إسلام ويب

الولاء والبراء ومقتضياتهماللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بنيت لا إله إلا الله على ركائز ومقتضيات من أهمها: الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والولاء يعني تمام المحبة مع تمام العداوة لما يضادها، ومحبة الله وموالاته تقتضي الطاعة الكاملة لأوامره، ومحبة ما يحبه ومن يحبه، ومرتكز العلاقة بين المؤمنين على المحبة والولاء، فمن مقتضيات محبة الله أن تحب عباده المؤمنين، ومع ذلك لا بد من التفريق بين المحبة الدينية العقدية وصرفها في محلها، وبين المحبة الطبعية الجبلية في الإنسان والتحكم بها وضبطها بشرع الله تعالى.

    1.   

    مقتضيات شهادة لا إله إلا الله

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    نستحضر الآن النية للتلقي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا من مقتضيات ما يجب على الإنسان اعتقاده وما يترتب على ذلك من العمل.

    فمن ذلك: الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من عادى الله جل جلاله، فذلك تقتضيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي أربعة أمور:

    المقتضى الأول: ألا يصرف شيء من العبادة إلا لله جل جلاله؛ فلا يستحق أن يعبد إلا هو، فلا يمكن أن يصرف شيء من الصلاة ولا من الصوم ولا من النذر ولا من الصدقة ولا من غير ذلك من أنواع العبادات إلا لله وحده.

    والمقتضى الثاني: ألا يصرف شيء من الدعاء إلا لله جل جلاله؛ فالتوكل عليه وحده، والتماس الحوائج منه وحده، وقد قال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

    والمقتضى الثالث: ألا يشرع إلا الله جل جلاله، ومعناه: ألا يحكم بإيجاب ولا بتحريم ولا بندب ولا بسنة ولا بكراهة، ولا يأمر ولا ينهى إلا الله جل جلاله؛ لأنه وحده الذي يعلم الخفيات؛ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53]، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]، فهو الذي يعلم مآلات الأمور؛ ولذلك إذا شرع شيئاً فمعناه أنه المصلحة المتمحضة، فإذا أمر بشيء على وجه الوجوب فمعناه أنه لا يكون أبداً إلا مصلحة، وإذا أمر به على وجه الندب فمعناه أن الغالب أنه مصلحة، وقد لا يكون مصلحة في حق بعض الناس؛ فلذلك لم يوجبه، وإذا نهى عن شيء على وجه التحريم فمعناه أنه مفسدة دائماً في كل الظروف، وإذا نهى عنه على وجه الكراهة فمعناه أن أغلب أحواله يكون مفسدة، وقد تكون المفسدة فيه منتفية إذا زاحمتها مصلحة أخرى في بعض الأحيان؛ فلذلك لم يحرمه، ولذلك قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]؛ فإذاً لا يشرع إلا الله جل جلاله.

    أما المقتضى الرابع: الولاء لله، بمعنى: تمام المحبة لله جل جلاله، أن نحب الله حباً شديداً، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، وهذا الحب مكتسب، ولا بد أن يحرص كل إنسان منا ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً على زيادة حبه لله جل جلاله، وحب الله إنما يزداد بحسب معرفتك بالله جل جلاله، كلما ازددت معرفة بالله؛ كلما ازددت حباً له، إذا عرفته بأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، وأن كل نقص عليه محال، وأنه هو المنعم المتفضل في جميع الأحوال، وأنه باق جل جلاله لا تعروه الحوادث والآفات؛ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ[البقرة:255]، وأنه هو قيوم السموات والأرضين، وأنه هو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:41]، والسموات السبع والأرضون السبع قبضة يمينه يوم القيامة؛ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، وتذكرت ما أنعم به عليك أنت بالخصوص من نعمة الخلق والرزق والهداية للإيمان، والتوفيق للأعمال الصالحة، وما آتاك من السمع والبصر والقوة؛ فإنه قدر فهدى، وأنعم عليك بأنواع النعم التي لا تحصيها؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، إذا عرفت جزءاً من نعمته عليك فتذكر أن ذلك يضرب في أمثاله على والدك ووالدتك، ثم على أمثال ذلك في والد ووالدة والدك، ووالد ووالدة والدتك.. وهكذا إلى آدم عليه السلام؛ فالله أمرنا أن نشكر نعمته علينا وعلى والدينا فقال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ[النمل:19]؛ وذلك مما يزيد معرفتنا بالله ومحبتنا له جل جلاله.

    1.   

    مقتضيات محبة الله تعالى

    عبادته والإقبال عليه وتعلق القلب به

    إن محبة الله تقتضي عبادته والإقبال عليه، وتقتضي تعلق القلب به، وأن تكون معه في كل أوقاتك، وأن تستشعر أنه ينظر إليك جل جلاله؛ ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك )؛ فهذا تحقيق المحبة لله.

    الولاء لله تعالى وطاعة أمره

    والمحبة تقتضي الولاء له، ومعنى الولاء لله أن تحبه حباً شديداً بكل عاطفتك وقلبك، فإذا جاء أمره جل جلاله في مقابل مصلحة لك عرفت أن المصلحة يرمى بها عرض الحائط عندما تخالف أمر الله، وإذا جاء نهيه يخالف هواك؛ فإنك ترمي بهواك عرض الحائط، وهذا المقام متفاوت، وأهله متفاوتون فيه؛ فأعلى مقامات المحبة: الخلة، وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً كما قال: ( ولكن الله خليل صاحبكم )، والخلة معناها: أن تتخلل محبة الله القلب بحيث لا يبقى فيه محل لشيء آخر.

    فـإبراهيم عليه السلام لما رزقه الله إسماعيل وبشره به، وبشره بأنه ولد عليم وأنه حليم، وبلغ معه السعي بعد أن كان ينتظره مدة طويلة، فعندما ولد له وهو في غاية الجمال وكمال الصورة؛ أمر أن يتركه وأمه عند غروب الشمس بواد غير ذي زرع، موحش بعيد من الأحياء، وأن تكون بينه وبينه مسافة شهر على الأقل للخيل؛ فذهب به وبأمه وتركهما بوادي مكة وليس لهما إلا ماء يسير في قربة؛ فكر راجعاً إلى الشام بعد أن ادلهم الظلام بين الجبال الشامخة والأودية السحيقة؛ فرفعت إليه الجارية رأسها فقالت: ( يا إبراهيم! آلله آمرك بهذا؟ فأشار برأسه -أي: نعم- قالت: إذاً لا يضيعنا ) فـإبراهيم معتمد على محبته لله؛ ولذلك يمكن أن يتخلص من كل محبوب إذا عارض محبة الله جل جلاله وأمره.

    وبعد ذلك لما بلغ معه السير والسعي أمر في المنام أن يذبحه، فعرض ذلك على الولد فاستسلم استسلام الطائع المقاد، وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[الصافات:102]، فتشهدا شهادة الحق؛ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[الصافات:103]، وبدأ يباشر الذبح؛ فداه الله بذبح عظيم أنزله من السماء، فلما فتح إبراهيم عينيه إذا هو قد ذبح كبشاً لم يكن رآه من قبل ولا رأى ضخامته وجسامته، وإذا إسماعيل قائم عنده.

    وهكذا كان حال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمن تمام محبته لله جل جلاله أنه لا يأنس بشيء كأنسه بالصلاة ومناجاة الله جل جلاله، قال: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، وكان يقول: ( أرحنا بها يا بلال )، ولا يشتاق إلى شيء اشتياقه للصلاة؛ لأن فيها مناجاة الملك الديان جل جلاله.

    محبة كل من يحب الله أو يحبه الله

    ومن تمام محبة الله جل جلاله: محبة كل من يحب الله أو يحبه الله؛ فنحن الآن نحب جبريل و إسرافيل و ميكائيل و محمداً صلى الله عليه وسلم و إبراهيم و موسى و عيسى و نوحاً ، وبقية أنبياء الله وملائكته حباً شديداً، وما رأيناهم ولا عرفناهم؛ وما ذاك إلا لأنهم أحبوا الله جل جلاله وعبدوه عبادته التي يستحقها، ونحن عاجزون عنها؛ فنحن نحب كل من يحب الله وكل من يعبد الله عبادته التي يستحقها.

    ولذلك يتفاوت الناس في هذا الولاء؛ فأبلغ العباد ولاءً، أي: أبلغ من نحبه من العباد هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحب العباد إلى الله وأفضلهم عنده؛ فلذلك لا يمكن أن تستوي محبتنا له بمحبتنا لأي كائن آخر، أياً كان ذلك الكائن، لابد أن نحبه حباً متميزاً كما قال الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا[النور:63]، لابد أن نفديه بأنفسنا وأهلينا وأن يكون أولى من أنفسنا؛ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب:6]؛ ولذلك قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، وقال لـعمر : ( حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ).

    وهذا الحب حققه أصحابه رضوان الله عليهم، وحققه كبراء هذه الأمة من العصور كلها؛ فهذا عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه يوم بدر لما ضربه عتبة بن ربيعة على ساقه فأطن ساقه؛ فخرج مخه حمل وهو يجود بنفسه فوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا رسول الله، وددت لو أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

    كذبتم وبيت الله تحلي محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل

    ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل )

    وهكذا كانت تمام محبتهم له؛ فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه من تمام محبته له أنه عندما خرج معه في الهجرة كان تارة يسير أمامه، ثم يتذكر أن الطلب يأتي من الخلف فيتأخر عنه، ثم يتذكر أنه قد يأتي من اليمين فيكون عن يمينه، ثم يتذكر أنه قد يأتي من الشمال فيكون عن شماله، ولما دخل الغار جاء أبو بكر فكان يسد بأقدامه كل فجوة في الغار؛ يخاف أن تكون فيها حية أو عقرب يريد أن تبث سمومها في جسده، ليكون فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهكذا علي بن أبي طالب فقد فداه بنفسه لما تألب عليه المشركون يريدون أن يقتلوه أو أن يحسبوه؛ فجاء علي فلبس لباسه واضطجع على فراشه يريد أن يكون جسده فداءً لجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ[الأنفال:30].

    وكذلك بقية الصحابة رضوان الله عليهم؛ فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أسره المشركون يوم الرجيع وباعوه بمكة إلى أهلها، وكان ذلك في الشهر الحرام؛ فحبس في قيود الحديد حتى ينتهي الشهر الحرام، فلما انتهى خرجوا به خارج حدود الحرم ليقتلوه ويصلبوه، فقال له أبو سفيان بن حرب : يا خبيب ! أتحب أنك الآن بين ذويك وأهلك بالمدينة وأن ابننا محمداً عندنا نقتله ونصلبه؟ فانتفض خبيب وقال: والله ما أود لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة وأنني بين أهلي! ولما حملوه ليصلبوه أنشد بيتيه المشهورين:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي

    وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

    وكذلك القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتلهم عامر بن الطفيل ببئر معونة سألوا الله أن يبلغ سلامه للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يقتلون واحداً واحداً.

    وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما أخذه مسيلمة الكذاب فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، بملء فيه، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أنا أصم! فقطع يمينه، ثم أعاد إليه السؤال فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أنا أصم! فقطع شماله.. حتى قطعه إرباً إرباً وهو ثابت على قوله لا يغيره.

    ومن تمام محبتهم له: محبتهم لكل ما يتعلق به، وولائهم له صلى الله عليه وسلم ودفاعهم عنه؛ فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال لـعروة بن مسعود رضي الله عنه بالحديبية لما قال: ( يا محمد، ما أرى معك إلا أشابة من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك، وإن قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل، يعاهدون الله ألا تدخلها عنوة أبداً قال له أبو بكر : امصص بظر اللات! ويلك أنفر ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ) فهذا ليس معقولاً ولا يمكن أن يتصور أصلاً.

    الاستعداد لحماية دين الله بالنفس والمال

    وهذا الولاء لله جل جلاله يقتضي أن يكون الإنسان مستعداً لحماية دين الله بنفسه؛ فيقول ما قال موسى بن عمران : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84]، فإذا هددت بيضة الإسلام فإنه يكون مستعداً لاستقبال الرصاص بصدره ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] كما قال موسى عليه السلام، ويكون مستعداً لحماية الدين بأي وجه؛ بماله، بنفسه، بأهله.. بكل ما لديه.

    وانظروا إلى ذلك الشيخ الكبير صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، فقد كان من كبار التجار بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ضاقت الأرض بما رحبت على صهيب حين فقد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وأرد أن يهاجر إليه بالمدينة؛ فخرج وترك جميع أمواله ولم يأخذ إلا قوساً تنكبها وكنانة ملأها بالسهام، فخرج وهو عاصب حاجبيه قد سقطا على عينيه من الكبر، فتبعه رجال أهل مكة، فلما اقتربوا منه صاح في وجوههم؛ فقال: يا أهل مكة! تعلمون أنه ليس بيني وبينكم رحم، وإنما تطلبون مالي وقد تركت لكم جميع أموالي وما خرجت إلا بهذه الكنانة وفيها هذه السهام؛ فنثرها، والله لن تصلوا حتى ينفد ما لدي من السهام، ولا يصدر سهم منها إلا في كبد أحدكم، فقال أبو سفيان : لقد صدقكم الشيخ وأنصفكم؛ فلا خير فيكم بعد أن يقتل منكم هذا العدد فارجعوا، فرجعوا وتركوه يخرج مهاجراً إلى الله ورسوله.

    وكذلك امرأتان مؤمنتان شهد الله لهما بالإيمان، وهما حمنة بنت جحش و أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وقد خرجتا مهاجرتين من مكة إلى المدينة تحملان قربة فيها ماء، ليس لهما زاد إلا هذه القربة، وليس لهما راحلة تركبانها، وهما تسيران في الأرض الموحشة التي فيها السباع والأعداء واللصوص.

    1.   

    فضل الولاء لله ورسوله وفائدته

    وهذا الولاء به يذاق طعم الإيمان وحلاوته، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )، والثلاثة كلها عاطفية تتعلق بالمحبة والكره.

    الأولى: محبة الله ورسوله حباً شديداً لا يعدله حب آخر.

    الثانية: أن يحب الإنسان إنساناً لا يحبه إلا لله، ليس بينه وبينه نسب ولا يرجو منه نفعاً مادياً، وليس بينهما أية علاقة إلا أنه يرى أنه يحب الله فيحبه من أجل محبته لله.

    الثالثة: أن يكره الكفر؛ فيكره أن يعود فيه كما يكره أن يحمل ويرمى في النار، أي: أشد أنواع الكراهة.

    1.   

    ندب الله تعالى عباده المؤمنين بالولاء له وجعله شرطاً عليهم

    هذا الولاء شرطه الله على المؤمنين وندبهم إليه؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ[المائدة:51-53]، ثم يقول بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:54-57].

    وقد نعى الله على اليهود الإخلال بهذا الولاء والبراء؛ فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:78-81]، كما حذر الله المؤمنين منه في آيات كثيرة من الإخلال بهذا الولاء والبراء؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[النساء:144]، وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:28]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ[الممتحنة:1]، وقال قبل ذلك: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ[النساء:144]، التي في سورة التوبة يقول فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ[التوبة:23-24].

    1.   

    لوازم الولاء ومقتضياته

    الأخوة بين المؤمنين

    بين النبي صلى الله عليه وسلم لوازم هذا الولاء والبراء؛ فبين ما يقتضيه من حق الأخوة؛ لأن الولاء الديني بين المؤمنين أساسه النسب الديني الذي هو الأخوة بين المؤمنين، وقد أكدها الله بقوله: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وبين استمرارها في الآخرة فقال: إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[الحجر:45-47]؛ فأثبت الأخوة أيضاً في الدار الآخرة مع أنها حاصلة في الدنيا في قوله: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]. وبين استمرار هذا الولاء ومقتضياته بقوله: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة:71].

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بضعاً، وشبك بين أصابعه )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم )، ومثل قوله: ( ذمة المؤمنين واحدة )، وكل ذلك يقتضي أن هذا الولاء يقتضي التعاون على البر والتقوى، ويقتضي المحبة في الله والمساعدة على طاعته.

    أقسام الولاء للمؤمنين

    ثم بعد ذلك لابد من الولاء للمؤمنين جميعاً، وهو ينقسم إلى قسمين: ولاء عام، وولاء خاص؛ فالولاء العام بمعنى: محبة المؤمنين جميعاً ومحبة الخير لهم جميعاً، أحياءً وأمواتاً، وكذلك الدعاء لهم جميعاً، وأن يشعر الإنسان بانتمائه لهذه الأمة وأنه من أفرادها؛ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[المؤمنون:52]؛ فلابد أن نستشعر جميعاً أننا لبنات من لبنات بناء هذه الأمة وصرحها الكبير؛ فعلى كل إنسان منا أن يعلم ما للأمة من الحقوق عليه، وأن عليه أن يسعى لتقدم هذه الأمة بين الأمم والتمكين لها ونصرتها.

    ثم بعد ذلك الولاء الخاص للعاملين للإسلام والداعين إليه والساعين لإعلاء كلمة الله ورفع لواء هذا الدين؛ فلهم ولاء خاص زائد على الولاء العام الذي هو لكل المؤمنين، وقد ذكرنا دليله في خواتيم سورة الأنفال في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[الأنفال:72].

    محبة المؤمنين جميعاً ومحبة الخير لهم

    وهذا الولاء للمؤمنين يقتضي محبتهم أجمعين ومحبة الخير لهم، سواءً من عرفته منهم ومن لم تعرفه، وأن تحس بآمالهم وآلامهم؛ فلا يمكن أن يتألم أهل غزة أو أهل العراق أو أهل أفغانستان أو أهل كشمير أو أهل الصومال أو أهل السودان ويبقى غيرهم من الأمة في أمان، لابد أن يشعر الإنسان بحال المعذبين في السجون وبحال الأيامى واليتامى والضعفة من المسلمين، ولا بد أن يحس بحقوقهم وأنهم إخوان له، وأنه لا يمكن أن ينعم بأرغد عيش وهم يعانون ما يعانون من أنواع الويلات والبلاء.

    الدعاء لهم وبذل الجهد في تخفيف معاناتهم

    واستشعار ذلك يقتضي من الإنسان الدعاء لهم وبذل الجهود في تخفيف معاناتهم بكل ما يستطيعه ولو بكلمة؛ فإن الإنسان لا يكلف إلا بما يطيقه؛ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7]، والإنسان إذا أحس بآلام الأمة وجروحها النازفة؛ كثيراً ما تأخذه حرقة وغيرة شديدة، ويريد أن يتصرف فيما لا يستطيع التصرف فيه، وإذا تذكر أنه لم يكلف إلا بما يطيق فإن ذلك سيرده إلى صوابه، ويعلم أنه مخاطب بما يستطيعه، وليس مخاطباً بما سوى ذلك ولا تكليف له به، وما لم يكلف الإنسان به فاعتداؤه عليه هو من تجاوز الأدب في الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فما هو عاجز عنه ليس مما يعنيه، وقد قال أبو العلاء :

    أرى العنقاء تكبر أن تصاد فعاند من تطيق له عنادا

    فكل يدفع بحسب طاقته وقدرته، ولو شاء الله لجعل طاقة الناس متحدة، ولو شاء لمنعهم أجمعين مما يتصرفون فيه، ولو شاء لأعطاهم أكثر مما أعطاهم، له الحكمة البالغة جل شأنه؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    فلابد أن نستشعر حال المسلمين جميعاً وأن نسعى لتخفيف معاناتهم كل بحسب طاقته؛ فإذا كان الإنسان يستطيع بذل دعاء؛ فيجب عليه ألا يقصر في ذلك، وإذا كان يستطيع بذل شفاعة فيجب عليه ألا يقصر في ذلك، وإذا كان يستطيع بذل جاه أو مال وجب عليه ذلك، وإذا كان يستطيع بذل قوة فيجب عليه أن يفعل ذلك إذا كان قادراً عليه وكان مجدياً، وإذا كان يستطيع نفعهم بأي أمر آخر حتى ولو بقراءة القرآن عليهم والرقى الشرعية كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، لما سئل عن الرقى قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )؛ فكل نفع للمسلمين داخل في إطار الولاء لهم، وهذا الولاء معناه: المحبة والنصرة في الدين، فقد لا تكون تحب إنسان لذاته؛ فشكله لا يعجبك، أو طبعه لا يعجبك، أو لا تتفاهم معه في لغته، لكن لابد أن تحبه من أجل دينه، بقدر التزامه بهذا الدين؛ فإذا كان صالحاً، تاركاً للمحرمات، مقبلاً على الطاعات؛ تحبه بقدر ذلك حباً شديداً، وإذا كان فاسقاً عاصياً؛ تكرهه بقدر معصيته، وتحبه بقدر إيمانه، فيجتمع فيه الولاء والبراء بقدر كل واحد منهما، أي: بقدر ما فيه من الطاعة والمعصية.

    1.   

    اجتماع الولاية والعداوة في الإنسان الواحد

    والإنسان الواحد قد يكون ولياً لله من وجه عدواً لله من وجه؛ فهو ولي لله بصلاته مثلاً وهو عدو لله بأكله للربا، مثلاً؛ فيجمع بين الأمرين، وبقدر ما فعل من الطاعات يكون ولياً لله، وبقدر ما فعل من المعاصي يكون عدواً لله، ولا منافاة بينهما، لأن ولاية الله لا تنقضها المعاصي، وإنما ينقضها الشرك؛ ولذلك يقول العلامة محمد عالي ولد عدود رحمة الله عليهما:

    من ادعى محبة الله ولم يسر على سنة سيد الأمم

    صلى الله عليه وسلم.

    فذاك كذاب أخو ملاهي كذب دعواه كتاب الله

    فالله يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ[آل عمران:31].

    وهي من المخالفات قالوا لا تنتفي بل ينتفي الكمال

    (وهي) أي: محبة الله (من المخالفات) والمعاصي التي لا تنتفي بل ينتفي كمالها، فلا يكون الإنسان على تمام المحبة إلا إذا كان طائعاً للأوامر مجتنباً للنواهي، وهذا المقصود بقول الشافعي رحمه الله:

    تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس شنيع

    لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

    فمعنى ذلك الحب الكامل والولاية الكاملة؛ فهي التي تمنع صاحبها من المعصية، وهي برهان الله في قلب الإنسان، فكل إنسان لله برهان في قلبه بقدر ما في قلبه من الإيمان، وإذا أراد أن يمتحن هذا البرهان؛ فليخل بمحارم الله؛ فإن وجد نفسه معرضة عنها وحيل بينه وبينها فليعلم ولله الحمد أن إيمانه قوي وأن محبته لله تامة، وإذا وجد نفسه إذا خلا بمحارم الله انتهك بعضها أو انتهكها أو وقع فيها فليعلم أنه محتاج إلى مراجعة إيمانه ومراجعة محبته لله جل جلاله.

    وهذا برهان لا يخلف؛ فـيوسف عليه السلام قال الله في قصته: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24]، معناه: لولا أن رأى برهان ربه في قلبه لهم بها، ولكنه لم يهم بها؛ لتمام برهان الله ومحبته بقلبه.

    1.   

    درجات برهان الله في قلب الإنسان الذي يحول بينه وبين المعاصي

    ذكر أهل العلم أن برهان الله في قلب الإنسان الذي يحول بينه وبين المعصية متفاوت الدرجات إلى أربع:

    الأولى: من الناس من يكون الحاجز بينه وبين معصية الله كالجبل؛ فلا يرى لون المعصية ولا حركاتها ولا يسمع أصواتها ولا يشم روائحها، بينه وبينها حاجز، لا يمكن لو فكر كل تفكير أن يفكر في معصية الله، كما كان صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه فقد قال عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب ! لو لم يخف الله لم يعصه، معناه: لو كان لا يخاف الله لما عصاه؛ لشدة محبته له، فقد قام به من محبة الله وتعلق القلب به ما يمنعه من معصيته حتى لو لم يفكر في النار والعقوبة؛ لأنه يفكر في المحبة، فإنه تشغله محبة الله وتعلق القلب به على أن يفكر في معصيته أصلاً، فهذه الدرجة الأولى.

    الثانية: من يكون الحاجز بينه وبين المعصية كالزجاج، لا يستطيع اختراقه ولا يسمع الأصوات من روائه ولا يشم الروائح، لكن يرى الألوان والحركات، فربما شغلته متابعة المعصية أو سماع الغيبة أو بعض سماع الغناء أو بعض الأمور؛ فيكون ذلك قصوراً ونقصاً، لكنه ولله الحمد حيل بينه وبين المعصية وهو في حيز ناء عنها؛ لأن بينه وبينها زجاجاً لا يستطيع اختراقه.

    الثالثة: من يكون الحاجز بينه وبين المعصية كالماء، لا يستطيع اختراقه إلا بصعوبة، وتنفذ منه الروائح والأصوات، ويرى من ورائه الحركات والألوان، ولكنه لا يستطيع قطعه إلا بصعوبة.

    الرابعة: من يكون الحاجز بينه وبين المعصية كالهواء؛ فهو مع المعصية في لحاف واحد، إذا تحرج اقترب منها، وهو على شفا جرف هار، على طرف المعصية.

    والذي تكون التقوى ولايته لله جل جلاله وتعلقه به؛ يوفقه الله ويحفظه من المعاصي، ويتم ذلك بالأسباب الشرعية التي منها تمام المحبة، ومعرفة الحكم الشرعي، ومعرفة الله جل جلاله لتخافه وترجوه، ومعرفة ما أعد الله لمن أطاعه وما أعد لمن عصاه، ثم بعد ذلك الدعاء؛ فأنت عندما تقول في أذكار المساء والصباح: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنك تستعيذ من شرور نفسك ومن شيطانك ومن الذنوب والمعاصي؛ فهي مما خلق الله، وأنت تستعيذ من شرور ذلك كله، فأول ذلك نفسك التي بين جنبيك وإبليس وجنوده أجمعون، وجميع الآثام والمعاصي، ثم بعد ذلك الأضرار والهوام وغير ذلك من الأمراض والأسقام، وهكذا؛ فهذه الأسباب تمنع الإنسان من الوقوع في المعصية وتحقق ولاءه لله جل جلاله.

    1.   

    أسباب نقص الولاء لله ورسوله في قلب الإنسان

    في مقابل الأسباب التي تمنع من الوقوع في المعصية وتحقق الولاء لله هناك الأسباب التي تقتضي نقض الولاء نسأل الله السلامة والعافية.

    حب الدنيا وتعلق القلب بها

    من أعظم الأسباب: حب الدنيا وتعلق القلب بها، فالإنسان إذا خالطه حب الدنيا وخالط شغاف قلبه فأحبها حباً شديداً فإن ذلك يغلب على عقله وعلى علمه وعلى ورعه؛ فلو خلا بمحارم الله فإنه لابد أن ينتهكها؛ لأنه أحبها حباً شديداً، فهي أحب إليه من نفسه ومن نعيمه الأخروي، فيؤثر العاجلة الفانية على الآجلة الخالدة الباقية.

    وحب الدنيا هو أساس أمراض القلوب كلها كما قال العلامة محمد مولود بن أحمد فال رحمة الله عليهما:

    وأصلها حب الدنا لذاتها أو لتنال النفس من لذاتها

    عالج بمن في جمعها قد تعبوا دهراً طويلاً فحووا ما طلبوا

    فبينما هم دارجو مراقي زهرتها إذ هجمت حلاق

    ضعف همة الإنسان وتفكيره

    ومن الأسباب التي تؤدي إلى نقص الولاء: ضعف الهمة؛ فالإنسان إذا كانت همته ضعيفة فإنه يفكر فيمن حوله فقط، فيرى أن نصرة الإسلام إنما تكون هنا في هذا المسجد ونطاقه أو في هذه المقاطعة أو في هذه المدينة أو في هذه الدولة، ولا يفكر فيما وراء ذلك، لكن إذا علت همته رغب في علو شأن هذه الأمة كلها، وتذكر حال قاصيها ودانيها، ورغب في أن يكون هو من الذين يقدمون لها شيئاً.

    مخالطة الكفار والفجار

    ومن أسباب نقص الولاء: مخالطة الكفار والفجار؛ فالمخالطة تقتضي زوال ما كان يجده الإنسان من الخوف والرهبة، فكل أمر خالطه الإنسان كثيراً تزول عنه رهبته وخوفه، والإنسان الذي لم ير كافراً قط إذا رأى كافراً لأول مرة يستقذره ويكرهه كراهة شديدة، والإنسان الذي يعيش بين الكفار يراهم آناء الليل وأطراف النهار لا يشعر بشيء عند رؤيته الكفار، وأنا أذكر في هذه المدينة قديماً امرأة بدوية جاءت من البادية لعلاج ابنتها، وكانت ابنتها مصابة في عينها وفي المستشفى إذ ذاك طبيب فرنسي اسمه شاسو كان يعالج العيون، وهو من منظمة تنصيرية اسمها "أطباء بلا حدود" فذهبت معها إلى هذا الطبيب فبمجرد نظرها إليه سألتني: هل هذا كافر، نصراني؟ قلت: نعم؛ فغمضت عينيها حتى خرجنا من المستشفى! لم تستطع أن تنظر إليها لكراهتها الشديدة للكفار، تقول: أنا ما وقعت عيني قط على كافر! وما أحب أن أراه؛ فكثرة المساس تزيل الإحساس.

    ومثل هذا في أصحاب الفجور والمعاصي؛ فإن الإنسان إذا كان يخالط أهل الغيبة والنميمة وكلام السوء، ويكثر ذلك عليه، يسمعه آناء الليل وأطراف النهار فإنه لا يقشعر جسده إذا سمعه ولا يستنكره، والإنسان الذي لا يسمع ذلك ويجد هدوءاً ونعومة بال ويعيش مع الصالحين أو يعيش في الخلاء، يخلو بالله جل جلاله؛ فإنه لا يأنس بالمعاصي، وإذا خالط سمعه معصية لله جل جلاله اقشعر لها في أول الأمر.

    عدم المعرفة برسول الله والجهل بشمائله

    ومن أسباب نقص الولاء للرسول صلى الله عليه وسلم: عدم المعرفة به؛ فالذي لا يدرس سيرته ولا يعرف صفاته ولا يعرف شمائله ولا يعرف ما فضله الله به وخصه به من بين الخلائق؛ سيكون مثل غيره من الأنبياء عنده إذا كان على مستوى من هذا القبيل، أو يكون رجلاً عادياً مثل غيره، وقد سمعت أن بعض الناس من أبناء المسلمين ومن أبناء جلدتنا، من أولاد هذا الوطن يقولون: نحن نعتز ونفخر بمنجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما نعتز ونفخر بمنجزات امرئ القيس و النابغة وغيرهما؛ لأنهم يظنون أن هؤلاء جميعاً من قومية واحدة هي قومية العرب، فيساوون مفاخر الرسول صلى الله عليه وسلم بمفاخر الذين ماتوا على الشرك والكفر في الجاهلية؛ فلابد أن ينقص الولاء حينئذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يساويه الإنسان بالكفرة الفجرة.

    ومثل ذلك الإيغال في التقليد للمخلوقين غير المعصومين؛ فالإنسان إذا كان يبالغ في تقليد غير المعصوم فسيكبر هذا المخلوق عنده، وهذا العالم أو هذا الولي أو هذا الشيخ يكبر عنده حتى يجعله نداً للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءه حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا، حتى أسأل الفقيه: هل أعمل بما قال النبي صلى الله عليه وسلم أو لا أعمل به؟ أو هل قال هذا فلان صاحب المذهب الفلاني أو لم يقله؟ وهكذا.

    فسبب هذا هو المبالغة في التقليد، فالعلماء والأئمة والصالحون والأولياء هم عباد من عباد الله وأتباع من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يرجون الدخول في شفاعته ويخدمونه بدراسة سنته وبتعليمها للناس، وقد بذلوا أعمارهم وأرواحهم في مدارسة سيرته وسنته؛ وبهذا شرفوا، وشرفهم إنما هو بما درسوا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وما عملوا به مما جاء به من عند الله، وتفاوتهم إنما هو بذلك؛ فأعلاهم منزلة وأقواهم إيماناً هو أكثرهم اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم معرفة بسنته وسيرته وأقربهم إليه، لكن المقلدين يقطعون أشواطاً طويلة في المبالغة والإيغال؛ فيجعل ذلك منهم أن يعارضوا قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول إنسان آخر، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لأهل مكة عندما حدثهم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كان أبو بكر و عمر يقضيان بكذا، فقال: والله ليوشكن أن ترجمكم الملائكة بالكواكب من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقولون: قال أبو بكر وعمر!

    فلا يمكن أن يعدل عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد كائناً من كان، فنحن ما أحببنا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علياً ولا مالكاً ولا البخاري ولا الشافعي إلا لمحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعهم له، ولو لم يتبعوه لما أحببناهم، لو لم يتبع عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندنا مثل الخطاب ، ولو لم يتبعه علي بن أبي طالب كان عندنا مثل أبي لهب ، لكن الذي شرفه هو اتباعه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإيمانه به وجهاده معه واتباعه لما جاء به، وهكذا جميع الأئمة الأعلام لولا اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحبهم أحد ولا عرفهم ولا قدرهم ولا دعا لهم؛ فنحن الآن ندعو للبخاري و لـمالك و لـلشافعي ولـأحمد و لـأبي حنيفة ، ونترضى عنهم وعن الأئمة الأعلام، وحتى عن علمائنا ممن دون ذلك، مثلاً إذا ذكر الجهابذة الكرام مثل سيدي عبد الله ولد حاج إبراهيم و المختار البونا و المتالي وغيرهم من الأئمة الأعلام ندعو لهم أجمعين ونترحم عليهم، لماذا؟ لمحبتهم لله ورسوله، ولما تعلموا مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموه، ولما عملوا به من ذلك، وإلا ففي عصرهم من بني عمهم ومن إخوانهم من لا نعرفه أصلاً ولا علم لنا عنه نهائياً ولا ندعو له؛ لأنه ما وصل إلى مستواهم في الإيمان والعمل.

    ولذلك فغير المعصوم الذي لم يرد فيه النص أنه من أهل الجنة دائماً يرجى له ويخاف عليه، وإذا كان الإنسان بهذا المستوى لم يغل ولم يبالغ؛ فهو يحب المؤمنين أجمعين، ويحب الأولياء والصالحين والعلماء والعباد الزهاد، لكن مع ذلك يعلم أنهم عرضة للقبول والرد؛ فالله لا معقب لحكمه، يمكن أن يتقبل من إنسان عملاً يسيراً جداً كتلك الزانية من بني إسرائيل التي تقبل الله منها أن نزلت في البئر فنزعت خفها، وجعلت فيه ماءً وأمسكته فأسنانها وصعدت فسقت كلباً يأكل الثرى من العطش، فتقبل الله منها فكفر كل سيئاتها، عمل واحد يسير جداً تقبله الله وبارك فيه، وكثير من الذين لهم أعمال أمثال الجبال قد لا يتقبلها الله جل جلاله، ولا اعتراض عليه في ذلك؛ فهو الحكم العدل وهو علام الغيوب، وهو يعلم السر وأخفى.

    1.   

    الفرق بين المحبة الدينية والمحبة الطبعية

    ثم بعد ذلك لا بد أن نميز بين المحبة في الدين وبين المحبة الطبعية؛ فالمحبة الطبعية: أن تحب إنساناً لأن شكله يعجبك، أو أن طبعه يلائم طبعك، أو أنه قريب لك، أو أنه أسدى إليك معروفاً؛ فهذه محبة طبعية، كما تحب بعض البلدان وبعض الألوان وبعض الأطعمة وبعض الأشربة، ليس معنى حبك لهذا الشراب على هذا أنه أفضل منه في الآخرة أو أنه أقرب إلى الله منه؛ أبداً، بل معناه أنه أبلغ ملائمة لطبعك أنت من غيره؛ ولهذا فمحبتك للكافر لأنه أحسن إليك أو لأن شكله يعجبك أو لأن خلقه يعجبك، لكن لا تحب دينه ولا ما هو عليه، فهذا لا ينافي الولاء؛ ولذلك أجاز الله أن يتزوج المسلم باليهودية والنصرانية إذا كانت محصنة، ولا يمكن أن يقع الزواج إلا مع المحبة، لا يمكن أن يقال له: يجب عليك أن تكرهها كراهة شديدة ومع ذلك تتزوجها، مستحيل! فهو يتزوجها بسبب المحبة، لكن هذه المحبة محبة طبعية وليست محبة في الدين ولا نصرة فيه؛ فلا تدخل في إطار الولاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب عمه أبا طالب وكان يحب قومه قريشاً، وكره أذاهم، وهذا من الحب الطبعي، كما يحب الإنسان بعض الأمكنة دون بعض ويحب بعض الأغذية دون بعض، وبعض الملابس دون بعض، فهو حب طبعي لا علاقة له بالاعتقاد.

    أما الحب العقدي فهو أن تحب هذا الشخص لله جل جلاله، أي: لأنه يحب الله، أو تحبه لدينه، وهذا الذي يحقق الولاء، وهو الذي يحصل به البراء؛ فلابد في البراء أن تكره كل من خالف منهج الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عنده، وتتفاوت الكراهة؛ فمن كان مشركاً ناقضاً للإيمان فكراهته أشد ومن كان عاصياً مرتكباً للفواحش والكبائر ولكنه غير مشرك فكراهته دون ذلك، ومن كان مرتكباً للمم وبعض الصغائر فعداوته دون ذلك، وهكذا في المحبة أيضاً؛ فمن كان تاماً في الاتباع، عالماً بالشرع متبعاً له؛ فإنك تحبه حباً شديداً، وأبلغ ذلك حبك للمعصومين جميعاً، كالملائكة والأنبياء، ثم حبك لمن دونهم من الصالحين والعلماء، ثم حبك لأفراد المسلمين، من رأيته منهم يرتاد المساجد تحبه لهذا الأمر لكن لا تدري ما عساه يفعل في بيته، ولست مسئولاً عن ذلك، ( إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان )، مجرد أن تراه يرتاد المساجد.

    وجوب تحقيق الولاء لله ورسوله

    هذا الولاء تحقيقه واجب علينا، وكل ما هو واجب علينا؛ فإن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، فلابد يا إخواني! أن ندرب أنفسنا أولاً على حب الله جل جلاله والولاء له حباً شديداً، ثم لابد بعد ذلك أن ندرب أنفسنا على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والولاء له حباً شديداً حتى نجعل أنفسنا فداءً له، ثم لابد أن ندرب أنفسنا على حب كل المؤمنين، قاصيهم ودانيهم، أبيضهم وأسودهم، من مات منهم في العصور الخالية ومن سيولد ومن هو حي الآن.

    ثم بعد ذلك يأتي الولاء الخاص للعاملين منه للإسلام والرافعين للواء الإسلام والمجاهدين في سبيل الله، لابد أن نحبهم أكثر مما نحب من سواهم، وأن ندعو لهم دعاءً خاصاً وأن نحرص على تخفيف معاناة المؤمنين جميعاً، كل بحسب طاقته وما يستطيعه، والإنسان إذا عرف واجبه واستطاع أن يصل إليه فإنه يجب عليه أن يبادر لذلك ولا يحل له التأخر فيه؛ فالتأخر بعد معرفة الواجب إنما هو من التسويف وتطويل الأمل، وصاحبه يخشى عليه من سوء الخاتمة، نسأل الله حسن الخاتمة.

    فلابد من وضع برنامج نتفق عليه لزيادة حبنا لله جل جلاله، وحبنا لرسوله صلى الله عليه وسلم، فمحاولتك لمعرفة الله جل جلاله بتعرفك عل آياته في الكون وآياته في القرآن، ومعرفتك بصفاته جل جلاله، صفات الكمال جميعاً، ومعرفتك بأسمائه الحسنى، وتتبعك لآياتها في القرآن، وكثرة ذكرك له؛ أن تلهج بذكره وتكثر من ذلك حتى تترسخ المحبة لديك، فهذا برنامج لمحبة الله والولاء له.

    كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم مما يركز محبتك له والولاء له: أن تدرس شمائله وسيرته وسنته وأن تزداد كل يوم علماً مما جاء به وأن تلهج بالصلاة عليه وذكره دائماً، وأن تقدمه على غيره وأن تشتاق إليه وإلى وطنه والمكان الذي دفن فيه والمكان الذي ولد فيه، وأن تشتاق إلى لقائه.

    غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه

    وأن تشتاق إلى أصحابه الكرام وأزواجه أمهات المؤمنين، وأن تقدر آل بيته وتحترمهم، من كان معاصراً لك منهم ومن لم يكن معاصراً لك، فبتمام محبتك له أن تحبهم حتى ولو كان شخص منهم عاصياً لله فإنك تقيم عليه الحد ومع ذلك تحترمه لعلاقته بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الشيخ عبد القادر بن محمد ولد محمد سالم رحمة الله عليهما:

    ونحن في حد لهم قد لزما ننوب عن شرع به قد حكما

    لا نهمل الحق لهم كقني قال له سيده اضرب ابني

    فنحترمهم لعلاقتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لا نهمل حدود الله وحقوقه؛ فنأخذ منهم الحقوق الشرعية ولكن نحترمهم لعلاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ونقدر صلتهم به.

    بهذا أكون قد أتيت على بعض الموضوع، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا عملنا، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتنا أجمعين.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755987711