إسلام ويب

كيف نلتزم بالإسلامللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله رسالة الإسلام خاتمة الرسالات، وجعل لها أركاناً يتميز بها من أقامها من غيره، ومنها الشهادتان ولها مقامات ومقتضيات، فمن خالف مقتضياتها صار خارجاً عن الإسلام بكفر أو نفاق، فيجب على الإنسان أن يحذر ذلك، وأن يعمل على التوبة، ومراقبة الحركات والسكنات باستمرار، مستعيناً بما يثبته على ذلك من لجوء إلى الله ومحاسبة وغير ذلك.

    1.   

    صدق دين الإسلام وهيمنته على الأديان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس فجاء بهذه الملة السمحة التي كان كل الأديان إعداداً لها، مصدقاً لما بين يديه من الحق ومهيمناً عليه وكان دينه ناسخاً لجميع الأديان التي قبله، وقد جاء صلى الله عليه وسلم بالدين الحق من عند الله فقد قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85].

    وهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله صدقته المعجزات الظاهرة الباهرة، التي لا تدع مجالاً للشك، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب؛ فجاء بهذا القرآن الذي تضمن علم الأولين والآخرين، وتضمن كل ما يحتاج الناس إليه إلى قيام الساعة، وقد تعهد بحفظه، وتولى ذلك بنفسه، فقال فيه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، وبين أنه تبيان لكل ما يحتاج الناس إليه فقال: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[النحل:89]، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبينه للناس فقال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[النحل:44] وقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية، ولا يرضى الله سبحانه وتعالى لعباده إلا التمسك بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد قامت الحجة به على الناس جميعاً؛ فلا يستطيع أحد منهم أن يقول: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ[المائدة:19]، فكلهم مجبرون بعد ثبوت الحجة وإقامتها على الاطمئنان بصدق هذا الرسول الكريم وبصدق ما جاء به من عند الله.

    ثم بعد ذلك الاتباع الذي هو فائدة القناعة؛ فإن الله سبحانه وتعالى بنى هذا الدين على أركان الإسلام التي هي الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم إقام الصلاة، ثم إيتاء الزكاة، ثم صيام رمضان، ثم حج البيت، وبعد ذلك اجتناب النواهي الكبرى التي حذر الله منها ورتب عليها حدوداً في الدنيا وعقوبة في الآخرة.

    1.   

    مقام الشهادتين

    وهذه الأركان أولها الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والشهادة لها أربع مقامات:

    المقام الأول: العلم بمقتضاها، أن يعلم الإنسان ما يشهد به؛ فمن شهد بشيء لا يعلمه فهو كاذب مبطل، وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]؛ فلا بد في الشهادة من تحقيق العلم أولاً.

    ثم المرتبة الثانية: النطق بذلك بالإقرار به، أن ينطق الإنسان به مقراً.

    ثم المرتبة الثالثة: أن يلتزم مقتضاه، أي: أن يلتزم ما تقتضيه هذه الشهادة.

    ثم المرتبة الرابعة: أن يسعى لإلزام الغير بمقتضى هذه الشهادة، أي: أن يسعى لأن يلتزم الآخرون بمقتضى هذه الشهادة.

    1.   

    مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله

    وهاتان الشهادتان العظيمتان مقتضاهما سبعة أمور؛ أما شهادة أن لا إله إلا الله فمقتضياتها أربع، هي:

    العلم بربوبية الله

    أولاً: أن يعلم الإنسان أنه ليس لهذا الكون مدبر خالق فاطر إلا الله وحده سبحانه وتعالى.

    توحيد الألوهية والعبادة

    ثم المقتضى الثاني: أن يعلم الإنسان أنه ليس في هذا الكون من يستحق أن يعبد وتعلق به الحوائج إلا الله سبحانه وتعالى وحده.

    توحيد التشريع

    ثم المقتضى الثالث: أن يعلم الإنسان أن هذا الكون ليس فيه أحد يستحق التشريع بالحكم بالتحليل والتحريم إلا الله وحده؛ فلا يمكن أن يحل ولا أن يحرم إلا علام الغيوب، الذي يعلم مآلات الأمور وما تصل إليها؛ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14].

    حب الله عز وجل

    المقتضى الرابع: أن يحب الإنسان الله عز وجل حب الإلهية، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، وتحقيق محبة الله تعالى تقتضي اتباع ما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، والحرص على التقرب إليه بالأعمال الصالحة، والابتعاد عن كل ما نهى عنه؛ فهذا ما تقتضيه محبته، فمن كان يزعم حبه وهو لا يطيعه ولا يتقرب إليه ولا يريد أن يكون من عباده الذين يتصلون به؛ فهذا كاذب في دعواه المحبة.

    1.   

    مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله

    أما شهادة أن محمداً رسول الله؛ فهي تقتضي ثلاثة أمور:

    تصديق الرسول بكل ما أخبر به عن الله

    المقتضى الأول: تصديقه في كل ما أخبر به، وكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مما صح عنه، فلا بد أن نصدقه فيه وأن نعلم أنه الحق، وأن نعلم أنه لا يمكن أن نشهد أنه رسول الله، ثم بعد ذلك نشكك في شيء مما جاء من عنده؛ فهذا لا يمكن أن يتم، فمن شهد أنه رسول الله معناه أن الله سبحانه وتعالى أرسله ولا يرسل الله الكذابين، ولا يختار لتبليغ رسالاته إلى عباده إلا من كان أميناً على ذلك، والله سبحانه وتعالى هو القادر على العباد جميعاً، وقد قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[الحاقة:44-47].

    طاعة الرسول في كل ما أمر به

    ثم بعد هذا المقتضى الثاني من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله: أن يطاع في كل ما أمر به؛ فلا بد أن يستعد الإنسان لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به، سواءً وافق هواه أو خالفه، فالذي يقر بأنه رسول الله ولكنه مع ذلك يأخذ بعض ما جاء به ويرد عليه بعضه لا يمكن أن يكون مصدقاً برسالته؛ لأن رسالته تقتضي طاعته كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ[النساء:64]، وهذه الطاعة لا بد أن يقع معها الاستسلام المطلق لأمره وتمام محبته؛ فقد قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، فلا بد من الاستسلام الكامل لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يقتضي تمام محبته؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، فلا يؤمن أحد تمام الإيمان إلا بتمام محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي من لوازمها طاعته في كل ما أمر به.

    أن لا يعبد الله إلا بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم

    المقتضى الثالث من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله: أن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه؛ فليس لنا وسيلة للتعرف إلى مراد الله عز وجل إلا ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عنده، فليس في هذه الأمة رسول سواه، ولا يمكن أن يأتيها وحي إلا ما جاءه؛ فلذلك لا بد من الاقتصار على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تعدي ذلك وتجاوزه، ومن تعدى ذلك وتجاوزه فإنما يسلك بنيات الطريق، أي: يميل عن طريق الحق يميناً أو شمالاً.

    1.   

    مقتضيات الشهادتين

    الشهادتان منهج حياة

    إن مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تقتضي منا منهجاً متكاملاً للحياة، معناه أن يكون الإنسان جازماً بأن الله هو إله هذا الكون وهو وحده الذي يستحق العبادة فيه، وهو وحده الذي يستحق التشريع، وهو الذي يحب حب الإلهية وحده، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عنده أرسله بالهدى ودين الحق، ويطيعه في كل ما يأمر به ويصدقه في كل ما يخبر به ولا يعبد الله إلا بما بلغ عنه، لا بد أن يجعل هذا منهجاً لحياته كلها، فينطلق في تصرفاته وشئونه وقناعاته وأخذه وتركه مما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عند الله، فقد قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[الحشر:7]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا هل يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما جدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ).

    ضرورة قناعة الإنسان بالالتزام والاستسلام لمنهج الله

    ولا بد أن يقتنع الإنسان كذلك بحاجته هو إلى الالتزام بمنهج الله، فالإنسان عقله جارحة من جوارحه القاصرة، ولا يمكن أن يحيط علماً بكل ما يحتاج إليه، فعقله ولد معه، فقد كان قبل ميلاده عدماً وسيعود بعد موته كذلك إلى العدم، ومن هنا فلا يدرك عقله إلا ما كان في هذه الحلقة المحيطة بحياته، وهي محاطة بحلقة أكبر منها من العدم المحض، ومن هنا فلا يتصور العقل القدم ولا البقاء، ولا يمكن أن يدرك شيئاً من أمور الآخرة، ولا من أمور ما قبلك، فكل ذلك إنما أنت متبع فيه أو مقلد.

    وهذا يقتضي منك تمام الاستسلام لمنهج الله سبحانه وتعالى، وأن تحرص على أن تجعله منهجاً متكاملاً في كل شئونك، وهذا يقتضي من الإنسان التجرد من المناهج الأخرى؛ لأن الإيمان بالله وسلوك منهجه مناف لكل المناهج المغايرة، فلا يمكن أن يجمع الإنسان بين منهج الله وبين مناهج أخرى يختارها لنفسه، أو يتبع فيها الآخرين تقليداً أو يكون قد ورثها عن بيئته ومحيطه ويستسلم لها تمام الاستسلام، حتى يجعلها كأنها دين فينطلق منها منطلق التسليم، فهذا باطل لا محالة فلا بد أن يفرد الإنسان المنهج لله وحده، وذلك مقتض منه أن يتعلم ما يرتضي الله منه أن يتعلمه، ولا يمكن أن يتم ذلك بين عشية وضحاها بل لا بد أن يحرص الإنسان على أن يستمر طيلة عمره في الازدياد من العلم الذي يقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويزيده خوفاً منه ومحبة له، وإذا كان الإنسان سالكاً لهذا الطريق يزداد كل يوم جزءاً ولو كان يسيراً من العلم الذي يقرب من الله سبحانه وتعالى، فسيصل لا محالة إلى مراد الله، وسيكون سالكاً لطريق الحق، إن عاش عاش سعيداً عليها، وإذا مات مات شهيداً عليها كذلك.

    إما إذا كان الإنسان معرضاً عن هذا التعلم لا يزداد، فيمر به الأيام والليالي والشهور والسنوات وهو لا يزداد علماً يقربه من الله ولا يزداد من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشبعاً؛ فهذا المعرض بالكيلة هو الذي يأتي يوم القيامة أعمى كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى[طه:124-127].

    المبادرة بالعمل وترك التردد والشك

    ثم بعد هذا لا بد إذا سمع الإنسان شيئاً مما جاء عن الله عز وجل وأيقن أنه من عند الله أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبادر للعمل به وأن لا يتردد؛ فالتردد مقتض منه لأن يخالف شهادته التي يشهد بها حين شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    ومن هنا لا بد أن ينطلق الإنسان على مقتضى قناعته وأن لا يجد انفصاماً في شخصيته، فالانفصام في شخصية الإنسان يقتضي أن يتردد في الأمور وأن يكون جازماً بشيء، ثم لا يعمل على أساس قناعته، وكل قناعة لم يصحبها عمل فلا عبرة بها ولا فائدة فيها؛ فمن اقتنع بأن عليه أن يكون غنياً من الأغنياء هل سيغلق عليه بابه ويستقر في بيته؟ أبداً، لا بد أن يعمل على مقتضى قناعته؛ فيبادر ويمارس الصفق بالأسواق ويجمع الدنانير والدراهم، والذي اقتنع بأن عليه مسافة معينة هل سيلتحف بلحافه ويضطجع على فراشه أو سيمتطي وسيلة قطع المسافة؛ لا شك أنه سيمتطي وسيلة قطع المسافة لأنه أيقن أن عليه أن يقطع هذه المسافة.

    وهذا لا شك مقتض لبعض الكلفة؛ فكل سائر في طريق لا بد أن يعلم أنه مطالب بالزاد والراحلة، ولا بد أن يعلم أنه سيجد عقبات ونكبات في الطريق، فأي طريق يسلكه الإنسان لا بد أن يجد عليه نكبات وعقبات، ومن هنا لا بد للسالك لطريق الحق أن يعلم من بداية الطريق أنه سيمتحن ويفتن على هذا الطريق كما قال الله تعالى: الــم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].

    1.   

    صفات المنافقين

    إن الذين يدعون الإيمان في هذه الحياة ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يوم القيامة ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما:

    القسم الأول: الصادقون، الذين كانت شهادتهم صادقة فعملوا على مقتضاها، وساروا على منهجها، حتى لقوا الله على ذلك.

    القسم الثاني: المنافقون، الذين يشهدون بالشيء، ثم لا يعملون على أساسه، ويقتنعون بشيء ثم لا يطبقونه.

    وهؤلاء يحشرون جميعاً يوم القيامة ويتعارفون فيما بينهم، ثم يفصل بينهم يوم القيامة؛ ولذلك قال الله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ[الحديد:13-15]، وهؤلاء المنافقون لا يمكن أن يعرفوا في هذه الحياة بأسمائهم وأنسابهم، وإنما يعرفون بصفاتهم، وهذه الصفات أربعة إذا وجدها الإنسان في نفسه، فلا بد أن يبادر للتوبة وأن يرجع إلى منهج الله قبل أن يختم الله بخاتمة السوء، هذه الصفات الأربع بينها الله بقوله: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ[الحديد:14].

    تعرضهم للفتنة في كل الأمور

    وعلى هذا فأول صفة من صفات المنافقين: تعرضهم للفتنة في كل الأمور، والفتنة تنقسم إلى: فتنة السراء وفتنة الضراء، ففتنة السراء ما يبتلي الله به عباده مما يمكن لهم فيه من أمور هذه الحياة الدنيا، من صحة الأبدان، وزيادة الأموال والأرزاق والأهل والعافية وغير ذلك، مما يبتلي الله به عباده، فهذا إذا لم يعرف الإنسان أنه من نعمة الله وفضله ويصرفه في مرضاته وعلى وفق منهجه؛ فإنه مضرة عليه عظيمة؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وقال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ[الشورى:27].

    أما فتنة الضراء؛ فهي ما يبتلي الله به سالك طريق الحق من أنواع المكدرات التي يتفاوت الناس فيها بحسب قربهم ودرجتهم، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل الأمثل، والمؤمن يسر بها، ويعلم أنها طريق الأنبياء ويعلم أنه ليس أكرم على الله من أولئك الذين نالهم أشد منها وأعظم، ومن هنا فإذا أصابته مصيبة من مصائب هذه الدنيا وألمت به ملمة من ملماتها، عرف أنه ما زال على طريق الحق، واقتنع بالقرب من الله سبحانه وتعالى ورضي بثوابه؛ وقد قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:156-157]، وهؤلاء يقولون: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[البقرة:156] وليس قولهم لها بمجرد ألسنتهم وأفواههم، بل المقصود أنهم يعلمون ذلك في قلوبهم فيطبقونه في حياتهم؛ فهم يعلمون أنهم مملوكون لله أولاً؛ إِنَّا للهِ[البقرة:156]، ثم بعد هذا يعلمون أن مآلهم ومرجعهم إليه؛ فالناس جميعاً صائرون إلى الله، وإليه ترجع الأمور كلها؛ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53]، فما من شيء من الخلائق إلا مآله إليه سبحانه وتعالى، ومن هنا فهم يوقنون بأنهم راجعون إليه سبحانه وتعالى.

    فتعرض الإنسان للفتنة آية من آيات النفاق، أي: أن يكون هو الذي يعرض نفسه للفتنة فيفتن نفسه عن الدين، وذلك بالتعرض للشبهة أو للشهوة والانسياق وراءها؛ فالذي ينقاد لذلك إنما فتن نفسه؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ[الحديد:14].

    التربص والانتظار والحياد

    ثم الأمر الثاني والصفة الثانية من صفات المنافقين: التربص، وهو الانتظار؛ فمن علامات المنافق أن ينتظر مآلات الأمور ويقول: أنا أرى في هذه الحياة الدنيا طائفتين من الناس، أرى الذين يخافون الله ويعملون على وفق منهج الله وأرى الذين لا يخافونه ولا يعملون على وفق منهجه، وهم متخاصمون في هذه الحياة، وأعلم أن لكل خصومة نهاية؛ فأنا أنتظر مآل الأمر وأية طائفة ستفلح، ومن هنا يعد نفسه محايداً، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذا من علامات المنافقين؛ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[النساء:143].

    فلذلك لا بد أن يزيل الإنسان التربص عن نفسه، إن وجد نفسه تميل إلى التربص والانتظار وأن يبادر للعمل، وأن يعلم أنه لا يمكن أن يكون محايداً، بل لا بد أن يكون من إحدى الطائفتين، إما من الأتقياء السعداء، وإما من الأشقياء البعداء؛ فقد قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:105-108].

    فمن هنا لا بد أن يعلم الإنسان أن الناس فقط ينقسمون إلى قسمين، منهم شقي وسعيد، ولا بد أن يبحث عن نفسه في أي الطائفتين هو، وأن يعلم أن القضية ليست بالأماني ولا بالتظني ولا بالتمني، وإنما هي بالقناعة والعمل؛ فلذلك قال: وَتَرَبَّصْتُمْ[الحديد:14].

    الريب والشك

    الصفة الثالثة من صفات المنافقين التي كانت سبب ورودهم هذا الموقف المخزي هي قوله تعالى:

    وَارْتَبْتُمْ[الحديد:14] هذه الصفة الثالثة، هي الريب والشك؛ أن يشك الإنسان فيأتيه حالات من الضعف واليأس فيشك، هل أنا سأبعث بعد الموت، هل سأحاسب، ويتشكك في مصير الناس أو يتشكك كذلك في وعد الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة أو يتشكك في شيء من صدق هذه الرسالة، فهذا من صفات المنافقين ومن إلقاء الشيطان، ولذلك لا يجد الإنسان هذا الشك والريب في أكثر حالاته، في حال قوته واجتماعه مع الناس واجتماع نعمة الله عليه، وإنما يجده في حال ضعفه الشديد مما يدلنا على أنه أمر خارج عن الإنسان، وإنما هو من إلقاء الشيطان في قلبه، فلا بد من التخلص منه بالكلية وأن يزيل الإنسان كل ريب يعتريه في مجال الآخرة وفي مجال ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عند الله.

    الغرور

    ثم بعد هذا الصفة الرابعة من صفات المنافقين التي أوجبت لهم هذا الموقف المخزي هي التي بينها الله بقوله: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ[الحديد:14]، هي الغرور، أن يكون الإنسان مغروراً في حياته فيظن أنه هو الإنسان الكامل الشريف الذي لا يعتريه نقص ولا يحتاج إلى زيادة، ومن هنا فلن يستفيد من أحد، لا يستفيد عقلاً ولا علماً ولا خوفاً من الله ولا قرباً إليه؛ لأنه اغتر بنفسه، واغتر بنعمة الله عليه وغرته هذه الحياة الدنيا، وغره الغرور الذي هو الشيطان؛ فهو يرى نفسه إنساناً كاملاً لا يحتاج إلى شيء، ويرى أنه لا يمكن أن يتدخل له أحد في شئون حياته، ويغتر وينسى أوقاتاً ستأتي أمامه؛ فليتذكر الإنسان عند موته عندما يتدخل الناس في شئون حياته، من سيغسله من سيكفنه، من سينقله إلى قبره، من سيواريه، كل ذلك تدخل في شئون حياته وهو غافل عنه.

    وكذلك لا بد أن يتذكر أن ما يجده في كثير من الأحيان من الدعاوي والأماني النفسية هي من الأمور الباطلة؛ فتمني على الله سبحانه وتعالى ما لم يكن الإنسان ليناله هو من صفات المنافقين؛ فلا بد أن يعلم الإنسان أنه إنما ينال عمله والله سبحانه وتعالى يقول: ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً! فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومن إلا نفسه )، والمنافقون يتمنون يوم القيامة أن يعطوا كتبهم بأيمانهم، وأن يكونوا في الدرجات العلى من الجنة، وأن يكونوا في مرافقة النبيين والصديقين والشهداء، لكن شتان وهيهات! من أين لهم ذلك؟! وما سعوا إليه.

    ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس

    فلذلك لا يمكن أن ينالوا ما تمنوه؛ لأنه إنما ينال بالعمل.

    1.   

    الدعوة إلى المبادرة بالعمل وتذكر الإنسان ما هو قادم عليه

    علينا إخواني! أن نعلم أننا الآن في فرصة من أمرنا في هذه الحياة الدنيا التي هي دار العمل؛ فعلينا أن نبادر بالأعمال المقربة من الله سبحانه وتعالى، وأن نعلم أن الله غني عنا وعن أعمالنا، وأن نعلم أن هذه الأعمال إنما هي شيء يدخره الإنسان لنفسه ويقدمه، وأن كل ما سواها من أمور هذه الحياة الدنيا زائل، ولا يجد الإنسان فيه نفعاً بل سيندم عليه يوم القيامة، والذي لا يندم الإنسان عليه هو ما يقدمه لآخرته؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ ) هذا السؤال يطرحه كل واحد منا على نفسه، ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه )، والمقصود هنا بالمال كل مصلحة، معناه: أيكم مصلحة وارثه ومصلحة من حوله ومن وراءه أحب إليه من مصلحته الشخصية؟ ( قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه ) أي: مصلحته الشخصية هو أحب إليه، قال: ( فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر )، فمصلحة الإنسان هي ما ينتظره في آخرته؛ لأنها الحياة الحقيقية، وهذه الدار قد يمكث فيها الإنسان أربعين سنة أو خمسين سنة أو ستين سنة.. إلى مائة سنة، لكن بعد ذلك الانتقال إلى الدار الآخرة، وهذا الانتقال حتمي لا محالة، لا ينكره أحد من الناس؛ فالناس جميعاً موقنون به، ولن يجد الإنسان هنالك إلا ما قدمه كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30].

    فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على مصلحته الشخصية، وأن يعلم أن ما يتكل عليه في هذه الحياة من الأنساب والأحساب والأقارب والوجاهة، كل ذلك يزول يوم القيامة، كما قال الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:101-104]، لا بد أن يتذكر الإنسان أن له كفتين يوم القيامة لأعماله؛ فكفة للحسنات وكفة للسيئات، ولا بد أن ينظر في كل عمل يقدمه، هل سيذهب إلى كفة الحسنات أو يذهب إلى كفة السيئات، لا بد أن يتذكر أنه سيأتي يحمل طائره في عنقه ليس فيه إلا ما جنت يداه وعلمته، ولا يمكن أن يجد فيه ما سوى ذلك، وسيوقف بين يدي الملأ كله فيقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء:14]، فيقف على رءوس الأشهاد وهو يقرأ بأعلى صوته كل ما جنته يداه، فإن مر بموقف مشرف وبعمل صالح ابيض وجهه وغشيته البشاشة، وإن مر بموقف مخز وعمل سيئ اسود وجهه وغشيته الكآبة، وهو يقرأ بين يدي الملك الديان والأنبياء والملائكة والخلائق جميعاً أعماله جميعاً، يفضح كل ما كان مستوراً منها، وكل ما كان مخفياً، يقول: فعلت كذا يوم كذا، وفعلت كذا يوم كذا.. يقر بذلك بنفسه.

    ثم بعد ذلك لا ينتظر إلا الجزاء؛ فهو عند الملك الديان الحكم العدل، الذي لا ظلم عنه؛ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت:46] إذا أقر على نفسه بكل ما جنته يداه واستظهر كل ما عمل وقد كتبت حياته وآثاره جميعاً؛ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[يس:12]، فوجد كل ذلك بين يديه فلا يلومن إلا نفسه، فإنما هي أعماله قطعاً لم يظلم فيها مثقال ذرة.

    لهذا لا بد في حياتنا أن نفكر في مآلنا وما ينتظرنا أمامنا، وأن نسعى للنجاة فالعاقل إذا اقتنع بقناعة لا بد أن يصحبها بعمل، ونحن اقتنعنا بأننا صائرون إلى ما هنالك وأننا وافدون إلى الله لا محالة، ولا ندري أي يوم ينطلق منا بعث الآخرة؛ فكل يوم ينطلق إلى الآخرة ركب لا يرجع؛ يموت من هو أكبر منا ومن هو معاصر لنا ومن هو أصغر منا، يموت آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا، كل يوم نرى بعثاً متجهاً إلى الدار الآخرة، ولا ندري في أي الأيام نحن سالكون على ذلك الطريق، لكننا نوقن بأننا قطعاً على آثارهم صائرون، وإلى ما آلوا إليه ذاهبون؛ فلذلك لا بد من الاستعداد قبل أن يفوت الأوان.

    وقت التذكر والاستعداد النافع

    والاستعداد لا يمكن أن يكون فقط في حال الاتعاظ أو عند المرض أو عند الاحتضار؛ فهذا لا ينفع، إنما ينفع تذكر ذلك في حال الصحة والعافية، فما دمت آمناً في سربك، معافى في جسمك، تستطيع أن تتحرك، وتستطيع أن تفعل ما تؤمر به؛ حينئذ تنفعك الذكرى، أما عند فوات الأوان، عندما تبلغ النفس الحلقوم عند الموت فما فائد التذكر حينئذ؟! لا يغني ذلك عن أي شيء، فلهذا لا بد أن تستحضر هذا في حياتك هذه وأن تستعد للدار الآخرة قبل أن تصل إليها خصوصاً إذا تذكرت أن الناس جميعاً يحشرون إلى الله سبحانه وتعالى حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، وحينئذ لا يمكن أن تنفع الشفاعات ولا الوساطات، ولا يعتذر الإنسان عن نفسه؛ هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36]، أبلغ الناس بياناً وأنطقهم لساناً يختم على لسانه، فلا يستطيع أن يجيب ولا يستطيع أن يجادل عن أي عمل من أعماله؛ لأن المعاذير كلها ذهبت بالكلية؛ هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36].

    مصاحبة الذكرى على كل حال

    من أجل ذلك كان لزاماً علينا أن نصاحب هذه الذكرى، إذا تقلب أحدنا على فراشه يميناً وشمالاً لا يحس بألم ولا بمرض مخوف، وهو يعلم أن كثيراً من الذين يتصفون بصفته قد أصيبوا بهذه المصائب وقد نجاه الله هو منها، لا بد أن يتذكر نعمة الله عليه، وأن يبادر لطاعته، وإذا دعته نفسه وشيطانه وشهوته إلى الوقوع فيما لا يرضي الله من الأقوال أو الأعمال أو النيات أو المعتقدات، لا بد أن يتذكر حينئذ أن ذلك الذي تدعوه إليه نفسه سيكون في كفة سيئاته يوم القيامة، وهو لا يرضى أبداً في ثقل كفة السيئات على كفة الحسنات، لا بد إذا دعاه إنسان إلى أمر ما أن ينظر إلى ذلك الأمر في أي الكفتين سيكون، إذا دعاه إلى قطيعة رحم أو إلى أمر مخالف لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله لا بد أن يعلم أن ذلك قطعاً في كفة السيئات، وأنه لا يغني عنه أحد فيه شيئاً، فلا بد أن يبادر للخروج منه قبل أن يكتب عليه.

    1.   

    حقيقة التوبة وأركانها

    إن ما أسلفناه في ماضي أعمارنا ونحن نعلم أننا جميعاً مقصرون في جنب الله مفرطون يمكن التخلص منه جميعاً بالتوبة إلى الله؛ فالرب الكريم سبحانه وتعالى ينادينا فيقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ[الزمر:53-58]؛ فلذلك لا بد أن نبادر للتوبة، وقد قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8].

    أركان التوبة

    والتوبة تقتضي منا الندم على ما فرطنا فيه في جنب الله جميعاً، وهذا الندم ليس بسبب أنه مخالف للهوى أو بأنه لم يحقق مصالح، بل الندم عليه لقبحه شرعاً، وهذا هو أول ركن من أركان التوبة: الندم على ما أذنبت لقبحه شرعاً.

    ثم بعد هذا الركن الثاني: الخروج منه إذا كان الإنسان متلبساً به؛ فأي فعل تفعله أو قول تقوله، فاعرضه على الشرع، فإذا وجدت أن الشرع لا يرضاه ولا يقبله، فلا بد أن تبادر للخروج منه والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن يسخط عليك، ثم بعد هذا إذا كان من حقوق الآدميين أن تؤديه إليهم فهم فقراء إلى حقوقهم والله غني عن حقوقه، وحقوق الآدميين فيها خطورة لحاجتهم إليها.

    ثم بعد ذلك النية أن لا يعود الإنسان إلى ذلك الذي تركه لوجه الله، أن ينوي الإنسان أن يكف جوارحه عن ذلك الذنب الذي استفزه إليه الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء فوقع فيه يريد أن لا يرجع إليه أبداً فيما بقي من حياته؛ فهذه هي التوبة الصادقة.

    وليست التوبة مجرد كلمة يقولها الإنسان أو استغفار باللسان، بل إنما تكون بهذه الأركان، ومن لم يتب فإنه لا ينبغي أن يحزن إلا على نفسه، ولا بد أن يعلم أنه ظالم لنفسه حينئذ معاد لها، قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات:11]؛ فالذي لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى قد عادى نفسه وأضر بها غاية الضرر.

    1.   

    حاجة الإنسان إلى مراقبة حركاته وسكناته

    ثم بعد ذلك علينا أن نعلم أن سلوكنا لطريق الحق في بقية أيامنا، يحتاج منا إلى مراقبة لحركاتنا وسكناتنا وخلجات نفوسنا؛ فالإنسان الذي لا يدور أمر الآخرة بخلجه، ولا يخطر بقلبه أمر الموت وما بعده ينطلق سادراً لا يبالي، والإنسان الذي يتذكر مواقف القيامة ويتذكر العرض على الله ويتذكر الموت وما بعده، لا يمكن إلا أن يكون حسيباً لنفسه مراقباً عليها في حركاتها وسكناتها، كلما فعل فعلاً سيئاً بادر إلى التوبة والرجوع، وكلما فعل فعلاً حسناً، سره ذلك، كما عرف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه ( من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن )، فالذي تسره حسنته وتسوءه سيئته هذا المؤمن؛ فلذلك لا بد أن يكون الإنسان بقية حياته بعد توبته مراقباً لنفسه، عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[القيامة:14]، فيهتم دائماً بزلاته وأخطائه ويتلمسها ويبحث عنها، وهذا بخلاف ما يعيشه كثير من الناس اليوم؛ فأكثر الناس يهتمون بعيوب الآخرين وزلاتهم، ولا يهتمون بعيوب أنفسهم وزلات أنفسهم، وهذا نقص بالغ وضرر كبير بالنفس، وقد أخرج مالك في الموطأ أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) فلا بد أن يستشعر الإنسان أن على الناس ملائكة كراماً يكتبون أعمالهم وأنه هو لم يكلف بكتابة أعمال الناس وإنما كلف بأمر نفسه؛ فلذلك لا بد أن يتلمس زلاته وعثراته، وأن يجعل نفسه في قفص الاتهام حتى يتغلب عليها؛ فالنفس ما هي إلا بمثابة الدابة إذا أهملها الإنسان كانت حروناً شروداً إذا أحست بجد نفرت، أما إذا أخذها بالجد والعزم فستتدرب على ذلك وتأتي طائعة مستجيبة كلما احتاج إليها.

    ولهذا فإن ما نشكوه الآن من قسوة قلوبنا وجمود دموعنا، وما نشكوه كذلك من غفلتنا عن أمور الآخرة، وما نشكوه كذلك من عدم انقياد أنفسنا لكثير من الطاعات، وفتورها عندما تبدأ أي عمل من أعمال البر، كله سببه عدم وضع النفس في قفص الاتهام، الذي يقوم الليل ثم يفتر والليلة الأخرى لا يستطيع قيامها أو يريد صيام الإثنين والخميس في حياته، فيصوم هذا الأسبوع، ثم ينقطع بعد ذلك، أو يريد أن يترك أمراً من الأمور التي يقتنع بأنها لا خير فيها، فتطيعه نفسه أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً، ثم يعود، فسبب رجوعه وعودته أنه ما وضع نفسه في قفص الاتهام ولا أقام عليها رقيباً.

    فلا بد أن يكون الإنسان من نفسه رقيب على نفسه، ولا بد أن يتتبع الإنسان خطوات نفسه ومشاهده؛ فأنتم تعلمون أن الإنسان إنما خلق من أجل عبادة الله، وأن قيمته هي ما حقق مما خلق من أجله، فهذا الجهاز الآن إذا كان لا يكبر الصوت ولا يسمعه لا يشتريه أحد؛ لأنه إنما صنع من أجل هذه المهمة ولم تعد موجودة فيه، والإنسان خلق لعبادة الله؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا كان الإنسان لا يحقق هذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فلم تعد له أية قيمة، واستحق أن يرمى في القمامة كالجهاز الذي لم يؤد الخدمة التي من أجلها صنع تماماً.

    فلذلك لا بد أن يعرف الإنسان أن ثمنه وقيمته إنما ترتفع بتحقيقه للحكمة التي من أجلها خلق، وأن يبادر إلى كل ما يزيده رفعة وعلواً، فالعاقل لا يرضى بالدون ولا يرضى الهوان لنفسه بحال من الأحوال، وما من هوان أعظم من هوان الآخرة؛ فهوان أهل النار على الله سبحانه وتعالى هو أعظم الهوان؛ لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وهذا ما لا يرضاه العاقل لنفسه بوجه من الوجوه، أين حال هؤلاء من حال أولئك الذين ينظرون إلى وجه الباري سبحانه وتعالى! وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22-23]، ويكلمهم الله كفاحاً دون ترجمان فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، حال هؤلاء متباين غاية التباين.

    1.   

    الأمور المعينة على الثبات في الالتزام

    لا بد أن نحرص إخواني! على أن نكون من الذين يراقبون أنفسهم ويسعون إلى التزام منهج الحق والسير عليه حتى يلقوا الله عز وجل، وأن نعلم أن مما يدعو الإنسان إلى الثبات على ذلك عدد من الأمور لا بد من تحقيقها:

    الدعاء

    فالأمر الأول: اللجاء إلى الله سبحانه وتعالى، فلا بد أن يكون كل إنسان منا إذا خلا بنفسه مد يديه إلى الله سبحانه وتعالى رغبة ورهبة ودعاءً له سبحانه وتعالى أن يهديه ويوفقه ويسدده؛ فهذا الدعاء لا يرد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء يصطرع مع البلاء في السماء، ولا يرد القدر إلا الدعاء ).

    مصاحبة أهل الخير وملازمتهم

    الأمر الثاني كذلك هو: لزوم أهل الخير الذين يدلون الإنسان على طريق الحق؛ فإذا ضعف ساعدوه وإذا غفل ذكروه، وإذا جهل علموه؛ فهؤلاء الذين يحتاج الإنسان إلى ملازمتهم في كل أحواله، ويتخذ كل إنسان منا من يدله على طريق الحق ويساعده عليه؛ فهذه الصحبة الصالحة يحتاج إليها الإنسان في كل أحواله.

    لزوم المساجد

    ثم مما يثبت الإنسان كذلك على طريق الالتزام بالحق لزوم هذه المساجد، فهذه المساجد فيها هداية من رب العالمين ونور عظيم يتفضل الله به على المصلين في الصفوف؛ ( بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، وهي عصمة من الشيطان ومن كيد النفوس؛ فالذي يصلي الصلوات الخمس في المسجد كثير من الوساوس والظنون لا تعتريه بحال من الأحوال، وإذا جاءت سهل عليه التخلص منها بالكلية؛ فلذلك هي عصمة يحتاج إليها الإنسان في كل أوقاته.

    ثم بعد ذلك مما يثبت الإنسان على طريق الالتزام أن يرى الملتزمين في كل الأوقات، وأن يرى إقبالهم على الله سبحانه وتعالى وبالأخص في المواسم، الذي يشهد بكاء البكائين وخشوع الخاشعين، ويقرأ سيرهم وأمور حياتهم وتراجمهم في كتب حياة الناس، لا شك سيتأثر بذلك تأثراً بالغاً، ويكون له أثر على عمله هو وسلوكه.

    السؤال عند الجهل بالحكم

    كذلك مما يثبت الإنسان على طريق الالتزام بالحق أن يكون كلما جهل حكماً بادر للسؤال عنه والتعرف إليه؛ فالإنسان الذي يجهل شيئاً ويستحيي أن يسأل عنه، أو لا يجعله من أولوياته ولا من اهتماماته؛ هذا غير مبال في الواقع، والإنسان الذي إذا استشكل أمراً في أي وقت من الأوقات بادر للسؤال عنه ومعرفة حكم الله فيه، ثم يطبق ذلك ما استطاع؛ هذا هو المبالي المهتم.

    محاسبة النفس بشكل دوري

    كذلك مما يثبت الإنسان على هذا الدين وعلى هذا الالتزام بالمنهج الصحيح أن يتخذ لنفسه وقتاً من الأوقات يجعله للمحاسبة، يحاسب فيه نفسه، في كل أربع وعشرين ساعة يتخذ عشر دقائق أو خمس دقائق عند النوم يحاسب نفسه، فيراجع ما عمل من الحسنات في هذا اليوم، وما عمل من السيئات، فيبادر للتوبة من سيئات هذا اليوم، قبل أن يختم على صحيفته، وكذلك يحمد الله على ما وفقه له من الأعمال الصالحة فيه، وهو يعلم أن كل يوم من أيام الدنيا هو عمر كامل، يختم على صحائفه، وقد لا يعود الإنسان من نومته؛ فالله تعالى يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42].

    فلذلك يستعد الإنسان عند نومه بتصفية الحقوق فيما بينه وبين الله، والخروج من الذنوب والتوبة بعد محاسبة النفس، وإحصاء ما كان عليه؛ فالإنسان إذا عد ورده اليومي، ماذا عليك من الواجبات؟ ابدأ مثلاً ركعة الفجر قبل الصلاة ثم صلاة الصبح في الجماعة، ثم بعد ذلك ما عليك من الأذكار، ثم الصدقة اليومية، ثم بعد ذلك واجباتك المتعلقة بالأهل، ثم أعمالك العامة طيلة يومك، ثم صلاة الظهر في الجماعة وما معها من الرواتب، ثم صلاة العصر كذلك في الجماعة وما قبلها من الرواتب، ثم صلاة المغرب في الجماعة وما معها من الرواتب، وكذلك ما توفق له من الأعمال الصالحة، ثم بعد ذلك صلاة العشاء في الجماعة، ثم بعد ذلك ما استطعت من قيام الليل أو الوتر هذه أمور لازمة لا تقصر عنها، وما زدت فيه من الخير فهو زيادة خير.

    الأعمال السيئة - نسأل الله السلامة والعافية - إذا حصل منها أي شيء بادر الإنسان لتطهير نفسه منه قبل أن يختم عليه؛ فيراجع ما قاله اليوم من الكلام والمواقف وما فعله من الأفعال، فيتوب إلى الله من قبيحه قبل أن يجده في صحيفته.

    وهذا الورد - ورد المحاسبة - من مهمات الإنسان التي تقتضي منه عدم الغفلة؛ فالذي يحاسب نفسه كل يوم لا يعد من الغافلين؛ لأنه مستحضر للموت ومستحضر لوزن الأعمال؛ فلذلك لا يمكن أن يعد من الغافلين.

    أما الذي لا يحاسب نفسه ويمضي عليه شهر أو شهران، ولم يخطر على باله كم عمل من الصالحات في هذا الشهر، الحسنات، وكم عمل من السيئات، هذا كيف يتوب وهو لا يعلم أنه قصر أصلاً؟! وكيف يحمد النعمة على العمل الصالح وهو لا يتذكر أنه عملاً أصلاً؟! أصبحت حياته روتيناً عادياً، يعمل كما تعمل الماكنات، من غير نية ولا قصد، وهذا النوع فيه خطورة عظيمة؛ لأنه مقتض لموت القلوب وأن تكون هذه القلوب ميتة بالكلية؛ فالذي يذنب ولكنه يتوب إلى الله وينكسر ويندم على ذنبه وينوي أن لا يعود إليه، خير من هذا الذي لا يحاسب نفسه أصلاً، ولا يدري هل أذنب أو لم يذنب أصلاً؛ فالفرق شاسع بين هذين الشخصين في هذه الحياة وفي مآلهما كذلك في الدار الآخرة.

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأحسن الأعمال والأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يهدينا لطريق الحق، وأن يلزمنا كلمة التقوى، وأن يجعلنا من الصادقين.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756225329