بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
حديثنا سيكون عن شخصية قرآنية وهي شخصية الصحابي الوحيد الذي ذكر في القرآن باسمه، وهو الأمير الشهيد أبو أسامة الكلبي ثم المحمدي زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه، وأبو حبه وما أحب صلوات ربي وسلامه عليه إلا طيباً، هذا الرجل المبارك رضوان الله عليه شاء له ربه جل جلاله أن يساق سوقاً إلى بيت النبوة.
يقول رضي الله عنه: ماتت أمنا وكانت من طيء، أي: من قبيلة طيء، فكنت أنا وأخي جبلة بن حارثة عند جدنا، فجاء عمانا فقالا لجدنا: نحن أولى بابني أخينا، فقال: خذوا جبلة ودعوا زيداً ، قال: فكنت عند جدي فجاءت خيل من تهامة فأخذوني، يعني: على عادة العرب في الإغارة والظلم فأخذوا زيداً رضي الله عنه فبيع عبداً رقيقاً وهو الحر الكريم.
أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وهو غلام ذو ذؤابة قد أوقف في بطحاء مكة يعرض للبيع، فتفرس فيه صلوات ربي وسلامه عليه مخايل النجابة وعلامات النبوغ، فجاء إلى خديجة رضي الله عنها فأخبرها، فقالت: بكم هو؟ قال: بسبعمائة، فأعطته صلوات ربي وسلامه عليه سبعمائة درهم، فاشترى زيداً فصار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم و خديجة .
لما نبئ صلوات ربي وسلامه عليه وابتعثه الله عز وجل إلى الناس بشيراً ونذيراً، كان زيد أول من أسلم من الموالي، فهو يسامي أبا بكر الذي كان أول من أسلم من الرجال، و بلالاً الذي كان أول من أسلم من العبيد، و خديجة التي كانت أول من أسلم من النساء و علي الذي كان أول من أسلم من الصبيان رضوان الله على الجميع.
فـزيد رضي الله عنه في بداية البعثة كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، وفي تلك الأثناء كان أبوه وعمه يبحثان عنه وينقبان البلاد، فبلغهما أن زيداً في مكة عند رجل يقال له: محمد بن عبد الله، فجاء أبوه وعمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا له: يا ابن عبد الله ! يا ابن عبد المطلب! يا ابن سيد قومه! أنتم أهل الله وجيران الحرم، وقد جئناك في فداء ابننا زيد فأحسن لنا في فدائه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذلك، قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه فأخيره، فإن اختاركما فهو لكما بغير ثمن، وإن اختارني فما أنا بالذي يختار على من اختارني، فجيء بــزيد رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد ! أتعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: فإنهما قد جاءا في فدائك، فإن اخترتهما فأنت لهما بغير فداء، وقد علمت من أنا وصحبتي لك، فقال زيد رضي الله عنه أمام أبيه وعمه: ما أنا بالذي يختار عليك أحداً يا رسول الله! أنت مني بمكان الأب والعم، فقال له أبوه وعمه: ويلك! أتختار العبودية على الحرية؟ وعلى أبيك وعمك وأهلك؟ ( فقال: إني والله قد رأيت من هذا الرجل ما لا أختار عليه أحداً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر وقال: اشهدوا يا معشر من حضر، أن زيداً ابني أرثه ويرثني )، فرجع أبوه وعمه راضيين، قريري العين، وصار زيد رضي الله عنه يدعى زيد بن محمد إلى أن نزل قول ربنا جل جلاله: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ[الأحزاب:5].
وبقي زيد رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم معززاً، مكرماً، معظماً، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحبه ويجله، وقد شهد رضي الله عنه بدراً، ثم شهد المشاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولما كانت غزوة مؤتة بعثه النبي عليه الصلاة والسلام على الناس أميراً. قال: (الأمير زيد فإن أصيب فــجعفر فإن أصيب فــعبد الله بن رواحة ) رضوان الله على الجميع.
فذهب زيد أميراً على الجيش، ولما استحر القتل حمل رضي الله عنه اللواء فطعن بالرماح فقتل، ثم قتل بعده جعفر فــعبد الله بن رواحة ، ونعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر بعدما أخبره الوحي، قال: (اللهم اغفر لــزيد، اللهم اغفر لــزيد، اللهم اغفر لـــزيد و لــجعفر و لـــعبد الله بن رواحة )، فخص زيداً بالدعاء ثلاثاً رضوان الله عليه.
وهذا الرجل المبارك زوجه النبي عليه الصلاة والسلام من ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب وهي زينب بنت جحش الأسدية الرآبية رضي الله عنها، وكانت زينب غير راضية بهذا الزواج فنزل قول ربنا جل جلاله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36]، فزوجت زينب بنت جحش من زيد وما طابت حياتهما، لم يحصل بينهما الإلف والوفاق الذي ينبغي أن يكون بين الزوجين، ( وكان زيد يأتي للنبي عليه الصلاة والسلام شاكياً، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: هل رابك منها شيء؟ فيقول زيد : لا، غير أنها تؤذيني بلسانها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: أمسك عليك زوجك واتق الله ).
(تؤذيني بلسانها) يعني: ما كانت رضي الله عنها تنسى أنها قرشية من بيت حسب ونسب، وأنها ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم و زيد مولى من الموالي، ما كانت تنسى هذا؛ ولذلك كانت تتعامل معه بشيء من الترفع.
ثم أذن الله في أن يطلق زيد زينب رضوان الله عليهما، فزوجه النبي عليه الصلاة والسلام من حاضنته بركة بنت ثعلبة وهي أم أيمن الحبشية رضي الله عنها، المرأة الصالحة، وكانت ولية من أولياء الله، ولما كانت في طريق الهجرة رضي الله عنها وقد خرجت وحدها مهاجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تقول رضي الله عنها: وكان الحر شديداً، عانيت عطشاً حتى رأيت الموت رأي عين، فإذا أنا بحفيف من فوق رأسي، يعني: سمعت صوتاً، قالت: فرفعت رأسي فإذا دلو معلق من السماء، فشربت منه حتى ارتويت، فكنت أسير بعدها في اليوم الشديد الحر فلا أعاني عطشاً.
زوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً من أم أيمن فأنجبت له أسامة وكان زيد أبيض، شديد البياض، وكان أسامة رضي الله عنه أسود أفطس الأنف، وكان بعض المنافقين يطعن في نسبه، حتى جاء رجل يقال له: مجزز المدلجي ، رجل من البادية، ( فرأى زيداً و أسامة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمين، وقد غطيا وجوههما وبدت أقدامهما، وهو لا يعرفهما، فنظر إلى الأقدام، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام ودخل على عائشة يقول لها: أما رأيت ما قال مجزز المدلجي ، نظر إلى زيد و أسامة وقد غطيا وجوههما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض )، وهذا من ذكاء أهل البادية وعلمهم بالقافة، فقطع الله بهذه المقولة لسان كل منافق.
أيها الإخوة الكرام! (ولما انقضت عدة زينب ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لــزيد: اذهب فاذكرها علي )، يقول زيد: فلما قال ذلك عظمت في نفسي، فذهب رضي الله عنه وأعطى وجهه للباب؛ لئلا لا ينظر إلى زينب ، فقال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، قالت: ما كنت فاعلة حتى أؤامر ربي، يعني حتى أستخير، فقامت رضي الله عنها تستخير، فنزل قول الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا[الأحزاب:37]، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فدخل من غير ولي ولا شهود؛ ولذلك كانت زينب رضي الله عنها تفخر على أمهات المؤمنين، تقول لهن: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات، قال سبحانه: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا[الأحزاب:37]، يعني: من زينب ، وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا[الأحزاب:37]، أيضاً الضمير يرجع إلى زينب ، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً[الأحزاب:37]، فالدعي ليس ابناً، والمتبنى لا يكون ابناً أبداً، وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]؛ ولذلك لما طعن المنافقون.. قالوا: محمد ينهى عن الزواج بزوجة الابن وهو يتزوج امرأة متبناه، أنزل الله عز وجل قوله: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب:40] عليه الصلاة والسلام.
وقد عاشت زينب عند النبي عليه الصلاة والسلام وكانت تسامي عائشة ، تساميها أي: تنافسها وتساويها؛ لأنها ذات نسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت ذات جمال، وقد ظهر فضلها رضي الله عنها في قصة الإفك، لما تكلم الناس في عرض عائشة ، سأل النبي عليه الصلاة والسلام زينب ، وبحكم أنها ضرة لـعائشة كان يمكن أن تطلق لسانها، وأن تخوض مع الخائضين، لكن عصمها الله بورعها، قالت: (يا رسول الله! أصون سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً)، ما علمت عن عائشة إلا خيراً؛ ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول: ما رأيت امرأة مثل زينب أتقى لله، ولا أصدق حديثاً، ولا أوصل للرحم، ولا أكثر صدقة، سوى سورة من غضب كانت تعتريها، تسرع منها الفيئة، يعني: كانت غضوبة رضي الله عنها، لكنها كانت تسرع الفيئة، وكانت امرأة كثيرة الصدقة.
بعث إليها عمر بن الخطاب بعطائها اثني عشر ألف درهم، فقالت: يغفر الله لــعمر ، قد كان أقدر على قسمته، فقالوا: يا أم المؤمنين! هو لك، فقالت: سبحان الله! فتحولت عنه وأمرت بأن يغطى بثوب ثم لم تزل تقسمه في أرحامها وجيرانها ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، دعت الله عز وجل بأن يتوفاها، وصدقت فيها نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه: ( لما كان نساؤه حوله وهو في سكرات الموت، قال لهن: أولكن لحوقا ً بي أطولكن يداً )، فلما توفي عليه الصلاة والسلام كان أمهات المؤمنين يقفن على الجدار يقسن أيديهن، فماتت أولهن زينب رضي الله عنها وكانت أقصرهن يداً، فعلم أمهات المؤمنين أن المراد بالطول أي: طول اليد في الصدقة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول الناس يداً، وليس الطول الحسي، وإنما كان صلى الله عليه وسلم باذلاً، متصدقاً، كريماً.
وماتت زينب رضي الله عنها في العام السابع عشر للهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين؛ فأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه منادياً ينادي: أيها الناس! اغدوا للصلاة على أمكم، وأرسل إلى أمهات المؤمنين من ينزل في قبرها، وكان عمر يحب أن يلي ذلك، كان يحب أن ينال هذا الشرف، أن يكون هو من ينزل في قبرها، فأجابه أمهات المؤمنين: انظر من كان يطلع عليها في حياتها فلينزل معها في قبرها، أي: من كانوا من محارمها هم الذين يتولون إنزالها في قبرها رضوان الله عليها.
أسأل الله أن يرزقنا حب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر