إسلام ويب

دورة الأترجة القرآنية [4]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة الأنعام نزلت من السماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، وفيها ذكر نعم الله على الناس وكفر الكافرين بربهم، وفيها جزاء من عصى الله وترك أمره، وفيها ذكر محادة الكفار وعنادهم في عدم الإيمان برسول الله، وكثرة أسئلتهم المقترحة، ومع هذا فقد رد الله عليهم رداً عقلياً أبهتهم، وهذا هو الثابت الموجود في كتاب الله.

    1.   

    تفسير سورة الأنعام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين. أما بعد:

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل ...)

    سورة الأنعام الآية الأولى قال في كلمات الغريب: [ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1] وأنشأ وأبدع، الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:1] يسوون به غيره في العبادة.

    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ [الأنعام:2] كتب وقدر زماناً معيناً للموت، وزمن معين للبعث مستأثراً بعلمه، ثُمَّ أَنْتُمْ [الأنعام:2] تشكون في البعث أو تجحدونه، أي: المعبود أو المتوحد بالألوهية.

    وهو الله فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3] ].

    قال في التفسير الميسر: [ هو الذي خلق أباكم آدم من طين وأنتم سلالة منه، ثم كتب مدة بقائكم في هذه الحياة الدنيا، وكتب أجلاً آخر محدداً لا يعلمه إلا هو جل وعلا وهو يوم القيامة، ثم أنتم بعد هذا تشكون في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت.

    والله سبحانه هو الإله المعبود في السموات والأرض، ومن دلائل ألوهيته: أنه يعلم جميع ما تخفونه أيها الناس وما تعلنونه، ويعلم جميع أعمالكم من خير أو شر; ولهذا فإنه جل وعلا وحده هو الإله المستحق للعبادة.

    فهؤلاء الكفار الذين يشركون مع الله تعالى غيره قد جاءتهم الحجج الواضحة والدلالات البينة على وحدانية الله جل وعلا، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته، وما جاء به، ولكن ما إن جاءتهم حتى أعرضوا عن قبولها، ولم يؤمنوا بها ].

    الفرق بين خلق وجعل في قوله: (خلق السموات والأرض وجعل ...)

    قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، من باب الفائدة إذا جئنا إلى ألفاظ القرآن، لم يرد خلق الظلمات والنور في القرآن، وإنما الذي ورد جعل، فعندما نأتي إلى مثل هذا يرد سؤال: لماذا اختير الجعل في الظلمات والنور، والخلق في السموات والأرض؟ الذي أردته هو أنهم قالوا: الثناء على الله بصفاته التي كلها أوصاف وكمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، فهو الذي أنشأ السموات والأرض، وخلق الظلمات والنور، فقد فسروا الجعل بمعنى الخلق، وهذا من باب تغيير العبارة، والمراد من الجعل هنا خلق الظلمات، وليس التصيير الذي هو تحويل من شيء إلى شيء، ومعنى ذلك أن الأولى هي بمعنى الثانية، ولكن خالف بينهما بناءً على التفسير الميسر، مخالفة الألفاظ من باب التفنن، وإلا في النهاية فالمعنى واحد عندهم، أو أن يكون خلق شيء وجعل شيء آخر؛ لأن المخلوق أمر مرتبط بالذوات، والمجعول مرتبط بصفات الذوات؛ لأن الظلمات والنور مرتبطة بالسموات والأرض، التي هي مرتبطة بالشمس والقمر.

    والذي أريده وأقصد إليه أن البحث عن هذه الدقائق عسير وأحياناً يدخله التكلف، ولهذا ما نجد عند السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم البحث والفحص عن مثل هذه الفروقات بين جعل وخلق، ولماذا عبر بخلق هنا؟ ولماذا عبر بجعل هنا؟ وإنما كانوا يفسرونها على ظاهرها، لكن لا يعني هذا أنه لا يصح لنا أن نبحث، وأن ننقب عن المعنى، لكن ينتبه إلى أنه قد يقع التكلف في هذا الأمر.

    معنى قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)

    ثم قال: فإن الكافرين ليسوون بالله غيره ويشركون به، فـ(يعدلون) بمعنى يميلون، يعني: عدل عن الشيء إذا مال، فهم يميلون عن التوحيد إلى الشرك، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يعدلون، وليس المراد بالعدل هنا العدل المحمود، وإنما هذا عدل مذموم، وبناءً على هذا ينتبه إلى أن اللفظ الواحد قد يأتي لأكثر من معنى، وهو الذي يسمى عند علماء العربية بأحرف التضاد، فيعدلون في هذا الموطن بمعنى يميلون عن الحق إلى الباطل، ويميلون عن التوحيد إلى الشرك، ولكن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فهذا هو العدل المحمود، فإذاً ننتبه إلى أنه وإن اتفقت المادة إلا أن لها معنى هنا، ولها معنى نقيضه في موطن آخر، وهذا ما يسمى عندهم بالأضداد، وهو نوع من المشترك اللفظي.

    مناسبة أول سورة الأنعام مع آخرها

    هذه المقدمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، ونريد أن نربط بين أول السورة وآخر السورة، قال في آخر السورة: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].

    فلو نحن أردنا أن نربط بين آخر آية وأول آية في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] بقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165]، وهذا ما يسمى برد العجز على الصدر، العجز الذي هو آخر الشيء على الصدر الذي هو أوله، وهذا أيضاً من المباحث التي بحثها العلماء وأفاضوا فيها، مثل كتاب نزل قريباً في السنوات الأخيرة للسيوطي، وهو في المطالع والمقاطع، يعني: مطلع السورة وخاتمة السورة نفسها، والعلاقة بينهما، وخاتمة السورة ومطلع السورة التي بعدها، فهذا يدل على الترابط، وهذا مما يقع فيه نوع من التكلف، ولكن أحياناً يبين المعنى ويكون معنى واضحاً، وأحياناً قد يخفى حتى يحتاج الإنسان إلى أن يتكلف التدبر؛ لكي يبرز الرابط الموجود بين معاني هذه الآيات، فلو اجتهدنا في محاولة الربط ما العلاقة بين آخر هذه السورة وأول السورة؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165] مع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، فمن تفضيله وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الأنعام:165] يعني: هو خلقهم، فبعضهم مؤمن وبعضهم كافر، ولا شك أن درجة المؤمن أعلى من درجة الكافر.

    وقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، يعني: إن بعضهم كفر بربه، وبعضهم آمن، هذا احتمال، فإن هذا باب واسع جداً للاجتهاد، ويقع فيه شيء من التكلف.

    قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ [الأنعام:165] يتناسب مع ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ففيه نوع من التناسب؛ لأن تقديم التهديد مناسب للذين كفروا بربهم، هذا عند أخذ آية مع آية، ولكن عند أخذ جملة من الآيات مع جملة من الآيات في الآخر سيكون نوع أيضاً من الترابط أوسع وأكثر؛ لأن الربط إذا كان بين آية وآية يضيق أكثر.

    العلاقة بين المعجزة والإيمان بها

    ثم في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4] قضية وهي أنه لا يلزم من رؤية الآيات الإيمان بها، فالكفار قد رأوا عياناً انشقاق القمر ومع ذلك ما آمن منهم إلا قليل، وادعوا أنه سحر من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن القرآن كان ينزل عليهم وهو أعظم المعجزات ومع ذلك ما آمنوا به، وبعضهم آمن به ولكنه كفر جحوداً.

    فإذاً المقصود من ذلك أننا حينما نأتي إلى مثل هذا الأمر يجب أن نعلم أن بعض الناس في نفسه إشكال في قضية الإيمان، مع وضوح الأمر عنده، مثلما حصل لـأبي طالب ، فـ أبو طالب موقن يقيناً تاماً أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، ولكن منعه ما منعه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبناءً على هذا عندما نأتي إلى مثل هذه الأمور في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون عندنا نوع من الاعتدال في التعامل، وأن يكون عندنا اعتدال في قضية الطرح، والاعتدال في التعامل مثلما قلنا: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [النور:54]، فهو يأتيهم بالآيات ويشاهدونها ومع ذلك يكفرون، فإذاً هناك نفوس عصية، والله سبحانه وتعالى يقول لـموسى في أول دعوته هو وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44]، مع أنه سابق في علم الله أنه كافر، وأنه سيموت على الكفر، ومع ذلك يأمر موسى عليه الصلاة والسلام وهارون عليه الصلاة والسلام بأن يتلطفا بالقول معه (لعله يتذكر أو يخشى)، وهذا يدل على أن الإنسان مأمور بأن يعمل من منظوره هو، ولا يتألى على الله ويقول: إن هذا الإنسان لن يهديه الله، ولن تكون له هداية، وإنما أنت تعمل من منظورك أنت كبشر، فالأصل عندك أنك إذا دعوت بالدعوة الصحيحة أن يستجاب لك، إذا لم يستجب لك فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولا تكلف نفسك عليهم، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)

    قال صاحب الغريب رحمه الله: [ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ [الأنعام:4-5] أخبار وهو ما ينالهم من العقوبات مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:5].

    أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ [الأنعام:6] أمة من الناس، أعطيناهم من المكنة والقوة فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا [الأنعام:6] المطر عليهم غزيراً كثير الصب، وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام:6] ].

    قال في التفسير الميسر: [ لقد جحد هؤلاء الكفار الحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، وسخروا من دعاته; جهلاً منهم بالله واغتراراً بإمهاله إياهم، فسوف يرون ما استهزءوا به أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم، وسيجازيهم عليه.

    ألم يعلم هؤلاء الذين يجحدون وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده العبادة، ويكذبون رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم من هلاك وتدمير، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أيها الكافرون، وأنعمنا عليهم بإنزال الأمطار وجريان الأنهار من تحت مساكنهم؛ استدراجاً وإملاءً لهم، فكفروا بنعم الله تعالى، وكذبوا الرسل، فأهلكناهم بسبب ذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم أمماً أخرى خلفوهم في عمارة الأرض ].

    قاعدة العبرة بعموم اللفظ وضابطها

    قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [الأنعام:5]، هذا الخطاب موجه لكفار قريش، ولا يكون هذا الخطاب في قوله: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:4-5]، مقتصراً على قريش فقط، وإذا أدخلنا غير قريش في معنى الآية لنا طريقان:

    الطريق الأول: تعميم اللفظ.

    والطريق الثاني: القياس. وبعض من يقل تعاطيه للتفسير، أو لا يفهم منهج التفسير يظن أن العبرة بعموم اللفظ قاعدة سائغة يطلقها في كل حين، وهذا ليس بصواب؛ لأن عندنا قواعد فيها تقييدات، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا إذا كان في الخطاب ما يدل على نوع من التخصيص، فهذا يخرج، لا تُستخدم قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بدون أن يكون هناك ما يدل على أن المراد بالخطاب العموم نفسه، وليس أنه يقاس عليه، ونستطيع أن نفرق بين هذا وذاك في النظر في الآيات، فمثلاً قوله تعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4]، هل هذا الخطاب يحصل لجميع البشر أنهم إن أتتهم آيات من آيات ربهم فيكونون مخاطبين به؟ إذا كان يحصل لجميع البشر فإنهم دخلون في الخطاب، وإذا كان لا يحصل لجميع البشر فمعنى ذلك أنه لا يدخل في الخطاب هذا إلا من يصلح له قياساً وليس تعميماً للفظ.

    حضارتنا وسنن الله عز وجل في هذا الكون

    قال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام:6].

    هنا نأخذ قضية أخرى وهي كيف نظرنا نحن أصحاب هذه الحضارة لمعطيات الحضارة عندنا؟ يعني عندنا أمران: عندنا مقال، وعندنا حال، مقال وهو أن بعض من يتكلم عن حضارة اليوم يقول بمقاله، أو يزعم أن هذه الحضارة حضارة ثابتة لن تزول، وأنها قد رسخت أقدامها في الأرض واستطاعت أن تعمر الأرض عمارةً لم تعمر قبلها، وقد يقول: لن تعمر بعدها، وهذا من شدة ثقته بما أوتي من العلم وما أوتي من الحضارة، وحال كثير من الناس أنه يظن أن هذه الحضارة لن تزول، وكيف تزول هذه الحضارة الضخمة والكبيرة، وهذا لا شك أنه ظن فائل، وأنه رأي ضعيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى يخبرنا في القرآن أنه أهلك أمماً سابقة، ولا يمكن أن يجزم الإنسان اليوم أنه لم توجد في هذه الأرض حضارات أفضل من هذه الحضارة التي نعيشها، لكن أياً ما كان الأمر فالمسألة مرتبطة بقضية الزوال، ولذا نحن نقول يقيناً: إن هذه الحضارة زائلة بلا ريب، وإن هذه الحضارة ما دامت سائرة على هذه الطريقة التي نراها اليوم فهي طريقة لا ترضي الله سبحانه وتعالى، وأن سنن الله سبحانه وتعالى لن تتخلف، فسيلحقها مثلما ما لحق الحضارات السابقة، ولذا الله سبحانه وتعالى يقول: (ما لم نمكن لكم)، فالذي عندنا أشد مما كان عند كثير ممن قبلنا؛ سرعة الاتصال. وكثرة الآلات، وأشياء كثيرة من الحضارة التي بين يدينا، ولكن مع ذلك بتقدير من الله سبحانه وتعالى أن يقول لشيء: كن فيكون، فيتغير كل ما في هذه الأرض، وتتغير أشياء كثيرة جداً.

    مسألة استشراف المستقبل والمعركة الفاصلة في فلسطين

    ومن باب الفائدة فيما يتعلق بقضية ما يسمى باستشراف المستقبل، عندنا هذه الآية التي تتكلم عن تلك الحضارات، ومع الأسف نجد أن الغرب يبحث عن جميع النبوءات الموجودة في العالم يميناً ويساراً، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ويمر بالمسلمين ولا يأبه لهم أبداً، وكأن المسلمين ليس عندهم أي نبوءات لما سيكون في المستقبل، وكأنه ليس عندهم كتاب ولا خبر من نبيهم ماذا سيحدث، والآن دراسات تقوم، وما يحاول أن ينتجه ساسة الأفلام في هليود في هذا الموضوع بالذات الذي هو قضية استشراف المستقبل، ولا تجد فيه أبداً أي حديث عن نبوءات نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وهذا لا شك أنه متعمد ومقصود ألا يذكر؛ لأن النبوءات الموجودة عندنا نبوءات لا توافق ما يريدون، ومن أكبر النبوءات الموجودة الآن عندهم والتي يتحدثون عنها ما يسمونه (بهر مجدون) التي هي المعركة الفاصلة الكبيرة التي تحدث في فلسطين عند جبل هر مجدون بين الكفار والمؤمنين، وهذا في نظرهم هم، وبنظر الصليبين أن عيسى عليه الصلاة والسلام يخرج، وأنه يقتل اليهود، ويقتل أيضاً المسلمين، واليهود يقولون: إنه سيخرج وهو مسيحهم الدجال، فإذاً هناك معركة كبيرة جداً، مع أن لنا طرفاً، وعندنا نبوءات مرتبطة بهذا، إلا أنهم لا يذكرون ما عند المسلمين ألبتة، الذي أقصده أننا بحاجة إلى أن ننظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نعرف كيف نخطو للمستقبل، وسأذكر مثالاً من باب التمثيل، والمثال لا يعترض عليه، وهو من يرى أن الصين وتلك الجماعات التي في شرق آسيا من هذه الأقوام هم يأجوج ومأجوج، وينظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وحربنا مع الروم، وأن جزءاً كبيراً جداً من الروم يسلمون، استشراف المستقبل بناءً عليه يجعلك لا تدعو الصينيين للإسلام، فالصينيون يأجوج ومأجوج فلا تشغل بالك كثيراً بدعوتهم، ولا تضع في دعوتهم مثلما تضع في دعوة الغرب كمثال، وأقصد من ذلك أننا تأملنا ما في كتاب الله سبحانه وتعالى وما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقنا من الاستشراف في شيء من المستقبل المتعلق بنا نحن المسلمين، وحاولنا جاهدين أن نعمل من خلال هذا الاستشراف، وليس المقصود أننا نعجل أو نسرع بقضية ما، وإنما نستفيد من الواقع الذي نعيشه بناءً على هذه المعطيات المستقبلية عندنا، فإنا سنجني شيئاً كثيراً، وهذه الإشارة من خلال ما ذكره سبحانه وتعالى في قوله: مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، معناه أن هناك حضارات بادت، وهذه الحضارات التي بين يدينا في يوم من الأيام ستزول، فأين دورنا نحن؟ هذا الذي أسأل عنه في قضية استشراف المستقبل؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى لا تتبدل ولا تتغير.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس ...)

    قال صاحب الغريب رحمه الله: [ (ولو نزلنا عليك) مكتوباً في كاغدٍ أو رقٍّ، (فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين).

    وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ [الأنعام:8] لا يمهلون لحظةً بعد إنزاله.

    وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [الأنعام:9] ولخلطنا وأشكلنا عليهم حينئذ ما يخلطون على أنفسهم اليوم.

    وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:10] فأحاط وأنزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10].

    قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11] ].

    قال في التفسير الميسر: [ ولو نزلنا عليك أيها الرسول كتاباً من السماء في أوراق فلمسه هؤلاء المشركون بأيديهم لقالوا: إن ما جئت به أيها الرسول سحر واضح بين.

    وقال هؤلاء المشركون: هلا أنزل الله تعالى على محمد ملكاً من السماء ليصدقه فيما جاء به من النبوة، ولو أنزلنا ملكاً من السماء؛ إجابةً لطلبهم لقضي الأمر بإهلاكهم، ثم لا يمهلون لتوبة، فقد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.

    ولو جعلنا الرسول المرسل إليهم ملكاً إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لجعلنا ذلك الملك في صورة البشر، حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته، إذ ليس بإمكانهم رؤية الملك على صورته الملائكية، ولو جاءهم الملك بصورة رجل لاشتبه الأمر عليهم، كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم.

    ولما كان طلبهم إنزال الملك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم بين الله تعالى له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمراً حادثاً، بل قد وقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم، فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يهزءون به وينكرون وقوعه ].

    ما يستفاد من لفظة قرطاس في سورة الأنعام

    يقول تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]، نستفيد من كلمة (قرطاس) كونه نزل في قرطاس أنه محفوظ من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يلحقه أي تغيير أو أي تبديل، لو نزل عليهم من السماء في قرطاس.

    أيضاً (في قرطاس) فائدة أخرى، وهي إشارة إلى قضية كتابة المصحف قال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ [الأنعام:7]، ومعنى ذلك أنه أحد الأدوات المعروفة للكتابة عند العرب والتي يعرفونها هي القرطاس، ولكن في عهد الصحابة لم يكن عندهم قرطاس بحيث أنهم يكتبون جميع المصحف فيه، بل كان عندهم أدواتهم التي بين يدينا، فلما ذكر القرطاس هنا كان فيه إشارة إلى نوع من الإعجاز الذي ليس موجوداً عندهم؛ لأن القرطاس نادر عندهم، فكونه يكتب في قرطاس، وينزل عليهم كاملاً هذا لا شك أنه آية من آيات الله عليهم.

    قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7]، واللمس يكون بغير اليد، والأصل فيه أنه يكون باليد، فقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7] هو زيادة تأكيد أنهم عاينوه معاينة يقينية، ووصل الأمر عندهم إلى حق اليقين.

    قال: لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]، وكما قلت: إن هذا فيه دلالة على أن الكافر كافر، وهذا الكافر كفره متأصل، وليست المسألة أن تأتي آية لكي يؤمن، وإنما هو معاند وجاحد، وتساؤلهم هو مجرد مقترح للآيات وطلب للآيات ليس إلا، وهذا الصنف يوجد إلى اليوم، ويوجد من فيه مثل هذه الخصلة من المسلمين، لكن ليس في قضايا الكفر وإنما في قضايا أخرى، فهذه طبيعة بشرية.

    الرد على الكفار الذين طلبوا أن يكون الرسول من الملائكة

    وَقَالُوا [الأنعام:8] أي: من باب الاقتراح لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8]؛ لأن رؤية الملك لا تكون إلا عند الموت، فكان هذا نوعاً من التهديد والتنبيه من الله سبحانه وتعالى عليهم كما ذكر بعض السلف أن الملك لا يرى، وإذا رؤي لا يرى إلا في حال الموت في صورته الملكية، أما في صورة كونه بشراً فممكن، مثلما حصل لجبريل في تشبه بـ دحية أو غيره من الملائكة.

    قال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً [الأنعام:9]، يعني: لو قبلنا اقتراح هؤلاء وجعلناه ملكاً أي: جعل الرسول ملكاً، فلا يمكن أن يخالطهم بالطبيعة الملائكية؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يأخذوا عنه، فهو مختلف الطبيعة، قال: لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9]، يعني: خلطنا عليهم فسيكون الأمر مختلطاً عليهم، وسيقع مرة أخرى نوع من الدور، أنتم تطلبون ملكاً، ولا يمكن أن ينزل ملك في صورة الملائكية، وإن نزل ملك في صورة الملائكية فمعنى ذلك أنه انتهى الأمر، ولو نزل بصورة البشرية لعاد الأمر مرةً أخرى إلى كونه بشراً، فإذاً لا محيد ولا سبيل عن أن يكون الرسول من البشر، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنعام:10].

    فإذاً طلب هذه المقترحات هو نوع من الهزل والسخرية، وليس المراد من هذا الطلب كونهم يريدون الإيمان حقاً؛ لأننا كما نعلم في طلب الكفار آية وهي انشقاق القمر فحصل ذلك الطلب ومع ذلك لم يؤمنوا، فإذاً اقتراح الآيات هو دلالة على عدم القناعة، وعدم وجود الصدق في الإيمان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين)

    قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]، ختم هذا المقطع بقوله لهؤلاء الذين طلبوا هذه المقترحات وهم كفار قريش: سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]، المكذبين قبلكم الذين شاركوكم بنفس الطلبات، وطلبوا من أنبيائهم ما طلبوا، فسيروا وانظروا ماذا فعل الله سبحانه وتعالى بهم، فليس أمامهم إلا عذاب الاستئصال، يعني: أغلب هذه الأمم كان فيها عذاب الاستئصال، وهم يعرفون قوم شعيب ، ويعرفون قوم لوط ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137-138]، ويعرفون ثمود، ويعرفون صالحاً، ويعرفون نوحاً، كل أخبار هذه الأقوام يعرفونها، فهذا من باب التهديد لهم فيما يتعلق بقضية هذه المقترحات التي طلبوها.

    1.   

    الأسئلة

    كون المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم أو الأمة

    السؤال: [ما الفرق بين الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته والموجه له والمراد به هو نفسه؟]

    الجواب: والله هذا يحتاج إلى بحث، فالخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو صلى الله عليه وسلم.

    والخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته.

    والخطاب الموجه للمؤمنين مباشرةً.

    فهذه أنواع الخطابات، وما هو الفرق خاصة الخطاب الذي وجه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، هل هناك فرق بالقوة بينه وبين ذاك؟ هذا والله أعلم يحتاج إلى بحث، وهذا موضوعه يطول السؤال عن الإعجاز العلمي.

    معنى (إذ) في بداية الآيات

    السؤال: هل (إذ) في رأس الآية تأتي بمعنى واذكر؟

    الجواب: هكذا قدرها بعض النحويين، فإذا جاءت (إذ) تكون واذكر إذ، وكثير من المفسرين والنحويين على هذا التقدير.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755977844