إسلام ويب

تاريخ القرآن الكريم [7]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن أرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار مع من يقرؤها ظهر القراء، وانتشروا في الأمصار، فكان في المدينة نافع، وفي مكة ابن كثير، وفي البصرة أبو عمرو، وفي الشام ابن عامر وفي الكوفة عاصم وحمزة والكسائي. وكل طرق هؤلاء القراء لا تخرج عن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تاريخ القرآن بعد جمع عثمان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    فهذا اللقاء نعقده للحديث عن تاريخ القرآن بعد جمع عثمان رضي الله تعالى عنه.

    الأمصار التي أرسل عثمان إليها مصاحف والمقرئين

    جمع عثمان رضي الله عنه الناس على المصاحف وأرسل للأقطار الخمسة -بعد أن أبقى مصحفاً في المدينة وكان عند زيد -، فأرسل إلى مكة مصحفاً وكان المقرئ عبد الله بن السائب ، وإلى الشام وكان المقرئ المغيرة بن شهاب ، وإلى الكوفة وكان المقرئ أبا عبد الرحمن السلمي ، وإلى البصرة وكان المقرئ عامر بن قيس .

    فهذه الأمصار التي أرسل إليها عثمان رضي الله عنه المصاحف وانتسخ لنفسه مصحفاً.

    أحياناً علماء الرسم يطلقون عليه "المصحف الإمام" الذي يخصون به مصحف عثمان الذي كان بيديه، وأحيانًا يقولون: المصحف الإمام ويريدون أحد المصاحف الستة، يعني: مصحف عثمان وما معه.

    أسباب عدم إرسال مصاحف إلى اليمن ومصر والبحرين

    ذكر في بعض الآثار أن عثمان أرسل إلى اليمن ومصر والبحرين، خصوصاً اليمن والبحرين، ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أنه لم يكن لأهل اليمن والبحرين ومصر مصاحف والسبب الذي يمكن أن يقال في مثل هذا: أن المناطق التي أرسل إليها عثمان رضي الله عنه في تلك الفترة كانت مناطق التفويج أو الورود للجهاد، يعني: إما أن تكون مناطق تفويج، أو تكون مناطق ورود، فما من أحد من المسلمين إلا ويمر إلى مكة والمدينة، فأهل اليمن وأهل البحرين يأخذون من هؤلاء، والدليل على ذلك تتبع التاريخ، فلو راجعنا تاريخ القراءات في اليمن، وفي البحرين، وفي مصر؛ فسنجد أنها قد أخذت من أحد هؤلاء القراء.

    وقد كانت البصرة والكوفة والشام في ذلك الوقت مناطق حضرية فيها ورود ثم تصدير للمجاهدين حتى للعلماء.

    فإذاً: الحراك الأكثر في الناس كان في هذه المناطق، فيبدو - والله أعلم - أن عثمان بن عفان اختار هذه دون غيرها لهذا السبب، وليس لكون الصحابة غير قادرين على زيادة المصاحف، وإنما اكتفوا بهذا العدد لأجل هذا الغرض والله أعلم. هذا تخريج لسبب تخصيص هذه المدن بالذات دون غيرها.

    1.   

    ظهور القراء المختصين

    بعد أن انتهى الاختلاف في القراءات وحددت القراءات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووزعت هذه المصاحف كما سبق أن نبهتكم على التفريق بين ما لا يمكن رسمه وما لا يمكن، وأرسل معها هؤلاء القراء؛ صار كل مصر يقرءون بحسب المصحف الذي أرسل إليهم وحسب الإمام الذي يقرئهم فيه، بمعنى: أن رسم المصحف له اعتبار في قضايا وهو مرجع فيها، مثل: قضية الحذف والإثبات كقوله تعالى: تَجْرِي تَحْتَهَا[التوبة:100]، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا[البقرة:25].

    لما أقرأ هؤلاء الناس القرآن، وصاروا مرجعهم في الإقراء فإنه لم يوجد أي خلاف في قبول ما أقرأ به هؤلاء، وما فيه هذه المصاحف بين المسلمين إطلاقاً، عدا الكلام الذي ذكرناه عن ابن مسعود وانتهى، لكن بعد جيل الصحابة لا يوجد اختلاف بين المسلمين إطلاقاً في قبول ما أقرأ به هؤلاء وما في هذه المصاحف، بمعنى: أنه حدث الإجماع جيلاً بعد جيل على ما في هذه المصاحف، وعلى ما أقرأ به هؤلاء، والدليل على ذلك: أنك ستجد أن هؤلاء هم الطرق إلى القراءات السبع والعشر.

    من أوائل القراء

    بدأ يظهر بعد جيل الصحابة القراء المختصون بالإقراء منذ جيل التابعين، وحينما نتتبع كتب القراءات والتراجم نجد أنه ظهر في طبقة التابعين قراء متخصصون في الإقراء، مثل أبي عبد الرحمن السلمي وهو من كبار قراء التابعين، وقد جلس في مسجد الكوفة يعلم الناس القرآن فقط مدة أربعين سنة، والذي أجلسه - كما قال هو - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فتصور هذا العمر أربعين سنة في تخصص واحد، وهو الإقراء، وقس عليه غيره من علماء القرآن إلى اليوم، بروز التخصص الدقيق في قضية الإقراء.

    وهذه المرحلة كانت قبل تسبيع السبعة وتعشير العشرة، ويمكن أن نسميها بمرحلة ظهور الإقراء في الأمصار، وتصدر علماء القراءة بطبقاتهم، حتى صار الإقراء ظاهراً بارزاً، وأضحى من العلوم التي يقصد إليها العالم مثل ما قصد ورش نافع بن أبي نعيم وقرأ عليه القرآن، وكانوا يقصدون نافعاً من جميع الأقطار ويقرءون عليه. أما قضية اختيار القراء فستأتي.

    فإذاً هذه المرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة: ظهورا الإقراء والمقرئين المتخصصين في القرآن.

    ضعف بعض أئمة الإقراء وسببه

    هؤلاء تخصصوا وتمحضوا للإقراء فقط؛ ولهذا لا تستغرب أن يوجد في بعضهم من ينسب إلى الضعف في علم الرواية في الحديث، لكنه في القراءة إمام؛ ولذا تجد في تراجم بعضهم أنه: إمام في القراءة، لكنه لين في الحديث أو ضعيف؛ لأن هذا تخصص في الإقراء، وضبط القراءة غير ضبط الأحاديث النبوية.

    فلا إشكال في هذا، وهذا أمره واضح جدًا مستقرأ بالعقل؛ فهناك أناس يكونون متخصصين في شأن واحد، ويكون أحدهم أضبط من الآخر.

    فإن قال قائل: كلها رواية: رواية قرآن، ورواية حديث، فلماذا اختلف الرأي فيه؟ فنقول: نعم، كلها رواية، لكن هذا تخصص وهذا تخصص؛ وعلينا أن نستحضر هذا الأمر ونحن نتحدث عن تاريخ القراءة.

    1.   

    ظهور الاختيار في القراءات

    أيضاً في هذه المرحلة كان ظهور الاختيار في القراءات، وهذه مرحلة مهمة جداً؛ لأنها مبنية على الأحرف السبعة التي سنربطها بالقراءات؛ لأننا إذا تأملنا جيل الصحابة رضي الله عنهم لما وزعت هذه المصاحف ووزع القراء عليها، وجاء بعدهم جيل التابعين؛ فإننا لا نجد أن قراءة من القراءات المعتبرة اليوم تخرج عن إحدى هذه القراءات التي أرسل عثمان بها إلى الأمصار، ولا عن أحد هذه المصاحف، فهذه المصاحف إذا رجعنا إليها مرة أخرى؛ نجد أنها قد أبقت ما يمكن رسمه من الأحرف السبعة، وأما ما لا يمكن رسمه فإنه يتلقى من طريق القراء.

    وكان هؤلاء القراء مع الرسم يضيفون ما لا يمكن رسمه من الصوتيات، مثل: الإمالة والإشمام والإدغام والإخفاء، هذه أمور لا يمكن رسمها، وإنما تأتي بالتلقي.

    أقسام الخلاف الوارد في القراءات

    فإذا أردنا أن نحسب الخلاف الوارد في القراءات فإنه على قسمين:

    ما يمكن رسمه، وما لا يمكن رسمه، فالذي لا يمكن رسمه هو ما يتلقى مشافهة لارتباطه بالصوت؛ وأما ما يمكن رسمه فمن أمثلته: (وصى) و(أوصى) ومثل (وسارعوا) وفي قراءة (سارعوا)، (وسابقوا)، وفي قراءة (وسابقوا) و(تجري تحتها) وفي قراءة (تجري من تحتها)، هذا يمكن رسمه.

    ومع ذلك يتلقى أيضاً من القراء؛ لأنه مرتبط بالشكل، مثل: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ[الفجر:25]، وقراءة أخرى: (لا يعذَّب عذابه أحد).

    فضبط القراءات إنما يأتي متأخراً فيها، لكن ليس كل قراءة يمكن ضبطها، فقضية ضبط المرسوم ما استطاع الصحابة أن يرسموه رسموه، ثم جاء العلماء بعدهم فأضافوا ما يمكن أن يضبطوا به فضبطوه بالنقط والشكل، كما هو معروف من تاريخ القرآن.

    إذاً هذه المرحلة مرحلة الاختيار في القراءات مرتبطة بالمرسوم والصوتيات كما قلنا.

    الرأي المختار في معنى الأحرف السبعة

    لو سأل سائل: ما هي الأحرف السبعة؟

    هناك خلاف طويل، وأقوال كثيرة، لكن سأذكر لكم الرأي المختار وهو: أن الأحرف السبعة أوجه قرائية منزلة، قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرأ بها الصحابة، فكيف نستطيع أن نستنبط هذه الأوجه القرائية المنزلة، وكيف نعرفها؟

    من خلال القرآن الموجود بين أيدينا اليوم بجميع وجوهه، فإذا رجعنا إلى الاختلاف الوارد في القراءات اليوم فإنه لا يخرج عن أن يكون من جهة المرسوم: إما رسماً وإما بعد ضبطه، أو من جهة الصوتيات، يعني: لا يخرج الخلاف في القراءات من أحد هذه الجهات: إما مرسوم، والمرسوم إما أن يكون متنوعاً، موزعاً، وإما أن يكون جاء ضبطه متأخراً، مثل: (يعذِّب) و (يُعذَّب) وإما مرتبط بالصوتيات، مثل: الإمالة والإدغام وأبواب التجويد المعروفة هذه، فمثلًا: الوقف على التاء (نعمت) (ورحمت) المقطوع والموصول كلها مرتبطة بالمرسوم، فكيفما رسمت في المصحف تقرأ، فهذه من فوائد الرسم التي يمكن أن نرجع إليها.

    كيفية التعامل مع الخلاف الوارد في القراءات

    أي خلاف وارد نتعامل معه بإرجاعه إلى الأصول. وهذه الأصول يتكون منها أنواع الاختلاف الواردة في القراءات، وأنواع الاختلاف الواردة في القراءات كثيرة، منها: التذكير والتأنيث، الغيبة والخطاب، الإفراد والجمع، والفك والإدغام، والإمالة والفتح، وهناك أيضًا: ما يتعلق بالهمزة وعدم الهمز، وغير هذا كثير. هذه الأوجه التي نزل بها القرآن على سبعة أحرف، يعني: سبعة أوجه، لا يجتمع منها في الكلمة الواحدة أكثر من سبعة أوجه بحال، وهو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف )، أي: سبعة أوجه قرائية، لماذا سبعة أوجه قرائية؟ لأننا إذا رجعنا إلى الأحاديث سنجد أن عمر يقول: سمعته يقرأ على غير الذي أقرأني رسول الله، إذاً: هو يسمع شيئاً مقروءً، فهذا وجه قرائي، ( فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ هشام ؛ قال: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر ! فقال رسول الله: هكذا أنزلت ).

    إذاً: الموضوع مرتبط بوجوه قرائية: بكيفية النطق، وكيفية القراءة.

    فإذاً أنواع الاختلاف متعددة، لكن لا يجتمع من أنواع الاختلاف في الكلمة الواحدة أكثر من سبعة أوجه، فإذا سأل سائل وقال: فإننا اليوم لا نجد أكثر من ستة أوجه في كلمة أو كلمتين؟ فنقول: نعم، الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الاستزادة حتى وصل إلى سبعة، لكن يمكن أيضًا أن نصنع بحثاً ونقول: ما هي أكثر الأوجه قراءة في القرآن؟ هل هي الأوجه الثنائية، أو الأوجه الثلاثية، أو الأوجه الرباعية، أو الأوجه الخماسية، أو الأوجه السداسية؟

    سنجد أنها في الحقيقة مترتبة: الثنائي ثم الثلاثي ثم الرباعي ثم الخماسي ثم السداسي، أما السباعي فلا يوجد، وبما أنه لا توجد أوجه سبعة، فأين الوجه السابع؟ نقول: هذا مما ترك، من الذي يحق له أن ينسخ ويترك؟ هو الذي أنزل، كما سبق أن قررنا القاعدة.

    قلنا: إن الخلاف في الأوجه: ثنائي، ثلاثي، رباعي، خماسي.

    أمثلة على الأوجه القرائية

    دعونا نأخذ الآن الثنائي والثلاثي على التصوير:

    الثنائي يحتمل أن تكون أربعة من الأمصار قرأت بوجه، ومصر قرأ بالوجه الثاني، الاحتمال هذا موجود. فإذا كان ثنائياً فأربعة قرأوا بوجه، وواحد قرأ بالوجه الباقي وبهذا حفظ القرآن بوجوهه، إذا كان ثلاثياً يحتمل أيضاً أن ثلاثة قرأوا بوجه وواحداً قرأ بوجه، وثالثاً قرأ بالوجه الثالث، أو اثنان قرأوا بوجه واثنان آخران قرأآ بوجه، وواحد قرأ بوجه ثالث، بمعنى: أن هذه الوجوه على تعددها لا يمكن أن تضيع؛ لأنها موجودة في المصاحف.

    لما جاء القراء يقرءون لقراء التابعين وأتباع التابعين ماذا حصل؟ تعرفون أن القراء لا يلتزمون في جيل التابعين وأتباع التابعين بما قرأوا على مشايخهم في مدنهم، بل يتنقلون ويقرأون على غيرهم.

    فلما يقرأ البصري على أئمة البصرة سيضيق عنده الخلاف، ولما ينتقل إلى مكة ويقرأ على علماء مكة؛ يأتي عنده وجوه ما كانت موجودة عندهم في البصرة، فصار عنده عدد من الوجوه، ولو قرأ على علماء المدينة زادت عنده الوجوه، لكن هذه الزيادة في الوجوه في تعدد الطرق وليس في الوجوه نفسها، يعني: في النهاية هي ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية، أو سداسية، ما تتعداها، لكن الذي يتعدد عنده أنه لما يأتي يقول: وقرأت: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24]، على الكوفي كذا، وعلى البصري كذا، وقرأت: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24] على المكي كذا وعلى المدني كذا، مثلًا، إذاً صار هناك تعدد في الذين أقرأوا، وليس هناك تعدد في الوجوه.

    نزيد الأمر إيضاحاً هذا الإمام نافع لما قرأ على التابعين الذين يقول عنهم في إحدى الروايات: إنه قرأ على سبعين من التابعين، ولكن المتواتر عنه أنه قرأ على خمسة، هذا الذي يثبته العلماء ومنصوص عليهم، هؤلاء الخمسة الذين قرأ عليهم، هل نتصور أن قراءتهم واحدة؟ أو عندهم أوجه متعددة؛ لأنهم يحتمل أنهم أخذوها من كثير من القراء: من البصرة، من الكوفة، فلو تصورنا: هل يمكن أن يجتمع عند نافع أكثر من وجهين؟ يمكن في: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24]؟ ما يجتمع، لكن يجتمع عنده أكثر من طريق؛ لأنه يجب أن نفرق بين الطرق والأوجه القرائية.

    إذاً: معنى ذلك أن القراءات سارت على هذا الأسلوب: تتعدد الطرق ضمن الوجوه الجائزة الموجودة، ولم يُترك وجه جائز قرئ به أمام النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً؛ لأن القرآن قد نقل - كما قلنا - جيلاً بعد جيل، بكل قراءاته.

    اختيار الإمام نافع

    نذكر لكم مثالاً:

    نافع بن أبي نعيم المقرئ قرأ على جماعة وبعضهم يقول: المتواتر أنه قرأ على الخمسة، ويذكرون آخرين قرأ عليهم.

    يقول نافع : قرأت على هؤلاء، وهذا يرويه عنه إسحاق المسيبي يقول: قرأت على هؤلاء - يعني: الذين أخذ عنهم - فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد، تركته وألفت هذه القراءة، أي: قراءته برواية قالون ، وهي التي اختارها؛ لأن له منهجاً في الاختيار يقول: (قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته حتى ألفت هذه القراءة) قوله: (ما شذ) لا يعني: أنها قراءة شاذة غير مقبولة؛ لكن هذا منهج له جاء وقرأ على هؤلاء العلماء واختار قراءة له.

    فلكي نفهم كيف نشأ الاختيار فنعلم أن أي قراءة من القراءات السبع الأصل فيها أنها اختيار، فـنافع الآن اختار من قراءة هؤلاء ما اتفق عليه اثنان.

    فإذا اتفق اثنان على وجه فهذا تعدد طرق، واتفاق في الوجه.

    نافع رضي الله عنه ورحمه اعتمد على الاختيار للقراءة التي يختارها هو، إذا جاء يقرئ يقرئ بهذه القراءة التي أخذها عنه قالون ؛ ولهذا يسمون رواية قالون عن نافع : قراءة السنة؛ لأنها صدرت عن المدينة وعن أهل المدينة، و مالك يقول: قراءتنا سنة.

    لكن نريد أن ننظر كيف فعل نافع لما جاءه ورش ؛ يقول ورش :

    خرجت من مصر لأقرأ على نافع ، فلما وصلت المدينة، سرت إلى مسجد نافع ؛ فإذا هو لا تطاق القراءة عليه من كثرة الذين يقرءون عليه وإنما يقرئ ثلاثين، فجلست خلف الحلقة، وقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع ؟ فقال لي: كبير الجعفريين، يعني: من أبناء جعفر الطيار ، قال: فقلت: فكيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله، قال: وجئنا إلى منزله فخرج شيخ فقلت: أنا من مصر، جئت لأقرأ على نافع فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه، فقال: نعم، وكرامة! وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى نافع ، وكان لـنافع كنيتان: أبو رويم و أبو عبد الله ، فبأيهما نودي أجاب، فقال له الجعفري : هذا وسيلتي إليك جاء من مصر ليس معه تجارة ولا جاء لحج إنما جاء للقراءة خاصة، فقال: ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، يعني: أنهم كثير، كيف أقدمه عليهم؟ فقال صديقه: تحتال له، فقال نافع : أيمكنك أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم، قال: فبت في المسجد؛ فلما كان الفجر جاء نافع فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا رحمك الله! قال: أنت أولى بالقراءة؛ لأن نافعاً كان يقدم الأقرب، كفعل بعض المشايخ، الذي يأتي أولاً يجلس، ثم الذي بعده يجلس خلفه.. وهكذا، قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت مداداً به، قال: فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقرأت ثلاثين آية، فأشار بيده أن أسكت، ثم حينما طلب منه القوم أن يأخذوا حصصهم، فبقي في المدينة وقرأ حتى أنهى القرآن كاملاً ورجع إلى مصر.

    إذا جعلنا موازنة في الخلافات بين ورش و قالون فسنجد أن قراءة قالون هي الوجه المختار لدى نافع ، ولكن هل رد نافع ورشاً في حرف واحد؟ ما ذكر أنه رده في أي حرف، ونستنبط من هذا: أن هذا الوجه الذي قرأ به قالون على مشايخه في مصر وجه معروف معتبر عند نافع ، ولكنه ليس اختيارهم فقط، أما الذي اختاره فهو القراءة التي يقرئ بها الناس، والقراءة التي قرأ بها ورش على مشايخه في مصر، هي وجه معتبر معروف عند نافع ، لكن نافعاً لم يكن يختار هذا الوجه الذي قرأ به ورش ، وإنما يقرئ الناس بالذي قرأ به قالون ، وهذا يفهمنا أسلوب الاختيار عند القراء، وأن القارئ لما يختار قراءة لا يعني أنه يرد غيرها وينكرها، فأما قول نافع : فمن شذ في واحد تركته، فمعناه: أن يختار لنفسه.

    طرق القراء لا تخرج عن وجوه القراءة المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم

    إذا جئنا إلى اختيارات جميع الأئمة بطرقهم: إذا قلنا العشرة بطرقهم العشرين، فهي لا تخرج عن هذه الوجوه التي ذكرناها، وإنما تتعدد الطرق؛ ولهذا نقول: وقرأ نافع و أبو عمرو و ابن كثير كذا، وقرأ فلان وفلان كذا، فالمعنى أن كل القراء في النهاية يتجهون إلى وجهين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، في الحد الذي تصل إليه القراءات.

    إذاً يتضح لنا أن الاختيار في جميع القراءات لم يترك شيئاً مما نزل بالأحرف السبعة، لا من جهة الرسم الذي يمكن رسمه، ولا من جهة الذي يتلقى مشافهة.

    1.   

    شروط القراءة المقبولة

    في هذه الفترة أيضًا بدأت تظهر شروط القراءة المقبولة، وهي فترة ما بعد الصحابة إلى تسبيع السبعة، وشروط القراءة المقبولة تؤخذ من خلال التراجم، ويجب أن ننتبه إلى أن الاختيار المقبول لا يعني أن غيره شاذاً.

    وشروط القراءة المقبولة هي: صحة السند، وهو شرط لا بد منه، واشتهار القراءة، وتلقي العلماء لها بالقبول.

    فأي قراءة وجدت فيها هذه الشروط الثلاثة فإنها هي القراءة المقبولة.

    ونلاحظ أنه قد يصح السند لكن القراءة لا تشتهر، وقد يصح السند وتشتهر القراءة، لكن لا يتلقاها العلماء بالقبول، لكن لا يمكن أن يتلقى العلماء بالقبول ما لم يصح سنداً ويشتهر قراءة.

    ضوابط القراءة المقبولة

    ثم جاءت بعد ذلك ضوابط لمعرفة القراءة المقبولة، هذه الضوابط يجب أن ننتبه لها؛ لأنها دقيقة جداً وليست شروطًا، وإنما نقول: إنها ضوابط، وهي التي أدخل فيها قضية اللغة والرسم، وقالوا عنها: أركان القراءة، وهي ليست أركاناً، وإنما هي ضوابط، ما نتكلم نحن عن التواتر، قالوا: التواتر هو: موافقة وجه من العربية، وموافقة الرسم ولو احتمالاً، لكن نقول: لا، إذا تواترت القراءة انتهى كل ما بعدها كشرط اللغة والرسم.

    بدأت تبرز قضية شروط القراءة المقبولة، لكي نعرف لماذا لم تقبل قراءة الأعمش و الأعمش من كبار القراء؟

    نقول: قراءته صحيحة ومشهورة، لكنها لم تتلق بالقبول؛ لأن هناك أسباباً جعلتها لا تقبل، كذلك قراءة ابن محيصن ، كذلك غيرهما من القراءات التي ثبتت وصحت لكن لم تتلق بالقبول.

    إذاً الذي اشتهر وارتفع ذكره من هذه القراءات هي: قراءة هؤلاء الأئمة العشرة بعد أن صار تعشير العشرة.

    1.   

    ظهور شذوذ القراءات وطرق معرفتها

    أيضاً بدأ يبرز شذوذ القراءات، والعبارة التي سبق قبل قليل أن ذكرتها: أن ما شذ أو ما انفرد؛ لا يعني عدم القبول؛ لأن المراد بالشاذ هو ما لا يقبل.

    كيف نعرف الشاذ الذي لا يقبل؟ بعد أن عرفنا هذه الأوجه المتكاثرة التي تلقيت مما بقي على الأحرف السبعة على حسب ما هو وارد في المصاحف الستة ومتلقى عن أئمة القراءة في ذلك العصر فأي قراءة لا نجدها متلقاة عن أئمة القراءة في ذلك العصر، أو نجد أنها مخالفة لرسم المصحف؛ فإنها تكون قراءة شاذة.

    إذاً: الأصل الأول في معرفة الشذوذ هو: الرجوع إلى جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ ولهذا فقوله: (والذكر والأنثى) نعتبرها قراءة شاذة ولا يجوز القراءة بها؛ لأنه عُرف شذوذها في عهد عثمان رضي الله عنه لما جمع المصحف.

    مخالفة بعض القراء لرسم المصحف

    بعد عثمان بفترة كان لبعض القراء شيء من المذاهب فأدخل شيئاً في القراءات على طريقة معينة، وهناك مثالان في تاريخ القراءات لم يمر فيما أعرف غيرهما:

    المثال الأول: ابن شنبوذ وهو: محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت ، توفي سنة ثلاثمائة وثمان وعشرين، هذا كان يرى جواز القراءة بالشاذ المخالف لرسم المصحف، مع أن من كبار علماء القراءة، لكن لكل جواد كبوة، فينتقد عليه هذا ولكن تحفظ له جلالته وعلمه، فلا يأتي واحد فيذكر ابن شنبوذ كأنه ذكر واحداً من المبتدعة؛ وقد استتيب وكتب عليه محضر، ويمكن أن تراجعوا هذا في ترجمته. فهو كان يقرأ بالقراءات التي ثبتت عن الصحابة، ولكنها مخالفة لرسم المصحف مثل: (والذكرِ والأنثى) ومثل: (فاليوم ننحيك ببدنك) وغيرها من القراءات.

    الرجل الآخر توفي سنة ثلاثمائة وأربع وخمسين وهو: محمد بن الحسن بن يعقوب المشهور بـابن مقسم ، وهذا كان يجيز القراءة بما وافق العربية، ولو لم يكن وارداً، وأيضاً هذا استتيب بحضرة الفقهاء وأذعن للتوبة.

    وقد قيل: إنه لم ينزع عن مذهبه هذا.

    فهذان مثالان من كبار علماء القراءات، وقع عندهم مثل هذا، وقد يكون عن شبهة، وليس عن إصرار وتعمد؛ لأن هؤلاء علماء كبار ولهم كتب في القراءات، لكن وقع لهم شبه في ذلك، واستحكمت عندهم الشبه حتى ذهبوا هذا المذهب؛ فصار هذا يقرئ بما صح عنده مما خالف الرسم، وذاك يقرئ بما صح عربية وإن لم يكن وارداً، وهذا خطأ وهذا خطأ، وذكرت لكم هذين المثالين لكي تعرفوا أنه لم يرد في تاريخ القراءات غير هذين المثالين في هذا الموضوع..

    فما أورد له مثالاً، لكنه ما صح عنده عربية، قرأ به ولو لم يكن وارداً.

    إذا نظرنا إلى هذا وهذا؛ نعرف معنى اشتراط الرسم وصحة العربية مع النقل.

    فإذاً لما جعل العلماء هذه الأمور من الضوابط؛ جاءوا وردوا بها على مثل هؤلاء الذين وقع عندهم مثل هذا الأمر الخطير وهو القراءة بما لم يرد، إما لأنه وارد عن الصحابة لكن مخالف للرسم، وإما لأنه جائز عربية.

    مرجع شذوذ القراءة

    إن الذي شذ في القراءات إما أن يكون مرجعه إلى المصحف الذي جمعه عثمان ؛ فما خرج عنه فهو شاذ، وإما أن يكون الحكم عليه بالشذوذ في قراءات ليس لها أسانيد أو افتعلت، مثل ما فعل ابن مقسم رحمه الله، فنقول: أيضاً هذه من الشاذ.

    إذاً: القراءات الشاذة قد تكون قراءة صحيحة مسندة، وقد تكون قراءات منسوبة ليس لها أسانيد، وقد تكون قراءات غير موجودة، لكن ما نقول: مكذوبة، صحيح، لكن في حال ابن مقسم نقول: مفتعلة، فأي قراءة من هذه فإنا نجعلها من الشاذ.

    رأي في تقسيم القراءات

    أنا أرى أن القراءات لا تقسم مثل ما يقسم الحديث: القراءات المتواترة، قراءات الآحاد، القراءة المشهورة، القراءة الشاذة؛ لأن القراءات إما مقبولة وإما شاذة فقط، قسمان، ولا فائدة في هذه التقسيمات، أو يقال: قراءة مدرجة، هذه ما فيها فائدة علمية ولا لها أثر علمي، فنجعل هذه القراءات قراءات شاذة، مثل: (يأخذ كل سفينة صالحة غصباً) نقول: هذه قراءة شاذة، (والذكر والأنثى) قراءة شاذة.. وهكذا؛ لأنها مقابل القراءة المقبولة بالشروط التي سبقت قبل قليل.

    1.   

    تسبيع السبعة والاعتراض على بعض القراءات

    هذه إشارة سريعة إلى ما وقع في تاريخ القرآن بعد جمع عثمان رضي الله عنه إلى أن سبع ابن مجاهد السبعة، بعد تسبيع ابن مجاهد السبعة؛ بدأت خطوط تاريخ القراءات تبرز وتتضح أكثر من ذي قبل، لكن المرحلة هذه - التي قبل ابن مجاهد - مرحلة لا زالت تحتاج إلى بحث وتحرير وإن وجدت فيها بحوث.

    ومن باب الفائدة فإن قضية الاعتراض على القراءات وإنكار بعض القراءات قضية بحثية علمية مجردة، لا تمس تواتر القرآن ونقل القرآن.

    مثلًا: ثبت أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى كان يرى أن قراءة ابن عامر شاذة غير مقبولة عنده؛ فشذوذها عند عالم لا يعني شذوذها عند غيره، فهي قد قبلت عند غيره.

    أيضاً اعتراض بعض الأئمة مثل: ابن مجاهد على بعض وجوه القراءة عند ابن عامر أو حمزة أو غيره لا يؤثر أيضاً على نقل القرآن وتواتره.

    كتب تراجم القراء

    كتاب معرفة القراء الكبار له فائدة عظيمة جداً، وهو أنه رتب الطبقات على الإقراء، وليس على الوفيات، فلو راجعنا ترتيب الطبقات عند الإمام الذهبي في طبقاته؛ فإنه سيظهر لنا من هم الذين تخصصوا في الإقراء من الصحابة، ومن الذين أخذوا منهم من الصحابة ومن التابعين، ومن الذي أخذ عن التابعين من التابعين وأتباع التابعين، بمعنى: أن الطبقة الواحدة قد يدخلها صحابة وتابعون، مثل الطبقة الثانية: طبقة دخلها أبو هريرة و ابن عباس وجملة من التابعين، والطبقة الثالثة: جملة من التابعين، قد يدخل معهم أتباع التابعين.. وهكذا، بمعنى: أن الطبقات في الإقراء تبين من قرأ على فلان، وهذا مفيد جداً في تصور انتقال هذه القراءات.

    ولا شك أن ما فعله الذهبي رحمه الله تعالى في هذه الطبقات ليس هو الواقع كله؛ لأن الذين يقرئون ولم يشتهروا قد يكونون أكثر من الذين قرأوا واشتهروا، وإنما عرف من اشتهر بالإقراء فنقل.

    أيضاً لو رجعنا إلى كتاب " التيسير " ونظرنا فيه سريعاً؛ لكي نتصور فكرة انتقال القراءات، فقد ذكر في باب ذكر الرجال، ذكر رجال نافع فقال: نافع الذين سماهم خمسة، يعني: سمى نافع خمسة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع و أبو داود عبد الرحمن بن هرمز و شيبة بن نصاح و أبو عبد الله مسلم بن جندب الهذلي و أبو روح يزيد بن رومان ، قال: وأخذ هؤلاء القراءة على أبي هريرة و ابن عباس و عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن أبي بن كعب يعني: كل هؤلاء أخذوا عن أبي بن كعب ؛ إذاً هذا الطريق مدني الأصل، عن أبي بن كعب .

    رجال ابن كثير ذكر منهم ثلاثة: عبد الله بن السائب المخزومي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم و مجاهد بن جبر و درباس مولى ابن عباس ، وأخذ عبد الله عن أبي نفسه ، وأخذ مجاهد و درباس عن ابن عباس عن أبي و زيد بن ثابت ، إذاً ابن عباس أخذ عن أبي وعن زيد .

    رجال أبي عمرو ذكر منهم جماعة من أهل الحجاز ومن أهل البصرة، من أهل الحجاز: مجاهد و سعيد بن جبير و عكرمة بن خالد و عطاء بن أبي رباح و عبد الله بن كثير و محمد بن عبد الرحمن بن محيصن و حميد بن قيس الأعرج ، ومن أهل المدينة: يزيد بن القعقاع و يزيد بن رومان و شيبة بن نصاح ، ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن البصري و يحيى بن معمر وغيرهما، وأخذ هؤلاء القراءة عمن تقدم من الصحابة.

    رجال ابن عامر ذكرهم وهم من أقل الرجال في الطرق أي: رجال ابن عامر ، على أنه أخذ عن أبي الدرداء صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، و المغيرة بن شهاب المخزومي ، وأخذ أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ المغيرة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    رجال عاصم : أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي و أبو مريم زر بن حبيش ، وأخذ أبو عبد الرحمن عن عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و أبي بن كعب و زيد بن ثابت و عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ زر عن عثمان و ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: طريق الكوفيين: طريق عاصم الكوفي هذا يمر بـابن مسعود ، وهو يفك لنا بعض الإشكالات التي مرت بالأمس لما ناقشنا موقف ابن مسعود .

    حمزة ، رجال حمزة جماعة منهم: أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش وقراءته شاذة -كما مر معنا-، و محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى و حمران بن أعين و أبو إسحاق السبيعي و منصور بن المعتمر و المغيرة بن مقسم و جعفر بن محمد الصادق وغيرهم.

    وأخذ الأعمش عن يحيى بن وثاب ، وأخذ يحيى عن جماعة من أصحاب ابن مسعود : علقمة و الأسود و عبيدة بن نضيلة الخزاعي و زر بن حبيش و أبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذاً أيضاً قراءة حمزة تصل إلى ابن مسعود .

    رجال الكسائي : قال: ورجال الكسائي : حمزة بن حبيب الزيات و عيسى بن معمر الهمداني و محمد بن أبي ليلى وغيرهم من مشيخة الكوفيين، غير أن مادة قراءته واعتماده في اختياره على حمزة ، وقد ذكر من اتصال قراءته لقراءة حمزة .

    قال أبو عمرو الداني : فهذه تسمية رجال أئمة القراءة السبعة بالأمصار.

    ولو ذهبنا وعملنا شجرة تشجيرية؛ سنعرف من هم قراء الصحابة الذين اشتهروا بالإقراء أو جلسوا لإقراء الناس، ومن الذين أخذوا منهم.

    لكن هذا التشجير لا يعني أن الذين كانوا يقرأون القرآن في المسلمين فقط هم هؤلاء، وإنما هؤلاء هم الذين اشتهروا بالإقراء، واتفق المسلمون عليهم. لو قلنا: صحة السند، هذه ما فيها غبار، في قضية السبعة، واشتهارها، وتلقي العلماء بالقبول؛ واضح جداً، وإلا لو لم تتلق بالقبول ما وصلت إلينا وصارت تقرأ الروايات القرآنية، فأحب أن تنتبهوا لهذه الحيثية؛ لأنها مهمة جداً، في مناقشة تاريخ القرآن من الجهة العقلية؛ لأن النقل عندنا متواتر: نقل جيل عن جيل عن جيل، وهكذا -كما قلت لكم- لا يكاد يوجد في أي كتاباً على الأرض أياً كان، سواءً كان كتاباً سماوي الأصل أو كان غير سماوي الأصل؛ أنه يأخذ جيل عن جيل بهذه الطريقة الموجودة في القرآن.

    1.   

    مظاهر عناية المسلمين بالقرآن

    نأتي الآن إلى ثلاثة أفكار سريعة نختم بها الدرس:

    لعلنا نبدأ بمظاهر عناية المسلمين بكتابهم، ممكن نذكر بعض المظاهر:

    عناية الصحابة والتابعين ومن بعدهم بقراءته وإقرائه

    منها: عناية الصحابة والتابعين ومن بعدهم بالقرآن وإقرائه، وهذا مرجعه كما قلت لكم: كتب التراجم، وكتب القراءات، فلو قرأ واحد في كتب التراجم والقراءات سيرى مدى العناية التي كان يوليها الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم بإقراء القرآن وتلقيه وسماعه.

    ظهور الاختصاص بالإقراء

    المظهر الثاني: ظهور الاختصاص بالإقراء منذ عهد الصحابة إلى اليوم، لم ينقطع هذا البتة في أي طبقة من طبقات علماء الإسلام، وإن انقطع في قرية، أو في مدينة، أو في إمارة من إمارات المسلمين؛ فلا يعني أنه انقطع في غيرها؛ ولهذا ما من ديار عامرة بالعلماء إلا وتجد الإقراء أحد العلوم التي يعتني بها العلماء، فظهور هذا الاختصاص منذ عهد الصحابة إلى اليوم هو من أكبر مظاهر عناية المسلمين بالقرآن، فكيف يغيب عنهم حرف أو يغيب عنهم شيء منه؟! لا يمكن.

    أيضاً: قراءة القرآن في المحاريب، خصوصاً في رمضان، ولنعلم أن المسلمين كانوا يحرصون جداً على ختم القرآن في رمضان، وتتعدد المساجد في الختمات: من يختم ثلاث مرات، من يختم أكثر من ذلك، أقلهم من يختم مرة وهم الأغلب، وفي الصلوات المفروضة عدا ما يصليه الإنسان لنفسه، كذلك في المحافل، وهذا أيضاً كان مشهوراً، وتجد حتى في بعض أزمنة المسلمين في مصر وغيرها كانت ترتب منارة لإقراء القرآن، يقرأ فيها على مدار الأربعة والعشرين ساعة، يقسم القراء فيها حسب الزمن، يأتي قارئ ويقرأ مثلاً أربعة أجزاء، إذا انتهى يكون القارئ الذي بعده ينتظره، وهكذا، ليل نهار وهم يقرءون.

    " كتاب الوظائف الإسلامية " من ثلاثة مجلدات، كتاب جميل جداً ولطيف، ذكر القراء وذكر هذه الفائدة في مصر منارة كانت مخصوصة للقراء، والناس الذين يحبون أن يستمعوا القرآن يأتون عند المنارة ويجلسون يستمعون، نحن -الحمد لله- اليوم من الله علينا بالتقنيات الكثيرة فصار الإنسان يسمعه في السيارة، وفي بيته وفي الكمبيوتر إن شاء.. هكذا. فهذا كان نموذجاً لما يصنعه المسلمون اهتماماً بالقرآن، وهذه لا تكاد توجد في كتاب غيره.

    عناية العلماء بطبقات القراء

    ومن مظاهر العناية -وهي عناية فائقة-: عناية العلماء بطبقات القراء، وقد كتب في طبقات القراء كتب كثيرة بعضها موجود وبعضها غير موجود، كما كتب في القراءة كتب أخرى أيضاً، لكن أتكلم الآن عن الكتب التي اختصت بطبقات القراء، أما ما لم يخص بهم فهو كثير جداً، وما من ترجمة عالم إلا وتجده يقول: قرأ القرآن على فلان، حفظ القرآن على فلان.

    العناية بعلومه المتنوعة

    أيضاً من العناية الفائقة أيضاً بالقرآن: العناية بعلومه المتنوعة، ومن أخصها بالنسبة لنا علم القراءات، كم الكتب التي كتبت في القراءات؟ لا تحصى، كثيرة، وقد يسأل سائل فيقول: قرأ أبو عمرو ، وقرأ حفص وقرأ فلان، يعني: موجودة، فلو اكتفينا بما كتبه صاحب التيسير؛ ما خرج المتأخرون عما سيقوله، أليس كذلك؟ ومع ذلك ما من عالم يبرع في هذا العلم إلا تجده يؤلف، الكتابة في علم القرآن شرف لا يضاهيه شرف؛ فيكتبون ولا تكاد تجد واحداً من كتب هذه القراءات كتبه هؤلاء الأئمة يختلف عما كتبه الآخر، وهذا دليل من أدلة حفظ هذا الكتاب، ما يأتي واحد مثلًا في القرن السادس يقول: وقرأ أبو عمرو البصري كذا، ويكون قرأ أبو عمرو البصري غير ذلك إلا أن يكون مخطئاً؛ ولهذا يستدرك عليه أنه أخطأ في هذا، ولا يوافقه أحد على هذا؛ فاتفاق هؤلاء الأئمة جيلاً بعد جيل في مناطق متعددة غير أن يكون بينهم تواطؤ على كتابة القراءات بنفس القراءات لا تتغير، لا شك أنه دليل كبير جداً على حفظ هذا الكتاب.

    ومن أخصها أيضاً بعد علم القراءات: علم التفسير، انظر كم الكتب التي كتبت في تفسير القرآن، وكتب التفسير تعتمد على الشيء المكتوب، فهل رأيتم كتاباً في التفسير فسر شيئاً غير القرآن على أنه من القرآن؟ أو فسر قراءة شاذة على أنها هي القراءة المقبولة؟ أبداً، بل تجد أن من مصادر كتب التفسير: كتب معرفة القراءات الشاذة، فمثلاً ابن عطية استفاد من كتب القراءات المتقدمة مثل: كتاب أبي حاتم السجستاني في القراءات، فإذاً حتى العلماء حفظوا الشاذ وغير الشاذ؛ فإذا كانت العناية إلى هذه الدرجة فكيف يأتي من يطعن في القرآن اليوم؟! هذه بعض المظاهر، ولو تأملتم لوجدتم مظاهر أخرى غير هذه.

    1.   

    موضوعات تاريخ القرآن الكريم

    نأتي إلى موضوعين نختم بهما هذا اللقاء:

    الموضوع الأول: من خلال ما كتب في موضوعات تاريخ القرآن ما هي الموضوعات التي تحدث عنها من كتب في تاريخ القرآن، سواء من الموافق أو من المخالف، يعني: عموماً؟

    من خلال ما قرأته حصرت ثلاثة موضوعات تتوجه إليها الكتابة في تاريخ القرآن وما يتعلق به:

    الموضوع الأول: مصدر القرآن، الذي هو الوحي، هل مصدر القرآن إلهي، أو كما يزعم المخالفون لنا من الكفار بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذه عن غيره؟! مصدر القرآن.

    طعن بعض النصارى والمستشرقين في مصدر القرآن

    من باب الفائدة - أريد أن تنتبهوا إلى فائدة - فيما يتعلق بمصدر القرآن، وهي قضية عقلية تحتاج إلى نوع من منطق في النقاش، دائماً إذا جاء نقاش احرص على أن تعرف القسمة العقلية لما تناقش به، مثلًا: لما أقول لك: هذا الكوب ممتلئ أو غير ممتلئ؟ ما هناك قسمة ثالثة. قد تكون هناك قسمة ثالثة ما ننتبه لها؛ لأن (ممتلئ) معناه: أنه ممتلئ كله، غير ممتلئ ليس فيه أي شيء، في القسم الثالث يمكن أن يدخلها الذي هو جزء منه فيه ماء مثلاً، ما الذي يحصل لما يناقشنا النصارى والمستشرقون في بعض القضايا؟ نجد أنا ما ننتبه إلى تكميل القسمة العقلية، فهم إلى اليوم يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ من كتب اليهود والنصارى، وهذا احتمال لو نحن نتنزل مع الخصم؛ نقول: صحيح، هذا احتمال وارد، ما نخالفكم عليه عقلاً، احتمال أن يأخذ من كتب اليهود والنصارى، لكن هل هذا هو الاحتمال الوحيد؟

    لماذا لا يكون اليهود والنصارى أخذوا من كتب أخرى، ومحمد صلى الله عليه وسلم أخذ من هذه الكتب الأخرى التي أخذ منها اليهود والنصارى، فاتفقوا في المصدر؟ هذا الاحتمال وارد عقلاً أو ليس وارداً؟ وارد، سيقول لك: إنه لا يوجد، نقول: لا، أنتم وعلماؤكم والباحثون الذين يسمونهم الباحثين التوراتين أثبتوا -وإن كنا لا نقتنع بما وصلوا إليه- أن كثيراً من قصص أسفار بني إسرائيل أصولها موجود في قصص قديمة جداً قبل أسفار بني إسرائيل؛ فنحن من باب الجدل نقول: إذاً أنتم مخصومون حتى ممن بحث في كتبكم، فهذا محتمل.

    والصحيح أن المصدر واحد، وهو مصدر إلهي؛ فنزل على هؤلاء، ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لكن هم دائمًا يجعلون القسمة أحادية في هذا، أو قسمة ثنائية وثلاثية، والقسمة تحتمل أكثر من هذا، أحب أن تنتبهوا لهذا فيما يتعلق بمصدر القرآن.

    1.   

    الموضوعات القرآنية المرتبطة بالتاريخ

    الموضوع الثاني من الموضوعات التي يتكلمون عنها: موضوعات القرآن المرتبطة بالتاريخ، يعني: التاريخ الذي حول القرآن، مثل: المكي والمدني، وأسباب النزول، كل هذه مرتبطة بتاريخ القرآن.

    نقل القرآن الكريم

    الموضوع الثالث وهو الذي عنينا بنقاشه معاً في هذه اللقاءات الذي هو نقل القرآن، وإلا فالموضوعات الأخرى فيها كلام طويل، لكننا قصدنا في هذه اللقاءات ما يتعلق بنقل القرآن.

    إذاً عندنا موضوعات تاريخ القرآن تكلم عنها المخالفون والموافقون، يعني: علماء الإسلام وغيرهم، إما أن يكون النظر في مصدر القرآن، هل المصدر إلهي أو ليس بإلهي، وكذلك موضوعات القرآن المرتبطة بالتاريخ، مثل: أسباب النزول والمكي والمدني، أول ما نزل وآخر ما نزل وأمثالها.

    القضية الثالثة: نقل القرآن.

    سنتكلم عن كيفية مناقشة موضوع نقل القرآن؛ لأنه هو المهم بالنسبة لنا.

    سأذكر لكم بعض القضايا سريعاً، وهي ليست كاملة حقيقة، تحتاج إلى تكميل، لكن هذا الذي استطعت الآن أن أحصره.

    مناقشة الطاعنين في القرآن في الأصول الكلية

    لما نناقش أي موضوع في نقل القرآن ستجدون أحياناً مسائل فرعية، وأحياناً آثاراً متناثرة، سواء في المسائل الفرعية أم في الآثار المتناثرة - أياً كانت - لا بد من الاجتهاد في إرجاعها في أصل كلي يتم الجدل حوله أولاً بحيث تندرج تحته هذه المسائل والآثار الفرعية ثم يخلص إلى حلها جميعاً، على سبيل المثال، أضرب لكم مثالاً في هذا:

    لما نأتي إلى مصدر القرآن هل مصدره إلهي أو بشري؟ المستشرقون والمنصرون يقولون: مصدره بشري! وبعض المنصرين يقول: إن هذا الوحي الذي نزل على محمد وحي صحيح، لكنه خاص بالعرب.

    إذا جئنا نناقش في مثل هذا، ما نأتي نناقش المسائل والآثار التي يستدل بها هؤلاء على بشرية القرآن، وإنما نناقش القضية الأصل، التي هي: هل مصدره إلهي أو ليس بإلهي؟ وحي من الله أو لا؟

    فأحيانًا قد تجدهم محجوجين، مثل من يقول: إنه نبي للعرب، نقول: أنت الآن آمنت بمقدمة وظهرت.. والنتيجة لم تؤمن بها، ما هي المقدمة؟ أنه نبي، والنتيجة التي جعلتها أنه للعرب فقط؛ ليست صحيحة؛ لأنك إذا أنت آمنت بأنه نبي، فالأصل في النبي أنه صادق لا يكذب على الله، وهذا النبي الذي آمنت أنه نبي قال الله سبحانه وتعالى عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:107]، ما هو للنصارى أو لليهود أو للمسلمين؛ إذاً مثل هذا يكون محجوجاً بمثل هذه الآيات وغيرها ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فإذاً: نحن ما نناقش ونجادل في قضية الأمثلة والمسائل وغيرها، إنما نناقش في الأصل الكلي هذا، ونثبته.

    أهمية النظر في التاريخ عن مناقشة الطاعنين في القرآن

    المسألة الثانية فيما يتعلق أيضاً بمناقشة موضوعنا في القرآن، وبعض هذه الموضوعات قد نستفيد منها في طرح الموضوع لنا نحن المسلمين وبعضها في حال الجدل فقط.

    هذه المسألة هي تصوير الواقع التاريخي بجميع زواياه، والانطلاق منه لإثبات كل قضايا تاريخ القرآن، يعني: سواء من نقله أو غيره -فعلى سبيل المثال-: لما نأتي إلى قضية مصدر القرآن أيضاً: محمد صلى الله عليه وسلم ثابت بالتواتر أنه لم يخرج من مكة إلا سفرات معدودة، لا يمكن لأي بشر - كائناً من كان - أن يخرج مثل هذه الخرجات - السفرات - ويكتسب هذه العلوم الكثيرة جداً، ويدعو الناس إليها، ما وجد في التاريخ أبداً مثل هذا.

    فإذاً النظر التاريخي يدل على أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأتي بهذا الكلام من عنده.

    ثم قد يكون يقول لك قائل: وحي شيطاني مثل ما يحدث للكهنة والسحرة، نقول: رأينا وحي الشيطان ما وجدنا مثل هذا الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم!.

    فإذاً: المقصد من ذلك أن النظر التاريخي سيفيدنا مثل هذا، وقد ذكرت لكم أمثلة اعتبرنا فيها النظر التاريخي المعتمد على الآثار وخرجنا منها بنتائج فيما يتعلق بتصحيح كثير من الإشكالات التي كانت واردة في نقل القرآن.

    إثبات مصداقية المنهج الإسلامي في دراسة تاريخ القرآن

    أيضاً من القضايا المهمة في هذا: الاجتهاد في إثبات مصداقية المنهج الإسلامي في دراسة تاريخ القرآن، وبيان خطأ كل منهج كلي يخالف معطيات المنهج الإسلامي، والمنهج التاريخي والواقعي لتاريخ القرآن، وهذا سبق أيضاً أن طرحناه لما تكلمنا عن المستشرقين أو المنصرين أنه يسقط تاريخ القرآن على تاريخ أسفار بني إسرائيل، أو يأتي بعض المستغربين ويتكلم عن التاريخ الشفاهي والتاريخ الكتابي، ويمتدح التاريخ الشفاهي؛ لأنه ينقل لنا معلومات ثرية، ويذم التاريخ الكتابي؛ لأنه يزعم أنه حصر معلومات كان المفترض أن نعرفها لينتقد فعل الصحابة رضي الله عنهم، مع أنه - كما قلت لكم - فعل الصحابة إيجابي ينقله هؤلاء إلى سلبي، لو كان الذي عمله غير مسلمين لاعتبروه إيجابياً، فهذه مشكلة، ما السبب في أنه أراد أن يدرس تاريخ نقل القرآن من خلال منهجية مخالفة جداً جداً.

    فنحن إذاً نحتاج إلى خطين:

    الخط الأول: إثبات مصداقية المنهج الإسلامي، وهذا يعتمد على ما سبق أن ذكرناه في بداية اللقاءات، وأيضاً إثبات خطأ المنهج الذي سيسلك في دراسة نقل القرآن، سواءً كان منهجاً مستغرباً أو كان منهجاً عقلياً بحتاً، يعني: أنه منهج اعتمد على المستغربين - على الغرب - في دراسة كتبهم، أو دراسة تراثهم، أو طريقتهم في قراءة بعض النصوص، أو كان معتمداً على العقل المتحكم دون الرجوع إلى النصوص، أي: لا يعتبر النصوص، وإنما يعتبر عقله هو الأصل، وهذا قد حصل من بعض من كتب في تاريخ القرآن، وانتقد بعض القضايا؛ لأنها لا توافق العقل عنده.

    أيضاً: من الأشياء التي يمكن إبرازها في المناقشة: الاستدلال بواقع المسلمين مع كتابهم جيلاً بعد جيل، يعني: كيفية تواصل هذا القرآن وإقرائه جيلاً بعد جيل في عصور الإسلام كلها، وهذا يفيد كثيراً في المناقشة العقلية.

    نحن لا نحتاج أن نقول لبعض المخالفين: إن ابن المقفع في رواية عنه أنه قال: أردت أن أكتب كتاباً لليهود فكتبت وذهبت به فاستحسنوه، وكتبت للنصارى فاستحسنوه، ثم كتبت للمسلمين كتابهم فأسقطت منه حرفاً فاكتشفه طالب في الكتاب، فعلمت أن هذا وحي من عند الله! ما نحتاج إلى مثل هذه القصص، اليوم لو فعلوا لاكتشف، وهو اليوم قد حصل، والأزهر الشريف قد سحب مجموعة من المصاحف التي وقعت في مثل هذه الأخطاء.

    عندنا أيضًا من القضايا التي سبق أن ذكرتها قبل قليل: معرفة المنطلقات الكلية للخصم، في طريقة دراستهم تاريخ القرآن ودحضها، بحيث إن الأمثلة ما تشغلنا، أليس نحن عندنا قضية كلية إذا ناقشناها وأنهيناها انتهى كل ما يتعلق بنا من الأمثلة؛ لأن كثيراً منها قد يكون مكذوباً، مثل بعض الروايات التي تكون مكذوبة، ولما ذكرت لكم قضية النسخ، هل أنت تؤمن بالنسخ أو ما تؤمن؟ إذا كنت ما تؤمن بالنسخ فالكلام معك لا فائدة فيه، فإذا كنت تؤمن بالنسخ استطعنا أن نقول: كل ما أنت تتكلم فيه هو داخل ضمن المنسوخ.. وهكذا.

    فإذاً: محاولة الترتيب المنطقي في النقاش ستفيدنا كثيراً، وهناك قضايا كثيرة لم يسعف الوقت في حصرها وضبطها، لعل الله سبحانه وتعالى ييسر غير هذا المقام، في إبرازها وإظهارها.

    1.   

    الأسئلة

    سبب عدم إلزام أبي بكر وعمر الناس بما ثبت في العرضة الأخيرة

    السؤال: يقول: لماذا لم يلزم أبو بكر و عمر الناس بما ثبت في العرضة الأخيرة دون غيره؟ وماذا؟. وقول عمر لـأبي : أقرئ الناس.

    الجواب: هذا يدل على أن المشكلة التي كان يريد أبو بكر و عمر حلها قد حلت، وهي مشكلة الخوف على حفظ القرآن، واختلاف القراء، هذه المشكلة لم تكن قد برزت بروزاً واضحاً، لكن لما برزت في عهد عثمان اضطر عثمان إلى العامل الثاني، فمعنى ذلك أن هذا مرتبط بحاجة الناس، وهذه قضية قدرية، لما احتاج الناس إلى جمعه في عهد أبي بكر في مصحف واحد؛ جمعوه، ولما احتاج الناس في عهد عثمان إلى أن يضبط لهم الخلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من القراءات المتنوعة المتواترة؛ ضبطوه بالضبط الآخر، فهذا مرتبط بالحاجة.

    القول بأن معرفة القراءة الشاذة بالرجوع إلى مصحف عثمان دون مصحف أبي بكر

    السؤال: قلت: بأن القراءة الشاذة تعرف بالرجوع إلى مصحف عثمان لا مصحف أبي بكر ؟

    الجواب: لأن مصحف عثمان هو مصحف أبي بكر في النهاية، لكن الذي ثبت هو مصحف عثمان ، الذي هو عين ما كان في مصحف أبي بكر ؛ فالمسألة واحدة، ما نحتاج فيها إلى تطويل؛ لأنه ما فيها إشكال.

    رأي الطبري في الأحرف السبعة

    السؤال: يرى الطبري أن الأحرف السبعة كانت رخصة للتيسير ثم تركت كلها في جمع عثمان واقتصر على حرف قريش؟

    الجواب: هذا سبق أن ناقشناه العام الماضي فيما يتعلق بتاريخ القراءات، وهو من هذا الإمام رحمه الله تعالى ليس بصحيح مع جلالته، لكن أحب أن تنتبهوا إلى مسألة مهمة جداً وهي: أن مفهوم القراءات عند الطبري أو الأحرف السبعة غير مفهوم من اعتمد قوله من بعض المعاصرين أو غيرهم.

    الطبري يرى أن الأحرف السبعة هي المترادفة، مثل: أقبل، هلم، تعال، إليّ، بمعنى واحد، هذه يعتبرها هي الأحرف السبعة، وهي الوجوه السبعة، التي نزل بها القرآن، لما نقرأ القرآن: هل فيه مثل هذه؟ لا.

    وجوه الاختلافات الواردة هذه غير الأحرف السبعة عنده، هذه نتيجة قول الطبري ، تنتبهون لها؛ لأنها مهمة، يعني: وجوه الاختلاف الواردة في القراءات غير الأحرف السبعة، فالأحرف السبعة هي الترادف الذي يكون في الكلمات، على سبيل المثال في: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ[آل عمران:64] على سبيل المثال افتراضاً، لو كانت عند الطبري أنه ثبت عنده قراءة (أقبلوا إلى كلمة سواء) مثلًا، هل ستختلف وجوه القراءات المتعددة، إمالة وإدغام وفك وغير ذلك، تختلف عند الطبري ؟ ما تختلف، إذاً وجوه الصوتيات هذه والموجود أيضاً ما يختلف عندهم، كل الأنواع والاختلاف في القراءات هو على حرف واحد عنده، فأين الأحرف الأخرى؟ قال: تركت؛ لأنها بمثابة أقبل، وهلم، وتعال، وإلي، فما في قوله - من جهة التنظير - أي إشكال أو لبس، لكن من أخذ بقوله لم ينتبه إلى هذا؛ فظن أن هذه الأوجه على حرف واحد، والستة الباقية لها أوجه أخرى غير هذه الأوجه؛ فادعى ما لم يدع، ووقع في إشكال..

    فقوله غير صحيح، أياً كان، ولو قلنا إنه مصطلح خاص للطبري ، في النهاية قوله غير صحيح.

    ولا يظن ظان أن الطبري جاء به من عنده؛ بل عنده آثار اعتمد عليها، مثل: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً[يس:29]، (إن كانت إلا زقية) هذه قراءة أخرى شاذة؛ فاعتمد على مثل هذا، نعم.

    تناول شرح مقدمة الطبري بالشرح

    السؤال: هذا السؤال من الإنترنت، يقول: أنا طالب علم أحضر في مرحلة الماجستير رسالة بعنوان: ابن جرير الطبري من اختلاف المفسرين، ووجدت أن مقدمة ابن جرير مقدمة نفيسة تحتاج إلى شرح، فيا حبذا لو تدرجها في برنامج دوراتك العلمية حتى أستفيد منها، ويستفيد منها الطلاب؛ فإني أعتقد أنها جديرة بفك الإلغاز فيها خصوصاً..

    الجواب: هذا في الذهن إن شاء الله، أنا بدأت بشرح المقدمات، مقدمات كتب المفسرين، وبعض أصول كتب المفسرين المرتبطة بأصول التفسير، ولعلي إن شاء الله في بداية السنة القادمة سأنتهي من شرح مقدمة الطاهر بن عاشور ؛ فقد بقي المقدمة التاسعة والعاشرة، ولعلي إن شاء الله في اللقاء الذي بعده نبتدئ بقراءة الطبري بإذن الله، يعني -إن شاء الله- خلال شهر شوال القادم وشهر ذي القعدة بإذن الله نكون قد ابتدأنا بمقدمة ابن جرير .

    الرسائل العلمية في تفسير ابن جرير

    السؤال: ما ترونه جديراً رسالة لمرحلة الدكتوراه في تفسير ابن جرير ؟

    الجواب: والله الرسائل في التفسير أو ما يحتاجه ابن جرير الطبري في الرسائل، أنا عندي أنه كثير ولا يزال يحتاج، لكن بعض الأقسام يقولون: يكفي ملينا ابن جرير كل مرة ابن جرير ابن جرير.. غيروا، وأنا أقول: هناك بعض الموضوعات المهمة جداً يا حبذا أن يعتنى بها، على سبيل المثال: مصادر التفسير - وهذه من مرحلة الدكتوراه - عند ابن جرير يعني: المصادر الأولية والنقلية، فمعنى: المصادر الأولية يعني: القرآن، السنة، اللغة، المصادر النقلية: ما نقله عن الصحابة، عن التابعين، عن أتباع التابعين، كيف أتعامل مع هذه المصادر؟ التفسير بالرأي من خلال تفسير ابن جرير الطبري ، وهذا مليء جداً؛ لأنه يبرز لنا بالفعل الخطأ الوارد في أن تفسير ابن جرير الطبري تفسير بالمأثور، بل الحقيقة وأنا لا زلت أقوله: إن تفسير ابن جرير الطبري هو أكبر تفسير للرأي المحمود يمكن أن يطبق عليه من هذه الجهة، تفسير ابن جرير ليس تفسيراً بالمأثور، وإنما هو تفسير اعتمد على المأثور، فهناك فرق بين أن يكون بالمأثور، وبين أن يكون اعتمد على المأثور، تفسير ابن جرير الطبري تفسير اعتمد على المأثور، ولكنه أكبر تفسير بالرأي المحمود، يمكن أن يطبق عليه، وهناك رسائل كثيرة جداً أو موضوعات كثيرة جداً في تفسير ابن جرير مثل: العموم والخصوص والتمثيل في التفسير من خلال تفسير ابن جرير وهذا أمره واسع، أيضاً قواعد الترجيح الخاصة عند ابن جرير ، مواقف ابن جرير الطبري من مصادره اللغوية، يعني: من أهل اللغة الذين كان ينقل عنهم، ليس من اللغة نفسها وإنما مما ينقل عنهم من كتب أهل اللغة، وكثير من ذلك، وقد كتبت في هذا في ملتقى أهل التفسير، ذكرت جملة من الأبحاث قرابة عشرين بحثاً يمكن أن تبحث في تفسير ابن جرير .

    وسائل العيش مع القرآن

    السؤال: هذا أيضاً من النت، يسأل يقول: القرآن حياة القلوب وأرغب في أن تكون أوقاتي وأوقات أسرتي عامرة بذكر الله، وأن نعيش مع القرآن في حياتنا اليومية، فما هي الوسائل التي تعيننا على ذلك؟ نفع الله بكم وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: الوسيلة الأولى: هي الدعاء؛ لأننا كلنا نريد هذا، أو نطلبه، ونتمناه، فالوسيلة الأولى هي الدعاء، ثم بعد ذلك توجيه الهمة، وقد رأيت من خلال نظري في توجيه الهمة، أن الإنسان إذا جعل هذا هدفاً ويبدأ يركز على هذا الهدف؛ سيجد أنه يصل بإذن الله، وهذا ما لمحته بقدر الله من خلال نظري في أشياء كثيرة جداً في حياتي الخاصة، أو في حياة بعض زملائي؛ فإنك أحياناً تكون مع بعض زملائك فتستغرب لماذا يظهر على شأنك هذا الشيء؟ تقول لزميلك: أنا والله اليوم ذهبت إلى المكتبة الفلانية واشتريت الكتاب الفلاني، وتمضي، ما يعني لك أي شيء، هو خبر! لكن هذا الخبر بالنسبة لمن ألقيته إليه يعتبر بوزنه ذهباً؛ لأنه سيبحث عن هذا الكتاب، من الذي سخرك لأن تقول له هذا الكلام بلا مقدمات ولا مبادئ، ولا تعرف أنت أصلًا أنه يحتاجه، أو قد تقوله في مجلس عام وواحد من الحضور يحتاج هذه المعلومة ويذهب ويستفيد منها، أو أحياناً تمر حتى في قضايا الحياة اليومية العادية، يمكن أن واحداً من زملائك تمر تقول: والله هذا المحل المتخصص في كذا، ويمر شهر وشهران وثلاثة أشهر وأربعة أشهر، تكون في يوم من الأيام تحتاج إلى ما يتخصص به هذا المحل؛ فتقول: سبحان الله! كيف هذا القدر الذي ساق لي هذه المعلومة من غير ترتيب؟! أنا ما رتبت وما بحثت عنها، لو أنا بحثت سأتصل بفلان وعلان، هل تعرفون أحداً يمكن أن يقضي هذا العمل هل تعرفون.. أوليس كذلك؟ وقصدي من ذلك أن تنتبه أن الإنسان إن وجه همته إلى شيء؛ فإن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعبده وتوفيقه له، يفتح له أبواباً في هذا الأمر لا يمكن أن يحلم بها إطلاقاً، وهذا من توفيق الله ونعمته، وأنا ولله الحمد والمنة من باب التحديث بنعمة الله قد رأيته في هذه الموضوعات التي ألقيها، أحياناً يختار لي الموضوع وأنا له كاره، فأتقدم إليه، وإذا بالله سبحانه وتعالى يفتح شيئاً من الأفكار، ومن المعلومات، ما كنت أصلاً أتصورها ولا كنت أحلم أن أصل إليها، وقس على ذلك، كل واحد لو راجع حياته يجدها.

    فقصدي من ذلك: أنك حينما توجه الهمة إلى عمل ما، وتصدق في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يعينك على هذا الأمر، لكن إذا صرنا أصحاب تمنٍ فقط، -وهذا مع الأسف كثير في حياتنا، نتمنى أن يكون كذا- فإننا لن ننجز ولن ننتج ولن نثمر، فهذا الشيء الأول وهو الدعاء، والشيء الثاني بعد ذلك توجيه الهمة، وصرف الهمة إلى هذا الهدف الذي تريده، وثق ثقة تامة بأنك ستنجح، وإن استفدت من بعض الإخوة الذين عندهم وسائل تدريبية وغيرها، فهذا حسن.

    اختصر لك؛ لأنك جئت في الزمن الأخير؛ لأن هذا كان قبل أيام تكلمنا عنه، جمع القرآن إذا أطلق يراد به جمعه في الصدور، الذي هو الحفظ، وجمعه في السطور الذي هو الكتابة، هذا إذا قيل جمع القرآن، إما هذا وإما هذا.

    أما ما يذكر عن الحجاج فليس بصحيح أبداً، و الحجاج لم يكن له إلا العمل في المصاحف، بمعنى الذي كان من محاسنه أنه رتب أناساً لتصحيح المصاحف فقط، حيث يأتي علماء الرسم يصححون هذا المصحف، فقط، ولم يتدخل فيه، وكل ما يقال عنه فليس بصحيح فيما يتعلق بالمصاحف، هذا يقوله بعض الخصوم، وهذه من الآثار الضعيفة التي يعتمدها بعض الخصوم في جمع المصحف..

    رأي الشيخ في تفسير الشوكاني

    السؤال: يسأل عن تفسير الإمام الشوكاني الجامع بين فني الرواية والدراية؟

    الجواب: وأنا أقول رأيي الخاص، فإن كان صحيحاً فالحمد لله، وإن لم يكن لا بأس بأن يرمى به عرض الحائط كما يقال! لكن رأيي من خلال قراءتي في هذا الموضوع: أن الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى -مع احترامنا له وحفظنا لحقوقه العلمية واستفادتنا منه إلى آخره، هذه نعرفها ما ننكرها، لكن في هذا العمل- أرى أنه غير مصيب إطلاقاً، في طريقته؛ لأنه فصل الرواية عن الدراية، وزعم. وكأنه جعل بينهما فرقاً، وأحياناً يأتي إلى مسألة في التفسير فيقول: وسيأتي هذا في باب الرواية، فأين التفسير الصحيح؟ هل هو الرواية أو الدراية؟! هذا أمر.

    الأمر الآخر: الذي في الرواية كيف نستفيد منه؟ وأخرج .. وأخرج.. كله من السيوطي في النهاية من الدر المنثور، ما قيمة هذا المأثور وأنت لا تذكره إلا لماماً؟ أحياناً يذكره فيما يسميه هو بالدراية، فالفك هذا لا شك أنه خطير وغير سليم.

    وأنا أذكر أيام الجامعة أننا درسنا من خلال هذا التفسير؛ لأنه كان مقرراً، ولا أدري لماذا قرر هذا الكتاب؟! لكن أتمنى لو أطلع على حيثيات تقريره؛ لكي نستفيد قد يكون هناك شيء غاب عنا، لكن رأيي أن تقريره ليس حسناً.

    إذا وصل شيخنا إلى: وأخرج يقول لنا - العبارة أذكرها - : "اقلبوا الصفحة"! فكنا نذكر ونقول: وهؤلاء المذكورين ما لهم؟! ما نقرأ ما يقولون؟ قال: لا، يكفي الذي أخذناه هناك فإنه يتكرر هنا، فإذاً انقطعنا عن علم الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، فكان يذكر في قوله: وأخرج، ونقرأ طلاسم ما نعرف! فأذكر أيام الجامعة أننا نقرأها وما نعتبرها حتى القيمة العلمية، ونحس أنها لا قيمة لها، ونحس أنها متناقضة غير مرتبة، فما استفدنا منها شيئاً، فأرى أن هذا العمل الذي قام به الشوكاني رحمه الله تعالى ليس بسديد.

    سبب تسمية المستشرقين بهذا الاسم

    السؤال: لماذا سمي المستشرقون بهذا الاسم؟

    الجواب: لأنهم في الغرب واتجهوا إلى الشرق ودرسوا علومه، فسمي مستشرقاً كأنه ذاهب إلى جهة الشرق.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756326746