إسلام ويب

سورة النساء - الآية [144]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء، وأمرهم أن يوفوا بالعقود سواء كانت مع المؤمنين أو الكافرين، ونهاهم أن يحلوا شعائر الله، كل ذلك لمصلحتهم الدينية والدنيوية.

    1.   

    قول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء ... )

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

    أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    النداء السابع والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان في الآية الرابعة والأربعين بعد المائة من سورة النساء: يقول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[النساء:144].

    هذه الآية ناطقة بما دلت عليه آيات أخرى من القرآن، كقول ربنا الرحمن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ[المائدة:51] وكقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ[الممتحنة:1]، وقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ[المائدة:57]، وقول الله عز وجل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:28].

    إن الله عز وجل ينادي المؤمنين في هذه الآية بألا يتخذوا الكافرين أعواناً ونصراء من دون المؤمنين، سواء كان كفرهم كفر شرك، أو كفر عناد ومكابرة، أو كفر نفاق؛ لأن الكفر في النهاية ملة واحدة، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[الأنفال:73] ويمكن أن يراد بالكافرين في هذه الآية مشركو مكة، ويمكن أيضاً أن يراد بهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة من اليهود، ويمكن أيضاً أن يراد بهم المنافقون من أمثال عبد الله بن أبي ابن سلول وأقرانه.

    يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))، ثم يوجه ربنا جل جلاله سؤالاً: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا )) أي: أتريدون يا من تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أن تجعلوا لله حجة بينة في إنزال عقوبته بكم وتمكينه بكم أو أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة في أن يسلط هؤلاء الكافرين عليكم بذنوبكم بعد ما اتخذتموهم أولياء؟!

    من صور اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين

    إن اتخاذ الكافرين أولياء قضية لها صور في واقعنا المعاصر من الذين ينتسبون إلى الإسلام في الجملة سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، إن اتخاذ الكافرين أولياء لها صور وأشكال ينبغي لكل واحد منا أن يحتاط لئلا يقع فيها، فمن هذه الصور: الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة، فمن رضي بكفر الكافر، أو شك في كفره، أو صحح دينه ومذهبه فقد والاه من دون المؤمنين.

    ونحن الآن نجد فئاماً من المسلمين لا يعتقدون كفر اليهود والنصارى، بل يعتقدون أنهم في جملة أهل الإيمان، وأن الواحد منهم يمكن أن يصل إلى الجنة، وأنهم في النهاية يعبدون الله، فإذا كان المسلم يعبد الله في المسجد فذاك يعبد الله في الكنيسة أو الكنيس، وإذا كان المسلم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فذاك يتبع عيسى أو موسى، هكذا يعتقد بعض الأغرار من المسلمين مثل هذه العقيدة الباطلة، وما علم هؤلاء أن هذا من نواقض الإيمان؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه لا يقبل إلا الإسلام قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار) فهذه القطعيات الواضحات صارت عند كثير من الناس مبهمات.

    ومن صور الموالاة ومظاهرها: اتخاذ الكافرين أعواناً وأنصاراً وأولياء، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51]. قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: صح أن قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51] إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.

    ومن صور المولاة: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، كما قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[النساء:51].

    ومما هم عليه من الكفر تلك المقولة التي شاعت عند الكفار: لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، أو مقولة: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فإنك تجد بعض المسلمين يردد هذه المقولة، وقد ارتضاها واستبطنها واعتقد أن لله عز وجل المسجد، وشهر رمضان، وموسم الحج، أما بعد ذلك فحياتنا نسيرها كيفما نشاء وكيفما نريد، وهذا هو مبدأ فصل الدين عن الدولة، فكثير من الناس الآن ينادي بأن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات دون النظر إلى الدين، بمعنى أننا لا ننظر هل هذا مسلم أو كافر ولا اعتبار لذلك، فإذا كان مواطناً فالمواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، ويرددون هذا الكلام سراً وعلانية، بل صار ذلك عند كثير من الناس من الأمور المسلمة، وهذا مما يناقض قول الله عز وجل: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[القلم:35-36]، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:18]، فلو كان هناك مسلمان أحدهما بر والآخر فاجر فإنهما لا يستويان، ناهيك أن يكون أحدهما مؤمناً موحداً لله عز وجل، والآخر كافراً مشركاً بالله عز وجل.

    ومن صور الموالاة: مودتهم ومحبتهم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ..[المجادلة:22]، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن الإيمان ينافي موادته كما ينافي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب، وأن قلبه خال من الإيمان.

    وقال بعض العلماء المعاصرين: ومن مظاهر ذلك: أن الواحد منهم إذا لقي الكافر حياه، ووضع يده على صدره وقلبه، كأنه يقول له: مكانتك في القلب! أو وضع يده على رأسه كأنه يعني مكانتك فوق الرأس.

    ومن مظاهر موالاة الكافرين: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[القلم:9] وهذا كثير، فإنك تجد بعض الناس إذا جلس مع الكفار ينكر بعض مسلمات الدين أو يتنازل عنها، سواء كانت متعلقة بتشريع الجهاد، أو ببعض التشريعات من السياسة الشرعية كالجزية مثلاً، أو ببعض التشريعات المتعلقة بالمرأة، أو العلاقات الدولية كمعاملة الكفار، فتجده ينكر ذلك كله، حتى تكلم بعض الناس وكان وزيراً للتعليم في بعض البلاد لما بدأ الأمريكان يطالبون بتغيير المناهج لئلا تفرخ الإرهاب كما زعموا، قال هذا الوزير: أنا لما كنت وزيراً شكلت لجنة لحذف الآيات التي تحض على كراهية الآخر!

    وذلك كقول الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) ومثيلاتها، فلو حذفها من المنهج ماذا سيصنع بالمصاحف وهي باقية؟ ولو حذفها من المصاحف ماذا سيصنع بها وهي في صدور المسلمين يقرءونها بالليل والنهار؟ فتجد بعض الناس -والعياذ بالله- يتفوه بالكفر وهو لا يدري!

    ومن مظاهر موالاتهم: طاعتهم فيما يأمرون به ويشيرون، وهذا الآن كثير، فإذا أمر أعداء الله عز وجل بأمر فإنك تجد كثيراً من المسلمين يتبارون ويتسابقون ويتنافسون في تنفيذ إشاراتهم، وجعل أوامرهم واقعاً، وقد قال الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران:100]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149] هذا منطوق القرآن.

    ومن مظاهر موالاتهم: مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله، يقول الله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء:140] أي: في الكفر، إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[النساء:140].

    زار الرئيس الأمريكي السابق بعض البلاد قبل سنة أو أكثر، وتكلم بأن المسلمين يجب عليهم أن يسمحوا للنساء بقيادة السيارات، وأن أكثر العلماء لا يمنعون المرأة أن تقود السيارة، وهذا أهون من أن تركب مع السائق الأجنبي الذي ليس بزوج ولا محرم ثم إن هذا الإنسان قال: إن المرأة يجب أن يسمح لها، ولا يعترض على ذلك أحد من علماء الدين، ولو كان النبي محمداً موجوداً لسمح لزوجاته بقيادة السيارات، بل لفتح وكالة سيارات، قال هذا الكلام والجلوس أكثرهم مسلمون يضحكون ويصفقون والعياذ بالله، وقد رد عليه بعض العلماء وسخروا منه وقالوا: هذا المسكين يتصور القضية على غير وجهها، ولو كان كلام كلنتون صحيح -وهو شيطان وليس بشيخ- لقال العلماء المعارضون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من قيادة السيارات وهم لم يقولوا ذلك أبداً، وإنما يستدلون بأمور معينة درءاً للفتنة وسداً للذريعة، وغير ذلك من المسوغات التي يذكرونها.

    ومن مظاهر موالاتهم أيضاً: الرضا بأعمالهم والتشبه بهم، ومثال ذلك: الأعياد التي ستأتي بعد شهر والتي تسمى أعياد الكرسمس أو أعياد الميلاد، وبعدها أعياد رأس السنة، وتجد كثيراً من المسلمين ينتظرونها ويسأل بعضهم بعضاً: أين ستقضي فترة العيد؟ وبعضهم يهنئ بعضاً بقوله: كل سنة وأنت طيب، بل أحياناً يأتي أحدهم في صلاة الصبح ويقول للآخر: الصبح كل سنة وأنت طيب! في يوم الكرسمس أو في يوم شم النسيم، أو شم الفسيخ كما يسمونه. يهنئ بعضهم بعضاً بعيد من أعياد الكفار، وفي هذا دلالة على تمييع الشخصية، وعدم وضوح الوجهة.

    ومن مظاهر موالاتهم: البشاشة معهم والطلاقة، وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم، وكون الإنسان يبش لهم وينشرح صدره لهم، وينطلق معهم ويكرمهم ويقربهم، هذا كله من مظاهر الموالاة.

    ومن مظاهر الموالاة: معاونتهم ونصرتهم على ظلمهم، وهذه القضية يشغبون بها كثيراً في العراق؛ لأن أحد المسلمين قُتل لأنه متعاون مع الصليبيين الكفار، ولا فرق بين من يتعاون مع الأمريكان في العراق، ومن يتعاون مع اليهود في فلسطين؛ لأن يهود فلسطين والأمريكان كفار، والكفر ملة واحدة، فهؤلاء معتدون وهؤلاء معتدون، وهؤلاء ظلمة محتلون وهؤلاء ظلمة محتلون، لا فرق بينهم، فالمسلم الذي يتعاون معهم، ويدلهم على عورات المسلمين، ويتجسس عليهم لمصلحة هؤلاء الكفار الغاصبين، لاشك أن حكمه حكمهم: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51].

    أيضاً من مظاهر الموالاة التي ينبغي أن ننتبه لها وننقلها لمن وراءنا: السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم، وقد روى أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله) وروى الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي : (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن جامعهم أو ساكنهم فليس منا)، فلو أن السفارة الأمريكية أعلنت الآن عن فتح باب الهجرة تجد الطوابير الطويلة تقف، وكل منهم يحرص على أن ينال الأوراق، بل بعضهم يأتي ويبشر الآخر بأنه والحمد لله قد حصل على ذلك!

    بل تجد أيضاً التآمر معهم وتنفيذ مخططاتهم، وليس ذلك في الأمور العسكرية فقط، بل في الأمور التعليمية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غير ذلك من نواحي الحياة التي يدار بها الشأن العام لأمة الإسلام، فكثير من الناس لا يبالي بأن يكون أداة في يدي هؤلاء الكفار.

    ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك: الانخراط في الأحزاب التي تدعو إلى مبادئ كفرية كالشيوعية والعلمانية والقومية وما إلى ذلك من مبادئ تصادم القرآن والسنة وتصادم أصول الدين.

    ما يستفاد من الآية

    من فوائد هذه الآية: تمام عدل الله، وأنه سبحانه لا يعذب أحداً قبل قيام الحجة عليه.

    ومن فوائدها: التحذير من المعاصي، فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطاناً مبيناً.

    ومن فوائدها: تحريم موالاة الكافرين.

    قال ابن كثير رحمه الله: موالاتهم مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة لهم.

    ومن فوائد الآية: أن موالاة الكافرين دليل ظاهر وحجة بينة على النفاق.

    1.   

    قول الله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود... )

    هذا هو النداء الثامن والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وهو في الآية الأولى من سورة المائدة: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ[المائدة:1].

    في القرآن ثلاث سور بدأت بهذا النداء: سورة المائدة، وسورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[الحجرات:1]، وسورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ[الممتحنة:1].

    قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ[المائدة:1].

    يقول الإمام ابن عطية الغرناطي رحمه الله: وهذه الآية مما تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، ولمن عنده أدنى إبصار، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل بهيمة الأنعام، واستثناء ما تُلي بعده، واستثناء حال الإحرام فيما يصاد، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

    حكي أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال نعم: أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحداً، وإني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في مجلدات، أي: أن سطرين من كتاب الله عز وجل تضمنت أحكاماً كثيرة، وصدق ربنا سبحانه حين قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[الأنعام:115].

    في هذه الآية ينادينا ربنا جل جلاله بوصف الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) ثم يأمرنا أَوْفُوا )) وقد سبق أن هذا النداء إما أن يعقبه أمر أو نهي، كما قال ابن مسعود : إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.

    أنواع العقود

    قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا )) الوفاء: هو الإتيان بالشيء وافياً كاملاً لا نقص فيه، والعقود: هي العهود، وحكى شيخ المفسرين الطبري رحمه الله الإجماع على أن العقود هي العهود، والعقود معرفة بالألف واللام للاستغراق، فالمطلوب من المسلم أن يفي بالعقود التي أمر بالوفاء بها، وأولها: العقد الذي بينه وبين الله عز وجل، وهو الإقرار بألوهيته وربوبيته: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ[الأعراف:172] هذا عهد وعقد بين كل إنسان وبين ربنا جل جلاله.

    ثم العقد العام الذي أخذه الله على آدم حين أهبطه من الجنة، كما قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة:38] فهذا عهد عام بيننا وبين ربنا جل جلاله مطلوب منا فيه أن نتقيد بالضوابط التي وضعها ربنا جل جلاله فيما أحل لنا وحرم علينا وفرض وأوجب فكل هذه عقود، فالصلاة عقد بينك وبين الله، والحج والصيام والصدقة وبر الوالدين وسائر الأوامر التي أمرت بها عقود بينك وبين الله.

    ثم العقود التي بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: (كان عليه الصلاة والسلام إذا بايع الناس يأخذ عليهم ستة أمور: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه صلى الله عليه وسلم في معروف)، هذه عقود بيننا وبين النبي عليه والسلام، ثم قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (فمن وفى منكم فأجره على الله -أي: وفى بهذه العقود فأجره على الله- ومن أصاب منها شيئاً فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).

    والأمر بالوفاء بالعقود يشمل العقود التي بين المسلمين وغير المسلمين، كما في قول الله عز وجل: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ[التوبة:2]، وقول الله عز وجل: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )).

    ويشمل كذلك العقود التي بين المسلمين، كعقود النكاح، والبيوع والمداينة، ونصرة المظلوم، وكل تعاقد وقع على غير أمر محرم فهذه كلها يجب الوفاء بها.

    معاني المفردات

    قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )) خطاب من الله لنا.

    ثم قال سبحانه: (( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )) أي: أن بهيمة الأنعام لكم حلال، والبهيمة: كل ما لا عقل له، وسميت البهيمة بهيمة لإبهام أمرها من جهة عدم عقلها، ونقص فهمها، وعدم تمام نطقها وتمييزها، وما إلى ذلك فالدواب بهائم، والطيور بهائم، ولكن العرف خص كلمة البهيمة بذوات الأربع من دواب البر أو البحر، فكل ما كان يمشي على أربع فهو بهيمة.

    قول الله عز وجل: (( بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )) إضافة تفيد البيان، أي: ليست كل البهائم حلالاً لكم وإنما بهيمة الأنعام، وهي الأزواج الثمانية من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فمن الضأن اثنين الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين التيس والمعزة، ومن الإبل اثنين الجمل والناقة، ومن البقر اثنين الثور والبقرة، هذه كلها حلال.

    (( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )) إلا ما يتلى عليكم: هي العشرة التي حرمها ربنا في الآية الثالثة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ[المائدة:3]، فهذه العشرة حرام، ولو كانت من الإبل أو البقر أو الغنم لا يحل لكم أكلها.

    إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )) أي: إذا كنتم محرمين بالنسك بحج أو عمرة، ووصلتم إلى الحرم أو لم تصلوا فلا تستحلوا الصيد، والصيد هو: إمساك الحيوان الذي لا يألف، وهو غير الحيوانات الأليفة كالإبل والبقر والغنم، فهناك حيوانات لا تألف ولا يستطيع الإنسان أن يمسك بها إلا صيداً، إما باليد أو بوسيلة كالشباك، والحبائل، والرماح، والسهام، والكلاب، والبازات، هذه كلها وسائل صيد، ويمكن للإنسان أن يصيد بالكلب أو الباز أو السلاح أو الشباك أو بغير ذلك، فإذا كنتم محرمين فلا يحل لكم أن تصيدوا لا في الحرم، ولا في خارج الحرم.

    ثم ختم الله عز وحل الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )) أي: إن الله هو الذي يحكم وهو الذي يحلل ويحرم ويأمر وينهى ويشرع، كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[الأعراف:54]، وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[يوسف:40]، وقال: يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[الأنعام:57]، وغير ذلك من الآيات التي تثبت أن الحكم لله، قال أهل التفسير: حكم الله على نوعين:

    الأول: الحكم القدري الكوني: ما يقع في هذا الكون من حياة أو موت، ومن صحة أو سقم، ومن غنى أو فقر، ومن طاعة أو عصيان، ومن هدى أو ضلال.. كل ذلك بحكم الله الكوني القدري، وكله بخلقه وإيجاده كما قال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ[التغابن:11]، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا[الحديد:22]، هذا الحكم الكوني القدري يسري على الجميع.

    الثاني: الحكم الشرعي الديني: كقول الله عز وجل: هذا حلال وهذا حرام، هذا واجب وهذا ليس بواجب، فهذا كله لله عز وجل، ولا يملك أحد سواه أن يشرع للناس حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يشرع للناس بأمر الله، فتشريعه فرع عن تشريع رب العزة جل جلاله، وهو الذي قال: (ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله).

    ما يستفاد من الآية

    هذه الآية اشتملت على فوائد منها: وجوب الوفاء بالعقود كلها ما كان لله وما كان للناس، وخاصة الشروط التي تكون في عقد النكاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج)، فالشروط التي تكون في عقد النكاح مطلوب من المؤمن أن يوفيها كاملة، ومن فوائد الآية: حل بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية، واستدل ابن عمر و ابن عباس رضوان الله عليهم، وغير واحد من أهل العلم بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه، فلو أنك ذبحت شاة ثم وجدت في بطنها جنيناً، فإن هذا الجنين لو خرج حياً فلا خلاف بين أهل العلم في أنه يذكى، لكن لو خرج ميتاً فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) أي: أن ذكاة أمه تسري عليه فيؤكل حلالاً.

    ومن فوائد الآية: تحريم الأنواع العشرة من المطاعم التي ذكرها الله سبحانه في الآية الثالثة؛ لأنه قال: (( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )) وقد عرفنا أن المتلو هو تلك العشرة.

    ومن فوائد الآية: أن كتاب الله عز وجل يفسر بعضه بعضاً فقول الله عز وجل: (( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )) فسر بعد ذلك بآيتين.

    ومن فوائد الآية: تحريم الصيد حال الإحرام بالنسك، سواء أكان في الحرم أو في غيره طالما أن المسلم متلبس بالنسك فلا يجوز له صيد البر، قال الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[المائدة:96].

    ومن فوائد الآية: إباحة الصيد بعد الإحلال؛ لأن الله عز وجل قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )) وهذا منطوق الآية التي ستأتي إن شاء الله، فهي مفهومة من النص. قال أهل العلم: كل شيء كان جائزاً، ثم حرم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب؛ فالأمر للإباحة، كالبيع مثلاً فإنه حلال ولكنه يحرم بعد أن يصعد الإمام المنبر يوم الجمعة، بعد ذلك قال الله عز وجل: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ[الجمعة:10]، فالأمر هنا للإباحة، كذلك قول الله عز وجل: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ[البقرة:222]، فجماع الزوجة في الحيض حرام، ثم قال الله عز وجل: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ[البقرة:222]، فيكون الأمر ههنا أيضاً للإباحة.

    ومن فوائد الآية أيضاً: إثبات الإرادة لله عز وجل.

    1.   

    قول الله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ... )

    النداء التاسع والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان: قول ربنا تبارك وتعالى في الآية الثانية من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[المائدة:2].

    تعتبر سورة المائدة من أكثر سور القرآن التي اشتملت على النداء بوصف الإيمان، وأكثر سورة في القرآن نودي فيها المؤمنون بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، فقد اشتملت على ستة عشر نداء، وقد مر في سورة البقرة أحد عشر نداء، وفي سورة آل عمران سبعة نداءات، وفي سورة النساء اثنا عشر نداء، وههنا في هذه السورة المباركة ستة عشر نداء.

    سبب نزول الآية

    سبب نزول هذه الآية: أن رجلاً يقال له: الحطم بن هند البكري من ربيعة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يدخل عليه قال النبي عليه الصلاة لأصحابه: (يدخل عليكم رجلٌ من ربيعة يتكلم بلسان شيطان)، جاء هذا الرجل وقد خلف خيله خارج المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلما عرض عليه الإسلام ودعاه إلى الله قال: انظروا لعلي أسلم، وأرى في أمرك غلظة -يقول ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام- ولي من أشاوره، سأذهب وأشاور القوم، ومن المعلوم أن الإنسان إذا آمن لا يقول: لي من أشاوره، ولو فهم الكلام على وجهه ما كان سيخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أرى في أمرك غلظة، (فلما خرج قال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد دخل بوجه كافر وخرج بقلب غادر، فمر بسرح من سرح المدينة) والسرح: الغنم التي خرجت للسوم، تطلب العلف والطعام، فساق هذا السرح وانطلق وهو يقول:

    قد لفها الليل بسواق حطم

    ليس براعي إبل ولا غنم

    ولا بجزار على ظهر الوضم

    باتوا نياماً و ابن هندلم ينم

    بات يقاسيها غلام كالزلم

    خدلج الساقين ممسوح القدم

    يمدح نفسه، ويثني عليها، ثم أقبل هذا الرجل نفسه من العام الذي بعده حاجاً، وقد ساق هدياً، وهي تلك التي سرقها يهديها إلى الكعبة المشرفة، فأراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعرضوا له، وأن يستولوا على ما معه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )).

    قال ابن عباس : يعني مناسك الحج، وقيل: بل المراد الصفا والمروة، وقيل: بل محارم الله عز وجل لا تنتهكوها.

    حكم القتال في الأشهر الحرم

    قوله: (( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ )) أي: إن الشهر الحرام أنتم مأمورون بتعظيمه، فلا تعتدوا فيه على أحد ولا تبتدئوا أحداً بقتال، كما قال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ[البقرة:217]، والنبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قال: (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جماد وشعبان)، وجمهور العلماء على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ[التوبة:5]، ولم يستثن ربنا سبحانه شهراً حراماً من غيره، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة، ولا خلاف بين أهل العلم في أن قتال الدفع في الشهر الحرام وغيره ليس داخلاً في النهي، فما يقوم به إخواننا في العراق أو فلسطين أو أفغانستان هو قتال دفع لا يشترط له أن يخرج الشهر الحرام، بل يجوز في الشهر الحرام كما يجوز في غيره، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: وأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بقتال فإنه يجوز للمسلمين القتال دفعاً عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.

    معاني المفردات

    قوله تعالى: (( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ )) أي: الأشهر الحرم، (( وَلا الْهَدْيَ )) أي: ما يهدى إلى البيت من النسائك، كالإبل والبقر، والغنم، فلا تتعرضوا له بسوء.

    (( وَلا الْقَلائِدَ )) القلائد: جمع قلادة وهو ما يجعل في عنق البهيمة من نعل أو لحاء شجر أو عروة مزادة أو غير ذلك دلالة على أنها نسك يتقرب بها إلى الله عز وجل، وقيل: المراد ذوات القلائد وهي البدن.

    قال سبحانه: (( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )) أي: قاصدين البيت الحرام، فلا تستحلوا قتال من قصد بيت الله الحرام؛ لأن من دخله كان آمناً، وهذا كله قبل نزول سورة التوبة التي قال الله فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[التوبة:28]، ولذلك لما نزلت هذه السورة بعث أبو بكر رضي الله عنه -وكان أمير الحج- منادياً ينادي: ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فحرم على المشركين دخول البيت الحرام.

    وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا )) (فضلاً) أي: التجارة، وَرِضْوَانًا )) كان المشركون يأتون إلى الحج يبتغون بزعمهم رضوان الله عز وجل، فالله عز وجل خاطبهم على ما يعتقدون.

    قال سبحانه: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )) أي: إذا فرغتم من النسك، وحللتم من إحرامكم فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد وذلك في قول الله عز وجل: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )).

    قال سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ )) أي: لا يحملنكم، كما قال القائل:

    ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

    أي: حملت فزارة.

    شَنَآنُ )) مصدر على وزن طيران، وقرأ بعضهم: (شنْآن) على أنها صفة كعطشان، وسكران، وهي قراءة ابن عامر و شعبة و ابن وردان .

    وقوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ )) أي: بغض قوم، أَنْ صَدُّوكُمْ )) أي: على أن صدوكم، وفي قراءة ابن كثير و أبي عمرو إِنْ صَدُّوكُمْ[المائدة:2]على أنها شرطية.

    أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )) أي: أن هؤلاء الذين صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية لا يحملنكم صدهم إياكم على أن تقابلوا الفعل الحرام بفعل حرام، فالمسلمون لديهم آداب وقواعد وأحكام وتعاليم يقفون عندها.

    قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )) أي: على فعل الخيرات، وكل ما فيه تقوى الله، وقال بعض المفسرين: البر فعل الخيرات، والتقوى ترك المنكرات، وقال ابن جزي المالكي رحمه الله: الفرق بين البر والتقوى: أن البر عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات، والمقصود: أن البر أعم من التقوى فبينهما عموم وخصوص.

    قال الله عز وجل: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )) والفرق بين الإثم والعدوان: أن الإثم ما كان ذنباً بين العبد وربه، والعدوان ما كان فيه تعد على الناس، فالإثم كالشرك وشرب الخمر، والعدوان ما كان فيه عدوان على الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم، فهذا يسمى عدواناً.

    قال سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) شديد العقاب لمن عصاه ولم يتقه.

    ما يستفاد من الآية

    هذه الآية المباركة أفادت تحريم انتهاك شعائر الله عز وجل المكانية والزمانية، فنحن مأمورون بتعظيمها، فنعظم الأشهر الحرم، ونعظم بيوت الله، وأنبياء الله، وأولياء الله، وحرمات المسلمين، وكتاب الله سبحانه وتعالى، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم، فهذه كلها شعائر نحن مأمورون بتعظيمها ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32] وسواء كانت هذه الشعائر زمانية أو مكانية.

    ثم أيضاً الأشهر الحرم لابد من تعظيمها، ومن عصى الله فيها فإثمه عظيم.

    وأفادت الآية: حرمة التعرض لما أهدي إلى البيت الحرام، وحرمة التعرض لمن سعى إلى البيت الحرام بنسك حاجاً كان أو معتمراً.

    وأفادت الآية كذلك: إباحة التلبس بالنسك، وهذا منصوص عليه في قوله سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة:198].

    وأفادت الآية: أن العدل واجب مع الموافق والمخالف، كما قال سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا[المائدة:8] حتى مع من تبغضونهم وحتى مع من يخالفكم في الدين، فهذه هي العدالة المطلقة اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8].

    وأفادت الآية كذلك: أن الظلم لا يقابل بمثله مما فيه معصية لله عز وحل؛ لأن الله لا يمحو الخبيث بالخبيث، ومثاله: لو أن إنساناً لا يتقي الله سب أباك وأمك فلا تكن مكافئتك إياه بأن تسب أباه وأمه؛ لأن هذا تعد على من ليس له ذنب فلا تسب أباه ولا تسب أمه.

    وكذلك أفادت الآية: وجوب التعاون على البر والتقوى، وحرمة التعاون على الإثم والعدوان، ووجوب تقوى الله عز وجل على كل حال.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755911006