: ذكروا عدة خطوات سلكها هؤلاء، ومنهم من يقول: مزقت الصور، أحرقت الأفلام والأشرطة التي عندي، لكن لم يستطيعوا الثبات على ذاك الطريق الذي بدءوا في سلوكه.

    وفي دراسة أجراها الشيخ سلمان العودة أفادت الدراسة أن (99.5 %) من شباب الأرصفة يحب أن يكون متديناً.

    إذاً: فعامة هؤلاء عندهم رغبة في الالتزام، عنده وفي الاستقامة، وإن أبدى أحدهم لك ما أبدى، فداخله يعبر عن ذلك، هذه إجابتهم الصريحة كما أجابوا هم بها.

    شعورهم بأن الالتزام طريق السعادة

    ومن الجوانب المضيئة في حياتهم: أن أكثر هؤلاء يشعر بأن الالتزام طريق السعادة:

    فقد وجه لهم سؤال: هل تشعر بأن الالتزام طريق السعادة؟ والخيارات متاحة أمامهم: (نعم)، (لا أدري)، (لا).

    فالذين أجابوا بـ(نعم) (79%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(81%) من طلاب المرحلة المتوسطة قالوا: إنهم يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة.

    أما الذين أجابوا بقولهم: (لا أدري)، فهم (21%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(18%) من طلاب المرحلة المتوسطة قالوا: لا إنهم لا يدرون هل الالتزام طريق السعادة أم لا.

    أما الذين أجابوا بـ(لا) فهم (1%) من طلاب المرحلة المتوسطة، ونصف في المائة من طلاب المرحلة الثانوية، شخص واحد فقط من العينة في المرحلة المتوسطة، وشخص واحد فقط من العينة في المرحلة الثانوية يقول: إنني لا أشعر بأن الالتزام طريق السعادة.

    إذاً: أكثر هؤلاء عنده شعور بأن الالتزام طريق السعادة، ولا شك أيضاً أن هذا من الجوانب المضيئة، ومن الجوانب التي تخدم في دعوتهم، فلست بحاجة إلى مزيد من الجهد لإقناعه بأن هذا طريق السعادة، هو يشعر بذلك، لكن أن تحدثه عن السعادة التي وجدتها بعد استقامتك، أن تحدثه عن جوانب من تلك السعادة التي لا شك أنه مع إدراكه -يعني: مع أنه يدرك أن الالتزام طريق السعادة- لا يدرك ذلك تمام الإدراك.

    وسنتحدث عن هذا الجانب -إن شاء الله- في محاضرة الأحد عندما نتحدث عن الأجوبة التي وردت إلينا من الذين هداهم الله سبحانه وتعالى بعد أن كانوا على طريق الانحراف، سنشير إلى نماذج من ذلك.

    استجابتهم للنصيحة

    الجانب الخامس: استجابتهم للنصيحة:

    وجه لهم سؤال: هل وجه لك نصيحة شخصية؟

    فـ (88%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(85%) من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا بأنهم قد تلقوا نصيحة شخصية.

    ثم وجه لهم سؤال آخر: ما أثر هذه النصيحة عليك؟ هذه النصيحة التي وجهت لك ماذا كان أثرها عليك؟

    فـ (31%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(34%) من طلاب المرحلة المتوسطة -أي: عدد قريب من الثلث- أجابوا بأنهم استقاموا مدة محدودة.

    يعني: ما قبِلَ النصيحة ولا تأثر بها فقط، بل استقام فعلاً، لكنها مدة محدودة لم يستمر عليها.

    و(36%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(40%) من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا أنهم تأثروا تأثراً وقتياً، يعني: تأثر وقت توجيه النصيحة إليه.

    إذاً: فـ (67%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(74%) من طلاب المرحلة المتوسطة كان أثر النصيحة أثراً إيجابياً عليهم، إما أنه استقام مدة محددة، وإما أنه تأثر تأثراً وقتياً، وهي قضية نشاهدها -مثلاً- عندما نتحدث في الفصل مع الطلاب، ونوجه لهم نصيحة وموعظة، نشاهد في وجوه الكثير من هؤلاء التأثر، وتشعر فعلاً بالندم في وجهه، فكيف إذا كانت النصيحة نصيحة شخصية؟!

    وكلكم قد يكون مرت عليه تجربة، قد وجه نصيحة شخصية لأمثال هؤلاء، أظن أننا قد لمسنا هذا بأنفسنا، أنك عندما تناصحه نصيحة شخصية ومؤثرة؛ تجد فعلاً أن الرجل متأثر وتعرف ذلك في وجهه، مما يدل على أن استجابته لهذه النصيحة إيجابية.

    فـ (23%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(25%) من طلاب المرحلة المتوسطة يقول: شكرته ولم أستجب له. يعني: على أقل الأحوال عنده شكر وعرفان لهذه النصيحة وإن لم يستجب، هذا لا شك يعتبر جانباً إيجابياً، فأنت لما تنصح إنساناً ويثني ويشكر ويقدر، وتعرف أنه لم يستجب، تشعر على الأقل بأن جهدك لم يذهب سدى.

    أما الذين سخروا ممن نصحهم فأفاد (2%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(1%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم سخروا ممن وجه لهم النصيحة، وعندما تكون نصيحة جادة أخوية لا شك من النادر أن تجد من يسخر منك.

    إذاً: فهؤلاء يستجيبون للنصيحة، هؤلاء يسمعون النصيحة، تؤثر فيهم كما عرضنا، وكما نشاهده، وتعرفونه جميعاً من تجربتكم الشخصية، بل إنا عندما جلسنا مع بعض الشباب على الرصيف ووقفنا عندهم كانوا مؤدبين، كانوا يدخنون فأطفئوا الدخان، ورحبوا بنا، وجلسنا معهم، فعرضنا عليهم الموضوع، قلنا: نريد أن نتناقش معكم حول عوائق الاستقامة، ما الذي يمنعكم من سلوك طريق الاستقامة؟ ودخلنا معهم في النقاش، وأبدوا لنا الترحيب.

    بعد ذلك استأذنا منهم، فقال أحدهم: إنك قد جعلت هذه المحاضرة وهذا الموضوع عائقاً بينك وبين النصيحة، فكنا ننتظر منك أن توجه لنا نصيحة شخصية بعد ذلك، فلماذا لم توجه لنا هذه النصيحة؟ وكان حديثه محرجاً فعلاً، وطلبه محرجاً لنا.

    هذه دليل على أن هؤلاء عندهم رغبة وحرص، يتمنون أن يسلكوا طريق الاستقامة، بل يرحبون بالنصيحة، وأسوأهم حالاً من يرحب بك ترحيب مجاملة، ولا شك أن هذا يعطيك دافعاً أكثر.

    ونلاحظ من خلال النسب التي عرضنا أن استجابة طلاب المرحلة المتوسطة للنصيحة وتأثرهم بها أكثر من السابقين، مع أنهم أكثر جدية، لكن هؤلاء يسهل التأثير عليهم؛ لأنهم لم يغوصوا بعد في أعماق الفساد والشهوات.

    سماعهم الشريط الإسلامي

    الجانب السادس من الجوانب الإيجابية من حياة هؤلاء: سماع هؤلاء للشريط الإسلامي:

    وجه لهم سؤال: هل تسمع الشريط الإسلامي؟

    فأجاب (6%) من طلاب المرحلة الثانوية، و(5%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم لا يسمعون الشريط الإسلامي إطلاقاً، والبقية يسمعون سماعاً متفاوتاً، منهم من يسمع دائماً، ومنهم من يسمع كثيراً، ومنهم من يسمع نادراً، لكن يشترك هؤلاء جميعاً في أنهم يسمعون الشريط الإسلامي، بل أفاد أكثر هؤلاء أن أكثر الوسائل -التي يرونها- تأثيراً على الشباب هو الشريط الإسلامي.

    ولا شك أن هذا الجانب إيجابي يجب أن نعتني به، فإذا كان هؤلاء عندهم استعداد لأن يسمعوا الشريط الإسلامي؛ فهذا يعطينا فرصة ابتداءً لأن يخصص لهم حديث خاص، محاضرات خاصة لهؤلاء، خطب خاصة لهؤلاء، إصدارات خاصة موجهة لهؤلاء.

    ثم -أيضاً- نسلك معهم وسيلة أخرى، وهي نقل الشريط الإسلامي، إهداء الشريط الإسلامي، توزيع الشريط الإسلامي على هؤلاء، فالكثير من هؤلاء يسمع الشريط الإسلامي، ولا شك أنه سيتأثر به كما أفاد أكثر من (60%) أنهم يتأثرون عندما يسمعون الشريط الإسلامي.

    وهذه رسالة نوجهها إلى أصحاب التسجيلات: أن يعتنوا بهذا الجانب، وأن يعتنوا بهذه النوعية من الشباب، وكذلك نوجهها إلى مشايخنا وأساتذتنا من العلماء والدعاة: أن يعتنوا بهؤلاء، ويقدموا لهم مادة تستحق التقديم، فإذا كان هؤلاء عندهم استعداد لأن يسمعوا الشريط الإسلامي، فما نسبة المادة الموجهة لهم من المواد المعروضة في التسجيلات؟

    لا شك أن المحاضرات والخطب التي تأخذ الجانب الوعظي تناسب هؤلاء، لكن هل يجد هؤلاء حديثاً واقعياً؟! حديثاً فيه نقاش عقلي لمشاكلهم، ومحاولة في الحديث عن مشاكلهم الخاصة، وعما يواجهونه من عقبات، والاهتمام بهم، فمجرد شعورهم بالاهتمام بهم كافٍ بحد ذاته، وقد أبدى لنا الكثير من هؤلاء الشباب شكره على اهتمامنا به، وأبدى لنا شكره على توجيه مثل هذه الأسئلة والاستبانة التي تشعر بالاهتمام والعناية بشأنهم.

    موقفهم الإيجابي تجاه الشباب الملتزمين

    الجانب الإيجابي السابع من مواقف هؤلاء: موقفهم من الشباب الملتزم:

    لقد فوجئنا فعلاً بنتيجة ما كنا نتوقعها من موقف هؤلاء من الشباب الملتزمين، ولعلي أشرككم في شيء مما لمسته من ذلك، فقبل ذلك نشير إلى دراسة الشيخ سلمان العودة التي وصل فيها إلى أن (10%) فقط من أفراد العينة لا يحب الشباب المتدينين، أما (70%) فهو يحبهم، و(20%) يقول: إنه يحب المعتدلين من هؤلاء فقط.

    كان من الأسئلة الموجهة لهم: كلمة توجهها إلى كل من: الأب، الأستاذ، الداعية، الشاب الملتزم؟

    وسأقرأ عليكم بعض الكلمات التي وجهها هؤلاء للشباب الملتزمين، وفي الواقع لا أستطيع أن أقرأ كل ما ورد علي، لكن سأقرأ بعض ما اخترته من عباراتهم التي هي نموذج للشعور الذي يملكونه تجاه الشباب الملتزمين.

    يقول أحدهم: أن يحمدوا الله على الهداية.

    يقول الآخر: تقديم النصيحة لغير الملتزمين مرة ومرة.

    والكثير من هؤلاء رسالته للملتزمين: أن ينصحوا إخوانهم غير الملتزمين، وأنا بدوري أنقل هذه الرسالة لكم.

    ومن ذلك أيضاً: ترك العزلة، والأنانية، وكسر الحواجز بينهم وبين غير الملتزمين، فهو يرى أنك عندما تستأثر بهذا الخير لوحدك وتبتعد عن هؤلاء، أنك تملك قدراً من الأنانية، فينبغي أن تشركهم في هذا الخير الذي بين يديك.

    والآخر يقول: أن يكونوا قدوة صالحة، ويدركوا أهميتهم.

    وآخر -أيضاً- يقول: أن ينظر أمامه، ولا يبالي بمن يسخر منه، فهو أفضل منه.

    والآخر يقول: أن يتحملوا كل ما يقال لهم، ويصمدوا، ويكونوا خير مثل.

    وآخر يقول: جزاهم الله خيراً، لا أقترح عليهم شيئاً؛ لأنهم قائمون بواجبهم التام.

    والآخر يقول: أتمنى أن أكون مثلهم.

    والآخر يقول: هم قدوتنا نحو الصلاح.

    وآخر يقول: أشكركم على ما فعلتم بي.

    وآخر يقول: محاولة أن يكون لهم كيان، ويؤثروا على غيرهم.

    وآخر يقول: نسأل الله أن يثبتهم، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.

    وآخر يقول: إن العيون موجهة إليكم، عيون أهل الشر، وعيون أهل الخير، فكونوا على أهبة الاستعداد.

    وآخر يقول: زوروا الشباب غير الملتزمين، ووجهوا إليهم النصيحة. وهذه الكلمة تكررت أكثر من مرة.

    وآخر يقول: كونوا على جانب كبير من الأخلاق والتعامل للتأثير في غيركم.

    وآخر يقول: عدم التفكير في الرجوع إلى ما كانوا عليه.

    وآخر يقول: الإصرار والعزيمة، وأن يعرفوا أنهم على حق، ولا يهتموا بكلام الناس.

    وآخر يقول: كم أسر عند رؤيتكم يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي !

    هذا بعض ما وصلنا من مشاعر لهم تجاه الملتزمين، صحيح أن بعضهم انتقد، صحيح أن بعضهم ذكر جوانب سلبية، لكن أكثر هؤلاء ذكروا عبارات مثل هذه، والوقت لا يتسع للاستطراد في ذكر جميع العبارات التي حكاها هؤلاء.

    المهم أن هذه العبارات على اختلاف مجالاتها واتجاهاتها يجمعها أمر واحد، وهو أنهم يحبون الشاب الملتزم، يثقون به، لهم شعور تجاه هذا الشاب إيجابي، ولا شك أن هذا الأمر يخدمك كثيراً عندما تشعر بأن هؤلاء يحبونك، وإن أبدوا ما أبدوا من السخرية والاستهزاء، فهذه وسيلة للاعتذار؛ لأنه يشعر بالتقصير، يشعر بالإهمال، فيحاول أن يعبر أو يدافع عن نفسه بالسخرية والاستهزاء، وغالباً لا يسلك منطق السخرية والاستهزاء إلا الشخص الذي ليس عنده قناعة بالطريق الذي هو عليه، أما صاحب القناعة فلا يمكن أن يسلك هذا الطريق.

    1.   

    أمور مطلوبة قبل الدعوة

    حسن الخلق أثقل ما في الميزان

    ثم بعد ذلك نصل إلى النقطة الأخيرة -وأظنها من أهم ما نتحدث عنه-، وهي: قبل الدعوة:

    الجانب الأول: حسن الخلق أثقل ما في ميزانك:

    فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عظم حسن الخلق، وأخبر أنه ما من عمل أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وأخبر صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن أحب الناس إليه أحاسنهم أخلاقاً.

    والحديث عن فضل حسن الخلق حديث يطول، لكن لا شك أن لحسن الخلق والتعامل والبشاشة وطلاقة الوجه مع هؤلاء وغيرهم أثراً كبيراً في دعوتهم واستجابتهم وتأثرهم بك، بل قد يكون سبب تأثرهم ليس دعوتك وحدها، بل حسن خلقك، قد يكون حسن خلقك فقط داعياً لأن يتأثر هؤلاء ويستجيبوا.

    وكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم بسبب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، بسبب موقف واحد حين رأى منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، وهذه قضية سنتحدث عنها -بمشيئة الله- فيما نستقبل من الدروس عندما نتحدث عن هديه صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق، وعن شمائله.

    حمل الكل وإكساب المعدوم هدي رسول الله

    الجانب الثاني: حمل الكل وإكساب المعدوم من خلق نبيك صلى الله عليه وسلم:

    تقول خديجة رضي الله عنها لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها يشتكي فزعاً بعد شدة الوحي: والله! لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.

    لقد كانت هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقري الضيف، وكان يكسب المعدوم، وكان يعين على نوائب الحق، ولنا قدوة فيه صلى الله عليه وسلم وأسوة حسنة، فهو قدوتنا صلى الله عليه وسلم وأسوتنا.

    ولقد كان لهذه الأخلاق -كما قلت- عظيم الأثر وبليغ الأثر في استجابة الكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له.

    أهمية استغلال مواقف السير بالسيارة

    الجانب الثالث: وأنت في السيارة:

    قد تحصل لك مواقف كثيرة وأنت في السيارة تستطيع من خلالها أن تشعر الناس بأنك تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق.

    فهناك موقف يحصل كثيراً عند التقاطعات، أو في طرق ذات أفضلية، عندما تفسح الطريق لأحد المارة لا شك أنك تراه مباشرة يلوح لك ويشير لك بيده يعبر لك عن الشكر والثناء والتقدير، أما ما في قلبه فهذا أمر لا تعلم عنه شيئاً.

    فماذا لو كان خلقنا هكذا؟! وماذا لو كان هؤلاء يعرفون أننا نقدمهم، ونفسح لهم في الطريق، ويعرفون منا حسن الخلق والمعاشرة؟!

    وهناك موقف آخر قد يحصل: تسير بسيارتك فترى شخصاً قد تعطلت سيارته، قد يكون عطلاً يسيراً، قد يكون عطلاً في إطار السيارة، وقد يكون عند خزان الوقود، المهم أن يكون عنده عطل يسير، فعندما تقف وتسلم عليه وترحب به، ثم تعرض عليه مساعدتك وخدمتك، قد يطلب منك المساعدة والخدمة فعلاً، وقد يشكرك ويفيدك بأنه لا يحتاج لذلك، فهو بانتظار من سيأتيه، أو قد أصلح هذا العطل الذي حصل له، أو قد تكون أنت لا تستطيع هذا الأمر فتعتذر منه.

    فما أثر ذلك على هؤلاء؟! أليس هذا -أيضاً- من خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟

    أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة)؟! هذا من الصدقة، ومن الأمر الذي تؤجر عليه.

    ولو كان هؤلاء قد اعتادوا أننا دائماً الذين نقف لهم، ودائماً نعينهم، ودائماً نشعر بشعورهم، لأثر ذلك عليهم، يعني: قد يكون هو يسخر منك، وقد يكون يهزأ بك، فإذا بك تقف وتعرض عليه المساعدة فعلاً، وتساعده مساعدة جادة، لا شك أن مثل هذه المواقف وحدها كفيلة بأن تعطيه صورة أخرى، بل قد يكون هذا الموقف وحده سبباً في هدايته، أن يعلم أنك إنسان تحمل منهجاً، وأنك إنسان رباك هذا الأمر.

    وكم يكسب الناس بخلقهم؟! أحياناً قد يخطئ عليك إنسان، فيسيء إليك، فتهم بشتمه أو سبه أو عقوبته، فيعتذر منك اعتذاراً حاراً، فتصدم ولا تستطيع بعد ذلك أن تقول كلمة واحدة، فكيف إذا لم يرتكب ضدك أي خطأ؟!

    أثر الطالب في فصله الدراسي

    الجانب الرابع: وأنت في الفصل الدراسي:

    في الفصل لا شك أنه يكون لك زملاء من أمثال هؤلاء، وتحصل مواقف كثيرة أيضاً من المواقف الشبيهة بما أشرنا إليها، فمثلاً: قد يحتاج إلى أي مساعدة معينة، يعني: مساعدة مشروعة، وقد يكون عنده مشكلة، وقد يكون عنده مسألة -مثلاً- في المنهج ما فهمها، والغالب أن أمثال هؤلاء يكون مهملاً في الدراسة، وقد تكسبه بحسن خلقك، وقد تؤثره على نفسك عندما تأتي وتجده قد جلس في مقعدك.

    فعندما تتخلق بهذا الخلق وأنت في فصلك الدراسي، فما أثر ذلك على زملائك في الفصل؟! ما أثر ذلك عندما يشعر جميع طلاب الفصل بأنك أنت الإنسان المتميز بحسن الخلق، والمتميز بقضاء حوائجهم، والمتميز بالنصح لهم، والمتميز بالعفو عن زلاتهم، والمتميز بكل ذلك؟! لا شك أنك تعطي صورة مضيئة فعلاً، وكأنك تقول بلسان حالك -ولو لم تقل لهم شيئاً-: هذا هو الطريق الذي أريدكم أن تسلكوه.

    ومهما اختلفت أفكار الناس واتجاهاتهم فإنهم يجمعون جميعاً على محبة صاحب الخلق، ويجمعون جميعاً على أن يجدوا في قلوبهم المنة لمن أحسن إليهم، حتى الناس أصحاب الأخلاق السيئة، وحتى الناس أصحاب الشراسة، يتفقون جميعاً على تقدير صاحب الخلق الحسن، ولا يجرؤ أحد منهم على أن يسيء إلى صاحب الخلق الحسن أبداً، فإذا كان الشاب متميزاً في فصله، يعرفه طلاب الفصل جميعاً، ويعرفه الأساتذة، وتعرفه إدارة المدرسة بأنه صاحب الخلق الحسن، وصاحب المواقف الحميدة، وصاحب الاعتذار قبل أن يخطئ، عندما يعرف عنه ذلك هؤلاء، فإنه قبل أن ينصح هؤلاء سيكون له دور، فما بالك إذا وجه نصيحة أو وجه كلمة؟! كيف سيكون أثرها؟!

    لا تنتظر ثمرة إحسانك

    الجانب الخامس: -وهو مهم ومرتبط بما قلناه-: لا تنتظر ثمرة إحسانك:

    عندما تقدم إحساناً لهؤلاء من حسن خلق، أو عفو، أو صفح أو غير ذلك؛ لا تنتظر ثمناً لذلك، بل ليس من الضرورة أن تربطه بالنصيحة، يعني: عندما آتي -مثلاً- وأجد شاباً عليه آثار انحراف، وأجده قد تعطل في الطريق وأقف له وأعينه، ليس بالضرورة أن أوجه له النصيحة، فعندما يجد مني أني عندما أقدم له خدمة لابد أن أقابلها بالنصيحة قد يشعر بأن هذا ثمن للنصيحة، وإن كان في الواقع لن يتضايق من النصيحة، لكن يجب أن يشعر بأني أتخلق بحسن خلقي لذاتي؛ لأن هذا حسن خلق أمرنا به الإسلام، وهذا خلق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، الذي ما رئي أحسن منه صلى الله عليه وسلم خلقاً، الذي يقول عنه حسان رضي الله عنه:

    وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء

    خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

    وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء

    وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء

    هذه هي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وما عرفت الدنيا أبر وأطهر وأحسن خلقاً منه صلى الله عليه وسلم بآبائنا هو وأمهاتنا.

    فأقول: يجب أن يعرف الناس عنك أنك تتخلق بحسن الخلق لا لأجل أنك تكسب الناس فقط، بل تتخلق بحسن الخلق؛ لأنك تعلم أن هذا هدي نبيك صلى الله عليه وسلم، ولأنك تعلم أن حسن الخلق يبلغ به العبد ما لا يبلغ الصائم القائم، ولأنك تعلم أن أقرب الناس وأحبهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة وأحبهم إليه أحاسنهم أخلاقا، ولأنك تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم لك ببيت في أعلى الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).

    أقصد من ذلك كله أنه مع هذه الآثار التي تحصل لحسن الخلق من محبة الناس، وهي آثار تجدها في الدنيا قبل أن تجدها في الآخرة، ومع هذه الآثار وهذه النتائج التي تجدها في دعوتك لا يكون همك في حسن الخلق هو هذه الآثار والنتائج فقط، لا، بل أنت تتعبد لله بحسن الخلق الذي طبع عليه نبيك صلى الله عليه وسلم، وأمرك به، ورتب على ذلك الأجر العظيم، بل النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الإنسان بأن يعود نفسه فيقول: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).

    تنازل عن بعض حقوقك

    الجانب السادس: تنازل عن بعض حقك:

    تحكي لنا عائشة رضي الله عنها صورة من هديه صلى الله عليه وسلم فتقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً في مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان من أشدهم على ذلك غضبا، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً) الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي في الشمائل.

    فهو صلى الله عليه وسلم لم ينتصر في مظلمة لنفسه ظلمها قط، إنما ينتصر عندما تنتهك محارم الله عز وجل.

    وتقول أيضاً في وصف آخر له صلى الله عليه وسلم: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي في سننه، ورواه الترمذي -أيضاً- في الشمائل المحمدية والطيالسي .

    وكلنا يحفظ تلك الصورة المثلى من خلقه صلى الله عليه وسلم التي يحكيها أنس رضي الله عنه، يقول: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فجاءه أعرابي، فجبذه بردائه؛ حتى أثر الرداء في صحفة عنقه، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليه وابتسم، ثم أعطاه حتى رضي).

    أقول -يا إخوان-: قد يساء إليك، وما أكثر ما يسيء إليك هؤلاء، ولا شك أن الذي أساء الأدب مع الله عز وجل، وأن الذي يتجرأ على محارم الله، لابد أن يسيء الأدب مع خلق الله عز وجل.

    أقول: لابد أن يأتيك من ذلك إساءات، ولابد أن يأتيك تجاوزات من هؤلاء، قد يسخر منك، وقد يظلمك، وقد يأخذ بعض حقك.

    المهم أنه قد تحصل لك إساءة، فتنازل -يا أخي- عن بعض حقك، ويجب أن تتميز بأنك الرجل الذي تتنازل عن حقك، تحلم، وتعفو، وتكظم الغيظ، وتصفح، تلك الأخلاق التي تعلمتها وأنت تقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134].

    بل إن عفوك وصفحك وتنازلك عن حقك الغالب أنه يعيد إليك الحق، فلو سخر منك وقابلت ذلك بالإحسان؛ فإنه لابد أن يعرف أن هذه يد لابد أن يجزيك بها، ولو أساء إليك بأي إساءة أخرى وقابلت هذه الإساءة بالصفح والإحسان والعفو؛ لحفظ هذا الجميل لك، وستلقاه بعد ذلك عاجلاً، وأنت لا تبحث عن الجزاء العاجل، إنما تسلك ذلك استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، واقتداءً بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم الذي كان كثيراً ما يعفو صلى الله عليه وسلم، بل تحكي عنه زوجه أقرب الناس إليه أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ينتصر لمظلمة ظلمها قط عليه أفضل الصلاة والسلام، وما يكسب الناس مثل الحلم، وما يكسب الناس مثل الصفح والعفو والتنازل عن الحقوق.

    1.   

    أمور يلزم التنبه لها

    الحذر من قياس الأمور بمقياس واحد

    وبعد ذلك ننبه على بعض الأمور:

    أولها: احذر من القياس على رأس الديك:

    هذا مثل طريف يحكونه، وهو أن أحد الناس غير المبصرين عاد إليه بصره، فرأى رأس الديك، ثم بعد ذلك فقد بصره، يعني: ما رأى في الدنيا إلا رأس الديك، فصار كلما قيل له شيء، فقيل له عن الجبل، قال: وماذا يكون من رأس الديك؟! قيل له عن الفيل، قال: وماذا يكون من رأس الديك؟! يعني: كل شيء يقارنه برأس الديك، ما عنده إلا نظرة واحدة.

    وأقول: يجب أن يكون عندنا سعة أفق، وألا نعرف الأسلوب الواحد فقط، أحياناً يجرب أسلوب فينجح، أو طريقة معينة فتنجح، فنسلك نحن جميعاً هذا الأسلوب، فيجب أن يكون عندنا تنويع في أساليب الدعوة، وتنويع في الخطاب، وابتكار.

    اقرأ القرآن -يا أخي- تجد القرآن ينوع الموعظة، مرة يذكر ما يحصل لأهل النار من عذاب، ومرة يذكر نعيم أهل الجنة، ومرة يذكر مخلوقات الله سبحانه وتعالى والتفكر فيها، ومرة قصص الأولين والسابقين، وهكذا تجد الموعظة في كتاب الله سبحانه وتعالى قد جاءت متنوعة على أنحاء شتى.

    والنبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى دعوته صلى الله عليه وسلم، فهو -مثلاً- لما أتاه الوليد بن المغيرة ماذا قال له؟

    قال: اسمع، فقرأ عليه القرآن.

    ولما أتاه أعرابي أعطاه مالاً، فأسلم لأجل المال، كما قال أنس : فلقد كان الرجل من الأعراب يسلم ما به إلا حب الدنيا، ثم ما يلبث أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

    لما جاء إليه ضماد وكان رجلاً كاهناً قال له صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له).

    ولما جاء عدي بن حاتم وهو ملك قال: (أترى الحيرة؟ قال: نعم. سمعت عنها ولم أرها، قال: يوشك أن تسير الظعينة من الحيرة فتطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، قال: أتعرف كسرى بن هرمز ؟ قال: نعم. قال: يوشك أن تنفق كنوزه في سبيل الله، ثم قال: ويوشك أن يعطى المال فلا يقبله أحد، فيقول عدي رضي الله عنه: فلقد رأيت اثنتين وأنا انتظر الثالثة).

    المهم أن عدياً رضي الله عنه كان ملكاً، ولذلك خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يناسبه، وهكذا تأمل في السيرة، اقرأ في أحداث السيرة، وانظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس، أحدهم يقرأ عليه القرآن، والآخر يعظه، والآخر يناقشه نقاشاً عقلياً، والآخر يعطيه مالاً، ينوع الأساليب صلى الله عليه وسلم التي تتناسب مع الناس.

    فأقول: نحن بحاجة أيضاً إلى أن نسلك نفس الهدي الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرنا إلى هذه القضية بالتفصيل عندما تحدثنا عن هديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة.

    فأقول: نحن بحاجة إلى أن ننوع الأساليب، ونبتكر الوسائل والأساليب التي تؤثر على أمثال هؤلاء.

    الحذر من اليأس من المدعوين

    ثانياً: اليأس داء قاتل:

    قد توجه النصيحة، وقد تبذل الجهد، ثم لا يستجاب لك؛ فتيأس، نحن نريد منك أن تكون كما كان نوح عليه السلام، يقول في دعائه لما دعا على قومه: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27].

    إنه لما يئس يأساً تاماً من قومه أصبح يؤمل في أولادهم، حتى يئس من أولادهم، فقال: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، وقد ظل يدعو قومه عليه السلام خمسين وتسعمائة سنة.

    والنبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين قال: (لا؛ لعل الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله).

    فأقول: لا تيأس أبداً، فلمجرد كلمة، أو كلمتين، أو نصيحة، أو جهد محدود تيأس وتقول: لم يستجب؟! يجب أن تأخذ من أنبياء الله ومن الدعاء السابقين العزيمة والإصرار والهدي الذي كانوا عليه، وهب أنه لم يستجب لك، وهب أنه لم يسمع لك، فلا تظن أبداً أن هذه الكلمة التي قلتها لله عز وجل ستذهب سدىً، فإن العبد قد يتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، أو يرفعه الله بها درجات.

    مهد الطريق لغيرك

    ثالثاً: قد تمهد الطريق لغيرك:

    يعني: قد تنصحه ولا يستجيب، وقد تسلك معه أسلوباً ولا ينجح هذا الأسلوب، لكن لا يعني هذا أن القضية ذهبت سدىً، لا، فقد تكون أنت بهذا الأسلوب وبهذا النصيحة وبهذه الدعوة قد مهدت الطريق لمن يليك، يعني: أوجدت عنده إحساساً وشعوراً، فيجيء الذي بعدك فيوجد عنده نفس الشعور، حتى تتكامل الجهود، وليس بالضرورة أن يستجيب لنصيحة واحدة، فلما تتكرر عليه النصائح، ولما تتكرر عليه الأساليب، فيجمع هذا مع رصيده السابق، حتى يكون ذلك سبباً في هدايته، فيكون لك أنت دور في هدايته وإن لم تكن أنت السبب المباشر في هدايته، فإنك قد صنعت خطوة على الأقل ولو خطوة محدودة في ذلك.

    بين حسن الخلق ومجالسة المنحرفين

    بقيت نقطة أخيرة أرجو الانتباه لها؛ لأنها أحياناً تكون عائقاً عما قلناه قبل قليل من ضرورة حسن الخلق والبشاشة والطلاقة مع هؤلاء، وأيضاً قد يفهم ما قلناه فهماً سلبياً، فيتجاوز بعض الشباب في ذلك، وهي: بين ترك الجليس وحسن المعاملة:

    نعلم جميعاً أثر الجليس السيئ، وأن الشاب يجب أن يجتنب هذا الجليس، وأن يحذر منه ولا يجالسه، وندرك جميعاً خطر هذا علينا خاصة في مرحلة الشباب ونحن في مقتبل العمر، وأن الكثير من الشباب الذي ينحرف بعد أن هداه الله قد يكون سبب ذلك أمثال هؤلاء الجلساء.

    فحينئذٍ يتساءل بعض الشباب فيقول: هل تريدني أن أجلس مع هؤلاء وأعاشرهم حتى يهديهم الله سبحانه وتعالى، أم غير ذلك؟

    أنا أقول: يجب أن نفرق بين قضيتين: بين قضية البشاشة وحسن الخلق والتقدير، وبين قضية الجلوس معهم، فمثلاً: ما الذي يمنع أن تبدأ بالسلام وتبتسم، ثم بعد ذلك تودعه وتنصرف؟ ليس بالضرورة عندما نقول: كن حسن الخلق معه أن تقضي الوقت معه، فهذا زميلك في الفصل أو في المدرسة من هؤلاء وغيرهم عندما تلقاه تبدأه بالسلام وتبش له وتبتسم له وتصافحه، ثم بعد ذلك تودعه.

    فلا يعني بالضرورة عندما نطالبك بحسن الخلق أن تقضي وقتك معهم، بل أنا لا أدعو الشباب إلى ذلك، خاصة في هذه المراحل الأولية، فلا أدعو الشاب إلى أن يقضي وقتاً طويلاً مع أمثال هؤلاء، فإنه قد يتأثر من حيث يريد أن يؤثر، يعني: يمكن أن تناصحه، وأن تدعوه مع إخوانك الطيبين إلى مجالات الخير، لكن لا تقضي وقتك معهم، أو لا تذهب وحدك مع هؤلاء فتكون وحيداً، فإنك قد تتأثر بما عند هؤلاء، وقد يستجرك الشيطان بحجة الدعوة والتأثير عليهم خطوة خطوة حتى تقع في فخ هؤلاء، فتصبح بعد ذلك تجالسهم حباً لما عندهم، بل قد ينتقل الأمر بعد ذلك إلى أن تجالسهم حباً لممارسة الشهوات التي يمارسونها.

    لذا أرجو أن تفهم هذه القضية جيداً، ففرق بين حسن الخلق والطلاقة والبشاشة، وبين ترك مجالستهم، وأظن أن قضية ترك مجالستهم ومعاشرتهم لا تعني أن تكون مكفهر الوجه، لا تؤدي عليهم السلام، ولا تحسن الخلق معهم، فإن هؤلاء مسلمون، عندهم جوانب خير وجوانب طاعة، ولهم من الولاء -على الأقل- بقدر ما عندهم من الإسلام.

    وقد جاء رجل فاستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فلما خرج الرجل سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب هذا التغير، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ! شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه)، والحديث رواه البخاري وغيره.

    فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بئس أخو العشيرة)، ومع ذلك يحسن معاملته والبشاشة له، ففرق بين الأمرين، يحسن معاملته اتقاء فحشه، فمن يحسن معاملة صاحبه رجاء هدايته ورجاء أن يهديه الله على يديه أولى من ذلك، أو -على الأقل- أظن أن هذا الحديث يدلنا على مشروعية حسن الخلق، وحسن معاملة هؤلاء، وإن كان عندهم ما عندهم من الفسوق والعصيان، فنحسن معاملتهم، ونشعرهم بأننا نحبهم، ونحب جوانب الخير فيهم، وإن كنا نكره ما عندهم من المعصية، وإن كان عندنا -لا شك- شعور بقدر من الكره والبراءة مما هم فيه من العصيان، ومع ذلك تبقى قضية الولاء، فهو يقول: لا إله إلا الله، فهو يصلي، ويحب أهل الخير، وعنده جوانب من الخير يجب أن يمنح الحب لأجلها، ومع ذلك قضية حسن المعاملة وحسن الخلق أمر آخر، فأرجو أن يفهم ما قلته حتى لا يلتبس على الإخوة.

    1.   

    الأسئلة

    اقتراح بإضافة درس

    السؤال: هذا طلب من أحد الطلاب المحافظين على الدرس يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اقترح عليك -أيها الشيخ حفظك الله، وأنا مصر على هذا الاقتراح- أن تضيف درساً على درسك يوم الثلاثاء في هديه صلى الله عليه وسلم، وأظن أن يوم السبت مناسب لهذا الدرس إنني مصر على هذا الاقتراح، وأرجو رجاءً حاراً أن تلبيه، وأرجو من المحاضرين أن يوافقوا، ولا أنسى أن أحرضهم على طلب العلم، وهم أعلم مني بذلك، ضع الاقتراح اليوم، وفي الدرس القادم خذ ما يقترحون بعد أن يكتبوه على أوراق، أرجو رجاءً حاراً أن تلبي طلبي، أرجو ذلك؟

    الجواب: على كل حال لا شك أن الأخ وغيره من الشباب الذين يحضرون هذا الدرس لهم قدر ومكانة في قلوبنا، وما يطلبه له قيمته، لكن قد لا نستطيع هذا الأمر، فكفانا مئونة أن نقوم بهذا الدرس، ولنفترض أنني أقمت درساً آخر، فأظن أنكم قد تخسرون، فإني عندما يكون لي درسان في الأسبوع قد يقل حضوركم، فلما يكون هناك درس في الأسبوع يكون ذلك أسهل، هذا أمر.

    الأمر الثاني: أنه عندما يكون درس واحد يستطيع الأخ أن يتفرغ له، ويعتني بالتحضير والأعداد، بخلاف ما لو كان هناك درسان في الأسبوع، وعلى كل حال -مع تقديري للأخ الكريم- فالاقتراح غير قابل للتنفيذ في هذا الوقت.

    توجيه لاحتواء من لا يحمل جنسية بلاد الداعية

    السؤال: هناك بعض الأجانب يلتزم، ولكن يبحث عن رفقة صالحة فلا يجد أحداً، فما الحل -يا ترى- في ثباتهم على هذا الدين؟

    الجواب: هذا المصطلح يجب أن نزيله، حيث يقصد بالأجانب الذين هم ليسوا من هذه البلاد؛ لأن الحدود الجغرافية هذه أمور وضعها الاستعمار، ولا ينبغي أن تؤثر علينا في تقييمنا، وفي موازيننا، وفي محبتنا وكراهيتنا.

    أقول: الحل واضح: أن ينظم إلى رفقة صالحة، ولا يجوز أبداً أن نتخلى عن فلان من الناس بحجة أنه ليس من أهل هذه البلاد، فهذا الدين ليس لهم وحدهم، وليسوا هم المكلفين بالدعوة، بل العرب والعجم كلهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى.

    تذكير للشباب الملتزمين بنعمة الهداية

    السؤال: سرنا ما ذكرته من إحصائيات عن محبة الشباب المنحرفين الالتزام، وشعورهم بأنه طريق للسعادة، فهل من كلمة لنا نحن -الشباب- بألا نفرط فيما نحن فيه من خير؟

    الجواب: نعم، لا شك أنك عندما تعلم أن هؤلاء الذين يعيشون الانحراف منغمسين في الشهوات ضائقون ذرعاً مما هم عليه، وأنهم قد فقدوا السعادة، وأنهم يشعرون ويتمنون أن يسلكوا طريق الالتزام والسعادة، لا شك أن هذا يزيدك ثباتاً، بل قرأت عليكم بعض رسائلهم، فأحدهم يقول: لا تفكر في أن تعود إلى ما كنت عليه سابقاً. أثبت على ما أنت عليه. نسأل الله لك الثبات.

    فهذا يزيدك -ولا شك- ثباتاً، ويزيدك قناعة بالطريق الذي أنت عليه، وإن كان لا ينقصك القناعة، لكن لماذا تريد أن تتمتع بالشهوات؟! هؤلاء قد متعوا أنفسهم بما شاءوا من الشهوات، وتيسرت لهم أمور قد لا تتيسر لك أنت، ومع ذلك هاهم يندبون حظهم، وهاهم يتمنون أن يسلكوا طريق الاستقامة، بل إن بعضهم يقول: إنني أريد أن أستقيم، وأريد أن التزم، فما الحل؟ يتمنى من كل قلبه أن يسلك طريق الاستقامة، لكن يبحث عن الحل، يعني: عنده شعور بأنه غير قادر على سلوك هذا الطريق، ويتمنى أن يتيسر له أن يسلك طريق الاستقامة وطريق الخير.

    فإذا كان هؤلاء -يا أخي- الذين انغمسوا في الشهوات وذاقوا لذتها قد عرفوا مرارة الطريق؛ فهذا -أيضاً- يزيدك ثباتاً، ويزيدك شعوراً بأن ما أنت عليه خير، يجب أن تعض عليه بالنواجذ، ولا تفرط فيه.

    حال من اهتدى ثم عاد إلى الانحراف

    السؤال: هل هذه النقاط والجوانب المضيئة تنطبق على من التزم وضل الطريق؟

    الجواب: يقصد: هل الذين انحرفوا بعد أن هداهم الله عز وجل يشعرون بهذه المشاعر؟

    هذه القضية ما عندي بها نتائج دقيقة؛ لأننا لا نفرق، فنحن وزعنا الاستمارات على أشخاص غير مستقيمين أو غير ملتزمين، وعندما جاءتنا الإجابة استبعدنا الاستمارات التي اكتشفنا أن الذين أجابوا عليها عندهم قدر من الاستقامة؛ حتى تكون النتائج دقيقة أكثر.

    قد يكون غير الملتزم فعلاً قد مرت عليه تجربة، بل إن بعضهم قد أشار إلى ذلك، يعني: قد يكون سلك طريق الهداية، ثم انحرف، وقد لا يكون كذلك، لكن -على كل حال- لا شك أيضاً أن غالب هؤلاء يتمنى أن يعود إلى ما كان عليه، بل إن الكثير ممن تحدثت معهم ممن منَّ الله عليه بسلوك طريق الاستقامة، ثم انحرف بعد ذلك، عندما أوجه له هذا السؤال: كيف ترى حالك الآن، وحالك قبل؟ هل تتمنى أن تعود إلى ما كنت عليه؟ هل أنت راضٍ عن حالك الآن؟ أجد أن الإجابات جميعاً تؤيد ما نقوله.

    طريق الوصول إلى قلوب المنحرفين لدعوتهم

    السؤال: عرفنا كل ذلك، ولكن كيف نبدأ معهم، وكيف نصل إلى قلوبهم؟

    الجواب: لا شك أن ما أشرنا إليه من حسن الخلق، والتأسي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، لا شك أنه مما يوصلنا إلى قلوب هؤلاء، أن نشعر هؤلاء بأنا نريد الخير لهم، ونحب الخير لهم، وأيضاً أساليب الهدية، والتقدير والتوقيع وغيرها، فتشعر هؤلاء بالمحبة والتقدير، ثم بعد ذلك الدور الأساس والمهم: النصيحة والموعظة، ودعوتهم إلى اجتماعات الأخيار، ودعوتهم إلى مجالس الناس الخيرين، لا شك أن لذلك دوراً كبيراً في هدايتهم وجلبهم إلى طريق الخير والاستقامة.

    توجيه للشباب المتكبرين عن مجال المنحرفين

    السؤال: بعض الشباب الملتزمين لا يكلم هؤلاء الشباب، ولا يضحك معهم، فما رأيك -يا شيخ- في هؤلاء، هل هم على الصواب أم على الخطأ، ثم ما نصيحتك لهؤلاء الملتزمين؟

    الجواب: قضية الضحك معهم شيء آخر، فرق بين الابتسامة وحسن الخلق، وبين المضاحكة، فعندما ندعو الشاب المستقيم إلى أن يبتسم لهؤلاء، وأن يحسن الخلق، لا ندعوه بعد ذلك إلى أن ينزل عن الوقار الذي منحه الله إياه، فيصبح إنساناً هازلاً، إنساناً يشارك هؤلاء في هزلهم، بل هذا يسقط قيمتك، يجب أن تكون متميزاً عندهم، فمع حسن الخلق والابتسامة واللطافة تشعرهم بأنك رجل جاد، عندك قدر من الجدية ليس عندهم، لا يسوغ أن تشاركهم في كل ما هم عليه ولو لم يكن محرماً، ولا أن تشاركهم في أحاديثهم، أو أن تنزل إلى القدر الذي ينزلون إليه؛ لأن هذا يزيل وقارك، ويزيل هيبتك، هذه قضية.

    القضية الثانية: بعض الذين أجابوا بتلك الإجابات أفادوا أن بعض الملتزمين ينظرون نظرة استكبار إلى هؤلاء، وبعضهم أفادوا أن بعض الملتزمين عنده سوء خلق، المهم أنه تنوعت -أيضاً- الإجابات التي تدل على تضايقهم من هذا السلوك وهذا الأمر.

    وبعضهم يعتذر عندما نقول له: لم لا تسلك طريق الاستقامة؟ يقول: إنني لا أجد في الملتزمين حسن الخلق، ولا أجد فيهم القدوة، وعلى كل حال ليس الأكثر هؤلاء، وإن كان عددهم كثيراً، لكنهم بالنسبة إلى أولئك الذين أبدوا المشاعر الطيبة يعتبرون قلة ولا شك.

    ولكن مع ذلك ينطلقون من بعض السلبيات التي نقع فيها: من النظرة السيئة، فبعض الشباب الذي عنده استقامة وخير ينظر إلى هؤلاء من علو، وينظر إلى هؤلاء وكأنه أعلى منهم منزلة، فيا أخي! أعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليك بالهداية، واعلم أن هذه الهداية التي أنت عليها وهذه الاستقامة ليست من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من جهدك، بل هي توفيق الله سبحانه وتعالى، فلو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم، فالقلب بين أصابع الرحمن.

    دور التبرعات لشراء وسائل الهداية

    السؤال: اقترح أن يكون هناك جمع تبرعات نقوم بها لعدد من المشاريع كتوزيع شريط، وتوزيع بعض الكتيبات المناسبة للشباب؟

    الجواب: هذا اقتراح وجيه، وأدعو الشباب إلى أن يستعملوا هذه الأساليب فيما بينهم، مثلاً: الشباب في الحي، في مدرسة، في جمعية، أي جامع يجمعهم ما الذي يمنع أن يدفع أحدهم كل شهر عشرة ريالات أو أكثر أو أقل، ويشتروا به كتيبات وأشرطة، ثم يقوموا بتوزيعها على أمثال هؤلاء، فعندما يكون الجهد منظماً ومستمراً -ولو كان قليلاً- لا شك أنه يثمر ثمرة كبيرة، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

    فأنا أؤيد أيضاً، وأضم صوتي إلى صوت الأخ صاحب هذا الاقتراح، فأقول: هذا اقتراح وجيه وطيب، ويجب أن نتعاون جميعاً، ولو كان الأمر يسيراً لا تحتقره، بعض الناس يقول: إما أن أتبرع بخمسين ريالاً أو مائة ريال وإما لا أتبرع، لا، هذا غير صحيح.

    فلو كنا عشرين شاباً -مثلاً- عندنا مناسبة نلتقي بها كل أسبوع أو كل شهر، فاتفقنا على أن كل واحد منا -مثلاً- يدفع عشرين ريالاً في الشهر، فكم سنجمع؟ سنجمع في الشهر أربعمائة ريال، وإذا اتفقنا مع أحد أصحاب التسجيلات، أو الناس الذين ينسخون أشرطة، فينسخ لنا الشريط بريالين، أو بثلاثة ريالات، أو بأقل أو أكثر، فنستطيع أن ننسخ كمية من هذه الأشرطة، أو نشتري بعض الكتيبات، ونساهم في توزيعها على هؤلاء أو غيرهم؛ فيكتب الله لنا بها الخير الكثير، خاصة عندما نضع برنامجاً مستمراً، فالأشياء الوقتية تنقطع، لكن لو وضعنا برنامجاً مستمراً -ولو كان يسير- سيثمر بعد ذلك، ويكون له آثار كثيرة لا نتصورها، يعني: لو كنت -مثلاً- تدفع كل شهر عشرين ريالاً، ستجد أنك دفعت في السنة مائتين وأربعين ريالاً، ولو قلنا لك في سنة واحدة: ادفع مائتين وأربعين فقد تشعر بأن هذا المبلغ كثير، أو قد لا تطيق أصلاً أن تدفع هذا المبلغ جملة واحدة.

    الموقف من أذية المنحرفين

    السؤال: بعض الشباب المنحرفين يسبوا الملتزمين، فما نصيحتنا لهم، أفيدونا بارك الله فيكم، وأثابكم الله؟

    الجواب: لابد أن تجد نوعيات شاذة، الغالب أن من يجد حسن خلق منهم وعفواً لا يمارس السخرية، لكن ستجد من يمارس السوقيات، وستجد من يسب، كما وجد ذلك الأنبياء قبلك، وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91]، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]، واقرءوا كتاب الله سبحانه وتعالى، واقرءوا قصص الأنبياء؛ لتجدوا فيها الكثير من تلك المواقف من مواقف السخرية والاستهزاء التي ووجه بها أنبياء الله عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأنتم لستم خيراً من أنبياء الله، فماذا تنتظرون بعد ذلك؟

    فأقول: يجب أن نتحمل ما نواجه به من سخرية واستهزاء وسب ومضايقة وأذى، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

    فمجرد الإيمان يعرض الإنسان لأن يفتن، فكيف بعد ذلك بما هو بعد الإيمان من الدعوة، وتسخير الجهد لله عز وجل؟! فهل تريد أن تكون داعية ينفع الله على يديك، ويهدي الله سبحانه وتعالى على يديك الناس دون أن تواجه أذى ومضايقة؟

    كثيراً ما نردد ونتمثل بأبيات أو بعبارات تدل على أن لدينا استعداداً للتضحية، ولدينا استعداداً لبذل أموالنا، ولبذل نفوسنا، فما بالنا الآن لا نتحمل مثل هذه الكلمات اليسيرة، أو المضايقات اليسيرة؟!

    يجب أن نصبر، ونحسن الخلق، ولا نجزي السيئة بالسيئة، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجزي السيئة بالسيئة، ولو أنك عندما يوجه لك سخرية واستهزاء تقابلها بابتسامة وإعراض، فحينئذٍ لابد أن يتغير موقف هذا الشخص على أقل الأحوال، أو ينتهي الأمر.

    افترض أنه سبك وسخر منك، ثم أنت سببته، فازداد الغضب عنده وسبك، ثم أنت أيضاً كذلك، ما النتيجة؟ ماذا حصل؟ ما حصل شيء، سببته وسببت والديه، وسببت قبيلته، وسببت كل الناس من حوله، فما النتيجة التي تجنيها؟ ما حصلت على شيء، هذا عمل السفهاء، السب والسخرية عمل السفهاء، والرجل يمدح بالحلم، وكان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يمتدحون بالحلم.

    حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب

    المهم أن العرب السابقين قبل الإسلام، وقبل أخلاق النبوة، وقبل القرآن كانوا يمتدحون بالحلم وبالصبر، وأنهم لا يجزون السيئة بالسيئة، فكيف بعد ذلك بمن منَّ الله عليهم بالقرآن، وبأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟! لا شك أنهم أولى بأن يكونوا أكثر حلماً وصبراً.

    تفاوت درجات أجر الدعاة

    السؤال: من المعلوم أن من يهتدي على يديك فلك أجره وأجر من تبعه، فهل إذا اهتدى على يديك شخص في قاع الانحطاط في الفساد يختلف أجره عن شخص آخر فساده أقل؟

    الجواب: قضية الأجر والحسنات الأمر فيها نسبي، والأمر فيها لله سبحانه وتعالى، فقد يستوي العمل ويختلف الأجر، فالرجل ينصرف من صلاته ما كتب له إلا نصفها، ربعها، سدسها، فمثلاً: رجلان يصليان متجاورين، فهذا صلاته قد كتبت له تامة كاملة، وهذا صلاته لم يكتب له إلا عشرها، وهذا صلاته قد ردت عليه وضرب بها وجهه، بل الإنسان نفسه قد يصلي هذه الصلاة، ثم يصلي صلاة أخرى وبينهما كما بين الشمس والمغرب.

    فهناك فرق بين شخص جاء ووجد إنساناً منحرفاً وأعطاه شريطاً وسمعه وهداه الله على يديه، وبين إنسان بذل معه كثيراً، ونصحه، وجاهد معه، وبذل حتى هداه الله على يديه، فكلاهما وصل إلى نتيجة واحدة، لكن فرق بين هذا العمل وبين ذاك، وفرق بين من جاء بالعمل هكذا دون مبالاة، وبين من دفعه الإخلاص والحرص، وطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى.

    فأقول: أمر الأجور والحسنات هذا أمر عام، إذا هدى الله على يديك إنساناً فلك مثل أجره، لكن بعد ذلك تبقى القضايا الجزئية أمرها عند الله عز وجل، ما أحد يستطيع أن يعرف أبداً كم أخذ من الحسنات؟ وكم ناله من السيئات؟

    بل -يا أخي- قد تبذل جهداً مع شخص ويهديه الله سبحانه وتعالى، وتبذل جهوداً أخرى أكثر مع شخص ولا يهديه الله عز وجل، فهل يعني هذا أن جهدك يضيع سدى؟ وافترض أن إنساناً -مثلاً- بذل جهوداً كثيرة ولم يوفق أبداً، ولم يهد الله على يديه أحداً، كحال ذاك النبي الذي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فهل يذهب جهده سدى؟ هل يذهب أجره سدى؟

    بيان نتائج واقعية من اللقاء بالشباب المنحرفين وتوجيه لدعوتهم

    السؤال: علمنا أنك قد خرجت في الأسبوع الماضي إلى الأرصفة؛ لتلتقي بالشباب، فنرجو منكم -يا فضيلة الشيخ- أن تعطينا نتائج هذا الخروج، وهل لقيتم ما يسركم أم لا، وهل تنصح بالخروج إلى شباب الأرصفة للشباب الذين هم في بداية طريق الالتزام أم لا؟

    الجواب: كان لقاؤنا معهم خاصاً حول هذا الموضوع، ما كان لأجل مناصحة وتوجيه، إنما كان لنقاشهم هل هم مقتنعون بما هم عليه؟ وما الذي يمنعهم من سلوك طريق الاستقامة والالتزام؟ وأشرت إلى بعض نتائج هذه الحوارات الشفوية التي أجريناها معهم في محاضرة لاحقة.

    ولا شك أنا لقينا ما يسرنا ترحيب وتقدير وشكر، بل لقينا تجاوباً، وألحوا علينا، قالوا: اسألوا ما عندكم، وما تريدون، ووجدنا أن الأكثر منهم يجيبنا بصراحة تامة، وعرفنا الكثير من واقعهم، وما يدور فيهم، أما النصح بالذهاب إليهم فلا شك أننا ننصح الشباب بأن يذهبوا إلى هؤلاء ويناصحوهم، ويحسنوا معاملتهم، ويعطوهم كلمة طيبة، فكثيراً ما يهتدي أحد هؤلاء بمجرد سماع النصيحة.

    أما الشاب الذي في بداية الالتزام، أو هو حديث عهد بالالتزام؛ فله مجال آخر، لا أنصح أمثال هؤلاء قبل أن يثبت ويستقر بأن يبادر بالذهاب إلى أمثال هؤلاء، فقد يتأثر، وقد يحن إلى الماضي الذي كان عليه، فبإمكانك -مثلاً- أن تلقي عليهم السلام، وتجلس معهم قليلاً بالكلمة الطيبة، ثم توجه لهم كلمة في خمس دقائق أو عشر دقائق، وأن تعطي لهم شريطاً وكتاباً.

    بل إن هؤلاء اعتادوا، فقالوا لنا: إنا كثيراً ما يأتينا بعض الشباب وينصحنا، ونقدر نحن هذه النصيحة، وهذا هو الشعور عند هؤلاء الشباب، ويجب أن نتعاون جميعاً ونركز جهودنا، لكن القضية التي أؤكد عليها للأخوة: هي زميلك في الدراسة؛ لأنه يجلس معك دائماً، وبصفة دائمة تقابله وتلقاه، وتستطيع أن تتابع بعد ذلك معه المناصحة والجهد، وهذا لا يعني إهمال هؤلاء.

    تعليق على خبر منشور

    السؤال: هذا خبر منشور في جريدة الشرق الأوسط يقول: بيبسي كولا تلغي حملة إعلانية بضغط من المتشددين اليهود: اضطرت شركة بيبسي كولا إلى وقف حملة إعلانية كبيرة؛ بسبب احتجاج المتشددين اليهود على استخدام الإعلان لنظرية داروين في التطور، وتهديد محكمة دينية بالدعوة إلى مقاطعة المشروب في حال الاستمرار في عرض الإعلان، وجاءت هذه النكسة الإعلانية بعد أيام من عودة الشركة الأمريكية العملاقة إلى السوق الإسرائيلية؛ لتتحدى منافستها الرئيسية شركة كوكا كولا، وكانت بيبسي قد خرجت من السوق الإسرائيلية في الستينات بخطوة اعتبرتها الأوساط الإسرائيلية رضوخاً لأحكام المقاطعة العربية، أما كوكا كولا التي رفضت تنفيذ قرارات المقاطعة؛ فقد وضعت يومها على اللائحة السوداء، إلا أن الدول العربية عادت ورفعت الحظر عنها بصورة تدريجية في السنوات الثلاث الماضية؟

    الجواب: هذا الخبر الطويل لا يعنينا، لكن هذا موقف اليهود، إذا كان اليهود يقفون هذا الموقف من شركة أساءت إليهم، فما موقفنا نحن من هذه الشركة نفسها التي أساءت إلينا بمثل هذه الأكاديمية الرياضية؟! وقد قرأنا في محاضرة الأحد فتوى لفضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله بتحريم المشاركة في مثل هذا اللقاء، فيعجبني ما سمعت أن بعض المدارس أعلنت مقاطعة الشركة، وقالوا: لا نريد منكم شيئاً من منتجاتكم، لا هذا العام، ولا الأعوام التي تليه، وسلموا لهم الثلاجات التي اعتادت الشركة أن تضعها عند هؤلاء، وقالوا: خذوا ثلاجاتكم ولسنا بحاجة إليها.

    أظن أننا لن تصيبنا الأمراض، ولن نصاب بقلق عندما نستغني عن شرب المشروبات التي تنتجها هذه الشركة وغيرها، ولو استعملنا هذا الأسلوب لنجحنا أكثر، فما قدرة اليهود على التأثير على سوق البيبسي كولا؟! كم عدد اليهود الذين في إسرائيل؟! بل إن منطقة الخليج ومنطقتنا من أكثر المناطق استهلاكاً لمثل هذه المنتجات، فلو وجدوا مقاطعة من أصحاب المحلات ومنا نحن؛ لرضخوا لما نريد بعد ذلك، وما استطاعوا أن يتجرءوا على مثل هذه المخالفات.

    أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب سخطه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755935767