إسلام ويب

مقصورة ابن دريد [2]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يزال الغرام والوجد بالمحب حتى تذبل رياض شبابه بعد نظارتها، ولا يزال أيضاً به الفراق حتى يحرق أحشاءه، ويسكن التسهيد والسهر عينيه، ويهجره طيب النوم ولذيذ الراحة، حتى يهون أمام مصابه كل مصاب، ويغص بكل غصة، وتعجز صم الصخور عن تحمل ما به، ومن هنا يصبح الفناء والهلاك عاقبة أمره، والبكاء رفيق دربه.

    1.   

    نصيحة لمن يشكو من صعوبة اللغة العربية مع محبته لها

    السؤال: إنني أحب اللغة العربية، ولكنني لا أفهمها، فكيف يطلب علم اللغة العربية؟ وكيف يذلل طريقها؟

    والجواب على ذلك باختصار: أن العلم كله سهل وميسر، وأصل العلم هو العلم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17]، أي: للحفظ والفهم معاً، فالقرآن ميسر، والقرآن مشتمل على ألفاظ عربية، بل كل ألفاظه عربية، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم سهلة ميسرة، ولكن أين الخلل؟ الخلل فينا نحن، الخلل في طريقة الطلب، وفي طريقة المعلم، وفي المنهج والكتاب الذي ندرسه، نحن عندنا خلل بلا شك.

    هذا الطالب يقرأ النحو من السنة الرابعة الابتدائية إلى أن يتخرج في الجامعة في الكلية أو يحصل على الماجستير وربما على الدكتوراه وهو ضعيف في النحو، ضعيف في اللغة، وهو يدرس هذه المادة من الرابعة الابتدائية، ويدرسها في الأسبوع مرات، وقد يكون طالباً ذكياً، فما المشكلة؟ المشكلة في طريقة التدريس، وفي المعلم الذي يعلم هذه المادة، وهنالك مشكلة أيضاً عند الطالب، وهنالك خلل أيضاً في الزمن الذي تدرس فيه هذه المادة، مع عدم مراعاة العلوم الأخرى التي تجتمع معها، يعني لو درس مثلاً كتاباً واحدًا في المرحلة الابتدائية في النحو دون أن يقرأ في السنة الرابعة كتاباً، ويقرأ شيئاً من النحو، وفي الخامسة شيئاً آخر من كتاب آخر مقطعات، فهذا يتثقف في النحو فقط.

    لو أخذ كتاب (قطر الندى) كما كان في الأزهر (قطر الندى) كان مقرراً في الابتدائية في ذلك الزمان، يلاحظ مكانه الآن الآجرومية في هذه المرحلة، وفي المتوسطة كتاب آخر، وفي الثانوية.. وهكذا يترقى في العلم، أو كل مرحلة يدرس فيها بعض العلوم؛ لأن تزاحم العلوم بعضها يمسح بعضاً، لو دُرِّس في المراحل الأولى في الدراسة مثلاً علوم الآلة فقط، ويستروح عند قراءة هذه العلوم بالكتب الخفيفة أو بالمواد الخفيفة كالأدب وما يسمونه بالمطالعة بالقراءة ونحو ذلك، ويقرأ في المرحلة المتوسطة بعد ذلك ما يتعلق بعلوم القرآن، وفي الثانوية ما يتعلق بالتفسير.. وهكذا، فهنالك خلل في المنهج في منهج الطالب ومنهج المدرس، فيحتاج الطالب إذاً أن يصحح طريقته، وأن يختار الكتاب الذي يقرأه، وأن يختار المدرس الذي يعلمه وينفعه في هذا العلم، ويحتاج أيضاً إلى رغبة، وقد عبر عنها السائل بأن عنده رغبة، وهذه تقطع له شوطاً كبيراً، ويحتاج أيضاً إلى همة عالية، إذا توفرت هذه الأشياء فإنه بإذن الله سوف يكون عالماً من العلماء، إلا إذا لم يكن خلق ميسراً للعلم، خلق لشيء آخر، ولكنه لا يخلو من أجر كثير، فإنه لايزاحمه في طريقه إلى الجنة أحد، كما تعرفون في الحديث الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، بل قد ورد في حديث يصححه كثير من العلماء: ( بأن طالب العلم يستغفر كل شيء حتى الحيتان في البحر، والطير في السماء )، فحسبك بهذا، إذا كنت الآن جالساً معنا هنا ويستغفر لك كل المخلوقات حتى الحيتان في البحر، ويجمعون لك هذه الحسنات وأنت جالس مستريح تستمتع بما يمتع ذهنك وروحك، لا تقل: إن العلم قد ذهبت أربابه، من سار على الدرب وصل.

    أحكي لكم عن عالم صار من علماء النحو كان معنا في المدينة، وأخبرني بقصته مع النحو، وهو أنه حينما سمع أول درس في الآجرومية كان الدرس ثقيلاً؛ لأن الذي ألقاه عالم من العلماء الأزهريين، قال: إنني لم أفهم شيئاً، وهو من أذكياء الناس، قال: فخرجت في ثياب المدرسة أو المعهد في دار الحديث المدنيّة في المدينة، وذهبت إلى زاوية في نواحي المدرسة وبكيت؛ لأنني لم أفهم هذا العلم، وأردت أن أخرج من المدرسة وأبحث عن عمل ينفعني؛ لأنني لا أصلح للعلم، ولكنني وجدت من وجهني في ذلك اليوم بعد أن شكوت له إلى أن العلم يحتاج إلى صبر، وبأنك من أذكياء الطلاب، ولكن عليك أن تغالب نفسك، وأن تصبر، قال: فصبرت، وحصل معي في الدرس الثاني أيضاً ما حصل معي في الدرس الثالث ولم أفهم، فكابرت نفسي وغالبتها وجالدتها، وأصبحت المسألة بعد ذلك تحدي، ثم صار من أعلام علماء النحو بعد ذلك.

    ويقولون عن السكاكي صاحب مفتاح العلوم هذا الكتاب البديع الذي لم يسبقه أحد في صنع مثله، قالوا: إنه طلب العلم بعد الثلاثين، وذهب إلى أستاذ في ذلك الزمان وأراد أن يطلب عليه العلم، وهو يعرف أنه صاحب حرفة، فقال له: أنت لا تصلح، قال له: لا أنا أصلح، قال: لا تصلح، قال: اقرأ هذا الكلام، فلم يستطع أن يقرأ قراءةً مستقيمة، فقال له: ألم أقل لك: إنك لا تصلح فصبر، وجلس في حلقة ذلك الشيخ، يقال: حلْقة وحلَقة، جلس ولم يكن يفهم؛ لأن الدرس فوق مستواه، إذا كان هذا الإنسان لا يستطيع أن يقيم سطراً فلا يستطيع أن يفهم ما يقوله ذلك الشيخ وهو يغوص في العلوم، فمكث عنده عشر سنوات هكذا يقولون، ولكنه لم يحصل على علم كثير، حصل على قطرات بسيطة، رأى أنها لا تكفي ولا تنفعه، ولا يصلح للعلم، يقولون: إنه ذهب هائماً على وجهه في الصحراء، لا أدري هل القصة صحيحة أو مؤلفة الله أعلم، الحاصل أنه ذهب إلى الصحراء هائماً، فرأى قطرات تسيل من بعض المجاري أو الشعاب، وتقع على صخرة، ورأى أثراً في تلك الصخرة، وهذا الأثر من جراء الماء الذي كان يتقاطر، لكن سنوات كثيرة أو مدة طويلة وهو يتقاطر على هذا المكان، فأحدث فيه هذه الفطرة، فأخذ من هذه المسألة لقطة صورة وعبرة وعظة له، فقال:

    أما ترى الماء بتكراره في الصخرة الصماء قد أثَّرا

    يقول هذا الكلام يكلم نفسه، فحينئذ نوى بعد ذلك ورجع إلى رحله، وأخذ يتعلم، ولكن هذه المرة بعزيمة أقوى، وهمة أقوى، وصار من تعرفونه بعد ذلك السكاكي، الذي إذا ذكر شيء في البلاغة ذكر السكاكي معه فوراً، وهو صاحب مدرسة مستقلة، لكن المشكلة فيما أظن أنه جلس إلى ذلك الشيخ الذي كان يتكلم في الفلسفة، أو يشرح علوم العربية وعلوم الكتاب والسنة بطريقة فلسفية، فلم يفهم، ليس هناك أحد لا يفهم إلا إذا كان في ذهنه خلل، إذا كان لا يفهم لا في المرة الأولى ولا في العاشرة ولا في المرة المائة، هذا إنسان آخر لا نتكلم عنه، لا بد أن يفهم، المدرس الذي يشرح الفكر ولا يفهم أحد من الطلاب هو إنسان ليس بفاهم لم يفهم، لو كان فاهماً لاستطاع أن يفهم ولو واحداً من الحاضرين، أما أن يشرح ويعيد ويعيد ويقولوا الطلاب: نحن لم نفهم، فهو لم يفهم؛ لأن الفَهِم يستطيع أن يعرض الفكرة بطرائق مختلفة حتى يفهم السامع، ولذلك السكاكي أثر فيه هذا الأسلوب، فسكك علينا البلاغة بطريقته هذه، فتجد في عباراته ألفاظاً نمطية لا علاقة لها بهذا العلم، وبنى أيضاً كثيراً من مسائل البلاغة على التعريفات التي لا حاجة إليها.

    بناء مسائل العلم على التعريفات هذا بحث طويل لا يحتاج إليه خاصةً إذا لم تكن من المسائل التي فيها اصطلاح، أما إذا كانت المسألة فيها اصطلاح إذا أطلقت فهم الناس فهماً آخر فنحتاج إلى فهم بسبب هذا الاصطلاح، فحينئذ نعود إلى هذا الاصطلاح ونعمل به، وأيضاً هنالك بعض الأشياء أو بعض الكلمات الذي يظن بعض الناس أنها حكم، وهي ليست بحكم، وهي أن العلم يحتاج إلى تفرغ كامل ليس بصحيح، الوقت وقت مبارك، إن كان عندك عمل، أو كان عندك أشياء أخرى فاقضها، يحتاج إلى تفرغ ذهني فقط ولو ساعة في اليوم، فإنك تنتفع بهذه الساعة ما لم ينتفع بها غيرك، ربما لو مكث يوماً وهو مشغول البال، أو لم يأت مهيأ النفس فلا ينتفع بهذه الساعة، يقول بعضهم: إذا المرء اشترى بصلة فلا تسأله عن مسألة، فإذا كان هو يذهب ويروح ويشتري ويتاجر يشتري بصلًا فلا تسأله، يعني حتى أمور البيت لا تشترها، هذا من معوقات طلب العلم، وهذا ليس بصحيح لو المسألة بصلة فليست شيئًا كبيرًا.

    ويقولون: إن الإمام الشافعي كان وهو يكتب رسالة عن الأم - قصة هذه اعتبروها كقصص بني إسرائيل نحكيها ولست ملزماً أن تصدقها - فقالت امرأته: ليس عندنا بصلة، ما عندنا بصل، فكتب من أول الصحيفة إلى آخرها بصلة بصلة بصلة بصلة، فوتت عليه، يعني ذهنه ذهب إلى ذلك، فهذا الكلام ليس بصحيح، أقصد أنه لا بد من التفرغ الكامل ليس بصحيح، أفرغ ذهنك فقط ولا تقرأ إلا وأنت خالي البال.

    عندنا الألباني كان يعمل أياماً ويطلب العلم أياماً، وكثير من العلماء كذلك، لكن إن حصل لك أن تتفرغ تفرغاً كاملاً، وكان عندك أيضاً رغبة فلا بأس، ومع هذا فلا تلزم نفسك، الذي يلزم نفسه على طلب العلم أو على قراءة كتاب محدد هذا يقهر نفسه فيما لا تحب، لا، أعط نفسك ما تحب، يقول ابن الجوزي: الإنسان لا يجبر نفسه على حفظ كتاب محدد.

    هذا الكتاب المقصورة إن اشتهت نفسك أن تحفظها فهذا طيب هو الأفضل، وإن لم يمكن ذلك فيكفي قراءتها قراءة صحيحة وفهم ألفاظها، ليس بلازم أن تحفظ كل شيء، ثم قد لا تكون من الحفاظ وتكون ممن ملكته الفهم، والفهم خير من الحفظ، الحفظ لا بد منه، ولا يستغني عنه طالب العلم أبداً، ولا يهمل الحفظ إلا من ضعف، لكن إن كان ولا بد من أحدهما فالفهم أولى، ومن فهم فقد حفظ، لكنه لا يكون كالحفظ، هناك أشياء تحتاج إلى أن تذكرها بالنص، فالعلم يحتاج إلى فهم وحفظ وبيان، هذه الثلاثة الأشياء من اجتمعت فيه فقد كمل، لا نطيل في هذا الباب، ويكفي أن نلخص المسألة في أن العلم يحتاج إلى تصحيح الطريقة، وإلى همة عالية وراء بطن جامحة فقط.

    الشافعي يقول في البيتين المعروفين:

    أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان

    ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان

    1.   

    شرح قول الناظم: (وآض روض اللهو يبسًا ذاويا...)

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه،

    وبعد:

    وقفنا في اللقاء السابق عند قول ابن دريد رحمه الله في البيت الخامس:

    [ وآض روض اللهو يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مجاج الثرى ]

    يتكلم عن نفسه وعن حاله ما الذي حصل له بعد ذلك البين وذلك الفراق، نحن قلنا: آض، كصار وزناً ومعنىً وعملاً، آض أين اسمها؟ روض، ويبساً: خبرها، وذاوياً: خبراً آخر، أو صفة ليبس، وهي مثل صار في الوزن؛ لأنها على وزن فعل، وكذلك في المعنى وفي العمل.

    معنى الروض

    أما الروض فهو جمع روضة، والروضة والريضة مستنقع الماء ومنبت الشجر، وغلب علينا في كلمة مستنقع أننا نقولها في المكان الذي يكون فيه ماء عكر أو ماء ملوث، وهذا خطأ بل هي للمكان الذي يكون فيه ماء ويكون فيه أشجار، سواء كان ذلك الماء نظيفاً أو غير نظيف، صافياً أو غير صاف، يعني: سواء كان آسناً أو غير آسن، كما نطلق كذلك أيضاً الجرثومة على الميكروب مثلاً، والجرثومة في الأصل الشريف، لكن هنالك تطور في استعمال الناس أدى بها إلى هذا المعنى الباطل، وهو ليس بصحيح في اللغة العربية.

    عادةً الروضة تكون في المكان المطمئن.

    معنى (ذاوياً) و(مجاج الثرى)

    ومعنى (ذاوياً) أي: ذابلاً يابساً.

    و(مجاج الثرى) مأخوذ من مج الماء بمعنى: أنه لفظه، وفي حديث محمود بن الربيع الصحابي قال: عقلت مجةً مجنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: كان النبي عليه الصلاة والسلام في فمه ماء فمجه في وجهه مداعبةً له، وكان عمره يقارب أربع سنين أو خمس، ولو فعلتها اليوم مع طفل لضربك أبوه، وقد جعلوه صحابياً؛ لأنه عقل هذا المجة، وجعلوا هذا أدنى التحمل، وأول التحمل يكون في هذا السن.

    وكلمة الثرى من ألفاظ القرآن الكريم، والثرى: هو التراب الندي، قال الله تعالى: وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6].

    يقول: إن ماء شبابه الذي كان كالروض الندي صار يبساً ذابلاً لا ترى فيه حياة ولا مدركاً بعد أن كان غضاً نظيراً جيد التربة.

    1.   

    شرح قول الناظم: (وضرم النأي المشت جذوةً...)

    ثم قال بعد ذلك:

    [ وضرم النأي المشت جذوةً ما تأتلي تسفع أثناء الحشا ]

    في اللغة العربية ضرم بمعنى أشعل وأوقد.

    والنأي معناه: البعد، والنأي أيضاً من ألفاظ القرآن الكريم، قال تعالى: وَنَأَى بِجَانِبِهِ [الإسراء:83]، أي: أعرض وجعله بعيداً، وفي الشعر:

    أرض نأت ونأى للحي قائمها إذ حل أرضاً بها أبناء ذبيان

    والمشت: المفرق، وهذا اللفظ موجود في القرآن الكريم أيضاً يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] أي: متفرقين، وجذوةً أيضاً من ألفاظ القرآن الكريم، وهي مثلثة الأول، كجمرة وزناً ومعناً أيضاً، فجذوة بفتح الجيم وكسرها وضمها، وهذه اللغات الثلاث قرئ بها في القراءات السبع، فالذي قرأ بالفتح عاصم وحده، والذي قرأ بالضم حمزة، والباقون قرءوا بالكسر، وجمرة ليست مثلثة، المثلثة هي جذوة.

    ما تأتلي أي: ما تقصر، قال زهير بن أبي سلمى بضم السين.

    سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا

    وأما كلمة (ما تأتلي) فمعناها ما تقصر، أيضاً كذلك هذه من ألفاظ القرآن الكريم، وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ [النور:22]، وتأتي ائتلى بمعنى: أقسم، وتأتي بمعنى قصر، والآية تحتمل معنيين، لا يأتلِ يعني: لا يقصر أو لا يحلف؛ لأن بعضهم أقسم وهو أبو بكر رضي الله عنه.

    وأما (تسفع) فهي أيضاً كذلك من ألفاظ القرآن الكريم، ومعنى تسفع: تحرق، قال عز وجل: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ [العلق:15]، إلا أن السفع هنا له أربعة معانٍ ذكرها صاحب القاموس، وذكرها بعض المفسرين من أصحاب التفسيرات المبسوطة، فقد ذكر مجد الدين أن لها أربعة معانٍ وهي التي عندك هنا في الكتاب: نجره للنار، أو نذله، أو نجعل وجهه مسوداً، أو نجعل وسم أهل النار فيه، (وذا به الثلاث قبل تكمل).

    (أثناء) جمع ثنية لما انثنى من الشيء، وأما (الحشا) فهو ما احتوت عليه الأضلاع.

    والمعنى الإجمالي للبيت: أن النأي وهو البعد أشعل جذوةً في قلبه، لا تزال تسفع وتحرق حشاه، وقد أوقد بعد المحبوب الذي فرق بيني وبينه جمرةً في جوفي لم تقصر في إحراق حشاي.

    1.   

    شرح قول الناظم: ( واتخذ التسهيد عيني مألفاً...)

    قال رحمه الله:

    [ واتخذ التسهيد عيني مألفاً لما جفا أجفانها طيف الكرى ]

    (اتخذ) معناه: صير، و(التسهيد) هو المنع من النوم، والسهاد هو السهر، يعني: ضد الكرى الذي هو النوم، يقال: رجل ساهد وسهد أي: قليل النوم، والسهر امتناع النوم بالليل خاصة، كما أن السمر هو المحادثة بالليل، محادثة الجمع بالليل خاصة ولا يكون بالنهار، كما أن السهر لا يكون بالنهار، وكذلك الأرق لا يكون أيضاً إلا في الليل، ورجل يقظ ويقم كثير الاستيقاظ، ويقال كذلك: رجل خرف، يعني: كثير الاستيقاظ، كالعجوز المقلاق التي تصحو كثيراً، فهي تصحو كل خمس دقائق وتسأل من الذي طرق الباب؟ من الذي سعل؟ من الذي طرق؟ وهكذا، هذا يقال له: خرف، وامرأة خرفة.

    و(مألفاً) محل ألفة مسكناً، و(جفا) بمعنى: ترك، و(طيف الكرى)، الطيف: هو الذي يزور في النوم، و(الكرى) هو: النوم، وهل التسهيد من ألفاظ القرآن أو الكرى؟ لا، الطيف هل هو من ألفاظ القرآن؟

    نعم؛ لأن هناك قراءة ((إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان))، وفي قراءة (طائف) على هذا المعنى، و(طائف) مفرد.

    يقول: اتخذ السهر عيني مقاماً ومألفاً لا يغادرها حين ترك النوم الأجفان، يريد أن السهر صار له عادة.

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    1.   

    شرح قول الناظم: (فكل ما لاقيته مغتفر...)

    [ فكل ما لاقيته مغتفر في جنب ما أسأره شحط النوى ].

    (فكل ما لا قيته) كلمة (كل) من ألفاظ العموم، الذي نحتاج إلى أن نذكره في لفظ كل: هو أننا حين نخبر عنها إما أن نراعي لفظها وإما أن نراعي معناها، فإذا راعينا المعنى فإننا نأتي بالخبر جمعاً، وإذا راعينا اللفظ نأتي به مفرداً، وكلاهما جاء في القرآن، قال عز وجل: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ [مريم:93]، آتي، وقال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وقال عز وجل: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87]، أتوه، وفي قراءة: (آتوه داخرين) وهي قراءة سبعية، (وكل آتوه) أو (أتوه) كلاهما جمع، لكن آتى في سورة مريم جاءت مفردة، فتقول: كل الطلاب حضروا أو كل الطلاب حضر، فلك أن تقول هذا ولك أن تقول هذا، وكذلك كلتا تقول: كلتا النسختين من الكتاب كانتا عندي أو كانت عندي، والأفصح كانت، وهذه جاءت في القرآن: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ [الكهف:33]، ولم يقل: آتتا، وكذلك كلا:

    كلانا ناظر قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني

    كلانا ناظر، لك أن تقول: كلانا ناظران.

    كلمة (مغتفر) مادتها الغين والفاء والراء، قال ابن فارس: إن معظم هذه المادة يدل على الستر؛ لأن الغفران فيه ستر للذنوب، غفر بمعنى: غطى، ومنه المغفر الذي يوضع على الرأس؛ لأنه يغطيه، فهذه المادة هذا هو الأصل فيها، وليس لها إلا هذا الأصل، لكن أيضاً الجيم والنون تدلان على الستر في الجن والجنون والجنة والمجن؛ لأن بعضها يستر بعضاً، حتى من اللطائف أنني وجدت كلاماً لـابن تيمية يقول: إن السجن أيضاً كذلك مادته الجيم والنون؛ لأن من كان فيه فهو مخفي ومستور، ولكن الاشتقاق الذي نعرفه لا يساعد على هذا الكلام، إنما وافق هذه المرة؛ لأن المادة ولو كان من باب الاشتقاق الأكبر هنالك اشتقاق أكبر لكننا لا نستطيع أن نعمله في جميع الألفاظ إلا بتكلف، قد يوافق أحياناً ويتفق أنه يصلح في بعض المواضع، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بأن هذه المادة من أجل هذين الحرفين كان معناها كذا وكذا، فهو يقول: كل ما لاقيته سهل مغتفر، إذا ما قيس بما ألقاه بعد النوى، كل ما لاقيته من أذايا وبلايا في طريق الحب والوجد فكله مغتفر بالنسبة لما قبله.

    1.   

    شرح قول الناظم: (لو لابس الصخر الأصم بعض ما...)

    ثم يقول رحمه الله بعد ذلك:

    [ لو لابس الصخر الأصم بعض ما يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا ].

    (لو لابس الصخر) هذا من دعاوى العشاق؛ لأنه قد صبت عليه من المصائب ما لو وقعت على الجبال لهدتها، ولو وقعت على كذا وكذا لكان كذا وكذا، وأيضاً المحبوب لو بصق في البحر لتغير البحر المالح إلى بحرين، كله كلام فاضي، هذا من دعاوى العشاق.

    الخلاف في دلالة (لو)

    (لو) اختلف في معناها اختلافاً طويلاً عريضاً، لكن الأقرب فيها أنها حرف امتناع لامتناع، وهذا باختصار وهو الذي ذكره سيبويه، والذي عليه المعربون وهو الذي شاع في الفن أنها حرف امتناع لامتناع، ومعنى قوله:

    (لو لابس الصخر الأصم بعض ما يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا)

    أي: امتنع فض أصلاد الصفا لامتناع ملابسة الصخر، مثلاً تقول: لو جاء الصديق لاستقبلته، لكن امتنع الاستقبال لامتناع مجيء الصديق، بخلاف لولا؛ لأنها حرف امتناع لوجود، وليست حرف امتناع لامتناع، يعني: امتنع شيء لوجود شيء آخر، فلولا حرف امتناع لوجود، وتأتي للتحضيض بمعنى هلا، مثلاً: لولا فعلت كذا، يعني: هلا فعلت، لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ [العنكبوت:50] بمعنى: هلا، أما: (.. لولا الله ما اهتدينا)، فهي امتناع لوجود، لكن الوجود قد يكون الأول، والمعنى امتنع عدم الاهتداء، ما اهتدينا؛ لوجود توفيق الله وهدايته.

    (لو لابس الصخر الأصم بعض ما يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا)

    يعني: من القلوب ما هو أشد قسوةً من الحجارة، لكن هذه القسوة معنوية، وليست حسية.

    ولابس بمعنى خالط.

    معنى الصخر وبعض أوصافه

    والصخر يقول عنه ابن فارس: إن الصاد والخاء والراء كلمة واحدة، وهي الصخرة وما يشتق منها فقط، وليس هناك كلمات كثيرة، أحياناً تكون الكلمة في اللغة العربية لها تفريعات كثيرة، وأحياناً كلمة واحدة، وربما لا تكون لها اشتقاقات، مثل كلمة: (الأنام) تبحث في القاموس فلا تجد إلا كلمة أنام، ولا يوجد ألفاظ أخرى لها، ولكن لها اشتقاقات حولها بمعناها.

    والأصم: الشديد الذي لا صدع فيه، فعندما نقول عن الإنسان: بأنه أصم يعني: لا ينفذ الكلام إلى أذنه، كأن أذنه مسدودة، كذلك الصخر الأصم ليس فيه أي فتحة، بمعنى: ليس فيه شق.

    قوله: (أصلاد الصفا) الصلد: الصلب الأملس، والصفا: اسم جمع صفاه، يعني صفاه هو المفرد، واسم الجمع صفا، وهي أيضاً كذلك الصخرة الصماء، ولكنه أضاف الشيء هنا إلى نفسه من أجل الضرورة.

    يقول: لو وقع ما لقيه قلبي من غوائر الهوى والغرام على صخر قوي لفضه ولحطمه، وهذه الدعاوى مثل دعاوى الصغار، أحياناً الصغير يقول: إذا أنا لقيت اللص سوف أفعل به كذا وكذا وكذا وهو طفل صغير، فإذا أفزعه أحد في نفس الوقت هرب، وهذه دعاوى، لو جد الجد والله أعلم لكان أمر آخر.

    وللفائدة فإن الصخر والصفا من ألفاظ القرآن، وكذلك (فض) من ألفاظ القرآن كما في سورة المنافقون: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7].

    1.   

    شرح قول الناظم: (إذا ذوى الغصن الرطيب فاعلمن...)

    ثم يقول رحمه الله تعالى بعد ذلك:

    [ إذا ذوى الغصن الرطيب فاعلمن أن قصاراه نفاد وتوى ]

    (ذوى) مر بك قبل قليل أن ذاوياً بمعنى ذابل؛ لذا فذوى بمعنى: ذبل، (الغصن) معروف، و(الرطيب) والرطب سواء، (فاعلمن) هذه النون نون التوكيد الخفيفة، (أن قصاراه) قصارى الشيء و.. وحماداه منتهى أمره، تقول: هذا قصارى الشيء، و.. وحماداه كلها بمعنى منتهى أمره، ومادة القاف والصاد والراء لا شك أنها من ألفاظ القرآن، والنفاد كذلك مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54]، في سورة ص، والنفاد: من نفد إذا لم يبق منه شيء.

    (وتوى)، التوى هو: الهلاك، ويقول في معنى البيت: إذا ذبل غصن الشجر الناعم الرطب فإن نهايته الفناء والهلاك، وكذلك الإنسان، وهذا كلام حسن صحيح؛ لأن الإنسان يبدأ ضعيفاً ثم ينتهي بعد ذلك ضعيفاً، ثم ينتهي إلى الهلاك، كما قال لبيب بن ربيعة:

    وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع

    وكما قال أبو الطيب:

    آلت العيش صحة وشباب فإذا وليا عن المرء ولى

    وهذا كلام فيه حكمة، وأبو الطيب المتنبي له أكثر من أربعمائة بيت في الحكمة تدور على ألسنة العلماء والشعراء والحكماء والملوك والناس، فإنه أطلق في هذا الباب في مسألة دراسة النفس الإنسانية، وما يتعلق بذلك، واستطاع أن ينتفع من حكم السابقين، وصورها في شعره؛ لهذا تفوق في هذا الباب، وأما في باب الوصف وفي باب النشيد والغزل فإنه لا يبلغ مرتبة البحتري، ولا يبلغ أيضاً كذلك مرتبة ابن الرومي، وكثير من الشعراء، لكنه برع في الحكمة، والحكمة هي التي تؤثر في الناس، وينفعل الناس لها؛ ومن أجل هذا جعلوه في صدر القائمة.

    1.   

    شرح قول الناظم: (شجيت لا بل أجرضتني غصة...)

    ثم يقول رحمه الله بعد ذلك:

    [ شجيت لا بل أجرضتني غصة عنودها أقتل لي من الشجى ]

    شجيت يعني: حزنت، والحزن ضد السرور، وأشده البث، والكرب هم وغم، وهذا تفريق بين الحزن والبث والكرب، والحزن في المراتب الأولى، ثم إذا بلغ مبلغاً فإنه يكون بثاً، والكرب هم مع غم، ورجل أواه شديد الحزن، كثير التأوه، يقول: أواه أو أوه إلى غير ذلك، وفيها اثنا عشر لغة، والبلبلة والبلابل شدة الهم والوسواس والمصدر البلبال بالكسر، والأسى: الحُزْن والحَزَن، يعني: لك أن تقول: الحزن، ولك أن تقول: الحزن، وهذا قرئ به أيضاً في القراءات السبع؛ لأن الحُزْن والحزَن، والوُلْد والوَلَد، والعُرْب والعَرَب، والعُجْم والعَجَم، والسُخْط والسَخَط، والبُخْل والبَخَل، كل هذه يجوز فيها الوجهان، تجوز بالضم مع الإسكان أو بفتحتين.

    والكآبة سوء الحال من الحزن، والسدم هم وندم.

    يقول: (شجيت لا) أكذب نفسه، يعني: انتقل إلى شيء آخر، (شجيت) أي: حزنت، (لا بل أجرضتني غصة عنودها) وهو المعترض منها؛ لأن الإنسان أحياناً يغص لوجود عظم أو كذا، وهذا العنود المعاند الذي يقف في الحلق يسمى عنوداً، (عنودها أقتل لي من الشجى) نفسه؛ لأنه قال أولاً: حزنت، وهذا أمر في الداخل يستطيع الإنسان أن يعالجه على مرور الأيام، لكن حينما يقف في حلق الإنسان شيء فالمسألة إما موت وإما حياة، فهو يقول: (أجرضتني غصة عنودها)، هذه الغصة عنودها أقتل لي من الشجى نفسه.

    يقول: حزنت على ما أصابني، وليت الأمر انتهى إلى ذلك، بل وقفت بحلقي غصة هي أشد بأساً وأشد تنكيلاً من الشجى نفسه، كما قال أبو الطيب:

    وكنت قبيل الموت أستعظم النوى فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى

    1.   

    شرح قول الناظم: (إن يحم عن عيني البكا تجلدي...)

    قال رحمه الله بعد ذلك:

    [ إن يحم عن عيني البكا تجلدي فالقلب موقوف على سبل البكا ].

    سبل: مفرده سبيل، وهي بإسكان الباء ولا بد، مع أن الأصل هو الضم، لكن هنا نختار هذه اللغة؛ لأنه لا يستقيم الوزن إلا بذلك.

    قاعدة جواز ضم الوسط وتسكينه فيما كان على وزن فُعُل

    وهناك قاعدة مطردة وهي: أن كل ما كان من الأسماء على وزن فُعُل فلك أن تسكن العين؛ لأن الضمة ثقيلة.

    ويجتمع ثلاث ضمات عند الوصل، فنحتاج إلى التخفيف واللغة العربية مبنية على التخفيف فنخفف بالإسكان، ولهذا في القرآن الكريم (رسلنا) قرئ بإسكان السين وقرئ بالضم، وسبلنا أيضاً كذلك، والأذن والسحت كلها قرئت بالإسكان، وقرئت أيضاً بالضم، وهذه قاعدة مطردة يتفق عليها البصريون والكوفيون، إلا أن البصريين تراجعوا في مسألة وهي: إذا ما كان اللفظ في الأصل ساكن الوسط هل نضم؟ قال البصريون: لا نضم؛ لأن غرضنا هو التخفيف حينما سكنا ما كان مضموماً، وهذا الغرض ليس بموجود الآن، فنبقيه على أصله، وأما الكوفيون فإنهم - وهم أناس ميسرون - قالوا: يجوز لك أن تقول هذا، ولك أن تقول هذا، يعني: لك أن تضم الساكن، ولك أن تبقيه على سكونه، وسوف نأتي إلى السبل والسبيل بعد قليل، (إن يحم) يعني: يمنع، (عن عيني) العين معروفة.

    قصر الممدود

    ( البكا ) لغة بالقصر، والبكاء: بالمد، وهنا لا بد من القصر، وفي الأصل يجوز لك أن تقصر الممدود حتى في غير الشعر بالإجماع.

    وقصر ذي المد اضطراراً مجمع عليه والعكس بخلف يقع

    هذا في ماذا؟ في الشعر وكذلك في النثر، وعندنا في القراءات حمزة وهشام يقفان على ما كان آخره همزاً بترك الهمز، أو بالإبدال أو بشيء آخر، المهم أنهم يغيرون هذه الهمزة، وحمزة معروف كلامه في الهمزة، وهناك قاعدة ظريفة أيضاً يقولون: إذا أردت أن تقرأ لـحمزة فلا تتكلم له على همزة، بسبب أنه يتعبك، ربما يكون أحياناً في الوجه اثنا عشر وجهاً، وأحياناً في الكلمة، وهناك أشياء من دعاوى القراء أحياناً يكون فيها وجوه كثيرة أكثر من هذا، وخاصة إذا اجتمع همزتان في كلمة واحدة أو في لفظ واحد.

    علامة الحب

    ومعروف أن البكاء من علامات الحب، ولكنه لا يدل بالضرورة على صدق صاحبه، فقد يبكي الكاذب، وتكون الدموع كما نسميها دموع التماسيح، والتماسيح ليس لها دموع، فتلك القطرات التي تراها في عيني التمساح هي من قطرات الماء؛ لأنه ليس له غدد تفرز الدمع وهو ليس مثل السمك؛ لأنه لا يبكي، فتلك الدموع التي تراها على خد التمساح - إن كنت رأيتها أو إن شاء الله تراها فيما بعد - نفعتنا في ضرب هذا المثل، أو قول هذا القول حينما نرى إنساناً يأتي بهذه الدموع الغزار وهو كاذب، والنساء هن أقدر على هذا من الرجال، تستطيع المرأة أحياناً أن تخرج رطلاً من الدموع بلا شيء، ولا يغتر الإنسان بالبكاء، فهو لا شك أنه سبب من أسباب استجلاب رحمة كل الناس لكن لا تبني على البكاء حكماً، وهذا الكلام استنبطه العلماء من قوله عز وجل: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ [يوسف:16]، هذا البكاء كتمثيلية، لم يكن بكاءً صحيحاً.

    يقول: (إن يحم عن عيني البكا تجلدي فالقلب موقوف على سبل البكا)

    فالقلب جعله الله وقفاً - كما نجعل هذا الشيء وقفاً لله عز وجل - على مسألة البكاء لإحاطة أسبابه به، وأحياناً الإنسان يتجلد فلا يبكي بعينيه وإنما يبكي بقلبه، وهو قد ذكر هذا عن نفسه، يعني: يكون الإنسان صابراً جلداً أمام الناس، كما قال الشاعر:

    وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع

    أحوال الناس في البكاء مع القرآن وغيره

    والناس يختلفون في مسألة البكاء، فبعضهم سريع الدمع، وبعضهم ربما يخشع ويتأثر حينما يقرأ القارئ ولكن عينه لا تساعده على ذلك، وتأثره من الداخل أكثر من غيره، حتى القارئ أيضاً كذلك، ولم يأت في القرآن الثناء على من يبكي إذا قرئ القرآن، إنما جاء في السماع، فقد أثنى الله على الذين يبكون عند سماع القرآن، فقال: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، هؤلاء قرءوا أم سمعوا؟ سمعوا، وكذلك وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة:83]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].

    فهذا كله سماع، ولعل السر في ذلك - والله أعلم - أن السامع يحصل له من الإخلاص ما لا يحصل للذي يقرأ؛ لأن الذي يقرأ يكون مشغولاً باستذكار ما يحفظ، ومشغولاً أيضاً كذلك بالأداء القرآني، ومشغولاً بأمور كثيرة، وأما الذي يسمع فإنه لا يشغل بشيء من هذا، ويستطيع أن يتأثر من حيث لا يدري أحد عنه، فهو أقرب للإخلاص.

    ( فالقلب موقوف على سبل البكا )، سبل: مفردها سبيل، وسبيل يعني: طريق، لكن السبيل يقال: كل ما كان أسهل، وأيضاً السبيل يذكر ويؤنث وكلاهما جاء في القرآن مذكراً ومؤنثاً، قال الله عز وجل: (( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا ))[النحل:9] أي من السبيل جَائِرٌ [النحل:9]، وقال: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76] أي: سبيل.

    فإن كان التصبر يمنع البكاء عن عين فمن يمنع القلب منه، فإنه لا يزال محبوساً على سبل متفرقة من البكاء والنحيب، وكأنه ينظر إلى قول العباس بن الأحنف:

    وأكثر فيهم ضحكي لأخفي فطرفي ضاحك والقلب باك

    قصة لابن حزم في بخل العيون بالدموع

    بالمناسبة: ابن حزم يقول في طوق الحمامة: من أراد أن يقرأ في الحب الصادق فليقرأ هذا الكتاب، فليس فيه حدثنا فلان عن الأصمعي عن بعض الأعراب، ولكنه إما شيء حصل له نفسه، أو حصل لبعض إخوانه ومن حوله ورأى ذلك، أو حدثه ثقة من إخوانه عن واقعة حصلت في ذلك الزمان والسند عال، وأيضاً إذا أردت أن تقرأ هذا الكتاب فاقرأه من آخره؛ لأنه ذكر في آخره باباً فيه قبح المعصية، وفضل التعفف، وذكر فيه أن الحب لا يعرف، وقال: الحب داء -أعزك الله- دقت معانيه لجلالته عن أن يوقف عليها، فلا يعرف إلا بالمعاناة والمعالجة والمكابدة، فأنواع الحب كثيرة، والذي يبقى ويؤجر عليه الإنسان هو الحب في ذات الله عز وجل، وأما المحاب الأخرى فإنها تذهب بذهاب أسبابها.

    يقول في قصة أظنها في الفراق أو في التوديع؛ لأنه قسم الكتاب إلى أقسام في الهجر والفراق وحتى البكاء كله موجود، فيقول: إنني كنت وصاحبي فلان في وداع أبي عامر محمد بن أبي عامر في رحلته التي كانت إلى المشرق ولم يعد بعدها، فكان صاحبي يبكي وهو في حال الوداع وكان ينشد هذا البيت:

    ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط عليك بجاري دمعها لجمود

    قال: وأنا أحاول أن أتباكى فلم أستطع، فهو حزين وربما يحب صاحبه أكثر من هذا، ولكنه ليس بسريع الدمع، قال: عندي جفاف بسبب أنني كنت آكل الكندر، وهو: اللبان، فكان يأكله حتى يتداوى من خفقان في قلبه - وهو من العارفين بالطب وله كتاب في ذلك - حتى ولد له هذا اللبان برصاً ، وهو في الأصل أيضاً يقال: إنه يؤكل للحفظ، والشافعي كان يأكله حتى برص، يأكله للحفظ؛ والشافعي لا يحتاج إلى لبان؛، ولأنه كان حافظاً، والذي يقوي الحفظ هو الحفظ، لا اللبان ولا البلاذر، لكن هناك بعض الأطعمة ربما تثير بعض التصاعدات للأبخرة في الرأس فينشط الإنسان أو كذا فقط، أما أنها تجعله حافظاً فلا، أو أن هناك شيئاً يعطى للبليد فيصبح من أذكياء الناس لا يوجد هذا، لا الزبيب ولا الزنجبيل ولا شيء من ذلك، وهذا كلام ليس بصحيح، فالذي ينفعك في الحفظ هو: الحفظ، والذي ينفعك للفهم هو: الفهم، وذلك قياساً على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومن يتصبر يصبره الله )، تفهم يفهمك الله، وتحفظ يحفظك الله كذلك؛ لأن كل شيء يحتاج إلى تنمية وتدريب، مثل الكتابة باليد.

    فقال: أنا حاولت أن يحصل مني شيء كما حصل من صاحبي فلم يحصل، فقلت أنا وهو شاعر:

    وإن امرأً لم يفن حسن اصطباره عليك وقد فارقته لجليد

    يعني: أنا إذا كنت لا أستطيع أن أتصبر في هذا الموقف وأمسك نفسي فأنا عبارة عن ثلج جليد، وهذا موقف يحتاج إلى أن يبكي الإنسان فيه من الداخل لا من الخارج.

    1.   

    شرح قول الناظم: (لو كانت الأحلام ناجتني بما...)

    ثم يقول رحمه الله تعالى بعد ذلك:

    [ لو كانت الأحلام ناجتني بما ألقاه يقظان لأصماني الردى ]

    (لو كانت الأحلام)، الأحلام التي يريدها: هي التي تكون في المنام، أو الأحلام التي تكون في اليقظة لكنها أماني، يعني ... إنما سميت أحلاماً؛ لأنها من ذلك الباب، وبابها واحد، يقال: حلْم وحلُم، فعله فعَل، حَلَم في النوم فعله الماضي على وزن نصر، والمضارع ينصر، وكثيراً ما يحصل خلط في مثل هذه الأفعال، فنحن عندنا الحلم المعروف الذي هو العقل، وعندنا الحلم الذي يكون في النوم، وعندنا حلم يكون خاصاً بالجلد، تقول: حلم الأديم، أو حلم الجلد، يعني: وقعت فيه الدواب الصغيرة، هذه التي تسمى الحلمة الواحدة حلمة، يعني: فسد دبغه، والأصل في النظم أن يجمع مثل هذه المعاني، الشيخ أحمدو رحمه الله أعطانا هذين البيتين، قال:

    حلم في النوم أتى كنصر...

    هذا الذي يكون في المنام، إذاً: فعله المضارع يحلُم، كنصر مضارعاً وماضياً.

    قال:

    وضمه في العقل حكم قد جرى

    ضمه ما دام ضم الماضي فلا بد أن يضم المضارع، وهذا القاعدة المعروفة: إذا جاء الفعل الماضي على زنة فعل فالمضارع مضموم، شرف يشرف، كرم يكرم، قرب يقرب.. إلى آخره، فتقول: حلم الإنسان يعني: بلغ مبلغ الحلم، وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور:59].

    قال: وفي الأديم جاء مثل فرح...

    تقول: حلم الأديم يحلم، حلم يحلم مثل: فرح يفرح على وزن فعِل يفعَل.

    ثم قال:

    لفاسد الدبغ فكن مصححا

    (الردى) معناه: الهلاك، وأصماني بمعنى: أهلكني، يقول: لو كانت الأحلام في المنام أخبرتني بما سيكون في اليقظة من غوائب الهوى والوجد لكنت من الهالكين، نسأل الله السلامة والعافية، ونقف عند هذا الحد، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    تردد معاني لفظة (عجوز) بين الحقيقة والمجاز

    السؤال: ذكرتم -حفظكم الله- أن لفظ العجوز يطلق على مائة معنىً وأزيد، فهل كل هذه المعاني حقيقية أم منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو مجازي؟

    الجواب: لا شك أن من هذه المعاني ما هو مجازي، ولا نقول كما يقول بعضهم: إن الأصل هو معنىً واحد، والباقي كلها مجازيات، لا؛ لأن الوضع قد يختلف، فقد يكون هذا اللفظ - عجوز مثلاً - الذي أطلقه بعض العرب على معنى من تلك المعاني، ومن تلك المعاني كما ذكرنا لكم المرأة العجوز والمرأة الشابة، فالألف من كل شيء مثل: الأسد، الذئب والذئبة، اليد اليمنى، القبلة، الثور.. معاني كثيرة، والدنيا تسمى كذلك عجوزاً، فقد يكون بعض العرب وضع هذا اللفظ لمعنى الألف، وهذا وضع حقيقي، وواحد آخر في قبيلة من القبائل من بني أسد وضعها لمعنى من المعاني، فلا يكون هذا من باب التجوز، فلو كان الواضع واحداً ثم توسع بعد ذلك في المعاني يكون هذا من باب التوسع؛ لأن الواضع واحد، ثم إن الواضع حتى لو كان واحداً قد يكون أيضاً لاحظ معنىً حينما أطلق هذا اللفظ على ذلك المعنى، مثل صورة من الصور الموجودة؛ لأنه يقول ابن فارس: مادة عجز تدل على أصلين: الضعف أو مؤخرة الشيء، يعني: آخر الشيء، فالألف آخر العدد، والمرأة العجوز كذلك، والذي قال عن المرأة الشابة: عجوز، هذا من باب التفاؤل، وهذا تجوز وتوسع فيه؛ لأنه ليس بلفظ حقيقي، وليس فيه لا المعنى الأول ولا المعنى الثاني من حيث التأصيل.

    الأسماء العربية وبيان أصل وضعها

    السؤال: هل الأسماء التي علمها الله تعالى آدام من وضع الناس أم أن الله علمه ذلك؟

    الجواب: هذه مسألة طويلة عريضة، يعني: هل هي من وضع الناس، أم أن الله عز وجل هو الذي علمها آدم، يعني: هل علمه جميع الألفاظ وجميع الكلمات؟ هذه مسألة طويلة وعريضة جداً، والبحث فيها طويل، ولكن الصحيح أنه في الأصل أن الله عز وجل علم آدم بعض الأسماء أو ما كان يحتاجه في ذلك الوقت، ولكنه حصل تطور بدليل أننا نحن نضع الآن ألفاظاً لمعاني كثيرة وليست موجودة، والعرب أيضاً توسعت ووضعت ألفاظاً كثيرة، مع أن تفسير السلف وتفسير الخلف لقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] تفسير واسع جد.

    ومن أحسن التفسيرات لهذه الآية أنه علمه أسماء الملائكة، وليس أسماء الأشياء، بدليل: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة:31]، ولو كان المقصود أسماء الأشياء لقال: ثم عرضها، فقال: (عرضهم) وهذا لا يكون إلا للعاقل أو لما يوصف على الأقل بأنه حي، ويروى عن ابن عباس: أنه علمه كل شيء حتى اسم القصعة وغير القصعة.

    باب الحلم الذي بمعنى التأني

    السؤال: الحلم الذي بمعنى التأني هل هو من باب حَلُم يَحلُم؟

    الجواب: أيضاً هذا كذلك من حلم يحلم، هو باب واحد، ومما يتعلق بالمعنى، ويتعلق بالعقل؛ لأن الحلم أيضاً دافعه العقل، كله من حلم يحلم.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756018989