إسلام ويب

فقه المعاملات [8]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حرمت الشريعة المعاملات التي تضر بالناس ومن ذلك الربا الذي يعد من أكبر المحرمات في الشريعة، وله قواعد عامة يرجع إليها، وتئول إليها العقود الربوية وذلك مثل كل قرض جر منفعة، وبيع الكالئ بالكالئ، والاطراد في السلف، والضمان بالجعل وغيرها.

    1.   

    قاعدة: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) وصورها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فما يزال الحديث موصولاً في أمهات الربا، وسنتكلم في هذا الدرس إن شاء الله تعالى على بعض القواعد التي هي أغلب ما يرجع إليها الربا في تعامل الناس، وبين يدي الحديث أذكر بأن هذه الشريعة لها قيم هي التي يبنى عليها التحليل والتحريم، ومن هذه القيم قيمة الأخوة بين المؤمنين، فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ولذلك فبعض المؤمنين مسئولون عن بعضهم، فإذا منح الله تعالى مؤمناً نعمةً من النعم، فليس له أن يستأثر بها عن إخوانه؛ لأن حق الأخوة يقتضي منه المشاركة، ولذلك فإن قيمة القرض هي قيمة من القيم الفاضلة، وعقد من العقود التي تحقق الأخوة بين المؤمنين، ولهذا ذكر أهل العلم أن القرض يفضل الصدقة من وجهين:

    الوجه الأول: أن القرض لا يسأله إلا محتاج إليه، بخلاف الصدقة فيسألها كثير مما لا يحتاج إليها.

    الوجه الثاني: أن القرض أقل منةً من الصدقة، فصاحبه دفع ماله ثم عاد إليه، فنصيبه من المنة أقل من نصيب المتصدق، والقرض مما يبتغى به وجه الله تعالى، ويحقق هذه القيمة في التآخي بين المؤمنين، فلذلك لم يبح الشارع طلب الربح منه، وكان من قواعد الربا الإجماعية بين المسلمين: أن كل سلف جر نفعاً فهو ربا، وهذا اللفظ وهو قاعدة من قواعد الربا جاء فيه حديث، لكن هذا الحديث لم يبلغ درجة الصحة، ولكن الإجماع يقويه، فلم تكن هذه الأمة لتجمع على قاعدة إلا إذا كانت ذات أصل متفق عليه، فلهذا أجمع المسلمون على أن القرض إذا جر نفعاً للمقرض فهو ربا، وذلك أن القرض عقد يأخذ فيه الإنسان فيرده مثلما أخذ، فإذا زاد فتلك الزيادة هي الربا، وإذا عقد على ذلك من البداية فقال: أقرضك مائة ألف على أن ترد إلي مائةً وعشرين ألفاً بعد شهرين، فهذا العقد باطل، فيرد إليه ما أخذ منه وتبطل تلك الزيادة، وكون العقد باطلاً هذا هو مذهب الجمهور، ومذهب الشافعية أن العقد صحيح وأن الربا باطل، فيبطل جانب التحريم من العقد، ويبقى هو على صحته، والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا ببطلان العقد لم يعتبر التأجيل، وكان ذلك حالاً الآن فقد أخذ من هذا الشخص مائة ألف فيجب عليه أن يردها الآن، إلا إذا بدأ عقداً جديداً، والمذهب الشافعي: يبقى الأجل كما هو؛ لأن العقد صحيح، وقد بطل منه ما يتعلق بالربا وهو شرط الزيادة، فقد أقرضه مائة ألف إلى شهرين، فيجب عليه أن يستمر على ذلك التأجيل، ولا يطالبه بشيء حتى إذا انتهى الأجل أعاد إليه مثلما أخذ منه، وهذه القاعدة يدخل فيها أن معجل ما في الذمة مسلف، وأن مؤخر ما في الذمة مسلف، فمعجل ما في الذمة إذا كان للإنسان دين على آخر وهو مؤجل بسنة مثلاً، فعجل له هذا الدين عن أجله، فكأنه أسلفه هذا الدين قبل الأجل إلى نهاية الأجل، فيكون حينئذ قاضياً للقرض الذي عليه، فإذا أخذ في مقابل ذلك التعجيل شيئاً كان هذا قرضاً جر نفعاً فيكون رباً، وإذا كان الإنسان يطالب آخر بدين، مثلاً قدره مليون أوقية على أجل ستة أشهر، فقال له: عجل لي ستمائة ألف الآن وأسقط عنك الباقي، فالمدين الذي كان عليه الدين أصبح الآن دائناً؛ لأنه هو الذي أقرض الآخر فعجل له ستمائة ألف، هذه ستمائة ألف لا تعتبر قضاءً للدين بل تعتبر قرضاً حتى يحين وقت الأجل، ولذلك فقد انتفع هو لأنه ربح أربعمائة ألف بسبب التعجيل، فيكون هذا من السلف الذي جر نفعاً فهو ربا، ومثل ذلك مؤخر ما في الذمة، فهذا هو أصل الربا، فربا الجاهلية كان الرجل يقرض الرجل أو يدان منه، فإذا حان الأجل أتاه، فقال: إما أن تربي لي وإما أن تقضي لي، فإذا أربى له معناه زاد له في العدد وأخر له في المدة، فهذا هو ربا الجاهلية الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( كل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي، وأول رباً أضعه ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب )، فلذلك كان مؤخر ما في الذمة مقرضاً أيضاً؛ لأن التأخير إنما هو استئناف قرض جديد، حتى لو كان العقد في الأصل ليس قرضاً، كما إذا كان الأصل في العقد بيعاً لأجل، باعه هذه الدار مثلاً أو هذه السيارة بمليون إلى أجل شهرين، فلما حان الأجل أتاه، فقال: سأزيدك في الثمن وزدني في المدة، فالعقد في الأصل لم يكن قرضاً، ولكنه استحال إلى قرض جر نفعاً؛ لأن كلامهما الأخير نسخ العقد الأول، فأصبح بينهما عقد جديد، مبناه على أن هذا الإنسان أقرض الآخر هذا المبلغ وهو مليون بالزيادة التي سيزيده بها في مقابل الوقت، فكان ذلك قرضاً جر نفعاً فكان ربا، والقرض الذي جر نفعاً هو أكثر ما يحصل الآن من القروض في العالم، فمعاملات البنوك كلها أو أغلبها من هذا القبيل، ويدخل فيها تعجيل الرواتب مقابل اقتطاع جزء منها، فكثير من الموظفين يحتاجون إلى تعجيل رواتبهم قبل أن تدخل، فهذه الرواتب متعلقة بميزانية تصدرها وزارة المالية، فقبل إصدارها يأتي الموظف إلى البنك الذي له فيه حساب فيقول: عجلوا لي راتبي، فيقولون: سنقتطع منك عشرة بالمائة أو خمسة بالمائة، فهذا النوع هو من القرض الذي جر نفعاً؛ لأنهم أقرضوه هذا الراتب واقتطعوا منه هذا الجزء، فكان ذلك قرضاً جر نفعاً فهو ربا.

    التوصل للربا بعرض غير مقصود

    وكذلك ما يحتال الناس به من الحيل على هذا القرض، بأن يحول بين المتعاملين عرض لا يقصد لذاته، كما إذا كان إنسان يحتاج إلى مبلغ من النقود، ولا يجد من يقرضه قرضاً لوجه الله تعالى بدون مقابل، فيأتي آخر فيقول: أنا محتاج إلى مبلغ كذا وكذا، فيقول: سأعطيك هذا المبلغ وتربحني عليه نسبة عشرين في المائة أو نسبة ثلاثين في المائة لمدة كذا، ولكني سأدفع إليك إسمنتاً أو حديداً أو بضاعةً من البضائع، فهو لا يريد البضاعة، ولذلك سيبيعها بأقل من ثمنها، فهذا العقد ظاهره أنه بيع إلى أجل؛ لأنه دفع إليه بضاعةً والتزم له مبلغاً مالياً مؤجلاً، لكن الواقع أن هذا الرجل إنما يريد القرض ولا يريد تلك البضاعة، ولهذا يبيعها بأقل من ثمنها، فلهذا كان هذا قرضاً جر نفعاً، والبضاعة التي حالت بين المتعاقدين لغواً، ولذلك قال مالك في مثل هذا التعاقد: انظر إلى اليد السابقة في الدفع، فإن عاد إليها أكثر مما دفعت فامنع. واليد السابقة في الدفع هي يد المقرض، إذا عاد إليها أكثر مما دفعت فاعرف أن هذا ربا.

    وكذلك من هذا القبيل أيضاً حيلة الناس في السلم، كأن يقول له: أنا سأدفع إليك النقود الآن ولكن أعطني خمسين طناً من السكر مثلاً إلى أجل ستة أشهر، وهو يعلم أن خمسين طناً من السكر ثمنها الآن أكثر بكثير من المبلغ الذي استلمه، فهذه صورة السلم، في الأصل السلم عقد لا غبار عليه، وهو من العقود الجائزة كما سبق بيانه، لكنه إنما احتال بها على قرض جر نفعاً؛ لأنه في الواقع لا يفكر إلا أنه أخذ ثلاثة ملايين من هذا الشخص، وأنه سيعيد إليه أكثر منها، ولذلك إذا حان الأجل فكان السكر قد ارتفع سعره مثلاً عن أكثر مما كان في ذلك الوقت أو انخفض، يحتاجان حينئذ إلى تعامل من جديد، فيصطلحان على مبلغ معين، وهذا ما لا يمكن في السلم، فالسلم لا يحل فيه التبديل، إذا كان الإنسان قد أسلم إلى آخر في سيارة، فإذا حان الأجل لا بد أن يأخذ منه السيارة، أو أن يتفاسخا، ويرد إليه الثمن، ولا يمكن أن يبدلها فيقول: لا، أنا لم أعد محتاجاً إلى السيارة ويريد بضاعةً أخرى، وهذا لا يمكن أن يتم في السلم.

    البطاقات الائتمانية

    كذلك من هذا النوع من الحيل أيضاً البطاقات الائتمانية التي يشترط فيها إذا تأخر الإنسان عن الاستدان في وقت محدد أن يزاد عليه مبلغ، سواءً كان نسبةً مئويةً أو كان مبلغاً مقطوعاً، والبطاقات الائتمانية على أنواع، فليست هي كالعقد الواحد، وهي اليوم أصبحت محل ضرورة في كثير من بلدان العالم؛ لأن الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، أو حتى في أوروبا، لا يستطيع قص تذكرة من وكالة سفر إلا ببطاقة ائتمان، ولا يستطيع أن يحمل معه النقود إذا خرج لأية حاجة، وحتى المحلات التجارية كثير منها يشترط أن لا يتعامل بالنقود بل يتعامل ببطاقات الائتمان، فبطاقات الائتمان على مختلف أنواعها فكرتها في الأصل أنها عقد تمويل، فأنا أسدد عنك المبالغ المستحقة إلى مبلغ كذا، مثلاً كل بطاقة ائتمان بحسب ما فيها، إما عشرة آلاف دولار، وإما عشرين ألف دولار مثلاً، فالشركة المصدرة للبطاقة تتحمل السداد إلى أن يصل الدين إلى هذا المبلغ، ولذلك يقتطع عن طريق الكمبيوتر هذا المبلغ من الضمانة الموجودة، ثم يسدد الإنسان في الأجل المحدد وهو ما بين تسعة وعشرين يوماً وواحد وثلاثين يوماً، يسدد المبلغ الذي سدده عنه البنك المصدر لبطاقة الائتمان، فإذا اشترط البنك المصدر لبطاقة الائتمان زيادةً على المدفوع، فهذا عقد ربوي، ومذهب الجمهور بطلانه مطلقاً؛ لأنه فاسد، ويرد إليه رأس ماله، ولا يلزمه رد زيادة، وعند الشافعية أن هذا العقد يبطل منه محل الربا، ويصحح هو، فعلى ذلك يبقى الأجل إذا كان مؤجلاً إلى أجله، لكن لا يجب عليه رد أكثر مما أخذ، ومحل هذا عند عدم الضرورة، أما إذا كان أحدنا مسافراً في بلد، لا يستطيع فيه الوصول إلى ضرورياته أو حاجياته؛ إلا عن طريق بطاقة الائتمان كما هو الحال الآن في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وكثير من البلدان، فلا يستطيع الإنسان شيئاً إلا أن يتعامل مع الشركات المصدرة لبطاقات الائتمان، فإذا وجد فيها شركةً لا تشترط هذا الشرط فذلك أولى، وإن لم يجد إلا الشركات التي تشترط هذه الزيادة عند التأخر، فعليه أن يحرص على عدم التأخر، وأن يسدد في الوقت، حتى لا يكون موكلاً للربا.

    قروض السكن والزراعة والمنح الدراسية

    كذلك من أنواع القرض الذي فيه زيادة: قروض السكن التي تصدرها بعض البنوك التي تتولى الإسكان في كثير من البلدان، ومثلها القروض الزراعية التي تنتهز الفرصة في المحتاجين، فتجد أن هذا المزارع يحتاج الآن إلى تمويل لإقامة مشروعه، وهو عادم للنقود ويحتاج إلى سيولة، فتدفع إليه سيولةً ثم تأخذها منه بالزيادة المؤجلة، فهذا قرض جر نفعاً وهو ربا، سواءً كان ذلك في السكن، أو في الزراعة، أو في غيرها.

    وكذلك ما يشترطه بعض الشركات على الذين تمنحهم للدراسة في بعض التخصصات، فتشترط عليهم زيادة نسبة عشرين في المائة على ما أنفقت عليهم، مثلاً هذه الشركة تبتعث طالباً للدارسة في تخصص محدد، وتنفق عليه مبالغ محددة، مثلاً منحة قدرها مائة وخمسين يورو في الشهر، وتذكرة سنوية ذهاباً وإياباً إلى البلد الذي خرج منه، وتتولى عنه رسوم الدراسة في الجامعة التي يسجل فيها، لكن إذا أراد هو الانسحاب فسيدفع جميع ما صرفت عليه الشركة مضافاً إليه نسبة عشرين بالمائة مثلاً، فهذا النوع قرض ربوي؛ لأنه قرض جر نفعاً فهو ربا.

    وكثير من هذه التعاملات تجري دون أن يشعر الإنسان أنها من هذا القبيل من الربا، ولها حلول وبدائل، فالإنسان الذي يريد أن يعامل الناس تعاملاً صحيحاً، لا بد أن يكون واضحاً في الطرح، يبين أنه لا يريد قرضاً، وأنه يريد كذا وكذا، حاجتي هي سيارة، أو حاجتي هي منزل، وهذه السلعة التي أرغب فيها، وأنا أعلم أنها الآن تساوي كذا وكذا، وأنا عاجز عن تسديدها، فأريد أن تشترك معي مثلاً، أو أريد أن تشتريها لي ثم تبيعها علي، هذا كله من الأوجه التي هي حلال وليس فيها ربا، إما الشراكة وإما المرابحة للآمر بالشراء، فالشراكة كأن يكون هذا الإنسان محتاجاً إلى بيت، وليس لديه نقود لتوفير هذا البيت، ولكنه يعلم أن البيت يكلف مثلاً اثني عشر مليوناً، فيأتي فيقول: أنا محتاج إلى بيت يكلف اثني عشر مليوناً في المكان الفلاني، وأريد أن نشترك في هذا البيت، فأنا لدي قطعة أرض وأنت عليك البناء، ثم أنا أشتري منك نصيبك أنت من الشراكة، فنحن الآن اشتركنا أنا نسبتي هي الأرض، وتضاف إلى نسبة رأس المال، فالأرض تقوم وتجعل قيمتها مضافةً إلى اثني عشر مليوناً وهي قيمة البنيان، فأصبحنا شريكين وإن كانت نسبتنا متفاوتة، ثم نصيب أحدنا سيدفع إليه أقساطاً ولو بالربح؛ لأنه سيخرج من الشركة فيبيع أسهمه فيها، فمثلاً لو قدر أن قيمة الأرض مليونان، وأن قيمة البنيان اثنا عشر مليوناً، فالمشروع بكامله قيمته أربعة عشر مليوناً، اثنا عشر مليوناً لطرف آخر، ومليونان لطرف، وهما شريكان في هذا المشروع بنسبة مالهما، فإذا أراد صاحب الأرض شراء نصيب الآخر فإنه سيشتريه منه بأكثر من اثني عشر مليوناً، يقول: أنا أشتري منك نصيبك بستة عشر مليوناً مقسطة على ثلاث سنوات مثلاً أو على سنتين، في كل شهر أدفع إليك كذا.

    عقد الإيجار المنتهي بالتمليك

    ويدخل في هذا القبيل ما يسمى بالإيجار المنتهي بالتمليك فهو أيضاً سلف جر نفعاً، والإيجار المنتهي بالتمليك أصله عدم الثقة بين الدائن والمدين، فلما شاع في الناس الإفلاس، وشاع فيهم الخيانة ونقص الأمانة، وكانت حاجتهم ما زالت قائمةً إلى التعامل فيما بينهم، ابتكر الناس هذا النوع من العقود الذي يسمى بالإيجار المنتهي بالتمليك، وصورته أن هذه الشركة تبني منازل فتقسطها على الناس تعلم أن التكاليف الكاملة للمنزل هي ثلاثة ملايين، وأن الربح المفترض هو ثلاثة ملايين أخرى، فيكون قيمة المنزل لدى الشركة ستة ملايين، فتستأجره لفلان في كل شهر يدفع ثلاثين ألف، فإذا كمل المبلغ المطلوب وهو ستة ملايين استحق ملك البيت، فيكون قد ملكه؛ لأنه دفع الثمن الذي بذل فيه والربح الذي تطلبه الشركة، ولكنهم لا يسمون هذا بيعاً؛ لئلا يتخلف في سداد بعض الأقساط، ويكون قد بيع إليه بيت فاستغله، فأصبح البيت قديماً لا يرد قيمته جديداً لو استخرج منه البيت بالغصب مثلاً، فتكون قيمة البيت قد نقصت، فلذلك يحتاطون لأنفسهم بأن يجعلوا العقد مجرد عقد إيجار، فإذا انقطع الإنسان عن السداد، أخرج من البيت وأصبح استغلال الماضي في مقابل الأجرة التي أخذت منه، ومثل هذا في السيارات، الإنسان يشتري سيارةً من المصنع أو من الشركة الموردة، هذه السيارة هي مثلاً لاندكروزر فيكس وثمنها أربعة عشر مليوناً، هذه الأربعة عشر مليوناً إذا كانت في الذمة ديناً كلها، فقد لا يؤديها الإنسان بالأقساط، قد لا ينتظر بالأقساط، فلذلك تعتبر إيجاراً منتهياً بالتمليك، فيقال: سدد لنا في كل شهر مائة وأربعين ألفاً، وبعد تمام المدة تملك أنت السيارة، هذه هي الصورة الروتينية المعهودة قديماً للإيجار المنتهي بالتمليك، وهي التي ما زال يعمل بها في كثير من المناطق في العالم الغربي، وقد طور الإيجار المنتهي بالتمليك في بعض البلدان في العالم الإسلامي تطويراً لا يبيحه ولا يحله، فمثلاً في بعض الشركات في العالم الإسلامي تجعل النسبة التي توزع على الإيجار قاصرةً عن المبلغ المطلوب، فمثلاً إذا كان بنيان البيت كلف ثلاثة ملايين، والربح المفترض ثلاثة ملايين، فإنهم يوزعون الإيجار على أنه أربعة ملايين، ويتركون مليونين، فإذا كملت المدة، وكان الشخص فيها ثقةً، فسدد كل الأقساط فتمت أربعة ملايين يبيعون عليه البيت من جديد بمليونين فقط، وهذا ثلث سعر البيت، يعني البيت في الأصل ستة ملايين، وقد بيع للإنسان بعد انتهاء مدة الإيجار بثلث قيمته، فهذا النوع إذا لم يقصد في الأصل أن يكون إيجاراً منتهياً بالتمليك، فلا حرج فيه؛ لأنه ترخيص، والترخيص من الأمور الجائزة، يجوز للإنسان أن يرخص بضاعته أن يبيعها بأقل من ثمنها للحاجة ولغير حاجة، إلا إذا كان ذلك يؤدي إلى ضرب السوق، والتأثير على الأسعار تأثيراً فادحاً، فهذا فيه إدخال الضرر على الناس، كمن يستورد بضاعة وهي موجودة في السوق، ولها ثمن متعارف عليه فيبيعها هو بأقل من الثمن المتعارف عليه في السوق؛ ليضرب التجار الذين استوردوا قبله، فهذا إذا كانت البضاعة يسيرةً لا تغطي حاجة السوق فهو حرام؛ لأنه إدخال للضرر على الموردين الآخرين، وهذه القاعدة معروفة لدى المالكية، وقد قال فيها أحد العلماء: يمنع ترخيص القليل إن أضر بباعة الأسواق رفعاً للضرر.

    وقد أنكرها ابن رشد رحمه الله في (البيان والتحصيل) وذكر: أن المرخص إنما هو مأجور أو مشكور، إذا كان يريد الآخرة فهو مأجور؛ لأنه تصدق بنقص قيمة الأشياء، وإذا كان يريد الدنيا فهو مشكور؛ لأنه باع بأقل من الثمن، فقال: هو إما مأجور أو مشكور، ومع هذا فالدليل على القاعدة هو أن عمر رضي الله عنه كان يقول لأهل السوق: بع كما يبيع الناس، أو فارتفع عن سوقنا، وقد أخرج ذلك عنه مالك في الموطأ، ولذلك يقول الشيخ محمد علي رحمه الله:

    وقل لمن أراد ترخيصاً بعِ كما يبيع الناس أو فارتفع

    كما رواه مالك عن عمر لذاك قال بعض من تأخر

    يمنع ترخيص القليل إن أضر بباعة الأسواق رفعاً للضرر

    وصاحب البيان سام بالغلط من لام من سامح في البيع وحط

    وقال: بل مشكور أو مأجور وإنما يزجر من يجور

    ولكن الواقع أن الأول هو الأفضل؛ لأن مراعاة حقوق الشريحة الكبرى من أهل السوق أولى من مراعاة شعور شخص واحد، فتضمن المصلحة العامة ولو كان ذلك على حساب شخص واحد، والإيجار المنتهي بالتمليك حصل منه عدد من التجارب في بلادنا هذه، وبالأخص في مجال السكن مثلاً قديماً كانت هنا شركة السوسين، ثم بعدها شركة سيكوجين، وكل ذلك على الطريقة القديمة في الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو عقد لا يرى أحد من الفقهاء جوازه على هذه الطريقة؛ لأنه فيه عدد من المحظورات الشرعية.

    أولاً: فيه التردد بين أن يكون العقد إجارةً وبين أن يكون بيعاً.

    ثانياً: صورته أنه سلف جر نفعاً؛ لأن الإنسان يقدم ذلك الثمن، وفي النهاية سينقص له في سعر المبيع.

    وكذلك من صور القرض الذي يؤدي إلى نفع، إذا كان الإنسان مثلاً صاحب صيد تقليدي، وهو يحتاج إلى كثير من النفقات، فيتعامل مع صاحب شركة التسويق على أن يدفع له كل النفقات ويتولى عنه بيع الأسماك وتثليجها، وهو عاجز عن مثل هذه الخدمات، فصاحب الصيد التقليدي ليس لديه إمكانية لتثليج الأسماك ولا لتسويقها، وهي محتاجة إلى كثير من الخدمات في هذا المجال، فيقول: أنا سأقرضك كل ما تحتاج إليه، وأمول لك المشروع كاملاً، ولكن شريطة أن تبيع إلي كل ما أتيت به من السمك بسعر كذا وكذا، بسعر أقل من السعر المعروف في السوق، فهذا النوع هو قرض جر نفعاً بهذه الصورة؛ لأنه دفع إليه هذا المبلغ وانتفع بالترخيص حين رخص له، فأصبح السمك يباع بنصف قيمته أو بثلثيها مثلاً، لكن يمكن الحل في هذه القضية وبالأخص أنها أصبحت دارجةً سائدةً في بلادنا، فأصبح كثير من الذين يتعاطون الصيد التقليدي يتعاملون بهذا النوع من التعامل، وحلها هو بالشراكة، أن يقول: أنا شريك معك، فسأتولى أنا المصاريف المادية، ولا بد أن تكون مضبوطة معلومة، وتتولى أنت قضية الصيد، والمنتج الذي يأتي يكون بيننا لك فيه نسبة كذا وكذا، ولي فيه نسبة كذا وكذا، فيكون هذا شراكةً لا قرضاً، وهذا يحل المشكلة ويحقق الربح لكل واحد منهما.

    هذا عن القاعدة الأولى، والأم الأولى من أمهات الربا وهي: كل سلف جر نفعاً فهو ربا.

    1.   

    قاعدة الكالئ بالكالئ

    القاعدة الثانية هي: الكالئ بالكالئ، والكالئ بالكالئ معناها: العقد الذي يكون فيه كل واحد من الطرفين قد شغل ذمته، أي انشغال الذمتين معاً. فهذا التزم نقوداً، وهذا التزم بضاعةً وتفرقا، ولم يدفع واحد منهما شيئاً، مثلاً قال لي: تأتيني بسيارة مواصفاتها كذا وكذا، مقابل اثني عشر مليوناً أدفعها لك إذا أتيت بالسيارة وتعاقدنا على هذا ووقعنا، فهذا العقد غير صحيح؛ لأنه كالئ بكالئ، أي: متأخر بمتأخر، فالكالئ هو المتأخر، البضاعة والثمن كلاهما كالئ أي متأخر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ )، والحديث لم يصل إلى درجة الصحة، ولكن ذلك أيضاً أجمع عليه في بعض صوره، فالكالئ بالكالئ يشمل ثلاثة أمور: يشمل ابتداء الدين بالدين، وفسخ الدين بالدين، وبيع الدين بالدين.

    ابتداء الدين بالدين

    أما ابتداء الدين بالدين فقد استثنى منها المالكية مسألةً واحدة، وهي تأخير رأس مال السلم ثلاث ليال فدونه، معناه: فيما دونها، إذا أتيتني فقلت: أنا أريد أن تشتري لي باخرة صيد أو باخرة شحن للبضائع، أو سيارةً يصنعها المصنع الفلاني، وثمنها كذا وكذا، وهي معروفة، والأجل بيننا ستة أشهر، وأستلم أنا السفينة أو السيارة، وأسلم إليك النقود في ذلك الوقت فالمبلغ كذا وكذا متفقاً عليه، فوقعنا على هذه الاتفاقية وكانت عقداً ملزماً لكل واحد منا، فتأخير رأس مال السلم أكثر من ثلاثة أيام ممنوع إجماعاً؛ لأنه ابتداء دين بدين، فكل واحد منا شغلت ذمته بدين، أنا شغلت ذمتي بالسفينة، وأنت شغلت ذمتك بالنقود، والشريعة إنما ترتب الآثار على العقد الناجز الذي له أثر في الوجوب، أما العقد الذي يتحمل فيه كل واحد من الطرفين شيئاً في ذمته، فلا يترتب عليه فائدة للناس، ولذلك لا بد من دفع رأس المال سابقاً قبل مفارقة المجلس عند جمهور العلماء، وعند المالكية: يجوز التأخير ثلاثة أيام، فإذا قال: أنا أدفع إليك الآن مليونين وغداً أدفع إليك عشرة ملايين، وبعد غد أدفع إليك كذا البقية، هذا أجازه المالكية رفقاً بالناس؛ لأن الإنسان قد لا يكون لديه الثمن الذي يريد أن يشتري به البضاعة الآجلة في نفس الوقت، فأجازوا التأخير ثلاثة أيام وقالوا: ما قارب الشيء فله حكمه، ومذهب جمهور العلماء عدم إباحة ذلك مطلقاً، فهذه من المفردات المالكية التي اختصوا بها من بين المذاهب، وليس عليها دليل مخصوص، والدليل يقتضي منع بيع الكالئ بالكالئ مطلقاً، ويستثنى من بيع الكالئ بالكالئ أشياء قليلة جداً، منها مثلاً الإجارة، فأنت تستأجر مني هذه الدار بخمسة وثلاثين ألفاً في الشهر، وتدخلها أنت الآن والأجرة في ذمتك، فأنا المجموع من قبلي هو غلة الدار، وغلة الدار لا يمكن أن تؤخذ دفعةً واحدة، إنما تؤخذ مع طول الزمن، وأنت المجموع من لديك هو ثمن الأجرة، والأجرة تأخرت لم تدفعها إلي، فهذا النوع مسموح به في الإجارة؛ لأن البداية في الأخذ كالنهاية، فالفقهاء قدروا البداية كالنهاية؛ لأن الإنسان إذا أخذ مفاتيح البيت المؤجر، فقد وجبت الأجرة؛ ولأن القاعدة: أنه يلزم الكراء بالتمكن، كما قال خليل رحمه الله: ولزم الكراء بالتمكن.

    فالقاعدة: أن الإنسان إذا تمكن من المستأجر لزمه الكراء، وإذا لزمه الكراء فقد تم العقد بذلك.

    فسخ الدين بالدين

    أما النوع الثاني: فهو فسخ الدين بالدين، وهو أن يكون للإنسان على آخر دين أصله من قرض، أقربه مثلاً مليون أوقية إلى أجل شهرين، ثم بعد هذا باع إليه الآخر سيارةً مثلاً، بدين إلى أجل أطول من ذلك أو إلى أجل أقل، فتفاسخا في الدينين، فهذا العقد فيه فسخ دين بدين، لا على وجه المقاصة ولا على وجه الحوالة، وفسخ الدين بالدين لا على وجه المقاصة ولا على وجه الحوالة ممنوع شرعاً بما فيه من الكالئ بالكالئ، ومحل ذلك هو عند اختلاف الأجلين، أما إذا كانا حالين فيكون ذلك من الأمور الجائزة، فإذا حلا معاً فالراجح الجواز، والمسألة فيها عدد من الصور؛ لأن الدينين إما أن يكونا حالين، أو مؤجلين في أجل متساو، أو مؤجلين وأجل أحدهما أقصى والآخر دونه، وكذلك إما أن يكون متساويين، أو أن يكون أحدهما أكثر من الآخر مثلاً، فهذه الصور كلها إذا حلا فلا حرج حينئذ في التفاسخ؛ لأنه بمثابة المقاصة، وإذا تفاسخا في الدينين لا على وجه المقاصة ولا على وجه الحوالة، كان ذلك من الكالئ بالكالئ وهو ممنوع.

    الاعتماد المستندي

    كذلك من الكالئ بالكالئ، ما يحصل من التعاقد في البضائع التي لم تأت بعد في بيع الغائب، على ما يسمى بالاعتماد المستندي لدى أهل الاقتصاد، وهو أنا سأورد لك بضاعة، صفاتها كذا وكذا، ونتفق على المواصفات المشروطة فيها، وأنت لا تثق بي، كما أنني أنا أيضاً لا أثق بك، حتى أدفع إليك بضاعتي دون ثمن، فنتفق على أن نجعل المبلغ الذي يغطي استيراد البضاعة في مصرف في اعتماد مغلق، لا يمكن أن أسحبه أنا ولا أن تسحبه أنت، ما لم يتأكد البنك من استلام البضاعة، أي: من أنني استلمت البضاعة على الوجه المشروط، فجاءت البضاعة وجاءت على الشروط، وإذا وقعت حينئذ على الورقة، جاز للبنك صرف الثمن للجهة الموردة، فهذا النوع يسمى فتح الاعتماد الموثق، أو يسمى الاعتماد المستندي، أي الذي هو معتمد على استناد، فهو بمثابة السند عن تلك البضاعة، وهذا السند لا يمكن تسجيله إلا وفق شروط مخصوصة، وقد أصبح هذا القسم من أقسام القانون التجاري شائعاً في العالم، وتفنن الناس في أقسامه، وأصبح من المسائل الشائعة في تعاملات الناس، وصورته المتعامل بها اليوم إنما هي من هذا النوع من الكالئ بالكالئ؛ لأن كل واحد منا قد شغل ذمته بأمر متأخر، ولكن يمكن الاستغناء عنها بأن يكون العقد باتاً ليس عقد سلم، وإنما هو عقد على غائب، وهناك فرق بين السلم وبيع الغائب، فالسلم لا يكون إلا فيما تتحمله الذمة، والمعينات لا تتحملها الذمم، فلا يجوز أن تقول: أسلمت إليك هذه النقود في هذه الدار، أو في هذه السيارة بعد ستة أشهر؛ لأن الدار أو السيارة يمكن أن تنعدم، والمعينات لا تقبلها الذمم، لكن يجوز أن تقول: بعتك سيارتي الغائبة التي هي في المكان الفلاني بمبلغ قدره كذا وكذا، وهذا بيع الغائب يجوز أن يكون على صفة بشرط أن يصفه غير بائعه، إلا إذا كان البائع محل ثقة في الوصف، كما إذا كان شركةً كبرى ذات مصداقية، فتخرج كاتلوجاً مثلاً فيه جميع المواصفات المشروطة المطلوبة، ويكون على وفق البرنامج المذكور، فهذا من البيع على البرنامج. فهذا الأمر الأول.

    والأمر الثاني: إذا كان بشرط خيار الرؤية، أن يقول: اشتريت سيارتك الغائبة بمبلغ قدره كذا وكذا بشرط أن أراها على الوصف المطلوب، وبيع الغائب على خيار الرؤية هو من الخيارات المعروفة في الفقه، وقد كان من لدن عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وعند المالكية لا يجوز اشتراط النقد في بيع الغائب، إذا باع الغائب لا يجوز أن يشترط فيه النقد، ولكن تجوز فيه المواضعة، وهو أن يضع الثمن تحت يد أمين، حتى إذا رأى الغائب فجاء على الصفة، أمر ذلك الأمين أن يدفع إليه الثمن، وهذا النوع هو من الاعتماد المستندي في الواقع؛ لأن المواضعة هي وضع الثمن تحت يد أمين، وهذا الأمين لا يتصرف فيه، وليس هو رهناً للبائع، وإنما بقي محجوزاً إلى أن يأتي الغائب، فإذا جاء على الصفة حصل الشرط، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون أن عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف كلاهما آتاه الله ملكةً في العقلية التجارية، وكلاهما لديه عقلية تجارية عجيبة، وكان عدد من الصحابة يتمنون معرفة أيهما أقوى في التجارة، وأيهما أكبر عقليةً تجارية، حتى تبايعا في فرس غائبة، فلما تبايعا كانت الفرس موصوفةً من طرف ثالث، فوصفها، فاشتراها عثمان بن عفان من عبد الرحمن بن عوف بمبلغ قدره كذا وكذا، وطبعاً هذا المبلغ لا يشترط سداده الآن لا بد أن يتأخر، وكان عبد الرحمن يماكسه في الثمن حتى أغلى له الثمن، فصار عبد الرحمن رابحاً في الصفقة، فلما خرج عن المجلس دعاه عثمان بن عفان ، فقال: سأزيدك في الثمن على اشتراط رؤية الفرس، فاشترط الرؤية، وزاده في الثمن، فماتت الفرس قبل أن يراها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكانت عقلية عثمان من هذا الوجه أكبر من عقلية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وهذه العقلية التجارية توجد الآن ويتفاضل الناس فيها، فبعض الناس يستوعب هذه الصفقات التي نتكلم عليها بسهولة؛ لأنها من عقليته التجارية، وتدخل في نشاطه، وبعض الناس لا يستوعب بعض الصفات التي نحن نتكلم فيها، وإن كانت شائعةً مشهورةً في الأسواق في العالم بحسب عقلية الإنسان التجارية.

    وبيع الغائب لا بد فيه من الحذر من بيع الكالئ بالكالئ؛ لئلا تشتغل الذمتان معاً، ولذلك إذا دفع إليه الثمن عاجلاً من غير اشتراط صح ذلك عند الجميع باتفاق المالكية وغيرهم، إذا باع الإنسان داراً غائبةً مثلاً بأربعة ملايين ولم يشترط النقد، فجاء المشتري فدفع الثمن نقداً من غير شرط، فيجوز للبائع أخذه؛ لأنه لم يشترطه على المشتري، ولذلك فتحريم بيع الكالئ بالكالئ يرجع إلى ما ذكرناه من قبل من خشية حصول النزاع والخلاف، فالشريعة تسد كل باب للنزاع والخلاف، والغائب ليس موجوداً الآن، فلو مات مثلاً الغائب أو انهدمت الدار، أو حصل تلف بسماوي أو بغيره، أو جاء على غير الوقت، فيقع النزاع لا محالة؛ فلذلك سد الشارع كل باب يؤدي إلى النزاع.

    قاعدة أسلفني على أن أسلفك

    ومن أمهات الربا أيضاً قاعدة ثالثة وهي تتعلق بالطرد وهي أسلفني على أن أسلفك، أي: أن يكون القرض في مقابل إقراضه، ومحل ذلك إذا لم يكن الإنسان ليقرض؛ إلا إذا عرف أن الطرف الآخر سيقرضه، ومن أمثلة ذلك الصناديق النسائية، وقد كانت نسائيةً ثم عمت الآن فأصبح يدخل فيها كثير من الموظفين مع الأسف، وطريقتها أن يدفع كل إنسان مبلغاً محدداً على التساوي، مثلاً يدفع كل واحد من المجموعة عشرة آلاف، فيعطونها شخصاً منهم، وفي الشهر القادم تعطى شخصاً آخر، وفي الشهر الذي بعده تعطى شخصاً آخر، حتى تدور على المجموعة، فهذه هي في الواقع قرض، وهذا القرض لم يكن الإنسان ليقرضهم في كل شهر ألفاً، لولا أنه قانع أنهم سيقرضونه في المقابل، فهو سلف جر نفعاً؛ لأنه سلف جر سلفاً.

    ولهم في ذلك صورتان:

    الصورة الأولى: أن يكون على وجه اتفاقي أن يقال: يأخذها أولاً فلان ثم يليه فلان، ثم يليه فلان، إما على ترتيب اللائحة في البداية من قبل الذين وقعوا على اللائحة، وإما على ترتيب حروف الأسماء أبجدياً.

    الصورة الثانية: هي أن يكون ذلك على وجه القرعة، فمن خرجت القرعة له أخذ المبلغ، وهذا النوع من الصناديق التي هي قرضية يترتب عليها عدد من المحاذير، فمنها: أن فيها أسلفني على أن أسلفك كما ذكرنا، وفيها أيضاً ما يشبه القمار؛ لأن الإنسان يدفع القليل وهو يريد أن يربح الكثير كالمقامر، وبالأخص إذا كان ذلك على وجه القرعة؛ لأن القرعة فيها جهالة لمن يخرج حظه، وقد أصبح هذا النوع من الصناديق شائعاً مع الأسف في كثير من بلدان العالم الإسلامي.

    ومن هذا النوع أيضاً بعض التعامل الذي يقع بين أصحاب وكالات السفر، وأيضاً بين أصحاب المحلات المتجاورة التي تبيع نوعاً واحداً، فيقرض بعضهم بعضاً، ولولا أنه يعلم أن الآخر سيقرضه لما فعل، أما إذا كان أقرضه لوجه الله تعالى، ويعلم أنه سيقضيه فقط دون أن يتعلق هو بقرض من لديه فهذا لا حرج فيه.

    1.   

    قاعدة حط الضمان وأزيدك

    كذلك من هذه الأمهات الشائعة التي يترتب عليها الفساد في كثير من العقود حط الضمان وأزيدك، معناه إذا كان الإنسان له دين حال على آخر، وليس لديه ما يسدد به هذا الدين، فيزيد في الدين ويؤخره الآخر في المدة، أو يصرفه إذا كان دين سلم إلى نوع آخر، فيكون ذلك خروجاً من العقد الماضي إلى عقد جديد، فهذا النوع هو من أمهات الربا.

    1.   

    قاعدة الضمان بجعل

    وكذلك منها: ضمان بجعل، والضمان بجعل معناه: أن يتحمل إنسان عن آخر، أو أن يضمن عليه بشرط أن يقدم له نسبة، أو أن يقدم له مبلغاً مقطوعاً، فالضمان هو مثل القرض لا بد أن يكون لوجه الله، ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، ومنهم المذاهب الأربعة: أن كل ضمان بجعل فهو ربا، وذهب إسحاق بن راهويه : إلى أن الضمان بالجعل جائز.

    صور الضمان بالجعل

    ومن صور الضمان بالجعل: الضمانات البنكية التي يحتاج إليها الموردون، بل يحتاج إليها الناس جميعاً اليوم، فمثلاً مزادات المقاولات إذا كان هذا الإنسان سيبني منزلاً، وسيقاول عليه يقدم عليه مزايدة للمقاولة، ولكن كل شركة ستشارك في هذه المزايدة وتدفع مبلغاً لتغطية ما سيدفع إليها ما تتولاه من هذا الجانب؛ لئلا يتلاعب الناس في المشاريع الكبرى، فتحتاج هي إلى تغطية بنكية، وهذه التغطية في العادة لا تدفعها البنوك إلا مقابل ربح، ومثل ذلك الطلاب الذين يدرسون في الخارج، أو بعض المرضى الذين يتعالجون في الخارج يحتاجون إلى ضمانات بنكية للتكاليف التي سيتكلفونها في الخارج، وهذه الضمانات في الغالب لا تدفعها البنوك إلا مقابل زيادة، ومثل ذلك في الاستيراد، فأي إنسان يريد توريد أية بضاعة، لا بد أن يكون له تغطية من بنك يتعهد بالسداد عنه، وهذه التغطية غالباً لا تفعلها البنوك إلا في مقابل ربح، وهذا الربح هو مقابل الضمان، ومن هنا فإذا كان ذلك ربحاً معتبراً، كنسبة مقدرة في المائة فهذا من الربا؛ لأنه ضمان بجعل، أما إذا كان شيئاً تافهاً هو لمجرد إجراء العملية أو لتكاليفها الإدارية أو للاتصالات أو نحو ذلك، فالنسبة الضئيلة جداً قد تغتفر في مثل هذا النوع، والغالب في المؤسسات البنكية أنها تأخذ على الضمان البنكي نسبة خمسة بالمائة، أو نسبة اثنين ونصف في المائة، وهذه في الواقع نسبة معتبرة من العقود الكبيرة؛ لأنها تكون مبالغ طائلة جداً في العقود الكبيرة، فهذا أيضاً هو الضمان بجعل وهو من أمهات الربا، فلا بد من الابتعاد عنه، ولا بد أن تحرص المؤسسات البنكية وأن تعلم أن ربحها الحقيقي هو بمصداقيتها التجارية، وبرضا الزبائن عن الخدمات التي تقدمها؛ لأن المؤسسات البنكية ينبغي أن لا يغلب عليها طابع الجشع والطمع في مثل هذا النوع، فهي تريد تشجيع اقتصاد البلد، وتشجيع اقتصاد البلد إنما يتم إذا كانت المؤسسات البنكية تتعامل مع أهل الثقة، فتعاملهم بروح الثقة، ومن هنا فهي تضمن على الشخص الموثوق به الذي ملفه نظيف وذمته ظاهرة، فيضمن عليه بدون مقابل، وسمعت أن بعض المؤسسات البنكية في بلادنا قد تجري بعض الضمانات البنكية من غير مقابل، وهذا فعل خير؛ لأن الضمان بدون مقابل مما يبتغى به وجه الله تعالى، لكن الضمان بمقابل أياً كان نوعه إلا إذا كان تافهاً قليلاً كما بينا هو أم من أمهات الربا كما ذكرنا، وبهذا نقتصر على هذه الأمهات من أمهات الربا المشهورة، ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وإخلاصاً ويقيناً.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756216091