إسلام ويب

تفسير من سورة القدر إلى سورة العادياتللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في سورة من قصار السور ذكر الله فضل ليلة القدر، وما لها من مكانة في ديننا العظيم، وذكر فضل البينة وأنها رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، وذكر أن من عمل مثقال ذرة خيراً أو شراً يره، وذكر حال الإنسان الكافر في الدنيا.

    1.   

    مقدمة في تفسير سورة القدر

    سورة القدر مكية في قول بعض المفسرين، ومدنية في قول الأكثرين، وفيها خمس آيات وثلاثون كلمة، ومائة واثنا عشر حرفاً، وهذه السورة المباركة هي واحدة من ثلاث وعشرين سورة في القرآن افتتحت بالجمل الخبرية، كقوله سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ[الأنفال:1] وقوله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[التوبة:1]، ونحو ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)

    قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1].

    (إنا) هذا ضمير التعظيم، فالله عز وجل يعظم ذاته العلية، وتكرر هذا في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ[النساء:105]، وقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر:1]، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ[ق:43]، وقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]، ونحو ذلك من الآيات.

    وفي بعض الآيات الله عز وجل يتحدث عن نفسه بضمير الإفراد، كما في قوله سبحانه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، فالله سبحانه يعظم نفسه متى شاء، فهو العظيم وهو الكبير وهو المتعالي سبحانه وتعالى.

    قوله تعالى: إنا أنزلناه)) الضمير في قوله سبحانه: (أنزلناه) بإجماع المفسرين يرجع إلى القرآن، أي: أنزلنا القرآن، قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بالضمير بدلاً من الاسم الظاهر إيماء إلى أنه مستقر في أذهان المسلمين؛ لشدة اشتغالهم به وشغفهم بقراءته. يعني لم يقل الله عز وجل: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، وإنما قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ )) اكتفى بذكر الضمير، فقوله: إنا أنزلناه)) هذه الجملة إشارة إلى أنه من الله سبحانه، أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يقولون: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل:103] وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى غلام نصراني اسمه جبر ، أو اسمه يسار ، وكان قيناً أي: حداداً يصنع السيوف، فقال المشركون: إن قرآن محمد يتعلمه من هذا الغلام النصراني، فقال الله عز وجل: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[النحل:103] أي: هذا النصراني أعجمي وهذا القرآن عربي مبين، وكما في الآية الأخرى قال الله عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:192-195].

    أقوال العلماء في سبب تسمية القدر بهذا الاسم

    قوله: (( فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )) ذكروا في تسمية ليلة القدر بهذا الاسم أقوالاً ثلاثة:

    الأول: قولهم: فلان ذو قدر، أي ذو شرف ومكانة، فسميت ليلة القدر؛ لشرفها ومكانتها، كما قال مجاهد ؛ لأن الله تعالى أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، فأخذت الليلة شرفها من نزول القرآن فيها.

    الثاني: سميت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأنه تقدر فيها المقادير، والآجال، والأرزاق، والأعمال، كما قال ربنا سبحانه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ[الدخان:4]، كل شيء يقدر في هذه الليلة، خلال عام كامل، يكتب من يولد ومن سيموت، من سيؤمن ومن سيكفر، من سيهتدي ومن سيضل، يكتب ما يكون من مطر، ومن جدب، ومن وعطاء، ومن منع، ومن حياة، ومن موت، ومن صحة، ومن سقم، قالوا: حتى أسماء الحجيج تكتب فلا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً، ونسأل الله أن يجعلنا من المكتوبين منهم.

    الثالث: سميت ليلة القدر بهذا الاسم من القدر الذي هو التضييق، كما مر معنا في قول الله عز وجل: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ[الفجر:16] أي ضيق؛ لأن الملائكة ينزلون في تلك الليلة فيضيقون فجاج الأرض وأفواه السكك.

    كيفية نزول القرآن في ليلة القدر

    قوله: ((أنزلناه)) أي: القرآن، إما أن يكون المقصود ابتداء التنزيل، كما مر معنا في قول الله عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1]، وهو أن هذه الآيات نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر.

    وإما أن يكون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل به الملك منجماً على حسب الوقائع والأحداث، كما قال الله عز وجل: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[الفرقان:32].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر)

    قال الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:2].

    هذا استفهام للتفخيم والتعظيم، قال الفراء و سفيان بن عيينة : كلما كان في القرآن (وما أدراك) فقد أدراه، وما كان في القرآن (وما يدريك) فلم يدره. يعني: ذكرت جملة (وما يدريك) في القرآن ثلاث مرات:

    الأولى: قول الله عز وجل في الأحزاب: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا[الأحزاب:63].

    الثانية: قوله في الشورى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ[الشورى:17].

    الثالثة: قوله في سورة عبس: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى[عبس:3].

    (وما أدراك) وردت في عشرة مواضع، كلها في المفصَّل في قصار السور:

    الأول: قوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ[الحاقة:1-3].

    الثاني: قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ[المدثر:26-27].

    الثالث: قول الله عز وجل في سورة المرسلات: لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ[المرسلات:13-14].

    الرابع والخامس: قول الله عز وجل في سورة الانفطار: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ[الانفطار:17-18].

    السادس والسابع: قوله تعالى في المطففين: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ[المطففين:8]، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ[المطففين:19].

    الثامن: قول الله عز وجل: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ[البلد:11-12].

    التاسع: قول الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ[القارعة:3].

    العاشر: قوله هنا في سورة القدر: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:2]، كل هذه أخبر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأدراه بها.

    فالسؤال للتفخيم: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:2] أي: هل عرفت خبرها؟ وهل أتاك نبؤها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر)

    قال الله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3].

    يقول العلامة الشيخ عطية رحمه الله: تنزيل القرآن بالليل، وجعل كتابة الأقدار بالليل دليل على أن لليل خاصية ومزية؛ ولذلك قال الله عز وجل في القرآن: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا[الإسراء:1]، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ[الإسراء:79]، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ[ق:40]، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا[الإنسان:26]، وقال: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا[المزمل:6].

    ثم قال: دل ذلك على أن الليل هو وقت التجليات، ونزول الرحمة، ونزول الفيوضات؛ لسكونه وهدأته، وسكون الأصوات والحركات فيه؛ ولذلك فإن الموفقين من عباد الله يلتمسون الخير في الليل.

    لقد كرر الله عز وجل هذه الكلمة ثلاث مرات حيث قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[القدر:1-2]، وكان من الممكن أن يقول سبحانه: هي خير من ألف شهر، لكن الله عز وجل كرر وقال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3] قال المفسرون: إن الإظهار في مقام الإضمار يكون للتفخيم والتعظيم وهو مزيد من العناية والاهتمام، كما قال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ[آل عمران:78] فكرر كلمة الكتاب ثلاث مرات.

    قال أهل التفسير ومنهم مجاهد بن جبر رحمه الله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل، لبس السلاح في سبيل الله ثمانين سنة ما عصى الله طرفة عين، فقال الصحابة: ومن يطيقه يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة فيها عطية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم).

    فمن وفق لعبادة الله عز وجل في هذه الليلة، فهو خير ممن عبد الله ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وألف شهر تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر؛ ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول لهم: (قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، افترض الله عليكم صيامه، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).

    وبعض المفسرين قالوا: ليس المقصود الألف وإنما المقصود التكثير، كما في قول العرب: فلان بألف رجل، يعنون: أنه عالي الهمة، عظيم القدر، ومنه قول الله عز وجل: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ[البقرة:96] وليس المقصود الألف، وإنما المقصود طول العمر، فهنا قالوا: المقصود تفخيم هذه الليلة، وليس المقصود أنها تعدل بالضبط ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)

    قال الله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ[القدر:4].

    ليلة القدر هذه ليلة مباركة تتنزل فيها الملائكة بأنوارها وبركاتها ويتنزل فيها جبريل عليه السلام إلى هذه الأرض.

    قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ )) أي: بأمر ربهم، الباء إما أن تكون باء السببية، أي: بسبب أمر ربهم وإذنه جل جلاله، وإما أن تكون باء المصاحبة، أي: مصحوبين بأمر ربهم.

    قوله: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ )) أي: بكل أمر؛ لأن (من) هنا بمعنى الباء، ومنه قول الله عز وجل: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ[الرعد:11] أي: يحفظونه بأمر الله، بأمر ربهم، والأمر إما أن يكون واحد الأمور أي: الأشياء، أو واحد الأوامر وكلاهما مراد، كما في قول الله عز وجل: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ[الدخان:4-5] فقوله: فيها يفرق كل أمر)) أي: واحد الأمور وقوله: أمراً من عندنا)) واحد الأوامر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر)

    قال الله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ[القدر:5].

    قوله: سَلامٌ هِيَ )) أي: لا يستطيع الشيطان أن يتصرف فيها بسوء، ولا أن يصيب أحداً بأذى؛ لأنها ليلة سالمة من الآفات، وسالمة من البلايا والرزايا.

    قال بعض أهل التفسير: المراد تسليم الملائكة على المؤمنين، أي: أنهم ينزلون فيسلمون على المؤمنين في مساجدهم واحداً واحداً.

    قوله: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ معلوم بأن الليلة تنتهي بطلوع الفجر، لكن الله عز وجل عيَّنها فقال: هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ )) من أجل أن يحفزنا على عبادته فيها؛ لأن هذه ليلة محدودة، وساعاتها معدودة، فاجتهدوا فيها.

    1.   

    أقوال العلماء في تحديد ليلة القدر وتعيينها

    قال الإمام القرطبي رحمه الله: أكثر أهل العلم على أنها ليلة سبع وعشرين؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث زر بن حبيش رحمه الله قال: قلت لـأبي بن كعب : (إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر) أي: من يقوم الليل خلال السنة كلها يصيب ليلة القدر، (فقال أبي بن كعب : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! والله إنه ليعلم أي ليلة هي، ولكن أراد ألا تتكلوا -يعني: ابن مسعود يعرف أنها ليلة سبع وعشرين، لكن أراد من الناس أن يقوموا السنة كلها لا ليلة سبع وعشرين فقط- والله الذي لا إله غيره إنها ليلة سبع وعشرين، قلت له: بأي شيء تقوله؟ فقال: بالعلامة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس تخرج في صبيحتها ولا شعاع لها) يعني: تخرج باهتة، هذه رواية.

    وأيضاً الرواية الأخرى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للصحابة رضي الله عنهم: ترى أي ليلة هي ليلة القدر؟ فقال عبد الله بن عباس : إن عندي منها علماً. فقد كان عبد الله بن عباس جريئاً رضي الله عنه جرأة العالم الواثق، حتى كان يقول في قول الله عز وجل: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ[الكهف:22] كان يقول: أنا من ذلك القليل. وحق له رضي الله عنه.

    قال لـعمر : وما ذاك؟ قال له: هي لسبعة تبقى أو لسبعة تمضي-أي: إما ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة سبع وعشرين- قال له: بأي شيء قلت هذا؟ قال له: خلق الله السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، والأيام سبعاً، والشهر يدور على سبع، والإنسان خلق من سبع، وطعامهم من سبع، كما قال الله عز وجل: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا[عبس:24-28] إلى آخر الآيات، فـعمر رضي الله عنه قال له: فطنت لما غفلنا عنه). وهنا يرجح ابن عباس أن ليلة القدر إما ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين.

    وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان، قال: فخرج علينا ليلة عشرين، صلوات ربي وسلامه عليه، فقال: أيها الناس! من كان ملتمساً ليلة القدر فليلتمسها في العشر الأواخر، وإني أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين، يقول أبو سعيد : وما في السماء قزعة، فهطلت السماء بالمطر، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما انفتل من صلاته حتى رأيت أثر الطين والماء في جبهته وأنفه عليه الصلاة والسلام، وكانت ليلة إحدى وعشرين).

    والذي عليه الأئمة الثلاثة مالك و الشافعي و أحمد وكثير من أهل العلم أنها متنقلة، وليست ثابتة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) يعني: في تلك السنة.

    وقول أبي بن كعب رضي الله عنه: (إنها ليلة سبع وعشرين) يحمل ذلك على الغالب، لكن ليس على أنها في ليلة سبع وعشرين لا تتخلف عنها.

    ولذلك جاء في الحديث: (أنها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في واحدة تبقى) هذه الخمس ليالي الوتر، هي أكثر مظنة لالتماس ليلة القدر فيها.

    أما ما قاله بعض العلماء: إنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ[القدر:5] رقم سبع وعشرين، فهذا لا يعول عليه كثيراً، وكذلك من قالوا: بأن ليلة القدر من تسعة أحرف، وتكررت ثلاث مرات في السورة، فحاصل ضرب التسعة في الثلاثة يساوي سبعة وعشرين، كل هذا كما قال ابن عطية : من ملح التفسير، وليس من متين العلم.

    1.   

    الأعمال التي تؤدى في ليلة القدر

    كثير من الناس يهتم بأن يتتبع ما يقوله الناس في اليوم الذي بعده، أو يهتم بالليل هل يسمع نباح كلب، ويترقب العلامات؛ من أجل أن يعرف هل هذه ليلة القدر، أم ليست ليلة القدر، ليس هذا مهماً، فالعلماء رحمهم الله قالوا: هي ليلة ساجية ساطعة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة، هادئة، بلجة، مضيئة، وذكروا أيضاً حديثاً ثبت بأن في صبيحتها تخرج الشمس لا شعاع لها، وهذه العلامة تكون بعد وقوعها، ولا فائدة من معرفة هذه العلامة، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجتهد في ليلة القدر في عبادة الله عز وجل، وجزى الله أمنا عائشة رضي الله عنها خيراً، فقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول فيها؟ فقال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فهذا الدعاء ينبغي أن نكرره وأن نحرص عليه.

    وأسأل الله أن يوفقنا لإصابة ليلة القدر.

    1.   

    مقدمة بين يدي تفسير سورة البينة

    سورة البينة هي سورة مكية، وفيها ثمان آيات، وأربع وسبعون كلمة، وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفاً.

    وهذه السورة ذكر لها المفسرون ستة أسماء، فسموها: البينة، والقيمة، وأهل الكتاب، ولم يكن، والانفكاك، والبرية، وهذه كلها من أسمائها، ونحن نعرف من علوم القرآن أن بعض السور لها أكثر من اسم.

    المحاور والقضايا التي اشتملت عليها سورة البينة

    يقول سيد قطب رحمه الله في تفسيره (الظلال): هذه السورة قد اشتملت على أربع قضايا أساسية وهي:

    القضية الأولى: أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية؛ لإخراج المشركين وأهل الكتاب من الضلال والتيه الذي دخلوا فيه.

    القضية الثانية: أن أهل الكتاب ما انحرفوا عن الحق عن جهل، بل بعدما جاءتهم البينة وجاءهم العلم، وجاءهم الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    القضية الثالثة: أن الدين في أصله واحد، وأن قواعده بسيطة، وأن حقائقه واضحة، ليس في الدين اختلاف منذ أن جاء به آدم عليه السلام إلى أن ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فدين الله واحد.

    القضية الرابعة: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية، وأن الذين كفروا هم شر البرية، أي: شر من الدواب والحمير.

    سبب نزول سورة البينة

    روى الإمام أحمد والشيخان البخاري و مسلم من حديث أبي حبة البدري الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بن كعب : يا أبي ! إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال أبي رضي الله عنه: وقد سماني لك يا رسول الله؟! قال: نعم، فبكى أبي رضي الله عنه، قال له بعض الصحابة: أفرحت يا أبا المنذر ! قال: ومالي لا أفرح والله عز وجل قد قال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58]).

    قال الإمام القرطبي رحمه الله: وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ؛ ليعلم الناس التواضع، ولئلا يأنف العالم عن القراءة على من هو دونه، أو أقل منه.

    قال ابن كثير رحمه الله: والسبب -والله أعلم- هو ما رواه النسائي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أنه سمع عبد الله بن مسعود يقرأ قراءة أنكرها غير التي أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونحن نعرف اختلاف القراءات كقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ[الشعراء:193] أو: (نزّل به الروح الأمين) أو بعض الناس يقرأ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4]، وبعض القراء يقرأ: (ملك يوم الدين) وبعضهم يقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ)[الفاتحة:6] بالصاد، وبعضهم يقرأ (اهدنا السراط)، وبعضهم يقرأ بالإشمام بين الصاد والسين، وكلها قراءات متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فـأبي رضي الله عنه سمع من ابن مسعود قراءة أنكرها، فقال له: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال له ابن مسعود : ولكن أقرأنيها هكذا، فذهب أبي مع ابن مسعود يتحاكمان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا أبي ! فقرأ وقال: اقرأ يا ابن مسعود ! فقرأ، فقال: كلاكما أصاب يقول أبي رضي الله عنه: فدخلني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدري ففضت عرقاً كأني أنظر إلى الله فرقاً، وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال: يا محمد! إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته، فقال: على حرفين، فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف) والسبعة أحرف هذه كلها داخلة في لغة قريش، وكلها داخلة في القراءات المتواترة العشر التي يقرأ بها جماهير المسلمين في المشارق والمغارب.

    يقول ابن كثير رحمه الله: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي كانت قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار.

    فالله عز وجل يتولى الصالحين، ولما كان أبي رجلاً صالحاً عبداً لله قانتاً حنيفاً؛ فالله عز وجل لم يتركه للشكوك والأوهام والشبهات، بل قيض له من ضربة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قراءته عليه الصلاة والسلام ما زاده إيماناً ويقيناً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب...)

    قال الله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ[البينة:1].

    قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ )) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، باعتبار أن أصل دينيهما كتاب سماوي: التوراة، والإنجيل، أما المشركون فيدخل فيهم عبدة الأوثان، وعبدة النيران، وعبدة الكواكب والنجوم من العرب وغيرهم.

    فالكفر اسم جنس يجمع أهل الكتاب مع المشركين، كما قال الله عز وجل في سورة التوبة: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[التوبة:30].

    قوله: مُنفَكِّينَ )) أي:لم يكونوا مزايلين ومباينين وتاركين ما هم عليه من الكفر حتى تأتيهم البينة والبينة هي: كل ما أقيم لإظهار الحق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة. فيها كتب قيمة)

    قال الله تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً[البينة:2].

    قوله: رسول من الله)) أي: محمد صلى الله عليه وسلم.

    قوله: يتلوا صحفاً)) الصحف: هي القراطيس التي يكتب فيها الكلام.

    قوله مطهرة)) أي: مطهرة من الشك والريبة والباطل، ومطهرة من أن تتضارب وتتناقض، ومطهرة من الشرك والكفر.

    قوله تعالى: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ[البينة:3].

    قال بعض أهل العلم: الكتب هي القرآن، وسمي كتباً باعتباره سوراً وباعتباره موضوعات فيها هذه الأحكام، وهذه القصص، وهذه العقائد، ونحو ذلك.

    وقال بعض أهل التفسير: بل الكتب القيمة المقصود بها ما كان قبل القرآن، وكل ما فيها من علوم ومعارف أودعها الله في القرآن، وهذا هو منطوق القرآن، يقول الله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ[الشورى:13]، ومر معنا قول الله عز وجل: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:18-19]، وقول الله عز وجل: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ[الشعراء:196]، وقول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ[المائدة:48]، وقول الله عز وجل على لسان الجن: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ[الأحقاف:30].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)

    قال الله تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ[البينة:4].

    لقد تفرق أهل الكتاب واختلفوا، وتفرق المشركون أيضاً، فمرة يقولون: ساحر، ومرة: كاهن، ومرة: مجنون، ومرة: شاعر، ومرة: يكتب أساطير الأولين، ومرة: إنما يعلمه بشر، يقول الله عز وجل: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ[الذاريات:10] أي: الكذابون، وقال: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ[الذاريات:8] أي: كل يوم عندكم كلام يختلف عن الذي قبله، وقد خصَّ الله أهل الكتاب بالذكر في قوله: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ[البينة:4]، قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره: قصد الآية التشنيع على كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة، أي: لأن عندهم كتباً، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، وصفته، ومولده، ومهاجره، وقد قال الله عز وجل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ[البقرة:146] وقال عيسى عليه السلام: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ[الصف:6]، فكان الواجب عليهم ألا يختلفوا، لكنهم عياذاً بالله ما تفرقوا جهلاً، وإنما عمداً.

    فاليهود قاتلهم الله كانوا يطرحون على الرسول الله صلى الله عليه وسلم الأسئلة، فقد سألوه عن فتية خرجوا في الدهر الأول ما خبرهم؟ فيجيب بأنهم أهل الكهف، ويقرأ عليهم الآيات، وسألوه عن رجل ملك المشارق والمغارب، فيقرأ عليهم خبر ذي القرنين ، وسألوه هل ينزع الولد لأبيه أو لأمه؟ فيخبرهم صلى الله عليه وسلم، وسألوه صلوات الله وسلامه عليه: (ما أول طعام أهل الجنة؟ فقال لهم: زيادة كبد حوت)، وسألوه ما أول أشراط الساعة؟ فقال: (نار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى المحشر)، وفي حديث آخر: (يأتيه وفد من اليهود: فقالوا: يا محمد! نسألك فإن أجبتنا فأنت نبي، قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، إن أنا أجبتكم أتؤمنون؟ قالوا: بلى، قال: سلوا، قالوا: نسألك أولاً ما هو الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل -يعقوب عليه السلام- أكل لحم إبل فمرض، فنذر إن عافاه الله أن يحرم على نفسه لحم الإبل؟ قالوا: بلى، قال: اللهم اشهد) هذه واحدة، ثم طرحوا عليه سؤالاً ثانياً وثالثاً ورابعاً، وفي النهاية قالوا له: (يا محمد! من وليك من الملائكة؟ أي: من يأتيك بالوحي؟ قال لهم: جبريل، قالوا: جبريل ذاك عدونا، لو كان غيره لاتبعناك، قال: فما يمنعكم من اتباعه؟ قالوا: إنه يأتي بالعذاب، لو كان ميكائيل لاتبعناك) يعني: جعلوا الدين تبعاً للأهواء.

    وبعضهم كان يقول: أنا رأس في قومي، كيف أرضى أن أكون تبعاً لمحمد؟! فباع آخرته بدنيا حقيرة.

    وهذا كعب بن أسد لعنه الله لما حوصر مع بني قريظة قال لقومه: يا قوم! أعرض عليكم خصالاً ثلاثاً، قالوا: هات الأولى، قال: الأولى: أن ننزل من حصوننا فنتابع هذا الرجل؛ فإنكم تعلمون أنه النبي المذكور في التوراة، فقالوا: لا نفارق ديننا، هات الثانية، قال: الثانية: اليوم يوم السبت، وقد أمننا محمد وأصحابه، ننزل فنناجزهم، نغدر بهم، قالوا: قد علمت من اعتدى في السبت ما فعل الله به، قال لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ[البقرة:65]، هات الثالثة، قال: الثالثة: أن نقتل نساءنا وأطفالنا، ونناجز محمداً فإن ظهر علينا لم يكن وراءنا ما نخاف عليه، وإن ظهرنا عليه اتخذنا الذرية والأزواج، قالوا: فما خير العيش بعد قتل الذرية والأزواج، قال: قاتلكم الله ما بات رجل على رأي منذ ولدته أمه.

    هذا الخبيث الذي كان يقول: إنكم تعلمون أنه النبي المذكور في التوراة، لما حكم عليه بالقتل، وأخذ ليقتل لينفذ فيه حكم الإعدام مقيداً، نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! والله ما ندمت على عداوتك لحظة. نعوذ بالله!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ...)

    قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5].

    الله عز وجل ما بعث نبياً ولا ما بعث رسولاً إلا قال له: أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء:25].

    وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) أي: عبادة لا يخالطها شرك، ولا رياء، حنفاء مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وعن الضلال إلى الهدى.

    قال سعيد بن جبير رحمه الله: لا يسمى الحنيف حنيفاً إلا إذا حج واختتن.

    ولا شك أن هذا تفسير للعام ببعض أفراده، فإن الختان من الحنيفية، والحج من الحنيفية، لكن الحنيفية هي دين إبراهيم عليه السلام، أساسها التوحيد: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله.

    قوله: حُنَفَاءَ )) أي: حنفاء لا يعبدون أحباراً ولا رهباناً.

    قوله: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ[البينة:5] هذه في دين كل نبي، ولذلك أثنى الله على إسماعيل بقوله: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا[مريم:54-55]، وأثنى الله عز وجل على غيره من الأنبياء، بل على أهل الكتاب عموماً فقال: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[آل عمران:113] فالصلاة والزكاة أساس في جميع الشرائع والأديان.

    قوله: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5] أي: هذا هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل ولا انحراف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6].

    أي: هم في النار ولا أمل لهم في الخروج، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراي ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله على وجهه في النار) خالداً مخلداً، يبقى فيها لا يخرج منها أبداً، أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، وفي بعض القراءات: (أولئك هم شر البريئة) من البرء أي: الخلق، أولئك هم شر الخليقة، شر من الدواب والكلاب، والخنازير، والثعابين، قال الله عز وجل: إِنّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ[الأنفال:22]، وقال سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[الأنفال:55].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم عند ربهم جنات عدن ...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ[البينة:7].

    أي: هم خير خلق الله، وهذه الآية استدل بها من يقول: إن المؤمنين أفضل من الملائكة، وهذه المسألة من فضول المسائل التي لا يتعلق بالبحث فيها عمل.

    قال تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ[البينة:8].

    قوله: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ )) الله عز وجل يسمي الجنة دار السلام، ويسميها جنات النعيم، ويسميها جنات عدن، وعدن أي: إقامة، ومنه سمي المعدن معدناً؛ لأنه مستقر، يقال: عدن فلان إذا أقام واستقر، فقوله: جنات عدن)) أي: جنات إقامة أبدية لا يخرجون منها، ولا ينامون ولا يموتون ولا يسقمون ولا يهرمون.

    جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ )) الأنهار أربعة أنواع قال تعالى: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ[محمد:15] خمر ليس فيها صداع، ولا مرض، ولا نتن، ولا غول، يقول ابن كثير : ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل. أما خمر الدنيا ففيها صداع الرأس، ومغص البطن، ونتن الريح، وقبح الفعل.

    إذاً: خمر الجنة ليس فيها شيء من ذلك، قال عز وجل: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى[محمد:15]، وهذه الأنهار تجري من تحتهم في غير أخدود، يقول الشيخ الصواف رحمه الله في تفسيره: كأن الله عز وجل يجزيهم من جنس عملهم، فأعمالهم كانت في الدنيا جارية ما داموا أحياء، فجعل الله أنهارهم في الجنة جارية من غير انقطاع، والجزاء من جنس العمل.

    خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ[البينة:8] أي: رضي الله عنهم بأعمالهم، وَرَضُوا عَنْهُ[البينة:8] أي: لما دخلوا الجنة واستقروا فيها رضوا عن الله سبحانه كرضاهم عن الله في الدنيا كما قال أبو قلابة رحمه الله: رضاك عن الله أن تتلقى أوامره من غير ضجر.

    جاء في الحديث: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل لهم -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم- : يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ يقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى؟! ألم تثقل موازيننا؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تجرنا من النار؟ فيقول الله عز وجل: إني جعلت جزاءكم أن أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).

    رضوان ليس بعده سخط، ذلك الجزاء الذي مضى لمن كان في الدنيا خائفاً، وعاش مقيداً بالأوامر والنواهي.

    إن هذه السورة فيها جواب عن شبهة كبيرة تروج في هذا الزمان: وهي قضية وحدة الأديان، لكن لعل هذه القضية نعرض لها بالتفصيل إن شاء الله عند تفسير سورة الكافرون.

    1.   

    مقدمة بين يدي تفسير سورة الزلزلة

    سورة الزلزلة هي سورة مكية، وهي مشتملة على ثمان آيات، في خمس وثلاثين كلمة، في مائة وتسعة عشر حرفاً، وموضوعها هو موضوع القرآن المكي في الحديث عن اليوم الآخر وبيان أهواله وما يكون فيه.

    سبب نزول سورة الزلزلة

    روى الواحدي في أسباب النزول عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه السورة و أبو بكر رضي الله عنه قاعد عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا أبا بكر ؟! فقال: يا رسول الله! أبكاني نزول هذه السورة! أو أسأل عن مثاقيل الذر؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى في الدنيا مما تكره هو مثاقيل الشر، ومثاقيل الخير يدخرها الله لك إلى يوم القيامة، ثم قال له: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم).

    ومعنى هذه الرواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصديق أبا بكر رضي الله عنه ومعه كل مؤمن بأن ما يكون في هذه الدنيا من الآفات والشرور التي تصيب الإنسان، من هم أو غم أو نصب أو وصب، أو نقص من الأموال والأنفس والثمرات، وتسلط الأعداء ونحو ذلك، فهذا كله يكفر الله به مثاقيل الشر التي اقترفناها، وأما مثاقيل الخير فهو يدخرها لنا سبحانه إلى يوم القيامة.

    وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله: نزلت هذه السورة في رجلين: كان أحدهما يستقل التمرة والكسرة والجوزة أن يعطيها للمسكين، يقول: ما نؤجر على مثل هذا، وإنما نؤجر على ما نعطي مما نحبه، وكان الآخر يستقل اليسير من الذنب، كالنظرة والكذبة، ويقول: ما يؤاخذ الله بمثل هذا، إنما توعد الله بالنار على الكبائر، فأنزل الله عز وجل هذه السورة يحث فيها المسلمين على ألا يحتقروا الخير اليسير، فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم من أن يحتقروا الذنب اليسير؛ فإنه يوشك أن يكثر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها)

    بدأ ربنا جل جلاله هذه السورة بالحديث عن واحد من أهوال يوم القيامة، يقول الله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا[الزلزلة:1].

    هذه الجملة شرطية، أداة الشرط (إذا)، وفعل الشرط (زلزلت)، وجواب الشرط في قول الله تعالى: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا[الزلزلة:4] يعني: فصل ربنا بين فعل الشرط وجوابه بفاصل طويل، قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا[الزلزلة:1-4].

    يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: والفصل بين فعل الشرط وجوابه بهذا الطول؛ من أجل التشويق لمعرفة جواب الشرط.

    قال الله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا[الزلزلة:1] الزلزلة: على وزن فعللة، هذا البناء في كلام العرب يدل على حركة واضطراب، ومنه قولهم: قلقلة، وقولهم: رجرجة، وقولهم: بلبلة، ونحو ذلك.

    قوله: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ )) أي: حركت حركة عنيفة، وماجت واضطربت، وتمور الأرض موراً، هذا الهول كرره ربنا في بعض آياته، كقوله في صدر سورة الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[الحج:1]، وقوله سبحانه في صدر سورة الواقعة: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا[الواقعة:1-5] أي: صارت الجبال كأنها بسيسة وهو الدقيق الذي يصنع بالسمن، فيتفتت بعدما ينضج بالنار، هكذا تكون الجبال، وهذا سيأتي معناه في قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ[القارعة:5].

    وقال ربنا سبحانه في سورة الحاقة: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ[الحاقة:14-16].

    أقوال العلماء في وقت حدوث الزلزلة

    يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: اختلف العلماء متى تكون هذه الزلزلة؟ هل تكون عند خروج الناس من قبورهم وحشرهم إلى عرصات القيامة أم أنها تكون في القيامة نفسها بعد النفخة؟

    فقال بالقول الأول: جماعة من أهل التفسير كـعبد الملك بن جريج و عبيد بن عمير و الشعبي وغيرهم. ولكن هذا المعنى وإن كان له وجه من النظر فليس له ما يسنده من الأثر.

    قال: والأثر يدل على أن هذه الزلزلة تكون مع القيامة، كما في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم ! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول الله عز وجل: أخرج بعث النار من ولدك، فيقول آدم : يا رب! وما بعث النار؟ فيقول الله له: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد إلى الجنة، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) فلو تدبرنا هذا الحديث مع قوله سبحانه: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[الحج:1] علم أن القول الراجح بأن هذه الزلزلة تكون في القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها)

    قال الله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا[الزلزلة:2].

    قوله: وأخرجت الأرض أثقالها)) أي: أخرجت الأرض ما فيها من موتى، وما فيها من كنوز، كما قال سبحانه: وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ[الانشقاق:3-5] وكما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج الأرض كنوزها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء من قطع رحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه ولا يأخذون منه شيئاً).

    وهذه الزلزلة لا تترك معلماً ولا بناءً ولا شجراً، وإنما تصير الدنيا كلها هباء منثوراً، قال عز وجل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا[الكهف:47].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها)

    يقول تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا[الزلزلة:3].

    يقول ابن عاشور رحمه الله: يستوي في ذلك الجبان والشجاع، والطائش والحليم، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا[الزلزلة:3]. ويمكن أن يقال: لفظ الإنسان ها هنا من العام المخصوص والمركب. أي: الإنسان الكافر، أما المؤمن فإنه إذا شاهد هذا الهول يقول: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ[يس:52]؛ لأنه كان ينتظر ذلك اليوم ويحسب له حساباً.

    فقوله تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال : سؤال المشبوه المبهوت المفجوع، سؤال من رأى ما لا قبل له، ومن شاهد ما لا صبر له عنه، ما لها تترجرج؟ ما لها تهتز؟ وكأنه يريد أن يتعلق بشيء يمسك به، ويستند إليه، فلا يجد شيئاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها)

    قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا[الزلزلة:4].

    جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما أخبارها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا فهذه أخبارها).

    والواجب أيها الإخوان! أن نستحضر هذه الآية دائماً، وذلك بأن نعلم أن الأرض التي نمشي عليها ونقف فوقها ستشهد لنا أو علينا، ستشهد بأن فلاناً قد سجد، وستشهد بأن فلاناً قد جلس فقرأ قرآناً، وأن فلاناً قد جلس فأمر بمعروف أو نهى عن منكر، وستشهد بأن فلاناً جلس عليها فشرب خمراً، وأن فلاناً قد جلس عليها ففعل فاحشة، وأن فلاناً قد وقف عليها يحارب الله ورسوله، ويستهزئ بالشريعة؛ ولذلك يقول الله عز وجل: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ[الدخان:29] قال علي رضي الله عنه: (إذا مات المؤمن بكى عليه موضع سجوده في الأرض، وموضع صعود عمله الصالح في السماء)

    يقول تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا[الزلزلة:5].

    الباء هنا باء السببية، أي: بسبب أن ربك أوحى لها أمرها، أذن لها بأن تتزلزل، والأرض مطيعة، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت:11] أي: أوحى لها فأطاعت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم)

    قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ[الزلزلة:6].

    الصدور ضد الورود، فالورود هو القدوم، والصدور هو الرجوع، ولذلك عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما كان في طريقه إلى مؤتة خرج المسلمون يودعونه، قالوا له: (يا ابن رواحة ! ردك الله سالماً، فبكى رضي الله عنه وقيل له: ما يبكيك، أتبكي خوف القتل؟ قال: لا والله! لكنني تذكرت آية من كتاب الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا[مريم:71] فلم أدر كيف الصدور بعد الورود؟!)

    فقوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي: يرجعون بعدما حشروا.

    قوله: أَشْتَاتًا[الزلزلة:6] واحدها شت، بفتح الشين وتشديد التاء، أي: يصدرون أنواعاً وأصنافاً، كما قال الله عز وجل: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ[الروم:14]، وقال الله عز وجل: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ[الروم:43]، فمنهم من هو صادر إلى الجنة، ومنهم من هو صادر إلى النار، ومنهم من هو صادر بوجه مستبشر فرح ضحك، ومنقلب إلى أهله وهو مسرور، ومنهم من هو صادر والعياذ بالله بوجه عليه غبرة, ترهقه قترة، بوجه قد اسود من الكفر بالله والفجور والعمل بمعصية الله.

    قوله: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فمنهم من هو آخذ كتابه بيمينه، وتراه يصرخ في الناس قائلاً: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ[الحاقة:19-20]، ومنهم من هو آخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وتراه يصرخ ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:25-29].

    قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].

    يقول الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء:40] يقول المفسرون رحمهم الله في مقدار الذرة: هي نملة حمراء صغيرة لا تكاد ترى، وقال بعض أهل اللغة: الذرة أن تضرب بيدك على الأرض، فما علق بها من الرمل الصغار تسمى واحدتها ذرة.

    يقول سيد قطب رحمه الله: ونحن ندرك الآن أن الذرة شيء قد استقر في ضمير العلماء؛ لكنه لا يرى أصلاً، يعني: لا هو نملة ولا هو رملة، ولا هو شيء يرى بالعين، ولا بأكبر المجاهر التي تكبر الصغير جداً، وإنما الذرة أصغر من هذا كله.

    فقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه هذه الآية تحفز المؤمن على أن يطلب كل عمل صالح ولو كان شيئاً يسيراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه) يعني: ظلف الشاة، وهو شيء لا يكاد ينتفع به، لكن لو أن جارة طلبت من جارتها فتعطيها ولو هذا الشيء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً أصابه العطش فنزل في ركية فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، ويلحس الثرى من شدة العطش، فلم يجد إناء فملأ موقه -أي: خفه- ثم سقى ذلك الكلب، فشكر الله له فأدخله الجنة).

    ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من طريق الناس، كانت تؤذي المسلمين) فهو قطع شجرة من طريق الناس؛ فأدخله الله بها الجنة، وبالمقابل: (دخلت امرأة النار في هرة..)، وجاء في الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).

    هذه الآية فهمها الصحابة حق الفهم، فقد ذكر الإمام مالك رحمه الله: (أن أمنا عائشة رضي الله عنها كان بين يديها عنب تأكل منه، فجاء سائل فأمرت إنساناً عندها بأن يأخذ عنبة فيعطيها إياه، فالسائل على العادة أخذ يقلبها، ينظر إليها ويعجب، يعني: أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين، والعالمة الفاضلة تعطيني عنبة! فقالت له عائشة وهي الفقيهة العالمة: أتعجب منها؟ قال: بلى، قالت: كم فيها من مثاقيل الذر، والله عز وجل يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[الزلزلة:7]).

    وكذلك جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه كان يأكل تمراً، فجاء سائل فأعطاه تمرتين، فقبض يده وأبى أن يأخذ التمرتين، فقال له: يا هذا! إن الله يجزينا على مثاقيل الذر، ألا تقبلها أنت؟!).

    وإننا نقرأ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (كان عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر فجاءه غلام أسود يعمل راعياً، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رسول الله! قال: إلام تدعو؟ قال له: أدعو إلى كذا وكذا، قال: مالي إن آمنت بك؟ قال: الجنة، قال: فمن يرد هذه الغنم لسيدي؟ -يعني: هو أمين، وسيده يهودي- قال له صلى الله عليه وسلم: اضرب على وجهها، فإن الله سيؤدي عنك، فشهد الرجل شهادة الحق، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إني أسود الوجه، منتن الريح، دنس الثياب، ما لي عند الله؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أما إن الله سيبيض وجهك، وسيطيب ريحك، وسينظف ثوبك، ثم هذا الرجل اشترك في القتال فقتل قبل أن يركع لله ركعة، فجيء به، فلما وضع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه، قال الصحابة: ما لك يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تدخلان ما بين جبته وجلده) هذا الرجل ما ركع ولا سجد ولم يعمل خيراً قط، وإنما آمن بالله ورسوله واشترك في هذه المعركة واستشهد، والله عز وجل قبله ورفع درجته في عليين.

    وبالمقابل أيها الإخوة الكرام! قد يتهاون العبد بالمعصية، ويرى ذنوبه كذبابة وقعت على أنفه، فقال بيده هكذا، يتهاون بالكذبة، ويتهاون بالنظرة، ويتهاون بالسخرية، وأحياناً من بعض أحكام الشرع، ولعلها تكون عند الله بميزان عظيم، كما قال سبحانه: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ[النور:15].

    وأذكر لذلك مثلاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة) يعني: قذف امرأة مسلمة عفيفة في عرضها يهدم عمل مائة سنة، فلو كان للقاذف عمل صالح يعدل مائة سنة يهدمه القذف للمحصنة؛ قال أهل العلم: لأن العار الذي يلحق بتلك المرأة البريئة من جراء هذه الكلمة قد لا يزول عنها حتى تموت، وتبقى الألسنة التي لا تتقي الله تلوكها، ويبقى وزرها على من قالها أول مرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)

    قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ[الزلزلة:6].

    الصدور ضد الورود، فالورود هو القدوم، والصدور هو الرجوع، ولذلك عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما كان في طريقه إلى مؤتة خرج المسلمون يودعونه، قالوا له: (يا ابن رواحة ! ردك الله سالماً، فبكى رضي الله عنه وقيل له: ما يبكيك، أتبكي خوف القتل؟ قال: لا والله! لكنني تذكرت آية من كتاب الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا[مريم:71] فلم أدر كيف الصدور بعد الورود؟!)

    فقوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي: يرجعون بعدما حشروا.

    قوله: أَشْتَاتًا[الزلزلة:6] واحدها شت، بفتح الشين وتشديد التاء، أي: يصدرون أنواعاً وأصنافاً، كما قال الله عز وجل: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ[الروم:14]، وقال الله عز وجل: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ[الروم:43]، فمنهم من هو صادر إلى الجنة، ومنهم من هو صادر إلى النار، ومنهم من هو صادر بوجه مستبشر فرح ضحك، ومنقلب إلى أهله وهو مسرور، ومنهم من هو صادر والعياذ بالله بوجه عليه غبرة, ترهقه قترة، بوجه قد اسود من الكفر بالله والفجور والعمل بمعصية الله.

    قوله: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فمنهم من هو آخذ كتابه بيمينه، وتراه يصرخ في الناس قائلاً: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ[الحاقة:19-20]، ومنهم من هو آخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وتراه يصرخ ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:25-29].

    قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].

    يقول الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء:40] يقول المفسرون رحمهم الله في مقدار الذرة: هي نملة حمراء صغيرة لا تكاد ترى، وقال بعض أهل اللغة: الذرة أن تضرب بيدك على الأرض، فما علق بها من الرمل الصغار تسمى واحدتها ذرة.

    يقول سيد قطب رحمه الله: ونحن ندرك الآن أن الذرة شيء قد استقر في ضمير العلماء؛ لكنه لا يرى أصلاً، يعني: لا هو نملة ولا هو رملة، ولا هو شيء يرى بالعين، ولا بأكبر المجاهر التي تكبر الصغير جداً، وإنما الذرة أصغر من هذا كله.

    فقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه هذه الآية تحفز المؤمن على أن يطلب كل عمل صالح ولو كان شيئاً يسيراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه) يعني: ظلف الشاة، وهو شيء لا يكاد ينتفع به، لكن لو أن جارة طلبت من جارتها فتعطيها ولو هذا الشيء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً أصابه العطش فنزل في ركية فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، ويلحس الثرى من شدة العطش، فلم يجد إناء فملأ موقه -أي: خفه- ثم سقى ذلك الكلب، فشكر الله له فأدخله الجنة).

    ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من طريق الناس، كانت تؤذي المسلمين) فهو قطع شجرة من طريق الناس؛ فأدخله الله بها الجنة، وبالمقابل: (دخلت امرأة النار في هرة..)، وجاء في الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).

    هذه الآية فهمها الصحابة حق الفهم، فقد ذكر الإمام مالك رحمه الله: (أن أمنا عائشة رضي الله عنها كان بين يديها عنب تأكل منه، فجاء سائل فأمرت إنساناً عندها بأن يأخذ عنبة فيعطيها إياه، فالسائل على العادة أخذ يقلبها، ينظر إليها ويعجب، يعني: أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين، والعالمة الفاضلة تعطيني عنبة! فقالت له عائشة وهي الفقيهة العالمة: أتعجب منها؟ قال: بلى، قالت: كم فيها من مثاقيل الذر، والله عز وجل يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[الزلزلة:7]).

    وكذلك جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه كان يأكل تمراً، فجاء سائل فأعطاه تمرتين، فقبض يده وأبى أن يأخذ التمرتين، فقال له: يا هذا! إن الله يجزينا على مثاقيل الذر، ألا تقبلها أنت؟!).

    وإننا نقرأ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (كان عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر فجاءه غلام أسود يعمل راعياً، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رسول الله! قال: إلام تدعو؟ قال له: أدعو إلى كذا وكذا، قال: مالي إن آمنت بك؟ قال: الجنة، قال: فمن يرد هذه الغنم لسيدي؟ -يعني: هو أمين، وسيده يهودي- قال له صلى الله عليه وسلم: اضرب على وجهها، فإن الله سيؤدي عنك، فشهد الرجل شهادة الحق، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إني أسود الوجه، منتن الريح، دنس الثياب، ما لي عند الله؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أما إن الله سيبيض وجهك، وسيطيب ريحك، وسينظف ثوبك، ثم هذا الرجل اشترك في القتال فقتل قبل أن يركع لله ركعة، فجيء به، فلما وضع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه، قال الصحابة: ما لك يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تدخلان ما بين جبته وجلده) هذا الرجل ما ركع ولا سجد ولم يعمل خيراً قط، وإنما آمن بالله ورسوله واشترك في هذه المعركة واستشهد، والله عز وجل قبله ورفع درجته في عليين.

    وبالمقابل أيها الإخوة الكرام! قد يتهاون العبد بالمعصية، ويرى ذنوبه كذبابة وقعت على أنفه، فقال بيده هكذا، يتهاون بالكذبة، ويتهاون بالنظرة، ويتهاون بالسخرية، وأحياناً من بعض أحكام الشرع، ولعلها تكون عند الله بميزان عظيم، كما قال سبحانه: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ[النور:15].

    وأذكر لذلك مثلاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة) يعني: قذف امرأة مسلمة عفيفة في عرضها يهدم عمل مائة سنة، فلو كان للقاذف عمل صالح يعدل مائة سنة يهدمه القذف للمحصنة؛ قال أهل العلم: لأن العار الذي يلحق بتلك المرأة البريئة من جراء هذه الكلمة قد لا يزول عنها حتى تموت، وتبقى الألسنة التي لا تتقي الله تلوكها، ويبقى وزرها على من قالها أول مرة.

    أحكم آية وأجمع آية في القرآن

    قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما في القرآن آية أحكم منها أي: من قوله تعالى: (( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)) [الزلزلة: 7]

    وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: لقد أنزل الله في القرآن آية جمعت ما في التوراة والإنجيل والزبور، وقرأ هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].

    وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: (الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال طيلها -أي: حبلها- فإذا استنت شرفاً أو شرفين كانت أرواثها -أي: ما يخرج منها من الروث والبعر- وآثارها على الأرض في ميزان حسناته، فإذا أتت نهراً فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها، كان ذلك حسنات له، وأما الذي له ستر، فرجل ربطها تغنياً -أي: استغناء عن الناس- وتعففاً، ولم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، وأما الذي عليه وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً) من أجل أن يقول: عندي خيل عربية، وجياد أصيلة، ويستعرض بها في المضامير، (فقال الصحابة: يا رسول الله! فالحمر؟ قال عليه الصلاة والسلام: ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8]) يعني: الحمار نفس الشيء، قد يكون لك فيه أجر، وقد يكون لك ستر، وقد يكون عليك وزره، وقل مثل ذلك في السيارة، وقل مثل ذلك في البيت، وقل مثل ذلك في ثيابك التي تلبسها، وفي طعامك الذي تأكله، نسأل الله أن يعيننا على فعل الخيرات.

    1.   

    مقدمة بين يدي تفسير سورة العاديات

    سورة العاديات سورة مكية في قول جمهور المفسرين، وقد اشتملت على إحدى عشرة آية، في أربعين كلمة، ومائة وستين حرفاً، فمن وفقه الله عز وجل لقراءتها فله ألف وستمائة حسنة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.

    هذه السورة أقسم فيها ربنا جل جلاله بنوع واحد من مخلوقاته وهي الخيل، لما فيها من آياته الباهرة، ونعمه الظاهرة التي يراها الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة).

    سبب نزول سورة العاديات

    سبب نزول هذه السورة ما روى الإمام الحاكم عن مقاتل بن سليمان رحمه الله أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني كنانة ، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري ، فتأخر خبرهم، حتى أرجف المنافقون وقالوا: قد قتلوا جميعاً، فأنزل الله عز وجل هذه السورة مبشراً بأن الخيل قد فعلت الصفات التي ذكرت في هذه السورة المباركة).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحا)

    قال الله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[العاديات:1] العاديات: هي الخيل التي تعدو، وتغير على الأعداء.

    وقوله: ضبحاً)) مفعول مطلق من صوت الخيل، يقال: ضبحت ضبحاً إذا أصدرت صوتاً معروفاً، قال ابن عباس لا يضبح من الدواب إلا ثلاثة: الخيل والكلب والثعلب.

    قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: سمعت ابن عباس يحكي صوت الضبح: أح، أح.

    و ابن عباس رضي الله عنه وكثير من المفسرين قالوا: (العاديات) هي الخيل تعدو على الأعداء، لكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرى أن العاديات هي الإبل، يقول ابن عباس رضي الله عنه: (بينا أنا في الحجر جالساً جاءني رجل فقال لي: يا ابن عباس ! ما قوله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[العاديات:1]؟ فقلت له: الخيل حين تعدو على الأعداء، ثم إذا جن الليل فإنها تأوي بمن معها من الفرسان، فيورون أي: يوقدون نارهم، ويصنعون طعامهم، فذهب الرجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو جالس عند سقاية زمزم، فقال له: ما قوله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[العاديات:1]؟ فقال له علي : هل سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عباس فقال: هي الخيل حين تعدو في سبيل الله، فقال له علي : اذهب فأتني به، يقول ابن عباس : فلما وقفت عليه، قال لي: يا ابن عباس ! أتفتي فيما لا علم لك به؟ انظروا أيها الإخوان إلى الشدة في الكلام، يقول علي هذا لـابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، الذي مسح النبي عليه الصلاة والسلام على رأسه وقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) و عمر رضي الله عنه كان يرجع إليه في المعضلات.

    فـعلي يزجر ابن عباس ويقول: (أتفتي فيما لا علم لك به؟ والله إن كانت أول غزوة غزيناها بدراً، وما لنا إلا فرسان: فرس للزبير ، وفرس للمقداد ، فكيف تكون العاديات ضبحاً هي الخيل؟!

    بل هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى) هذا رأي علي رضي الله عنه.

    قال ابن عطية رحمه الله في المحرر الوجيز: وفي الآية قسم بالخيل أو بالإبل أو بهما معاً، فلا معارضة بين قول ابن عباس وقول علي ، لكن أكثر المفسرين يقولون بقول ابن عباس بأن العاديات هي الخيل.

    قال الله تعالى: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا[العاديات:2].

    الخيل تضرب بحوافرها الحجارة فتتقد ناراً.

    وقال عكرمة : الموريات قدحاً هي الألسنة؛ لأنها تقدح الحجج وتظهره، قال ابن عطية رحمه الله: وهذا على سبيل الاستعارة وليس على الحقيقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فالمغيرات صبحاً.. فوسطن به جمعاً)

    قال الله تعالى: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا[العاديات:3].

    المغيرات: هي الخيل تغير على العدو صباحاً، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: وهذا على الأغلب، أي: الأغلب أن الغارة تكون صباحاً.

    وتعلمون في الحروب الأخيرة هذه الأيام أن أعداء الله عز وجل يبدءون بصب نيرانهم وحممهم في وقت الفجر أو في وقت السحر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أغار على قوم فوصل ليلاً ينتظر حتى إذا أصبح أغار عليهم عليه الصلاة والسلام، كما قال: (الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

    يقول تعالى: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا[العاديات:4].

    أي: أنَّ هذه الخيل هيجت تراباً وغباراً، والنقع: هو التراب، وقيل: بل المراد بالنقع الصوت، ومنه قول عمر رضي الله عنه لما توفي سيف الله المسلول خالد رضي الله عنه فاجتمع أهله من النساء يبكين: ما على نساء بني المغيرة أن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقعاً أو لقلقة، فالنقع هو رفع الصوت بالبكاء.

    يقول سبحانه: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا[العاديات:5].

    أي: هذه الخيل توسطت العدو، وهذا كله حكاية عما كان في تلك السرية، سرية المنذر بن عمرو الأنصاري ، فهذه الخيل عدت وأغارت وأثارت تراباً وتوسطت أولئك الأعداء من بني كنانة ، وسلمهم الله عز وجل وأغنمهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود. وإنه على ذلك لشهيد)

    أقسم الله عز وجل أقسم بالخيل ووصفها بأنها عاديات، وأنها موريات، وأنها مغيرات، والمقسم عليه قول الله عز وجل: إن الإنسان لربه لكنود[العاديات:6].

    وكلمة (كنود) الكاف والنون والدال من كند تحمل معنى الجحود، وقبيلة كندة من قبائل العرب المعروفة، ومن ينسب إليها يقال له: الكندي، قيل سميت كندة بهذا الاسم؛ لأنهم جحدوا أباهم وأنكروه.

    فالإنسان كنود، يعني: جحود كفور، وقيل: هو الذي يذكر المصائب وينسى النعم، وهذا حال كثير من الناس، إذا سألته عن حاله قال لك: والله أنا عيني فيها كذا وكذا وكذا، هذا حالنا جميعاً، وينسى أن الله سلم له الأخرى، وسلم الأذنين، وسلم اليدين، وسلم الرجلين، وأنه لا شيء فيه، فقط صار همه في عينه.

    وقيل: الكنود هو الذي لا يشكر الكثير، وينسى اليسير، يعني: لو أعطاه الله يسيراً نسيه، ولو أعطاه كثيراً ما شكره.

    وقيل: الكنود هو الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده.

    وقيل: الكنود هو العاصي الذي يستعمل نعم الله في معصيته سبحانه.

    وقيل: الكنود هو البخيل سيئ الملكة، يعني: لو أن الله ملكه أناساً؛ مثلاً: تحته زوجة تراه يسيء معاملتها، تحته أولاد يسيء معاملتهم، تحته عمال أو خدم فهو سيئ الخلق معهم.

    وقيل: الكنود هو الحسود الحقود والعياذ بالله.

    وقيل: الكنود هو الذي إذا مسه الخير كان منوعاً، وإذا مسه الشر كان جزوعاً.

    قال القرطبي رحمه الله: وهذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الجحود والكفران.

    هذه صفة الإنسان إلا من رحم الله، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ[العاديات:6] يجحد نعمه جل جلاله، ونعمه لا تحصى، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[إبراهيم:34].

    قال تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ[العاديات:7].

    أي: يشهد على ذلك بحاله، كما قال الله عز وجل: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ[التوبة:17].

    قال سيد قطب رحمه الله في الظلال: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ يوم ينطق بالحق، يوم لا يستطيع أن يكذب، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النور:24] هذا حالهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد)

    قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[العاديات:8].

    الخير في القرآن هو المال، ومنه قول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ[البقرة:180] فالخير هنا هو المال، فقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ قال ابن زيد رحمه الله: سمى الله عز وجل المال خيراً؛ لأن الناس يعتقدونه خيراً، وربما يكون شراً، كما سمى الله القتل سوءاً رغم أنه قد يكون خيراً، قال الله عز وجل: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ[آل عمران:174].

    يعني: القتل، والقتل قد لا يكون سوءاً؛ لأن بعده عز الإسلام، وارتفاع رايته، وظهور كلمته، والقتيل نفسه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فالله عز وجل سمى المال خيراً باعتبار حال الناس.

    قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[العاديات:8] قال أهل التفسير: أي: يحرص على جمع المال من كل وجه.

    ذم البخل والتنفير منه

    قال بعضهم: الشديد في قوله ها هنا: ((الشديد)) هو البخيل، واستدلوا بقول القائل:

    أرى الموت يغتال الكرام ويعتام صولة الباخل المتشدد

    يعني: وصف البخيل بأنه متشدد.

    وهذه السورة لو ضممناها إلى ما قبلها في سورة الفجر، فإنَّ الله عز وجل ذم أناساً فقال: كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[الفجر:17-20].

    وقال في سورة الليل: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى[الليل:8-9].

    وسيأتي بعدها في سورة الماعون: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ[الماعون:7] بعد أن قال: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الماعون:2-3].

    وخلاصة هذه الآيات أن الله عز وجل عد البخل من أراذل الأخلاق، ومن أقبح الصفات التي يتصف بها الإنسان، نسأل الله العافية.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أقسم عليهن: لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم، ولا يجتمع في قلب شح وإيمان أبداً) الإيمان والشح لا يجتمعان.

    صور من كرم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته

    كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً وأكثرهم بذلاً، وكان أطولهم يداً، وقد ورث منه هذه الصفة الصحابة الكرام، وخاصة أهل البيت عليهم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقد خرج الحسن و الحسين و عبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم في سفر فذهبت رواحلهم -يعني: كأنهم ناموا في مكان، ففقدوا ما كانوا يركبون عليه، وعليها الطعام والشراب- فجاعوا وعطشوا وتعبوا، فأووا إلى خيمة امرأة عجوز، قالوا لها: هل من شيء نشربه؟ وما كان عندها إلا شاةً صغيرة، فقالت: خذوا تلك الشاة واحلبوها واخلطوا اللبن بالماء واشربوا، فشربوا، حتى رووا، ثمَّ قالوا لها: هل من طعام؟

    فنظرت المرأة وقالت: ليقم أحدكم إلى هذه الشاة فيذبحها -وما عندها غيرها-، فقام أحدهم فذبحها وكشطها -أي: سلخها-، فصنعت لهم طعاماً فأكلوا وشبعوا، ثم قالوا لها: جزاك الله خيراً، نحن نفر من قريش فإذا أتيت إلى المدينة أصبت منا خيراً وذهبوا، فجاء زوجها وسألها: أين الشاة؟ قالت: قدم نفر من قريش فكان من خبرهم كذا وكذا فذبحتها لهم، وهم نفر من قريش، فقال: فعل الله بك وفعل بك، دعا عليها وسبها، ثم أصابتهم فاقة؛ فتركوا مكانهم وجاءوا إلى المدينة، وزوجها ينقل الحطب، وبينما هي تمشي يوماً و الحسن رضي الله عنه جالس أمام بابه عرفها وهي له منكرة، فقال لها: يا أمة الله! أما تذكرينني؟ أنا الذي مررت بك في يوم كذا، وفعلت بنا كذا وكذا، قالت: أنت هو بأبي وأمي! قال: إي والله، قال لها: اصبري! فأرسل غلامه فابتاع ألف شاة من غنم الصدقة وأعطاها إياها ومعها ألف دينار، ثم بعث بها إلى الحسين قال لها: كم أعطاك أخي؟ قالت له: ألف دينار وألف شاة، فأعطاها ألف دينار وألف شاة، ثم جاءت إلى عبد الله بن جعفر ، فقال لها: كم أعطاك أخواي؟ قالت: كل منهما أعطاني ألف شاة وألف دينار، فأعطاها ألفي شاة وألفي دينار! وقال لها: والله لو بدأت بي لأتعبتهما.

    فرجعت هذه المرأة بأربعة آلاف شاة، وأربعة آلاف دينار، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سبأ:39].

    صورة ونموذج من البخلاء

    هناك أناس عهد عنهم الشح والبخل وضرب بهم المثل، حتى إن الجاحظ ألف كتاباً سماه (البخلاء) وذكر فيه قصصاً هي أغرب من الخيال.

    فذكر عن واحد اسمه محمد بن يحيى بن خالد بن برمك أنه كان بخيلاً بخلاً عجيباً، وأخذ نسيبه أخو زوجته يسأل عنه، قالوا له: كيف مائدة محمد بن يحيى ؟ قال: طولها فتر في فتر، يعني: شبر في شبر! قيل له: فكيف صحافه؟ قال: كحب الخشخش، قيل له: ما يأكل معه أحد؟ قال: نعم، الكرام الكاتبون! قيل له: ما يغشى مائدته أحد؟ قال: والله إلا الذباب، قالوا له: ثوبك مخرق، قال: والله ما أملك إبرة لأخيطها، قالوا: هلا سألته الإبرة؟ قال: والله لو جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب عليه السلام؛ فسألوه إبرة ليخيط بها ثوب يوسف الذي قد من دبر ما أعطاه.

    فنعوذ بالله من هذا البخل! هذا مثل لإنسان بلغ القمة في البخل والشح والإمساك والتقتير، والله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ[النساء:36-37]، والبخيل فوق بخله يتهم الكريم بالسفه، ويحثه على البخل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ...)

    قال الله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ[العاديات:9].

    أي: هذا الإنسان ما فكر في ذلك اليوم الذي يخرج الله عز وجل فيه ما في القبور، كما مر معنا: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا[الزلزلة:2].

    يقول تعالى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ[العاديات:10].

    أي يبتلي الله كل امرئ بنيته، قال عز وجل: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ[الطارق:9].

    يقول تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ[العاديات:11] أي: العالم بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765119602