إسلام ويب

التجارة الرابحة [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم الأوسمة التي يتقلدها العبد؛ الإيمان بالله، فيناديه الله به، ويلحقه في ركب المؤمنين، كما أنه طريق للتجارة مع الله، التي يجني منها المؤمن أعظم الثمار التي تجلب عليه الخير في الدنيا الآخرة، من مغفرة الذنوب بسترها في الدنيا والعفو عنها في الآخرة، ودخول الجنة، وإرث المساكن الطيبة والتنعم فيها بأنواع النعيم

    1.   

    الكلام على بعض الأدوات النحوية والبلاغية

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أحمد الله تعالى على هذه الفرصة الطيبة، وأسأله المزيد من فضله، لجميع المستمعين، وأسأله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    وها نحن نجتمع في بيت من بيوت الله تعالى، تطبيقاً لما أمرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، وما أخبرنا عن الوعد عليه في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه )، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    هذه الآيات العظيمات من سورة الصف يخاطب الله تعالى بها خيرته من خلقه وهم المؤمنون، ويناديهم في افتتاحها بهذا النداء العظيم، فيقول جل من قائل سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

    مزايا حرف النداء (يا)

    افتتح بهذا الحرف العظيم الذي هو أشرف حروف النداء، وهو (يا)، وهذا الحرف له مزايا متعددة:

    أول هذه المزايا: أنه حرف النداء الوحيد الذي ينادى به اسم الله تعالى، فلا تدخل أحرف النداء الأخرى، وهي: تسعة أحرف، لا ينادى بها اسم الله عز وجل، وإنما ينادى بهذا الحرف وحده من بين هذه الأحرف، مع ذلك شرف الله تعالى المؤمنين بندائهم بهذا الحرف الذي اختص اسمه بندائه، وأتى بهذا الاسم المرشح للنداء، وهو: أَيُّهَا [الصف:10].

    خصائص (أيها وأيتها) في النحو والإعراب

    وأيها وأيتها اسمان يتوصل بهما لنداء ما فيه أل؛ لأن حرف النداء حرف وأل حرف، ولا يجتمع حرفان في مقدمة كلمة، فلذلك لا بد من الفصل بين الحرفين، وهذا أبلغ الأساليب وأرجحها، فيؤتى للمذكر بأيها، ويؤتى للمؤنث بأيتها، والمنادى بعد (أيها وأيتها) يأتي موافقاً للصيغة، فإن كان المنادى مذكراً سواءً كان مفرداً أو جمعاً، أوتي بها بصيغة التذكير، وإن كان مؤنثاً، أوتي بها بصيغة التأنيث.

    وأيها وأيتها في النداء دائماً يلزم رفعها، وهي من المواضع الأربع التي يجب فيها رفع المنادى، فالله تعالى هنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وهذا الاسم الموصول متعرف بصلة وهي آمنوا، وذلك أن الله عز وجل إذا وجه هذا النداء العظيم الذي نطق الله تعالى به، وخاطب به عباده، فهذا أبلغ تشريف ترتفع له الآذان، وتشرئب له القلوب، فهذا رب العزة والجلال ينادي من فوق عرشه ويخاطب بعض خلقه، وهذا الخطاب لا يكون إلا لمصلحة خلقه، فهو تعالى الغني الحميد ولا حاجة به إلى شيء من خلقه، ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سمعت الله يدعوك، فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يخرجك عنه).

    وإن من نعمة الله تعالى على عباده أن يختار منهم من يدخله في هذا النداء العظيم، فلذلك أشرف شرف يتصف به المخلوق، هو أن يدخل في عموم قول الله تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهذا النداء العظيم كثير من الناس حرمهم الله تعالى منه ولم يدخلهم فيه، فلم يرزقهم الإيمان ولن يكتبه لهم، لذلك لا يستحقون هذا التشريف العظيم، ولا يدخلون في نداء الرب الكريم، وما ذلك إلا لقدر الله تعالى وعدله، عاملنا الله وإياكم بفضله.

    إذاً هذا الشرف العظيم ينبغي للمؤمنين أن يبوءوا به، وأن ينظروا هل يستحقون هذا اللقب الكريم أو لا، فإن كانوا يستحقونه فهي نعمة من نعم الله تستحق الشكر، ومن كان يعلم من نقصه قصوراً في الإيمان، أو شكاً أو ريباً فعليه أن يراجع نفسه، وليعلم أن هذا الشرف العظيم لا ينال إلا بالعمل.

    القيمة البلاغية والمعنوية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)

    لذلك فإن هذا النداء العظيم جاء بإثبات الوصف كأنه قد حصل، فعبر عنه بالفعل الماضي، ولم يقل: يا أيها الذين يؤمنون، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهذا الإيمان قدر أنه قد سبق، وقد كتب الله في الأزل كل من يؤمن، لذلك حصل الخطاب بصيغة الماضي، كأن هؤلاء قد آمنوا فعلاً، ومع ذلك سيأمرهم بالإيمان؛ لأنه يقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، ما هي التجارة؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، إذاً فالإيمان المذكور في مقدمة الآية هو الإيمان الأزلي المكتوب قبل خلق السموات وقبل خلق الأرضين، فعندما خلق الله القلم، فقال له: ( اكتب ما هو كائن، فكتب كل شيء يكون، فذلك هو في صحف عند الله فوق عرشه ).

    فهذا الإيمان السابق هو المزية الحميدة التي وفق الله لها من اختار من خلقه، وذكرهم بهذا الوصف الحميد، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، (آمنوا) هنا تطلب مفعولاً، وهذا المفعول حذف للاختصار وللعلم به؛ لأن الإيمان له أركان لا يتم دونها، وهذه الأركان هي أركان الإيمان وهي: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وهذه هي الست المذكورة في حديث جبريل في سؤالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ركن سابع متمم، وهو الإيمان بالبعث بعد الموت، فقد جاء ذكره في سبعمائة وسبع وستين آيةً من كتاب الله تعالى، كل هذه الآيات مثبتة للبعث بعد الموت، فكان متمماً لأركان الإيمان، فكانت أركان الإيمان بهذا سبعة، وبذلك تكون أركان الإيمان مساوية لأركان الإسلام وأركان الإحسان، فأركان الإسلام أيضاً:

    الركن الأول: أن تشهد أن لا إله إلا الله، هذا وأن محمداً رسول الله، وهذا الركن الثاني، وأن تقيم الصلاة: هذا الثالث، وتؤتي الزكاة: هذا الرابع، وتصوم رمضان: هذا الخامس، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، هذا السادس، والجهاد في سبيل الله، وهو ذروة سنام الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه سبعة.

    فبهذا ست هي الأصل الذي لا يعذر منها أحد فيه، والسابع مكمل لمن استطاع إليه سبيلاً، وكذلك هنا في تمام هذه الأركان، فحذف المفعول؛ لعموم جميع هذه الأركان، فلم يقل: يا أيها الذين آمنوا بالله، ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا برسول الله، ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وحذف المفعول؛ ليشمل الجميع، ليكون الإيمان كاملاً.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، هنا تبدأ القلوب في الإقبال على الله تعالى، عندما تسمع نداءه من فوق سبع سموات، وهي مؤمنة جازمة محققة، فحينئذٍ تقبل على الله تعالى وتعرض عما سواه؛ لأن الله تعالى يستحق الإقبال عليه من غير نداء، حتى ولو لم يناد، فإن الإقبال عليه مطلوب، ولذلك قال الله تعالى كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: ( لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته مالم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير ممن التفت إليه )، فإذاً الإقبال على الله تعالى مانع من الإقبال على غيره، ومقتضٍ للحرية الكاملة، والحرية الكاملة هي: الحرية من الأغيار والأكدار، أن يكون الشخص خالياً من الأغيار، لا يزن أي اعتبار لغير الباري جل وعلا، الذي فطره وسواه، ويتذكر قول إبراهيم الخليل فيما قص الله عنه في كتابه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:78-82].

    فالذي يعلم أن كل هذه النعم واصلة إليه من قبل الله تعالى الذي خلقه وسواه، والذي سيعيده ويحاسبه على كل ما أعطاه، لا بد أن يقبل عليه، وأن يتذكر أن الخوف والرجاء محصوران إليه، وأنه لا يصمد إلى شيء من دونه، وأنه وحده المستحق لأن يقصد في جميع الحوائج، وأن يعبد بمختلف أنواع العبادات، وأن يقبل عليه على مختلف الأحيان.

    لذلك فإن هذا الوصف الحميد الذي تشمئز له النفوس، تكرر في القرآن النداء به، في أكثر من ستين موضعاً في القرآن، بينما جاء النداء بصيغ أخرى، فمثلاً: (( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ )) لم تأتِ في القرآن إلا في ثلاثة مواضع تقريباً، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ )) ما جاءت في القرآن إلا في ثلاثة عشر موضعاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا جاءت في أكثر من ستين موضعاً في كتاب الله تعالى، وذلك لشرف هذا النداء وعظمته؛ ولأن الذين يستحقون هذا التشريف كثير، فلهذا تكرر نداؤهم، وهم الذين يزنون ويقدرون، ويعلمون أن هذا الخطاب المنزل إليهم من ربهم جل وعلا، يصدق على أولهم وآخرهم على حد السواء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره ).

    فنحن اليوم في القرن الخامس عشر من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقرأ هذه الآيات، أو نسمعها، فتشمئز قلوبنا، وترتفع آذاننا لسماع خطاب ربنا، كأنه يخاطبنا كفاحاً دون ترجمان، ونعلم أنه قصدنا في هذا الخطاب، وأن الله لا يفوته شيء من علم أمورنا، وأنه مطلع على أحوالنا الآن، وأن علمه لم يتغير ولم يزدد، فعلمه بنا الآن مثل علمه بنا قبل أربعة عشر قرناً، وهكذا من يأتي بعدنا، وكل من يتصف بقيد التكليف، ومن يتصف بهذا الوصف الكريم الذي هو الإيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، هنا يأتي الاستعداد بعد أن سمعنا هذا النداء العظيم، ماذا عسانا نكون، حينئذٍ ينبغي أن نكون كما قال الشاعر:

    وإن نطقت ليلى فكلي مسامع.

    حينئذٍ ينبغي أن يتشرف الناس المخاطبون بهذا النداء العظيم، وأن يستمعوه استماعاً كاملاً، لا يشوشه أي شيء ولا ينقصه، وبذلك يتلقون عن ربهم فيحصل لهم شرف المناجاة، ونحن نعلم أن من أشرف الناس وأعظمهم نعمةً موسى، وما ذلك إلا بسبب أن الله كلمه، وأنتم اليوم معاشر المؤمنين يكلمكم الله تعالى، أليس هذا وصفاً عظيماً حميداً؟ بلى، فهذا أعظم الأوصاف أن يكلم الله عبده، والله تعالى امتن على موسى بكلامه وشرفه بذلك، فلماذا لا نتشرف نحن بهذا الوصف العظيم: أن الله يخاطبنا ويكلمنا، لا شك أن هذا نعمة عظيمة، ولكن لا يستحضرها إلا المؤمنون، فإذا سمعت هذا النداء فاعلم أن الله قد خاطبك وكلمك، وبذلك حصلت على وصف عظيم، وهو أنك كليم الله في هذا الوقت، ما دمت مقبلاً على الله، تستمع إلى ندائه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وتعلم أنك داخل في عموم الخطاب فتكون كليم الله في هذا الوقت، فالله قد كلمك بهذا وخاطبك به وشرفك، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

    هنا من لطف الله عز وجل وكرمه ومنه، أنه بعد هذا النداء العظيم الذي تعطرت به آذاننا، واستعدت قلوبنا بعده لكل الأوامر، لن نقول إلا كما أمرنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، مهما جاء الأمر بعدها، ولن نكون كبني إسرائيل الذين لما أمرهم بأبسط الأشياء وأسهلها، طلبوا ما هو أسفل منها وما هو أدنى، فلذلك أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وامتحنهم بذلك، ونحن كما قال البوصيري :

    لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهن

    لم يمتحنا إلا بأمور واضحة وسهلة.

    الأسلوب الرقيق والمعجز في قوله: (هل أدلكم على تجارة)

    جاء الخطاب هنا بأسلوب لبقٍ جداً مهذب، وهو قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، هذا الباري جل وعلا يسألنا: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف:10] هل أنتم مستعدون للتلقي عن الله؟ وهل أنتم مستعدون للمتاجرة مع الله؟ وهل أنتم تستحقون هذا الوصف الحميد؟ هذا السؤال المطروح، هل؟ وهل هنا حرف استفهام للتصديق، والاستفهام قسمان: استفهام للتصور، واستفهام للتصديق.

    أما الاستفهام للتصور فهو ما يأتي بلفظ من؟ وبلفظ ما؟ مثلاً قول فرعون لـموسى : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، هذا الاستفهام هو للتصور وليس للتصديق، معناها: أي شيء هو؟ هل هو حجر أو مدر أو شجر؟ أو غير ذلك.

    أما الاستفهام للتصديق، فهو الذي يسأل به عن النسبة، وعن الحال، وعن ثبوت شيء أو نفيه؟ ومنه هل؟ فهل يستفهم بها عن التصديق، فلذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف:10]، هذا الباري جل وعلا يخاطبنا بهذا الخطاب، الذي هو غاية التشريف لنا، أن يسألنا هل نحتاج إلى أن يوجهنا هذا التوجيه العظيم؟ وأن يرشدنا هذا الإرشاد الكريم، ونحن نقول: نحن نحتاج إلى ذلك، ونحن إن شاء الله تعالى مستعدون لأمر ربنا، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [البقرة:285]، فينبغي لكل مؤمن إذا سمع هذا، أن يقول ما أمره الله: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [البقرة:285]، فهنا يقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف:10]، معناه أرشدكم، وهذه الدلالة هي الهداية، والهداية قسمان: هداية إرشاد، وهداية توفيق.

    أما هداية الإرشاد: فهي المذكورة هنا، وهي المذكورة في قول الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، (هديناهم) ليس معناها هداية توفيق، بل معناها هداية الإرشاد، ومعناها أرسلنا إليهم رسولاً؛ لإقامة الحجة عليهم، ولكنهم لم يهتدوا هداية التوفيق، ولذلك قال: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

    ولذلك فإن قول الله تعالى الذي نقرأه في كل ركعة من الصلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، المقصود به: هداية التوفيق؛ لأن هداية الإرشاد قد حصلت بهذا القرآن الناطق علينا، هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية:29]، وبهذا الرسول الكريم الذي قال الله تعالى فيه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الشورى:52-53].

    وهنا يأتي سؤال واعتراض: ما هو هذا السؤال والاعتراض؟ يقال: قد أثبت الله الهداية لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، ونفاها عنه بقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فما الجمع بين الآيتين؟

    والجواب: أن الهداية المنفية هي هداية التوفيق، والهداية المثبتة هي هداية الإرشاد، وإنك لتهدي، معناها: هداية إرشاد، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وهذه هداية التوفيق والأمر واضح، إذاً فهداية الإرشاد مثبتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يرشد الناس، ولكن من شاء الله له الهداية اهتدى، هداية التوفيق.

    وأما هداية التوفيق: وهي أن يأخذ الله بناصية العبد إلى الخير، وأن يستعمله في طاعته، وأن يعصمه من الوقوع في الزلل والخطأ، فهذه من عند الله ولا دخل لمخلوق فيها، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لغيره، فلذلك قال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وفي الآية الأخرى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، إِنَّكَ لا تَهْدِي [القصص:56]، هداية إرشاد، ترشده وتدله على الصراط المستقيم، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتبين له مراد الله منه، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، معناها: لا يمكن أن توفقه، وأن تأخذ بناصيته حتى تدخله الجنة، أي: لا نستطيع ذلك، فهذا من عند الله.

    لذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، انظروا إلى هذا الأسلوب الرقيق العجيب المعجز، يقول الله فيه: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، الناس قد ابتلوا بحب الدنيا، والإقبال عليها والإغراق في الماديات، فكل أمر لا يجنون منه نفعاً عاجلاً، لا يولونه أي اعتبار، ومع هذا راعى الله تعالى ظروفهم وقدر حاجتهم وقدر أمورهم، فلم يخاطبهم بما يخالف ميلهم وإنما قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، لأن الناس كلهم يحبون التجارة، فاختار لهم هذا الأسلوب العجيب، فقال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، التجارة: فعالة بمعنى الحرفة، ومعناها حرفة يحترفها الشخص، حتى ولو لم يكن له رأس مال، فهذا الشخص مثلاً يكون تاجراً، بمعنى: أن فطرته وتكوينه ومسلكياته تتناسب مع التجارة، حتى ولو لم يكن صاحب رأس مال، ولذلك قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، لما أتى إلى المدينة مهاجراً، قال: دلوني على السوق، لماذا؟ لأن لديه عقليةً تجارية، فهذه العقلية التجارية ينبغي أن تكون لدى كل المؤمنين، يبحثون عن الصفقات المربحة مع الله تعالى، فيبادرون إليها.

    إذاً التجارة حرفة وليست نوعاً من الكسب، فهي حرفة وفطرة يفطر الناس عليها، ولذلك تعرفون الآن في تعامل الناس أن بعض الناس لديه عقلية تجارية وهذا يشمل الرجال والنساء، ولذلك كان الخطاب هنا شاملاً للجميع في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وهذا الاسم يشمل الجميع، يشمل الذكور والإناث والبالغين وغير البالغين، ويشمل المتقدمين والمتأخرين على حد السواء.

    الفرق بين التجارة مع الله تعالى وتجارة الدنيا

    هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، هذه التجارة ما فائدتها؟ التجارة في بعض الأحيان لا يكون الربح فيها مضموناً، بل الأصل الشرعي أن التجارة لا يجوز فيها ضمان الربح، فمثلاً المضاربة والقرض، كلاهما نوع من التجارة، وهو أن تدفع مالاً لمن يتجر به بجزء من ربحه، فهذه المضاربة من شروطها: ألا يكون الربح مضموناً؛ لأن ضمان الربح محظور وهو من أمهات الربا، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه نهى عن ربح ما لم يضمن )، إذاً هذا الربح المضمون محرم شرعاً، لكن هذه التجارة مع الله تختلف عن تجارة الدنيا فالربح فيها مضمون، لذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، وتجارة هنا: نكرة، فعرفها ووصفها ونعتها بقوله: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، فهذه التجارة ليست مثل التجارات العادية وإنما هي مضمونة الربح وربحها عظيم جداً، وهو النجاة من العذاب الأليم، وهذا العذاب الأليم نكرة؛ ليشمل عذاب الدنيا وعذاب البرزخ وعذاب الآخرة، وهذا كله من أنواع العذاب الذي عند الله تعالى، فمنها: عذاب الدنيا.

    1.   

    أقسام العذاب

    أقسام العذاب في الدنيا

    وعذاب الدنيا ثلاثة أقسام:

    قسم منه نازل من السماء، وقسم صاعد من الأرض، وقسم نابع من الوسط. وهذه الأقسام الثلاثة هي المذكورة في قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، إذاً العذاب منه ما هو منزل من السماء، ومنه ما هو مخرج من الأرض، ومنه ما يكون خلافاً وشقاقاً بين الناس من الوسط، فهذا هو عذاب الدنيا، وهو أسهل أنواع العذاب.

    أقسام عذاب البرزخ والأدلة عليها

    القسم الثاني: عذاب البرزخ، وعذاب البرزخ ثلاثة أقسام أيضا: فمنه ما يكون بالتعنيف والمساءلة، وذلك إذا لم يوفق الشخص لإجابة الملكين الكريمين اللذين يرسلهما الله تعالى لمساءلته في قبره، فيسألانه كما ورد ذلك في أحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، في الكسوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ( إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال )، فذكر سؤال الملكين وما يسألان عنه، وهذا حديث أسماء في الصحيحين والموطأ وغيرها.

    كذلك في حديث أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه، وهو في السنن والمسند، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكر أن المرء إذا وضع في قبره، وأدبر عنه أصحابه ومشيعوه، ( وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان وهما منكر ونكير، فيجلسانه فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: رب الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، وأما المنافق، وفي رواية: الكافر، فيقول: هاهٍ هاه، لا أدري كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فأما المؤمن فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق، فيضربانه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها )، (أهل منىً) أي: الحجيج كلهم لو اجتمعوا عليها ما أقلوها أي: ما استطاعوا حملها، ويقولان له: لا دريت ولا تليت، يدعون عليه بهذا الدعاء المستجاب، ومعناه: لا عرفت ولا اتبعت، وذلك أن العلم فائدته الاتباع، وهما يدعوان عليه ألا يعلم، ثم ألا يعمل بما علم، (لا دريت ولا تليت)، نعوذ بالله من عذاب القبر.

    فعذاب البرزخ هذا هو القسم الأول منه وهو سؤال الملكين، وهذا السؤال هو الذي يحدد حقيقة الهوية، فأنتم تسألون الناس عن الهويات، وكل شخص يحتاج إلى بطاقة تعريف أو جواز، ويكون فيها بعض المعلومات المختصة به، وفي المساءلات والأمور، يُسأل عن الأشخاص بحسب هوياتهم، وانتماءاتهم وانتساباتهم، ولكن الواقع أن الهوية الحقيقية هي هذه التي يسـأل عنها الملكان في القبر: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

    إذاً فهذه هي هوية المؤمنين: أن يعرفوا الجواب عن هذه الأسئلة، وأن يستحضروها في الدنيا، حتى إذا بغتهم السؤال وفقهم الله للإجابة.

    فينبغي للشخص أن يستحضر انتماءه وكيانه وانتسابه لهذا الدين، قبل أن يستحضر انتسابه لنسبه الطيني، وأن يستحضر انتسابه لوطنه، وأن يستحضر انتسابه لقبيلته، وأن يستحضر أي انتساب آخر، يستحضر أن هويته الحقيقية هي ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ هذه هي الهوية الحقيقية التي سيسأل عنها في الوقت الذي لا يمكن أن يتحايل على المحققين، ولا يمكن أن يرجع فيه إلى صحفٍ غير التي مع الملائكة.

    إذاً النوع الثاني من أنواع عذاب البرزخ، ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( ما من أحدٍ إلا يعرض عليه مقعده من الجنة ومقعده من النار، فإن كان من أهل الجنة، عرض عليه مقعده من النار، فيقال: هذا مقعدك من النار قد بدلك الله به خيراً منه، فيعرض عليه مقعده من الجنة )، وكل شخص أياً كان له مقعدان أحداهما في الجنة والآخر في النار، وذلك لنعمة الله على أقوام ولعدله في آخرين، فمن نعمة الله تعالى على أقوام أن يزحزحهم عن النار، وأن يدخلهم الجنة، ولذلك قال تعالى: كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، فمن أدخله الجنة فبفضله، ومن أدخله النار فبعدله، فيعرض على الشخص المقعدان.

    فمن عذاب القبر ومن عذاب البرزخ، أن يرى الشخص مقعده من النار، ويفتح بينه وبينه وترفع الحجب، فلا يزال يأتيه منه الرائحة الكريهة، ولا يزال في تأذٍ منه وفي حسرة وندامة، إلى أن يدخل النار، فهذا نوع من أنواع عذاب القبر.

    النوع الثالث من أنواع عذاب البرزخ: وهو مختص بأصحاب الذنوب وقد اختلف، هل يدخل فيه الكفار أم لا؟ وهو نعوذ بالله تعالى بعض أنواع العذاب التي يمكن أن يدرك تصورها في الدنيا ببعض النظائر، ولكنها تشترك معها في الأسماء فقط، وذلك أن من لم يخرج زكاته في الدنيا، أي زكاة، أي مالٍ كان وكل مالٍ لدى الشخص قليلاً كان أو كثيراً فيه حق معلوم لله تعالى، وهذا البدن الذي هو نعمة من نعم الله تعالى فيه حق معلوم، ولذلك قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل سلامى من الناس -معناه: كل مفصل من الناس- عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس )، وكذلك كل ما يملكه الشخص من النعم التي أنعم الله بها عليه، هذا حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فهذا الحق المعلوم إذا لم يؤده، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا وضع في قبره، خرج له -نعوذ بالله تعالى- شجاع أقرع -نعوذ بالله من ذلك- من تنانين النار، تنين من تنانين النار يكون شجاع أقرع، فيلتوي عليه ولا يزال ينهشه، ويعضه، -نعوذ بالله من ذلك- إلى أن يبعث، فهذا نوع من العذاب دائم، لمن ترك الزكاة، أجارني الله وإياكم.

    وكذلك ورد في بعض الذنوب: أن أصحابها يعذبون في قبورهم، ومن ذلك عدم التطهر والاستتار من البول، ومن ذلك النميمة، ونقل الكلام على وجه الإفساد بين الناس، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إن هذين ليعذبان، وما يعذبان في كبير -وفي رواية: وما يعذبان في كثير- أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )، فلذلك هذان الذنبان، وإن كان صاحبهما سيعذب في الآخرة، إلا أنه يعجل له قسط من عذابه في القبر، أجارني الله وإياكم، وما ذلك إلا لخطورتهما، أما الذنب الأول: وهو عدم الاستتار من البول والتنزه منه، فهو نقص في الإيمان وعدم استعداد لمقابلة الله تعالى، وعدم أدب مع الله، لذلك يستحق صاحبه العقوبة.

    وأما الثاني: فهو تضييع لحقوق الآدميين، وإخلال بحق الأخوة والتواصل بين الناس، وسعي للإفساد في هذه الأرض التي شكا الملائكة فيها إلى ربهم، أن الجنس البشري سيفسد فيها، لما أخبرهم أنه خالق فيها بشراً قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، إذاً هذا توقع الملائكة، وهو حاصل لا محالة، ولكنه يحصل فيمن لا يباليهم الله باله، في النخالة وفي شرار الخلق، وهم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

    ولذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة قتات )، والقتات معناه: النمام، أي: الذي يمشي بالنميمة بين الناس، فهذا لا يمكن أن يدخل الجنة، وهذا النوع من العذاب -أجارني الله وإياكم منه- يختلف باختلاف الذنوب، فمنه ما يكون أقوى من بعض، ومنه ما يكون أدنى بحسب الذنب الذي يعاقب عليه صاحبه.

    وقد وردت أنواع أخرى من العذاب لم تثبت، منها ما ورد في حديث ضعيف، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( إن الميت إذا وضع في قبره، أرسل الله إليه ملكاً اسمه رومان، فيقعده فيقول: يا عبد الله! اكتب ما فعلت منذ كلفت إلى ضجعتك هذه، فيقول: أين القلم؟ فيقول: لسانك قلمك، ويقول: أين المداد؟ فيقول: ريقك مدادك، ويقول: أين الورق؟ فيقول: كفنك ورقك، فيكتب ما فعل منذ كلف إلى موته، فيطوى ويعقد على عنقه، ويخرج له يوم القيامة بخطه، بكتابته بلسانه وبريقه في كفنه )، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].

    أقسام عذاب الآخرة

    كذلك عذاب الآخرة ثلاثة أقسام:

    منها: العذاب الأولي الذي يشترك فيه كثير من الخلائق، ولبعض المؤمنين حظ منه، وهو المحشر وذلك الموقف الهائل الذي يجمع الله فيه الناس حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالناس من جميع الجهات، ويشمل الناس العرق حتى يلجم بعضهم، وحتى يخنق آخرين، ويصل إلى سرر آخرين، فهذا الموقف الهائل، ما هو إلا جزء من العذاب ومن هول جهنم، وفي ذلك فإن أقواماً يعزهم الله تعالى في ذلك الموقف، ويشرفهم وهم المقسطون، أي: العادلون، فهم الذين يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، يغبطهم الأنبياء والشهداء.

    وكذلك ورد في بعض الأعمال الصالحة، أن الله يرفع أصحابها درجات، ويعليهم من هول الموقف، لذلك وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103]، جعلني الله وإياكم من هؤلاء الذين: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].

    القسم الثاني من أقسام العذاب الأخروي: هو مناقشة الحساب، ومناقشة الحساب: ( هي أن ينادي الله تعالى عبده، فيعرض عليه أعماله كلها، فيقول: أي عبدي أتذكر يوم كذا، إذ فعلت كذا، وكنت قد نهيتك عنه، فيقول: بلى أذكره، وكنت قد نسيته، فيقول الله: ولكنني لا أنساه )، فهذه المناقشة ينبغي أن نستحضرها، وأن نحضر الجواب، مع أن الذين يستحقون العذاب في ذلك اليوم العظيم سيمنعون من الجواب، حتى ولو كانوا أفصح الفصحاء، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ [النور:24-25]، فهؤلاء يختم الله على ألسنتهم وتكلمه أيديهم وأرجلهم، ولذلك قال الله تعالى فيهم: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36].

    ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من نوقش الحساب فقد عذب )، ولكن المؤمنين الذين يخلصهم الله تعالى من هذه الورطة وينجيهم من هذا العذاب، يسترهم الله تعالى بستره الجميل، ويضع عليهم كنفه جل وعلا، فلذلك لا يناقشون الحساب، وإنما هو العرض فقط، العرض دون مناقشة -جعلني الله وإياكم منهم- وهؤلاء هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، معناه: ظن أنه سيحاسب، وسيناقش في الحساب، ومن نوقش الحساب فقد عذب، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، ولم يفعل ذلك، بل كان حسابه طرفة عين أو أقل من ذلك، فلذلك قال: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:20-21]، جعلني الله وإياكم منهم.

    ثم القسم الثالث: من أقسام العذاب الأخروي: هو عذاب النار، وهو العذاب الأكبر -أجارني الله وإياكم منه- بمختلف درجاته، فإن في النار درجات متباعدة جداً، ولذلك إذا رمي الحجر الثقيل من أعلى درجة من درجات النار، هوى سبعين خريفاً قبل أن يصل إلى قعرها، سبعون خريفاً وهو الحجر الثقيل جداً، ليس من أحجار الدنيا التي تنظرون إليها، بل من أحجار الآخرة التي هي وقود النار، التي أصغرها مثل أكبر جبال الدنيا، فهذا يهوي من أعلى النار، إلى أسفلها، سبعين خريفاً، مدة سبعين سنة، وهو يهوي لم يصل إلى قعرها.

    لذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، (عذاب أليم)، لتنكيره شمل كل الأنواع التي ذكرناها، وهي التسعة الأنواع من أنواع العذاب، ثلاثة في الدنيا، وثلاثة في البرزخ، وثلاثة في الآخرة.

    1.   

    المقصود بالألم في قوله تعالى: (تنجيكم من عذاب أليم)

    تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، والأليم معناه المؤلم، وهذا الألم قد يكون نفسياً، وقد يكون حسياً جسدياً، وقد يكون قلبياً.

    فأما النفسي: فهو ما يسلطه الله تعالى على المبتلين به من الوساوس وعدم السعادة، وذلك ما يسمى بالشقاء، سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة، ولذلك فإن بعض الناس يبتليه الله تعالى بشقاء الدنيا فلا يجد حلاوة الإيمان وطمـأنينته، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاث صفات: أن من كن فيه ذاق حلاوة الإيمان.

    الأولى: ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ).

    الثانية: ( أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ).

    والثالثة: ( أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار ) فهذه الصفات الثلاث من جمعها نال حلاوة الإيمان، وبذلك ينال السعادة فلا يحزن لأي شيءٍ يصيبه في الدنيا، ويكون مثبتاً بتمام اليقين بالله تعالى، ويعلم ( أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه )، ويعلم أن كل مصيبة جاءت فهي من عند الله، فيحبها بسبب ذلك بعد حصولها، ويرضى بقضاء الله بعد حصوله، ولذلك يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]، ولهذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرج في سفر يقول: بسم الله على نفسي وأهلي، ومالي، وديني، بسم الله على كل شيءٍ أعطانيه ربي، اللهم رضني بقضائك، وبارك لي فيما قدر لي، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت)، فمن وصل إلى هذا المستوى الإيماني سيطمئن طمأنينة عجيبة، وسيحلو عنده قضاء الله تعالى وقدره، وسيعلم أن المهم ليس ما يجنيه الشخص من المصائب الدنيوية، بل يعلم أن الأجر المدخر عند الله تعالى هو الباقي وهو المطلوب، وأن الباقيات الصالحات خير وأبقى، وبذلك يتعزى عن كل ما في هذه الدنيا بإقباله على الله، وبلذة النظر إلى وجه الله الكريم، جعلني الله وإياكم من الذين ينالون الحسنى والزيادة والنظر إلى وجه الله الكريم، لا يضامون في رؤيته.

    فبذلك يتعزى عن كل الأمور الأخرى، حتى يتمثل بقول الشاعر:

    فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

    وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

    إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

    هذه الأبيات باستحضارها نعلم أن الشخص إذا أقبل على الله تعالى، ونال هذه الحظوة منه، سيكون سعيداً مهما كانت ظروفه، ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا حالاً، فيغمس في النار غمسةً واحدةً ثم يرفع، فيقال: يا عبد الله أرأيت خيراً قط، فيقول: وعزتك وجلالك لم أرَ خيراً قط، ويؤتى بأسوأ أهل الدنيا حالاً، فيغمس في الجنة غمسةً واحدةً، فيقال: يا عبد الله أرأيت شراً قط، فيقول: وعزتك وجلالك لم أرَ شراً قط )، ولذلك كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال: (واعلموا أنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة)، فمهما نال الشخص من السعادة الدنيوية، ومن الخيرات المعجلة العاجلة وكان بعد ذلك النار فكل ذلك حسرة وندامة، وسيكون عين الشقاء وهو الشقاء بعينه.

    ومهما أصاب الشخص من المصائب الدنيوية، إذا نال بعدها الجنة، فإنها ستكون سعادةً عجيبةً، وسيكون أسعد الناس بها وأولاهم وأعلاهم منزلةً ودرجة.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] نحن ذكرنا أن العذاب الأليم قد يكون روحياً، وذكرنا السعادة والشقاء الدنيوي.

    كذلك قد يكون عقلياً، فإن الله عز وجل قد يهدي من يشاء من عباده للتدبر والتفهم، ويسدد ألسنتهم لذكر الله تعالى وشكره ببعض المحامد التي يجدون لها لذةً عجيبةً، فهذا المقام من مقامات أهل الإيمان السائرين بين مقامي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، إذا تدبر الشخص أن الله تعالى هداه في آخر الليل والناس يغطون في نومهم، فأيقظه الملك الذي هو من المعقبات: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ [الرعد:11]، فأيقظه فقام وطار النوم من عينيه، فذكر الله تعالى وحمده، وهلله، وقال: ( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني، وأذن لي بذكره )، هذا الآن حمد الله على نعمة عجيبة، وهي قوله: وأذن لي بذكره، فكثير من الناس محجوب في هذه الساعة عن ذكر الله، لم يؤذن له بذكر الله، إما لغفلته عن الله، وإما لنومه، وإما أن يستيقظ ويتحرك، ولكن لم يوفقه الله لذكره، ولم يهيئ لسانه للذكر، فلذلك كانت نعمة عظيمة تستحق الشكر، ( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني، وأذن لي بذكره ).

    فلذلك إذ قام وتوضأ وصلى وسجد إجلالاً لعظمة وجه الباري جل وعلا، بأن يمعر له وجهه بالأرض، يتذكر هذه النعمة العظيمة، وهي أن الله تعالى قد أذن له بالسجود بين يديه ففعل.

    ولذلك فإن الله عز وجل يوم القيامة يكشف عن ساقه سبحانه وتعالى، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون في الدنيا، يؤذن لهم بالسجود، فيخرون سجداً لربهم جل وعلا، وينالون بذلك لذةً عظيمةً.

    وأما الكافرون الذين امتنعوا عن السجود في الدنيا فسيحال بينهم وبين السجود، فتكون ظهورهم كأنها من نحاس، فلا يستطيعون السجود لله تعالى، وفي ذلك يقول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، -نعوذ بالله من ذلك- لا يستطيعون أن يسجدوا لله عز وجل في ذلك الموقف الهائل؛ لأن الله لم يوفقهم لذلك، لم يوفقهم له في الدنيا، فلن يوفقهم له في الآخرة.

    وهنا يجدر أن نتذكر كلمةً لأحد علمائنا الأجلاء، وهو الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى، فقد ذكر في مقدمة كتابه التهجد كلاماً عجيباً جداً، يظهر منه نور الإيمان، يقول هذا الإمام الحافظ رحمه الله تعالى: (الحمد لله الذي أذن بطاعته لمن شاء من عباده فوفقهم لخدمته، فخروا بين يديه ساجدين، ولجلال وجه معظمين، فلم يسدل بينه وبينهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً)، هذا كلام عجيب جداً، فالله تعالى أذن لهؤلاء الذين قاموا من الليل وتوضؤوا وصلوا بين يديه، أذن لهم في الدخول عليه في هذا الوقت الخاص، الذي لم يأذن فيه لكثير من الناس، كثير من الناس حجبوا بمختلف الحجب، فهو يقول: فلم يسدل بينه وبينهم حجاباً، ولا خفض دونهم أوديةً، ولا رفع شعاباً.

    فهذا الأسلوب عجيب جداً في تذوق هذا الوصف الإيماني العجيب.

    نقف عند هذا ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767503600